الفصل الثامن

التحقيق

في صباح اليوم التالي، كان المستر بنهام مدير البوليس جالسًا إلى مكتبه، وقد استدعى إليه جان شفلر من السجن والمستر أفلن، وكان مستخدمو أفلن ومس إيفا كروس، وكاتبا شفلر هارتمان ونوبلي، والمحامي جوزف بلاك وكتبته، والمستر إبراهام بكاروف ينتظرون خارج المكتب في قاعة المخفر؛ فاستدعى المدير أولًا مس إيفا كروس، فلما دخلت ووقعت عينها على عين شفلر رأت رجلًا طلق المحيا باسم الثغر؛ فتذكَّرت حبَّها له وتحوَّل غيظها إلى رضى وقساوتها إلى حنوٍّ، ونظرت إليه نظرة المستغيثة بحبه، وهو نظر إليها نظرة الاحترام والإعجاب. وبالطبع، كان قد بلغها أنَّ هوكر أنكر اسمه وادَّعى لنفسه اسمًا آخر، فلما جلست سألها المدير: «هل تعرفين هذا الرجل؟» فنظرت إلى شفلر كأنها تستفتيه ماذا تجيب، فلم ترَ منه إشارة قط تستطيع أن تفهم منها شيئًا، بل كان ينظر إليها كأنه ينتظر ماذا يكون جوابها، فلما ترددت قليلًا قال لها المدير: ألا تعرفينه؟ ألم تريه؟

فقالت: إذا لم أكن غلطانة فأعرفه.

– من هو؟ ما اسمه؟

فاستغربت إيفا كروس نظراتِ شفلر لها التي تدلُّ على عدم معرفته إياها، وقالت بنفسها: أحقيقة أنه ليس جاك هوكر أم هو مقتدر بهذا المقدار في تنكير نفسه؟! فقالت: أعرف شابًّا بهذه الملامح نفسها من غير فرق تقريبًا يدعى جاك هوكر.

فقال لها أفلن: هو جاك بعينه، ألا تعرفينه جيدًا؟

فقال مدير البوليس: «أرجو ألا تتداخل في التحقيق يا مستر أفلن.» ثم قال لمس كروس: ألا توكدين أنَّ هذا الفتى هو جاك هوكر بعينه؟

– إذا لم يكن له شبيه فهو جاك هوكر.

ثم التفت إلى شفلر وسأله: هل تعرف هذه السيدة؟

– لم يحصل لي هذا الشرف قبل الآن.

– أما رأيتها قبل الآن؟

– لا أتذكر أني رأيت سيدة بهذه الملامح، وأظن أنَّ سيدة محترمة مثلها لا تُرَى في أي مكان.

– أما زرتها في منزلها وأريتها دبوسًا ثمينًا لتبيعه لها؟

– قلت لك أمسِ أن لا شأن لي بمسألة الدبوس؛ لأني لست تاجر دبابيس ولا حلي، وأما هذه السيدة فلم يكن لي الشرف أن أعرفها حتى يحِقَّ لي أن أزورها في منزلها، أو أكلمها في مكان آخر.

– هل تعرف اسمها؟

– إذا كنت لا أعرفها، فكيف أعرف اسمها، ولعلها هي السيدة التي أشرتَ إليها أمسِ في استجوابك لي.

– من هي السيدة التي ذكرتها لك أمسِ؟

– لا أتذكر الاسم الذي ذكرته لي، سوى أني أذكر أنها من سكان الأفنيو الخامس.

ثم التفت إليها وسألها: هل أراكِ هذا الرجل دبوسًا؟

– إذا كان هو جاك هوكر فقد أراني مساء أول أمس دبوسًا، وقال لي إنه أخذه من محل أفلن وشركاه، وأنَّ ثمنه ١١ ألف ريال، ولكنه يبذل جهده أن يشتريه بعشرة آلاف فقط، وأقنعني أنه إذا رأى المستر أفلن العشرة آلاف ريال نقودًا في يد والدبوس في يد أخرى يختار العشرة آلاف ريال، وبناءً على ذلك أعطيته تحويلًا «لناقله» بقيمة ١١ ألف ريال؛ حتى إذا لم يرضَ المستر أفلن العشرة آلاف ثمنًا للدبوس زاد له الثمن تدريجًا حتى ١١ ألف ريال، وخرج من عندي على موعد أن يعود بعد ظهر أمس إما بالدبوس أو بالفلوس.

– أتشكين بأنه جاك هوكر؟

– لا أكاد أشك لولا أن صوته ضخم قوي وصوت هوكر ناعم لطيف.

فقال أفلن: لا يتعذر عليه أن يكيِّف صوتَه كما يشاء.

ثم قال المدير: هل تحققتِ إن كان التحويل قد دفعه البنك؟

– نعم!

– على أي بنك هو؟

– على بنك نيكر بوكر.

وفي الحال، أرسل المديرُ إلى البنك يستدعي الصرَّافَ الذي صرف التحويلَ الذي قيمته ١١ ألف ريال «لناقله» بإمضاء مس إيفا كروس، ثم سألها: لماذا لم تبلغي البوليس عن هذا الحادث؟

فأجابت: لأني بقيت حتى اليوم واثقة من أمانة الرجل، وظننت أنَّ له عذرًا.

– متى زاركِ المستر هوكر لكي يريك الدبوس؟

– الساعة الثانية من مساء أول أمس، وقد بقي عندي حتى التاسعة أو أكثر على ما أظن.

فالتفت المدير إلى شفلر، وقال له: أين كنت في ذلك الحين أول أمس يا مستر هوكر؟

– لو كنت أنا هوكر الذي تزعمونه ما كنت أنكر أني كنت متشرفًا بحضرة السيدة الفاضلة، ولكن أنت تعلم — يا حضرة المدير — أني لست هوكر غريمكم، بل أنا جان شفلر، فأرجو ألَّا توجه إليَّ سؤالًا باسم هوكر.

– لا بأس، أين كنت مساء أول أمس؟

– أول أمس تركت مكتبي الساعة السابعة، ثم ذهبت إلى الحانة التي قبض عليَّ فيها أمس وأخذت كأسي بيرا، ثم ذهبت إلى المطعم المجاور وتناولت عشاي، وكانت الفتاة التي تخدم على مائدتي قد رأت معي تذكرة دخول إلى ملعب ماديسون سكوار غاردن، فبسمت لي وأشارت للتذكرة؛ فدعوتها أن تذهب معي وألححت عليها كثيرًا، فقالت إنها لا تخرج في ذلك المساءِ من المطعم حتى الساعة العاشرة، ولكنها في الليلة التالية — أي أمس — تذهب معي إلى أي ملعب، فوعدتها أن آخذها إلى ملعب بيجو، ومن سوء الحظ أنَّ قَبْضَ الشرطة عليَّ اضطرني أن أخلف وعدي معها، وها التذكرتان اللتان اشتريتهما صباح أمس من ملعب بيجو لهذا الغرض.

وعند ذلك ناول شفلر المدير بنهام التذكرتين فتأمَّلهما هذا، ثم قال له: وبعد العشاء، ماذا فعلت؟

– بالطبع، ذهبت إلى مديسون سكوار غاردن.

– وحدك؟

– وحدي.

– لماذا وحدك؟

– لأني عازب، وإلى الآن لم أجد صديقة.

– من رأيت في الملعب؟

– ألوفًا.

– ألم تعرف أحدًا منهم.

– رأيت المستر جيروم النائب العمومي في القسم الثاني من الجهة الشمالية من الملعب، وكنت أنا عند الزاوية من القسم الأول.

– هل رآك؟

– وهب أنه رآني فلا يعرفني.

– كيف تعرفه؟

– كثيرون يعرفون جيروم وهو لا يعرفهم.

– أما رأيت أحدًا غيره ممن تعرفهم؟

– كلَّا، البتة، وقد نسيت أن أقول لك: إنَّ المستر جيروم خرج من الملعب نحو الساعة العاشرة؛ أي قبل انفضاض الجمهور بنحو ساعة.

– ما اسم الفتاة التي دعوتها للملعب؟

– مس فلو.

– واسم المطعم؟

– مطعم تشيلد، في الشارع الثامن على زاوية الأفنيو (الشارع الطويل) التاسع.

وفي الحال، أرسل مدير البوليس يستدعي مس فلو، وخاطب المستر جيروم النائب العمومي بالتليفون، وسأله: أين كنتَ مساء أول أمس؟ فأجابه: في مديسون سكوار غاردن من الساعة الثانية ونصف.

– متى خرجت؟

– نحو الساعة العاشرة.

– أين كنت جالسًا؟

– كنت في القسم الثاني من الجهة الشمالية في الصف الأوسط تقريبًا، لماذا تسأل أسئلة كهذه؟

– لأن شخصًا هنا يستشهد بك؛ فهل يمكنك أن تحضر دقيقة إلى المخفر؟

– ها أنا حاضر.

ثم التفت إلى شفلر، وسأله: أتذكر في أي صف كان النائب العمومي جالسًا؟

– في الصف الأوسط تقريبًا.

عند ذلك جاءَ صراف (نيكر بوكر)، فسأله مدير البوليس: هل صرفت أمس تحويلًا «لناقله» بإمضاء مس كروس؟

– نعم.

– هل تذكر شكل الشخص الذي قبضه؟

– لعلي أذكره إذا رأيته.

– ألا تراه بين الموجودين هنا؟

فهزَّ الصراف رأسه، وقال: كلَّا.

فأشار المدير إلى شفلر، وقال: «تأمل هذا الفتى.» فتأمله الصراف جيدًا، وقال: أتذكر جيدًا أنَّ الذي قبض التحويل امرأة لا رجل.

فقالت مس كروس في نفسها: «لا بد أن تكون زوجة هوكر.» بيد أنها لم تشأ أن تصرِّح بهذا الفكر، ولكن أفلن قال: لا بد أن تكون زوجته.

فقال شفلر: لا زوجة لي.

فقال مدير البوليس: أين تسكن يا مستر شفلر؟

– في ستيفنس هوس (فندق).

– من يعرف أين يسكن هوكر؟

فأجاب أفلن: الذي أعهده أنه يسكن في شارع ١١٦، ولكني لم أتذكر رقمه قط، وقد رأيت مرة معه سيدة، فسألته عنها، فقال إنها زوجته.

فقال مدير البوليس للصراف: تؤكد أنَّ هذا الفتى ليس الذي قبض منك اﻟ …

– أحد عشر ألف ريال؟ نعم؛ أؤكد ذلك؛ لأن مبلغًا كبيرًا كهذا يستلفت نظر كل صراف لمن يقبضه.

عند ذلك أذن المدير للصراف أن يخرج، فخرج، ثم وصلت مس فلو فسألها: هل تعرفين هذا الفتى؟

– نعم! أعرفه يأكل على مائدتي.

– ما اسمه؟

– قال لي اسمه مرَّة فلم أعد أتذكر.

– هل تذكرين أن اسمه جاك هوكر؟

– لا أظن أنَّ اسمه هوكر ولا جاك، سمعت مرة شخصًا لا أعرفه يسميه جان، وأما اسمه الثاني فنسيته.

– هل تظنين أنه شفلر؟

– أرجح ذلك.

– إذن ليس هو صديقك؟

– لا صداقة قوية بيننا سوى أنه أوعدني أول أمس أن يأخذني أمس إلى ملعب بيجو؛ فأخلف بوعده.

– لماذا وعدك وما أنت صديقته؟!

– لأني رأيت معه أول أمس تذكرة دخول إلى مديسون سكوار غاردن، فحسدته على ذلك، فدعاني أن أذهب معه، ولكني كنت مقيدة بشغلي، فأخبرته أني أكون حرَّة من شغلي في الليلة التالية، فوعدني أن يشتري تذكرتين من ملعب بيجو، وبعد العشاء يأخذني، فانتظرته من الساعة ٧ ونصف على غير جدوى.

فقال لها شفلر: اعذريني مس فلو؛ لم يَحُل دون إنجازي بوعدي لك إلَّا طاعة الشريعة التي يجب أن يكون أمرها فوق كل أمر، فغدًا أو الليلة — إن أمكن — أُكَفِّر عن تقصيري الحتمي.

ثم سألها المدير: أتعلمين أين ذهب بعد العشاء أول أمس؟

– بالطبع ذهب إلى مديسون سكوار غاردن بعد أن دفع ثمن التذكرة ريالين.

– متى خرج من المطعم؟

– قبيل الساعة الثامنة.

عند ذلك قدم المستر جيروم النائب العمومي، فسأله المدير مشيرًا إلى شفلر: هل تعرف هذا الرجل؟

– كلا!

– هل رأيته في مديسون سكوار غاردن؟

– لا أذكر أني رأيته.

– كان في زاوية القسم الأول من الجهة الشمالية، أما رأيت هناك شخصًا بهذه الملامح؟

– لم ألتفت إلى أحد، وهب أني التفت ورأيته، فلا أقدر أن أتذكر بين ألوف الناس الذين أجهلهم كلهم شخصًا لم أعرفه من قبل.

فالتفت المدير إلى المستر أفلن كأنه يسأله رأيه، فقال هذا: كل ذلك لا ينفي أنَّ هوكر خرج من عند مس إيفا كروس الساعة التاسعة، وذهب توًّا إلى مديسون سكوار غاردن، وهناك رأى المستر جيروم قبل أن يخرج الساعة العاشرة.

فانتبه المدير إلى هذه الملاحظة، وبعد تفكر قليل سأل مس كروس: متى جاء هوكر إلى عندك ومتى خرج؟

– جاء نحو الساعة الثامنة وخرج نحو التاسعة، ثم سأل شفلر ثانية متى ذهبت إلى مديسون سكوار غاردن ومتى خرجت منه؟

قال: دخلت الساعة الثامنة، وخرجت الساعة الحادية عشرة كعادة الناس.

قال المدير وهو مستبشر: حسنٌ جدًّا، قل لي إذن متى دخل المستر جيروم إلى مديسون سكوار غاردن؟ ومتى خرج؟

– رأيت المستر جيروم يجلس في مكانه نحو الساعة ٨ ونصف، ويخرج نحو الساعة العاشرة.

فالتفت المدير إلى جيروم كأنه يسأله هل يوافق على هذا القول؟

أجاب: نعم، كما يقول.

فتحير المدير، وكاد يجن أفلن، وارتابت مس كروس بحقيقة الرجل، ومالت إلى الاعتقاد أنَّ هوكر لا يزال خارجًا.

ولكن هل هو ماكر أو أمين لها؟ لا ريب أنه ماكر؛ لأن عدم وجود مسز هوكر في المنزل الذي زعم أنها تقطنه فضح الدسيسة، على أنَّ الحب ما زال يموِّه على عقل مس كروس المفتونة، ولا زال يحيي الأمل في فؤادها.

أما أفلن فلم يستطع أن يتمالك طبعه، فنهض مستشيطًا، وقال: لا أدري ملعب مديسون سكوار غاردن ولا هذا ولا ذاك، أعلم وأؤكد وأقسم أنَّ هذا الرجل أخذ مني بعد ظهر أول أمس دبوسًا قيمته عشرة آلاف ريال على الأقل، لا يهمني إن كان اسمه جان شفلر أو جاك هوكر، فقد يكون له اسمان.

فقال المدير: هدِّئ روعك يا مستر أفلن؛ فإن التحقيق لم ينتهِ بعد. في أي ساعة كان المستر هوكر عندك حين أخذ الدبوس؟

– نحو الساعة الثانية ونصف بعد ظهر أول أمس.

فالتفت إلى شفلر، وقال له: ماذا تقول؟

– كنت في ذلك الحين عند المستر بلاك المحامي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤