حكاية غرام مفاجئ

كانت خطة «أحمد» هي إبعاد فكره عن «مالمو» وعن المغامرة كلها، حتى يتفرَّغ فقط لمراقبة «مالمو» ومن معه … إنه لا يُريد مؤقَّتًا الدخول في صراع معه … إنه يُريد فقط أن يعرف ما يُفكِّر فيه «مالمو» … وابتسم «أحمد»؛ إنه شخصيًّا سيتحوَّل إلى قارئ أفكار، وسيتبادل هو و«مالمو» الأماكن!

أسرع «أحمد» لاستقبال «مالمو» ومن معه، وانحنى وهو يرسم على شفتَيه ابتسامةً واسعة، واختار لهم مائدةً تُطل على النيل الذي يُحيط بالفندق فيجعله شبه جزيرة. وجلس «مالمو» معطيًا ظهره للصالة مواجهًا النيل. وجلس الرجال الثلاثة حوله في شبه حلقة … كانوا جميعًا صامتين، وأدرك «أحمد» أنهم في منتهى الحذر. وأملى واحد فقط من الرجال الطلبات كلها على «أحمد» الذي كتبها، ثم أسرع لإبلاغها إلى المطبخ.

وفي الطريق التقى و«عثمان»، فقال «أحمد» هامسًا: هل رأيت؟

عثمان: إنه بلا شك صاحبنا!

أحمد: إنني كلما اقتربت منه أحسست برِعدة … إنه يُشبه التيَّار الكهربائي!

عثمان: هل وضعت خطةً معيَّنة!

أحمد: نعم …

ودُهش «عثمان»، كيف فكَّر «أحمد» بسرعة في خطة لمواجهة «مالمو» ورجاله الثلاثة … ولكن لم يكن الموقف يتسع للشرح. كل ما حدث أن «أحمد» سأل «عثمان»: هل أحضرنا معنا بعض أجهزة التسجيل الصغيرة؟

عثمان: نعم، معنا ثلاثة أنواع منها.

أحمد: عظيم … سأراك فيما بعد.

ومشى كلٌّ منهما ليقف في مكانه، و«أحمد» يتظاهر بأنه لا ينظر إلى مائدة «مالمو»، ولكنه في نفس الوقت كان يختلس النظر إلى الرجال الأربعة، محاوِلًا قياس قوتهم ومدى تسليحهم.

ولاحظ أنهم انهمكوا في حديث وقد اقتربت رءوسهم … وتنهَّد في ارتياحٍ لأن خطته كانت تقوم على هذا الحديث، ولكن ليس هذه المرة. وبعد لحظات جُهِّزت الطلبات، وأسرع «أحمد» يحملها إلى الرجال الأربعة … كانوا ما زالوا يتحدَّثون، ولم ينتبهوا إلى وجود «أحمد» إلَّا عندما اقترب تمامًا منهم، وسمع أحدهم يقول: لقد حصلتُ على كل المواعيد المطلوبة.

وقال «مالمو»: عظيم … فلنبدأ.

وأخذ «أحمد» يرص الطلبات على المائدة، وهو يختلس النظر إلى وجه «مالمو» الجامد وإلى بقية الرجال … هل يقرأ «مالمو» أفكاره الآن؟ بالطبع إنه يستطيع، ولكنه ليس مشغولًا به الآن؛ فهو لا يمكن أن يتصوَّر أن هذا الجرسون الماهر ليس إلَّا واحدًا من أهم الشياطين اﻟ «١٣» الذين هزموه في أول جولة.

وانتهى «أحمد» من عمله، وانحنى يسأل عن خدمات أخرى، فقال أحد الرجال: شكرًا، هذا عظيم.

كان صوته خشنًا، والألفاظ يتداخل بعضها في بعض وهو يتحدَّث من جانب فمه، والسيجارة معلقة في الجانب الآخر … وأدرك «أحمد» من لهجته ومن طريقة كلامه أنه مجرمٌ عريق!

وابتعد «أحمد» مسافةً كافيةً ليكون قريبًا منهم؛ فقد يطلبون أي شيء. وأخذ يُفكِّر في الكلمات القليلة التي سمعها … «لقد حصلت على كل المواعيد المطلوبة.»

ثم ردَّ «مالمو»: عظيم … فلنبدأ.

مواعيد مع من؟ … وما هي البداية؟

وجاء زبائن آخرون … وانهمك «أحمد» في عمله، دون أن يغفل لحظةً عن مراقبة مائدة الأربعة الذين انتهَوا من غدائهم. ووقَّع أحدهم الفواتير بثمن الطعام مضافًا إلى حسابات الغرف … ونفح «أحمد» بقشيشًا سخيًّا تناوله وهو يُردِّد كلمات الشكر.

غادر الأربعة مكانهم، ونظر «أحمد» إلى الفواتير وعرف رقم الغرفة التي ينزل بها الرجال، ثم راقب الأربعة، ولاحظ أن «مالمو» ومعه أحد الرجال قد صعد إلى غرفته، بينما غادر الرجلان الآخران الفندق.

واقترب «أحمد» من «عثمان» وقال: ستنتهي وردية العمل الساعة الرابعة، وأُريد العودة إلى البيت فورًا.

وظلَّا يُؤدِّيان عملهما حتى الرابعة، ثم انصرفا في تاكسي إلى شقتهما في مدينة المهندسين. وعندما وصلا إليها أخرج «عثمان» من جيبه كميةً من النقود، وأخذ يعدها، ثم قال: ثلاثة جنيهات بقشيش … إنها مهنةٌ مربحة! … أفضل من العمل مع الشياطين! … ما رأيك في الاستقالة من المنظمة والاشتغال في الفندق؟

وضحك «أحمد» وهو يقول: هاتِ أجهزة التسجيل التي عندك.

وأسرع «عثمان» إلى حقيبته ففتحها، ومن جيب سري فيها أخرج ثلاثة أجهزة تسجيل من أحجام مختلفة، وناولها ﻟ «أحمد» الذي انتقى أصغر الأجهزة الثلاثة، ثم جلس إلى المائدة، وأخذ يفحصه، ثم قال: عظيم جدًّا … إنه جهاز يمكن لصقه في أي مكان.

عثمان: ما هي خطتك بالضبط؟

أحمد: لا شيء سوى التنصُّت على الرجال الأربعة، وحسب ما قلت لك إننا نُريد فقط أن نعرف لماذا جاءوا إلى «القاهرة»، وليس في نيتي أي صدام معهم إلَّا بعد أن أعرف ماذا يفعلون هنا.

عثمان: وأين ستضع جهاز التسجيل؟

أحمد: ما رأيك أنت؟

عثمان: أفضل مكانٍ هو غرفة الرجال الأربعة … لقد فعلت ذلك من قبل في مغامرة «ثعالب الخليج».

أحمد: إنني أخشى أن يكتشفوا الجهاز؛ فهؤلاء الأربعة ينتمون إلى أكبر منظمة إجرامية في العالم تُريد أن ترث نفوذ «المافيا»، ومعنى ذلك على ما أُرجِّح أنهم في منتهى الحذر. ولست أستبعد أنهم يُفتِّشون غرفهم يوميًّا … أكثر من هذا أن يكون معهم أجهزة دقيقة للتفتيش.

عثمان: إذن ماذا ستفعل؟

أحمد: خطة جريئة … ولكن ستعتمد على الصدفة البحتة.

تلهَّف «عثمان» للاستماع وقال: كيف؟

أحمد: سأُعلِّق هذا الجهاز في أسفل أحد مقاعد صالة الطعام، وعندما يدخلون سأحاول أن أقودهم إلى المائدة التي يكون بها هذا الكرسي، وبالطبع لن يُفكِّروا في تفتيشه.

عثمان: هذه مغامرةٌ غير مأمونة مطلقًا! … هناك احتمال أن تكون مشغولًا لحظة دخولهم فيخدمهم أحد الزملاء الآخرين … وهناك احتمال آخر أن يختاروا هم مائدةً أخرى.

أحمد: معك حق، ولهذا قلت لك إن الخطة تقوم على الصدفة … وسنُحاول معًا أن يكون أحدنا في خدمتهم عند دخولهم، لهذا عندما ينشغل أحدنا بالعمل، يجب أن يكون الآخر غير مشغول.

عثمان: وفي حالة اختيارهم مائدةً أخرى؟

أحمد: نُحاول مرةً أخرى، وهكذا …

ابتسم «عثمان»، وقام يُغيِّر ثيابه ويغسل شعره … وكان يتحرَّك وهو يرقص ويُصفِّر، واندهش «أحمد» وقال: ما هي الحكاية يا عثمان؟! … إنك في حالةٍ غير عادية!

عثمان: سرٌّ يا صديقي … سر خطير!

أحمد: أي سرٍّ؟! … هل علمت شيئًا عن هؤلاء الأربعة؟!

عثمان: أربعة وخمسة … إنك مشغول جدًّا بهؤلاء المجرمين، ولكني مشغولٌ بشيء آخر مختلف!

أحمد: دَعك من اللف والدوران … مغامرة غرامية؟

توقَّف «عثمان» عن الحركة وقال: كيف عرفت؟

أحمد: وهل الحكاية في حاجة إلى ذكاء؟ … إنك ترقص وكأنك على موعد غرامي.

عثمان: بالضبط يا صديقي، بالضبط!

أحمد: من أول يوم؟

عثمان: من أول نظرة!

صمت «أحمد» وهو يرتدي بيجامته وقال: ومتى موعد «روميو» و«جولييت»؟

عثمان: هذا المساء … في غير أوقات العمل الرسمية!

أحمد: أين بالضبط؟ … فقد أحتاج إلى الاتصال بك؟

عثمان: حتى الآن سنلتقي أولًا في ميدان التحرير، وبعدها سنُقرِّر أنا و«جولييت» أين نذهب؟

ابتسم «أحمد» وقال: وعلى حضرتك العودة مبكرًا لأننا سنبدأ العمل غدًا في السادسة صباحًا.

عثمان: سيكون كل شيءٍ على ما يرام … كل شيء في موعده.

أحمد: وهل أستطيع أن أعرف الحسناء التي أُصيبت بالعمى ووقعت في غرامك بهذه السرعة؟

ازدادت ابتسامة «عثمان» وقال: عندما تعرفها ستكون مفاجأةً لك … ومؤقَّتًا لن أُعلن عن اسمها أو شخصيتها؛ لتكون المفاجأة كاملة … وبالمناسبة لا تنسَ أن الولد الأسمر هو «موضة» الفتيات في جميع أنحاء العالم الآن!

أحمد: لا تُزعجني بآخر أخبار الغراميات في العالم … فعندي ما يشغلني.

ودخل «أحمد» إلى غرفته، وأغلق الباب والنوافذ واستلقى على فراشه … كانت المشكلة كيف يضع جهاز التسجيل في الكرسي أمام كل العاملين في صالة الطعام التي لا تخلو في أي وقت من زبائن، وفي نفس الوقت يضمن تثبيته بحيث لا يقع إذا تحرَّك الكرسي؟

واستغرق في النوم وهو يُفكِّر. وعندما استيقظ كانت أمسية الشتاء القصيرة قد رحلت وهبط الظلام … أضاء النور وخرج إلى الصالة، ولم يجد «عثمان» … وبالطبع أدرك أنه ذهب إلى موعده الغرامي السريع، فدخل إلى المطبخ وأعدَّ كوبًا من الشاي، ثم أمسك بأحد الكراسي وأخذ يُجرِّب كيفية لصق جهاز التسجيل به في أفضل مكان ممكن. وعندما استقر رأيه على المكان، بقيت مسألة تثبيت الجهاز بحيث لا يقع، وقرَّر أن يبحث عن شريط لاصق، ولكنه لم يجد في حقيبته أو حقيبة «عثمان» ما يطلب، وأسرع يرتدي ثيابه، ثم خرج واستقبل ليل «القاهرة» بقلب ثقيل، ولكنه سمع خلال الباب المغلق صوت جرس التليفون يدقُّ بإلحاح في الداخل، فأسرع يفتح الباب ويجري إلى جهاز التليفون، وتعثَّر في الظلام وسقط، ولكنه زحف حتى وصل إلى التليفون، ورفع السمَّاعة … وعلى الطرف الآخر سمع من يقول: السيد «أحمد»؟

ردَّ «أحمد» بلهفة: نعم يا سيدي.

قال الرجل: مكالمة لك من «بيروت»!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤