الكتاب الرابع

الشعر والشعراء

(١) قصص وتاريخ

نظن أن أنصار القديم لا يطمعون منا في أن نغير لهم حقائق الأشياء، أو أن نُسمي هذه الحقائق بغير أسمائهم، لنبلغ رضاهم ونتجنب سخطهم، ومهما نكن حراصًا على أن يرضوا، ومهما نكن شديدي الكره لسخطهم، فنحن على رضا الحق أحرص، وللعبث بالحق والعلم أشد كرهًا.

ولن نستطيع أن نُسمي حقًّا ما ليس بالحق، وتاريخًا ما ليس بالتاريخ، ولن نستطيع أن نعترف بأن ما يُروى من سيرة هؤلاء الشعراء الجاهليين وما يُضاف إليهم من الشعر تاريخ يمكن الاطمئنان إليه أو الثقة به، وإنما كثرة هذا كله قصص وأساطير لا تفيد يقينًا ولا ترجيحًا، وإنما تبعث في النفوس ظنونًا وأوهامًا. وسبيل الباحث المحقق أن يستعرضها في عناية وأناة وبراءة من الأهواء والأغراض، فيدرسها محللًا ناقدًا، مستقصيًا في النقد والتحليل؛ فإن انتهى من درسه هذا إلى حق أو شيء يشبه الحق أثبته محتفظًا بكل ما ينبغي أن يحتفظ به من الشك الذي قد يحمله على أن يُغير رأيه ويستأنف بحثه ونظره من جديد.

ذلك أن أخبار الجاهليين وأشعارهم لم تصل إلينا من طريق تاريخية صحيحة، وإنما وصلت إلينا من هذه الطريق التي تصل منها القصص والأساطير؛ طريق الرواية والأحاديث، طريق الفكاهة واللعب، طريق التكلف والنحل. فنحن مضطرون أمام هذا كله إلى أن نحتفظ بحريتنا كاملة، وإلى أن نقاوم ميولنا وأهواءنا وفطرتنا التي هي مستعدة للتصديق والاطمئنان في سهولة ويسر. ونحن لا نعرف نصَّا عربيًّا وصل إلينا من طريق تاريخية صحيحة يمكن أن نطمئن إليها قبل القرآن إلا طائفة من النقوش، لا تُثبت في الأدب حقًّا ولا تنفي منه باطلًا، وهي إن أفادت في تاريخ الرسم فذلك كل ما يمكن أن يؤخذ منها إلى الآن.

القرآن وحده هو النص العربي القديم الذي يستطيع المؤرخ أن يطمئن إلى صحته ويعتبره مشخصًا للعصر الذي تلي فيه. فأما شعر هؤلاء الشعراء وخطب هؤلاء الخطباء وسجع هؤلاء الساجعين، فلا سبيل إلى الثقة بها ولا إلى الاطمئنان إليها، ولا سيما بعدما بسطنا لك في الكتاب الثاني من الأسباب التي تدعو إلى الشك في صحتها، وبعدما بسطنا لك في الكتاب الثالث من الأسباب التي كانت تحمل الناس على التكلف والنحل.

وإذن فيجب أن يكون لمؤرخ الآداب العربية موقفان مختلفان: أحدهما أمام الأساطير والأقاصيص والأسمار التي تُروى عن العصر الجاهلي، والآخر أمام النصوص التاريخية الصحيحة التي تبتدئ بالقرآن.

وقد بينا لك في الكتاب الماضي أن هذا ليس شأن الآداب العربية وحدها، وإنما هو شأن الآداب القديمة كلها، وضربنا لك الأمثال بالأدب اليوناني والأدب اللاتيني. ولولا أنَّا نحرص على الإيجاز لضربنا لك أمثالًا أخرى لطائفة من الآداب الحية الحديثة؛ فلكل أدب قسمه الصحيح وقسمه المتكلف، ولكل أمة تاريخها الصحيح وتاريخها المنحول. ولسنا ندري لمَ يريد أنصار القديم أن يميزوا الأمة العربية والأدب العربي من سائر الأمم والآداب، ومن الذي يستطيع أن يزعم أن الله قد وضع القوانين العامة لتخضع لها الإنسانية كلها إلا هذا الجيل الذي كان ينتسب إلى عدنان وقحطان؟ كلا! الجيل العربي كغيره من الأجيال، خاضع لهذه القوانين العامة التي تسيطر على حياة الأفراد والجماعات.

للعرب خيالهم الشعبي، وهذا الخيال قد جد وعمل وأثمر، وكانت نتيجة جده وعمله وإثماره هذه الأقاصيص والأساطير التي تُروى لا عن العصر الجاهلي وحده بل عن العصور الإسلامية التاريخية أيضًا. وقد رأيت في فصولنا التي سميناها «حديث الأربعاء» أنا نشك في طائفة من هذه القصص الغرامية التي تُروى عن العذريين وغيرهم من العشاق في العصر الأموي، ويجب حقًّا أن نلغي عقولنا — كما يقول بعض الزعماء السياسيين — لنؤمن بأن كل ما يُروى لنا عن الشعراء والكتاب والخلفاء والقواد والوزراء صحيح؛ لأنه ورد في كتاب «الأغاني» أو في كتاب الطبري أو في كتاب المبرد أو في سفر من أسفار الجاحظ. نعم! يجب أن نلغي عقولنا وأن نلغي وجودنا الشخصي، وأن نستحيل إلى كتب متحركة: هذا يحفظ «الكامل» لا يعدوه فيصبح نسخة من كتاب «الكامل» تمشي على رجلين وتنطق بلسان، وهذا يحفظ كتاب «البيان والتبيين» فيصبح نسخة منه، وهذا يحفظ أخلاطًا من هذه الكتب فيصبح مزاجًا غريبًا يتكلم مرة بلسان الجاحظ وأخرى بلسان المبرد وثالثة بلسان ثعلب ورابعة بلسان ابن سلام.

لأنصار القديم أن يرضوا لأنفسهم بهذا النحو من أنحاء الحياة العلمية، أما نحن فنأبى كل الإباء أن نكون أدوات حاكية أو كتبًا متحركة، ولا نرضى إلا أن تكون لنا عقول نفهم بها ونستعين بها على النقد والتمحيص في غير تحكم ولا طغيان، وهذه العقول تضطرنا — كما اضطرت غيرنا من قبل — إلى أن ننظر إلى القدماء كما ننظر إلى المحدثين دون أن ننسى الظروف التي تحيط بأولئك وهؤلاء، فأنا لا أقدس أحدًا من الذين يعاصرونني ولا أبرئه من الكذب والنحل، ولا أعصمه من الخطأ والاضطراب، فإذا تحدث إليَّ بشيء أو نقل لي عنه شيء، فأنا لا أقبل حتى أنقد وأتحرى، وأحلل وأدقق في التحليل. وما أعرف أن أحدًا من أنصار القديم أنفسهم يقدس المعاصرين ويطمئن إليهم من غير نقد ولا تبصر، وآية ذلك أنهم يحيون حياتهم اليومية كما يحياها أنصار الجديد؛ فهم يبيعون ويشترون ويدخرون كما يبيع غيرهم وكما يشتري وكما يدخر. وهم يدبرون أمورهم الخاصة كما يدبرها سائر الناس في مقدار من الذكاء والفطنة والحذر. فما بالهم يصطنعون ملكاتهم الناقدة بالقياس إلى المعاصرين، ولا يصطنعونها بالقياس إلى القدماء؟ وما بالهم إذا كانوا يحبون التصديق والاطمئنان إلى هذا الحد لا يصدِّقون البائع حين يزعم لهم أن سلعته تساوي عشرين، بل يعرضون عليه عشرة وأقل من عشرة ويساومون حتى ينتهوا إلى ما يريدون؟ ولو أنهم صدقوا المحدثين واطمأنوا إليهم كما يصدقون القدماء ويطمئنون إليهم لكانوا مضرب الأمثال في الغفلة والسفه والحمق، ولكانت حياتهم كدًّا وضنكًا وعناء، ولكنا نحمد لهم الله؛ فهم بالقياس إلى معاصريهم أصحاب بصر بالأمور وفطنة بدقائقها وحيلة واسعة للتخلص من المآزق، وهم يشترون اللحم كما نشتريه، ويبذلون في الخبز والسمن مثل ما نبذل.

وإذن فما مصدر هذه التفرقة التي يصطنعونها بين القدماء والمحدثين؟ ما لهم يؤمنون لأولئك ولا يشكون في هؤلاء؟

ليس لهذه التفرقة مصدر إلا هذه الفكرة التي تُسيطر على نفوس العامة في جميع الأمم وفي جميع العصور، وهي أن القديم خير من الجديد، وأن الزمان صائر إلى الشر لا إلى الخير، وأن الدهر يسير بالناس القهقرى، يرجع بهم إلى وراء، ولا يمضي بهم إلى أمام …

زعموا أن القمحة كانت في العصور الذهبية تعدل التفاحة العظيمة حجمًا، ثم غضب الله على الناس فأخذت القمحة تتضاءل حتى وصلت إلى حيث هي الآن!١
وزعموا أن الرجل من الأجيال القديمة كان من الطول والضخامة والقوة بحيث كان يغمس يده في البحر فيأخذ منه السمك، ثم يرفع يده في الجو فيشويه في جذوة الشمس، ثم يهبط بيده إلى فمه فيزدرد شواءه ازدرادًا.٢

وزعموا أن أهل الأجيال القديمة كانوا من الضخامة والجسامة بحيث استطاع بعض الملوك، أو بعض الأنبياء، أن يتخذ فخذ أحدهم جسرًا يعبر عليه الفرات.

فالقديم خير من الجديد، والقدماء خير من المحدثين، يؤمن العامة بهذا إيمانًا لا سبيل إلى زعزعته، وهذا الإيمان يتطور ويتغير، ولكن أصله ثابت، فأصحاب الحضارة والمدنية الذين أخذوا من العلم بحظ لا يؤمنون بمثل هذه الأحاديث التي قدمتها لك، ولكنهم يرون أن الأخلاق مثلًا كانت أشد استيقاظًا في العصور الأولى، وأن الأفئدة كانت أشد ذكاء، وأن الأبدان كانت أعظم حظًّا من الصحة، وعلى هذا النحو يكون تفضيل القديم؛ لأنه قديم لا نراه من جهة، ولأننا ساخطون بطبعنا على الحاضر من جهة أخرى.

فهل تظن أن الذين يثقون بخلف وحماد والأصمعي وأبي عمرو بن العلاء يثقون بهم لشيء غير ما قدمت لك؟ كلا! كان هؤلاء الناس أحسن من المعاصرين أخلاقًا، وأقل منهم ميلًا إلى الكذب، كانوا أذكى منهم أفئدة وكانوا أقوى منهم حافظة، وكانوا أثقب منهم بصائر، لماذا؟ لأنهم قدماء؛ لأنهم كانوا يعيشون في هذا العصر الذهبي، أليس العصر العباسي عصرًا ذهبيًّا بالقياس إلى هذا العصر الذي نعيش فيه!

أما نحن فلا نزعم أن القدماء كانوا شرًّا من المحدثين، ولكننا لا نزعم أيضًا أنهم كانوا خيرًا منهم، وإنما أولئك وهؤلاء سواء، لا تُفرق بينهم إلا ظروف الحياة التي تصور طبائعهم صورًا ملائمة لها دون أن تتغير هذه الطبائع، كان القدماء يكذبون كما يكذب المحدثون،٣ وكان القدماء يخطئون كما يخطئ المحدثون،٤ وكان حظ القدماء من الخطأ أعظم من حظ المحدثين؛ لأن العقل لم يبلغ من الرقي في تلك العصور ما بلغ في هذا العصر، ولم يستكشف من مناهج البحث والنقد ما استُكشف في هذا العصر، فإذا أخذنا أنفسنا بأن نقف أمام القدماء موقف الشك والاحتياط فلسنا غلاة ولا مسرفين، وإنما نحن نؤدي لعقولنا حقها، ونؤدي للعلم ما له علينا من دين، وإذا كنا نطلب إلى أنصار القديم شيئًا فهو أن يكونوا منطقيين، وأن يلائموا بين حياتهم حين يقرءون ويكتبون، وحياتهم حين يبيعون ويشترون.

وإذن فلنتناول مع الإيجاز الشديد شيئًا من البحث عن الشعر والشعراء في العصر الجاهلي؛ لنرى إلى أي شيء نستطيع أن نطمئن من هذه الأشعار والأخبار التي امتلأت بها الكتب والأسفار، ولنبدأ منهم بشعراء اليمن وربيعة.

(٢) شعر اليمن

وهل لليمن في الجاهلية شعراء؟

أما القدماء فلا يشكون في ذلك، وهم يحصون شعراء يمنيين يروون لبعضهم قصائد، ولبعضهم مقطوعات، ولبعضهم البيت أو البيتين، ويروون لهم أخبارًا تختلف طولًا وقصرًا، وتتفاوت قوة وضعفًا. ولكنا نقف من هؤلاء الشعراء جميعًا، لا نقول موقف الحيطة والشك بل موقف الرفض والإنكار، فأمر هؤلاء الشعراء قائم كله على خطأ أساسي، أو قائم كله على تكلف قُصد به إلى التضليل؛ ذلك أن القدماء زعموا، أو خُيل إليهم، أن أهل اليمن عرب كغيرهم من العرب؛ فيجب أن يكون حظهم من الشعر والشعراء كحظ غيرهم من أهل الحجاز ونجد. وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من أن يكون لكل قبيلة شاعرها أو شعراؤها، ولا بد من أن تكون ألسنة اليمنيين فصيحة عذبة منطلقة بجيد الشعر ورديئه، كما كانت ألسنة العدنانيين عامة والمضريين خاصة.

وقد كان يصح الوقوف عند هذا كله موقف الجد لولا ما قدمنا من المصاعب المادية التي تحول بيننا وبين ذلك؛ فقد عرفت أن أهل اليمن كانوا يتكلمون لغة أخرى غير هذه اللغة القرشية التي قيل فيها شعر اليمنيين، وقد عرفت أن ليس من اليسير أن نفترض أن هؤلاء الناس قد استعاروا في الجاهلية لغة قريش لأدبهم وما استحدثوا من شعر ونثر، ولو قد فعلوا شيئًا من ذلك لظهر أثره في هذه النقوش التي تركوها والتي استُكشفت، والتي عرضنا عليك طائفة منها. لو قد فعلوا لاتخذوا هذه اللغة القرشية لغة لتاريخهم وتخليد مآثرهم بالكتابة، كما اتخذوها لغة لشعرهم وتخليد مآثرهم بالكلام. ولكنا لا نعرف نقشًا واحدًا يمنيًّا كُتب بلغة قريش، أو بلغة تقارب لغة قريش، أو بلغة يظهر فيها أقل تأثير للغة قريش. وإذن فكيف نستطيع أن نفهم أن يكون لأهل اليمن لغتان مختلفتان: إحداهما تُتخذ في الكلام والحوار وكتابة التاريخ وتخليد المآثر على العمارات والأبنية وتعامل الناس فيما بينهم وتقربهم إلى آلهتهم، والأخرى تُتخذ للشعر والسجع، وللشعر والسجع وحدهما؟

ونحن نعلم أنهم سيذكرون هذه القبائل اليمنية التي يقال: إنها هاجرت نحو الشمال واستقرت في الحجاز ونجد، ونسيت لغة آبائها واتخذت لغة العدنانيين. ولكنك قد عرفت رأينا في هذه الهجرة وما يُحيط بها من شك وما تقوم عليه من وهم، وعرفت أنها إن صحت كانت صحتها خطرًا على نظرية القدماء؛ لأنها تثبت أن القحطانيين هم المستعربة، وأن العدنانيين هم العاربة، وأن القحطانية هم الذين تعلموا العربية ونسوا لغة آبائهم بعد أن كان إسماعيل بن إبراهيم أول من تعلم العربية ونسي لغة أبيه. على أن فساد رأي القدماء في هذا الشعر اليماني لا يقف عند هذا الحد الذي بيناه؛ فهم يروون شعرًا عربيًّا قرشي اللغة واللهجة لقوم من اليمن لم يهاجروا إلى الشمال ولم يستوطنوا نجدًا والحجاز، وإنما استقروا حيث كان آباؤهم من الجنوب وحيث كانت السيطرة للغة الجنوب أو لغات الجنوب.

بل هم لا يكتفون بهذا، وإنما يتجاوزونه إلى شيء نراه أعجوبة الأعاجيب، ونرى أنه لو صح لاضطر اللغويين جميعًا إلى أن يغيروا نظرياتهم في فقه اللغة؛ وهم يروون شعرًا لقوم عاصروا إسماعيل بن إبراهيم أو عاصروا أبناءه الأدنين.

ولو قد صح هذا الشعر لكانت هذه اللغة القرشية التي نزل بها القرآن من القدم وبعد العهد بحيث لا نظن ولا نتصور. ويكفي أن نقرأ هذا الشعر الذي يُضاف إلى جرهم لنعرف أن هذا الأمر كله خلط واضطراب، وأن هذا الشعر الذي يُضاف إلى الذين عاصروا إسماعيل إنما هو كشعر عاد وثمود وطسم وجديس، لا قيمة له ولا غناء فيه، صنعه القصاص صنعة وتكلفوه تكلفًا؛ رغبة في الفكاهة، أو تزيين القصص، أو تفسير ما يتصل ببناء الكعبة واختصام العرب حولها. انظر إلى هذا الشعر الذي يُضاف إلى مضاض بن عمرو وهو من أصهار إسماعيل:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
ولم يتربع وسطه فجنوبه
إلى المنحنى من ذي الأريكة حاضر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا
صروف الليالي والجدود العواثر
وأبدلنا ربي بها دار غربة
بها الذئب يعوي والعدو المخامر
أقول إذا نام الخلي ولم أنم:
أذا العرش لا يبعد سهيل وعامر
وبدلت منهم أوجهًا لا أريدها
وحمير قد بدِّلتها واليحابر
فإن تملِ الدنيا علينا بكلكل
ويصبح شر بيننا وتشاجر
فنحن ولاة البيت من بعد نابت
نمشي به والخير إذ ذاك ظاهر
وأنكح جدي خير شخص علمته
فأبناؤه منا ونحن الأصاهر
وأخرجنا منها المليك بقدرة
كذلك — يا للناس — تجري المقادر!
فصرنا أحاديثًا وكنا بغبطة
كذلك عضتنا السنون الغوابر
وسحت دموع العين تبكي لبلدة
بها حرم أمن وفيها المشاعر
ويا ليت شعري من بأجياد بعدنا
أقام بمفضى سيله والظواهر
فبطن مِنًى أمسى كأن لم يكن به
مضاض ومن حَبَّيْ عدي عمائر
فهل فرج آتٍ بشيء نحبه
وهل جزع منجيك مما تحاذر٥

فلو صح هذا الشعر لكانت اللغة التي تعلمها إسماعيل بن إبراهيم من أصهاره الجرهميين قبل الإسلام بأكثر من خمسة عشر قرنًا هي هذه التي تراها في هذا الكلام سهلة لينة، لا شدة فيها ولا تعب، مستقيمة قواعد النحو والصرف والعروض والقافية، على ما كانت تستقيم عليه للقرشيين أيام النبي وبعد ظهور الإسلام. وما عرف أحد أن لغة استعصت على التطور الطبيعي كما استعصت هذه اللغة دون أن تكون مقدسة أو كالمقدسة. على أن الرواة — كما قدمت لك — يروون شعرًا للحميريين أحب أن تنظر فيه، فسترى أنه كشعر الجرهميين الذي أصهر إليهم إسماعيل، وليس في ذلك شيء من الغرابة؛ فقد كان الحميريون والجرهميون عربًا عاربة، وإنما الغريب هو أن يكون شعر هذه العرب العاربة أدنى إلى السخف والرداءة وأبعد عن الجودة والمتانة من شعر أولئك العرب المستعربة الذين تعلموا منهم. على أن ذلك قد لا يكون غريبًا؛ فرب تلميذ تفوق على أستاذه، ورب عرب مستعربة كانت أملك للعربية وأقدر عليها من العرب العاربة، وانظر إلى هذا الشعر الذي يُضاف إلى حسان بن تبع:

أيها الناس إن رأيي يريني
وهو الرأي طوفة في البلاد
بالعوالي وبالقنابل تَرْدى
بالبطاريق مشية العواد
وبجيش عرمرم عربي
جحفل يستجيب صوت المنادي
من تميم وخندف وإياد
والبهاليل حمير ومراد
فإذا سرت سارت الناس خلفي
ومعي كالجبال في كل وادي
سقِّني ثم سقِّ حمير قومي
كأس خمر أولي النهى والعماد٦

فما ترى في هذا الشعر لا سيما حين تقيسه إلى ما قدمناه لك في الكتاب الثاني من نصوص حميرية، وتُقارن بينه وبين هذه النصوص في اللفظ والنحو والصرف؟

وقد يكون من الإطالة وإضاعة الوقت أن نمضي في رواية هذا الشعر، وأن نقف عند الشعراء الذين يُضاف إليهم، وقد يكون من الحق علينا أن ننصرف عن هذا الهزل إلى شيء من جد القول. فقد يستطيع أنصار القديم أن يصعدوا حتى يصلوا إلى السماء السابعة، وأن يهبطوا حتى يصلوا إلى الأرض السابعة، دون أن يقنعوا غير أنفسهم بأن هذا الكلام وأمثاله قديم قد صدر عن أهل الجنوب في العصور التي يقال إنه قيل فيها. ونحن قد قدمنا لك في الكتاب الثالث الأسباب التي دعت إلى نحل هذا الشعر وأمثاله لتمجيد اليمانية ورفع شأنها، وإثبات أن لها سابقة في الجاهلية تستطيع أن تثبت بها أمام نبوة المضريين وخلافتهم.

ومن غريب الأمر أنك تحصي شعراء اليمن هؤلاء وتقرأ ما يُضاف إليهم من الشعر، فتراه كله على هذا النحو من السهولة والسخف واللين والاضطراب، لا نستثني منه إلا ما يُضاف إلى امرئ القيس، وستعرف رأينا فيه.

لم يكن لليمن في الجاهلية إذن شعراء، وما كان ينبغي أن يكون لها شعراء؛ لأنها لم تكن تتكلم العربية ولا تلم بها إلمامًا يكفي لأن تتخذها لغة الشعر، ومع ذلك فتفسير هذا الشعر وانتسابه إلى قائليه لا يحتاج إلى مشقة ولا إلى عناء إن أنت أحسنت التفكير فيما قدمنا بين يديك في الكتاب الثالث. وأنت لن تقرأ شعر شاعر من هؤلاء من اليمنيين إلا رأيته متصلًا من قريب أو من بعيد بسبب من هذه الأسباب التي قدمناها في الكتاب الثالث: متصلًا بالدين؛ متصلًا بالسياسة، متصلًا بالقصص، متصلًا بالأساطير، ولولا اتقاء الإطالة لضربنا لك الأمثال. ولكن شيئًا واحدًا يجب أن نقف عنده وقفة قصيرة؛ لأنه يقيم الدليل الذي لا يقبل الشك على ما نُريد إثباته من أن هذا الشعر منحول مصنوع بعد الإسلام لسبب من هذه الأسباب التي قدمناها.

ذلك هو أن كثرة هؤلاء الشعراء من اليمنيين إنما تُذكر ويُروى لها الشعر بإزاء طائفة من القصص منها الغريب ومنها غير الغريب، فيذكر بعض هؤلاء الشعراء بإزاء ما كان حول الكعبة من خصومة٧ في قصة لا شك في أنها متكلفة مصطنعة، يدل على ذلك لفظها كما يدل على ذلك ما فيها من تكلف لتفسير أسماء الأماكن والجبال، وتفسير ما كان في مكة من عادة معروفة أو سنة متوارثة. ويذكر بعضهم بإزاء ما يقال من أن بعض ملوك حمير قد غزا فأمعن في الغزو وبسط سلطانه على أقطار الأرض، ويذكر بعضهم أنه كان من المعمرين الذين مد الله لهم في الحياة حتى سئموها، فهم يتمنون الموت ويظهرون الزهد في الناس، وذلك شأن زهير بن جناب الكلبي وغيره ممن قدمنا الإشارة إليهم،٨ ويذكر بعضهم بإزاء هذه الخصومات التي يقال: إنها وقعت بين العدنانية والقحطانية في الجاهلية فانتصرت فيها العدنانية على القحطانية انتصارات باهرة، فُتن بها بعض المحدثين من المؤرخين فبنوا عليها نظريات ضخمة. وزعموا أن العدنانية أذعنت للقحطانية حينًا طويلًا من الدهر، ثم بدا لها فثارت بساداتها وانتصرت عليهم، وكان قائدها إلى هذا النصر كليب الذي يُذكر في حرب البسوس. ثم ينتقلون من التاريخ السياسي إلى التاريخ الأدبي، فيروون أن هذا الاستقلال الذي ظفرت به عدنان قد أحدث لها نهضة عقلية وأدبية نشأ عنها الشعر العربي العدناني.

ولسنا ننفي الخصومة بين العدنانية والقحطانية في الجاهلية، ولسنا ننفي خضوع العدنانية للقحطانية وثورتها بها وانتصارها عليها وظفرها بالاستقلال. لا ننفي شيئًا من ذلك ولا نثبته؛ لأنا لم نظفر بعدُ بالنصوص التاريخية القاطعة أو المرجحة لشيء من ذلك. وإنما نقف من هذا كله موقف الشك، أو بعبارة أدق نقف من هذا كله موقفنا بإزاء ما يروي القصاص من الأحاديث والأخبار والأساطير، حتى نجد من الأدلة التاريخية ما يكفي لترجيح النفي أو الإثبات.

هذه الخصومات التي يقال: إنها كانت بين العدنانية والقحطانية، أنطقت — فيما يظهر — طائفة من الشعراء بشعر كثير بقيت لنا منه نماذج مفرقة في كتب الأدب. وكنا نود لو استطاعت هذه النماذج أن تثبت للنقد الأدبي والتاريخي، فلو قد ثبت لوضعت مسألة اللغة الأدبية في اليمن موضع البحث، ولأكرهتنا على أن نلتمس لها حلًّا. ولكن القراءة اليسيرة لهذه النماذج كفيلة بأن تقنعك بأن هذا الشعر لا يمكن أن يكون جاهليًّا، وإنما هو شعر إسلامي أنشأته العصبية المضرية اليمنية. وهنا تقف أمام طائفة من الأعاجيب في تفنن القصاص لإرضاء العصبيات وتأييدها، فأنت حين تقرأ ما يُروى من الشعر الذي قيل في يوم الكلاب الثاني ترى عجبًا: ترى طائفة من الشعراء اليمنيين يثنون على مضر ويغلون في مدحها والإشادة بذكرها؛ وذلك لأن النصر في هذا اليوم كان لقبيلة مضرية هي تميم على طائفة من القبائل اليمنية منها الحميري، ومنها الكهلاني. وقد انهزمت — فيما يقول القصاص — جموع اليمن هزيمة منكرة، وأسرت طائفة من ساداتها وأسر قائدهم عبد يغوث وقُتل ورثى نفسه قبل أن يموت. وانطلقت ألسنة الشعراء من المنهزمين بالاعتذار عن الهزيمة، فيتخذون من هذا الاعتذار وسيلة إلى الإسراف في الثناء على التميميين، وما كان لهم من شجاعة وبأس وإقدام. ولكنك لا تشك وأنت تقرأ هذا الشعر في أن الجاهليين من أهل اليمن لم يقولوه، وإنما هو شعر صنعه قصاص تميم والمروجون للعصبية التميمية، وقصدوا إلى إنطاق اليمينيين أنفسهم بفضل المضريين عامة وتميم خاصة. وإليك طائفة من هذا الشعر لن تحتاج إلى شرح ولا إلى تفسير، لا في مادتها ولا في معناها، فانظر أولًا إلى هذه القصيدة التي تضاف إلى عبد يغوث، واقرأها، وما أرى إلا أنك ستذكر — كما ذكرت أنا حين قرأتها — قصيدتين شائعتين: إحداهما لمالك بن الريب التميمي يرثي بها نفسه وقد لدغته حية فأحس الموت أيام معاوية،٩ والأخرى اللامية المشهورة التي تُضاف إلى امرئ القيس، والتي سنتحدث عنها بعد حين، والتي مطلعها «ألا انعم صباحًا»:
ألا لا تلوموني كفى اللوم ما بيا
فما لكما في اللوم نفع ولا ليا
ألم تعلما أن الملامة نفعها
قليل وما لومي أخي من شماليا
فيا راكبًا إما عرضت فبلغن
نداماي من نجران ألا تلاقيا
أبا كرب والأيهمين كليهما
وقيسًا بأعلى حضرموت اليمانيا
جزى الله قومي بالكُلاَبِ ملامة
صَرِيحَهُمُ والآخَرِينَ المَوَاليَا
ولو شِئْتُ نَجَّتْنِي من الخيل نهدة
ترى خلفها الحُوَّ الْجِيَادَ تَوَالِيَا
ولكنني أحمي ذمار أبيكم
وكان الرِّماحُ يَخْتَطِفْنَ المُحَامِيَا
وقد عَلِمَتْ عِرْسِي مُلَيْكَةُ أَنَّنِي
أنا الليث معدوًّا عليه وعاديا
أقول وقد شدوا لساني بِنِسْعَةٍ:
أمعشر تيم أطلقوا عن لسانيا
أمعشر تيم قد ملكتم فأسجحوا
فإن أخاكم لم يَكُنْ مِن بَوَائِيَا
فإن تقتلوني تقتلوا بيَ سيدًا
وإن تُطْلِقُونِي تَحْرُبُونِي بِمَالِيَا
أحقًّا عباد الله أن لست سامعًا
نشيد الرُّعَاءِ المُعْزِبينَ المَتَاليَا
وتَضْحَكُ مِنِّي شَيْخَةٌ عبْشَمِيَّةٌ
كأن لم ترَ قبلي أسيرًا يمانيا
وظل نساء الحي حولي رُكَّدا
يراودن مني ما تريد نسائيا
وقد كنت نحَّار الجَزور ومعمل الـ
ـمطي وأَمْضِي حَيْثُ لا حَيَّ مَاضِيَا
وأنحر للشَّرْب الكرام مطيتي
وأَصْدَعُ بَيْن القَيْنَتَيْنِ رِدَائِيَا
وكنت إذا ما الخيل شمسها القنا
لبيقًا بتصريف القناة بنانيا
وعادية سومَ الجراد وزعتها
بكفي وقد أنحوا إليَّ العواليا
كأني لم أركب جوادًا ولم أقل
لِخَيْلِيَ: كُرِّي نَفِّسِي عن رجاليا
ولم أسبأ الزِّقَّ الرَّوِيَّ ولم أقل
لأيسار صدق: أعظموا ضوء ناريا١٠

وانظر إلى هذه القصيدة التي تُضاف إلى البراء بن قيس الكندي وحدثني بعد ذلك، أتظن أن تميميًّا يستطيع أن يثني على تميم بخير مما أثنى به هذا الكندي الموتور؟ بل أتظن أن مضريًّا يستطيع أن ينال اليمانية بشرٍّ مما نالها به هذا اليماني من قبيح المسبة؟

قتلتنا تميم يومًا جديدًا
قتل عاد وذاك يوم الكلاب
يوم جئنا يسوقنا الحَين سوقًا
نحو قوم كأنهم أُسد غاب
سرت في الأزد والمذاحج طرًّا
وبكيل وحاشد الأنياب
وبني كندة الملوك ولخم
وجذام وحمير الأرباب
ومراد وخثعم وزبيد
وبني الحارث الطوال الرغاب
وحشدنا الصميم نرجو نهابا
فلقينا البوار دون النهاب
لقيتنا أسود سعد وسعدٌ
خلقت في الحروب سوط عذاب
تركوني مسهدًا في وثاق
أرقب النجم ما أسيغ شرابي
خائفًا للردى ولولا دفاعي
بمئين عن مهجتي كالهضاب
لسقيت الردى وكنت كقومي
في ضريح مغيبًا في التراب
تذرف الدمع بالعويل نسائي
كنساء بكت قتيل الرباب
فلعيني على الألى فارقوني
درَرٌ من دموعها بانسكاب
كيف أبغي الحياة بعد رجال
قتلوا كالأسود قتل الكلاب
منهم الحارثي عبد يغوث
ويزيد الفتيان وابن شهاب
في مئين نعدها ومئين
بعد ألف مُنوا بقوم غضاب
برجال من العرانين شم
أسد حرب ممحوضة الأنساب١١

وهذه القصيدة التي تُضاف إلى وعلة بن عبد الله الجرمي أبلغ من قصيدة البراء بن قيس الكندي في الثناء على تميم والنعي على اليمانية. وكلتاهما تشتركان في ضعف اللفظ وسقمه وسوء النظم، حتى إن التكلف ليُلمس فيهما لمسًا، كما يُلمس في المنظومات العلمية، ولا سيما حين تعرضان لنظم أسماء القبائل والأشخاص، قال وعلة:

عذلتني نهد فقلت لنهد
حين جاشت على الكلاب أخاها
يوم كنا لديهم طير ماء
وتميم صقورها وبزاها
لا تلوموا على الفرار فسعد
يا لنهد! يخافها من يراها
إنما همها الطعان إذا ما
كره الطعن والضراب سواها
تركوا مذحجًا حديثًا مشاعًا
مثل طسم وحمير وصداها
يا لقحطان وادعوا حي سعد
وابتغوا سلمها وفضل نداها
إن سعد السعود أسد غياض
باسل بأسها شديد قواها
فضحت بالكلاب حار بن كعب
وبنو كندة الملوك أباها
أسلموا للمنون عبد يغوث
وبعضِّ الكبول حولا يراها
بعد ألف سقوا المنية صرفا
فأصابت في ذاك سعد مناها
ليت نهدًا وجرهمًا ومرادًا
والمذاحيج ذو أناة نهاها
عن تميم فلم تكن فقع قاع
تبتدرها ربابها ومناها١٢

وليس خيرًا من هذا الشعر في اللفظ والمعنى والأسلوب ولا أقرب منه إلى الصحة ما يضاف إلى الشعراء الذين يقال: إنهم ذُكروا يوم الكلاب الأول، وما كان فيه من انهزام تميم عن ملكها شرحبيل بن الحارث الكندي أمام ربيعة، وأكبر الظن أن العصبية اليمانية أو العصبية الربعية هي التي أنطقت أولئك الشعراء بهذا الشعر؛ لذم مضر من ناحية ومدح اليمانية والربعيين من ناحية أخرى. ولنضرب لهذا الشعر مثلًا الكلام الذي يُضاف إلى معديكرب بن الحارث في رثاء أخيه شرحبيل:

إن جنبي عن الفراش لنابي
كتجافي الأسر فوق الطِّراب
من حديث نمى إليَّ فلا تر
قأ عيني ولا أسيغ شرابي
مرة كَالذُّعَافِ أكتُمَها النا
س على حَرِّ مَلَّة كَالشَّهَابِ
من شرحبيل إذ تعاوده الأرما
ح في حال لذة وشباب
يَا ابْنَ أُمِّي وَلَوْ شَهِدْتُكَ إذْ تَدْ
عُو تميما وأنت غير مجاب
لتركت الحسام تجري ظُباه
من دماء الأعداء يوم الكُلاب
ثم طاعنت من ورائك حتى
تبلغ الرحب أو تُبَزَّ ثيابي
يوم ثارت بنو تميم وولت
خيلهم يتقين بالأذناب
ويحكم يا بني أسيِّد إني
ويحكم ربُّكم ورب الرباب
أَيْنَ مُعْطِيكُمُ الجَزِيلَ وَحابيـ
ـكُمْ على الفقر بالمئين اللباب
فارس يضرب الكتيبة بالسيـ
ـف على نحره كنضح المذاب
فارس يضرب الكماة جريء
تحته قارح كلون الغراب١٣

وأنت تستطيع أن تلحق بهذا الشعر في غير تردد ولا اضطراب ما يُضاف إلى المضريين أنفسهم مما يتصل بيومي الكلاب وغير يومي الكلاب، من هذه الأيام التي كانت بين اليمنية والمضرية قبل الإسلام. فكل هذا الشعر من نحل القصاص وتكلفهم، قصدوا به إلى الفكاهة حينًا، وإلى تزيين القصص وتكميله حينًا آخر، وإلى نشر الدعوة والترويج للعصبية مرة ثالثة. وسترى حين تتقدم في قراءة هذا الكتاب أنا سنقف هذا الموقف بإزاء طائفة كثيرة من الشعر الذي يتصل بالمواقع والأيام التي كانت بين القبائل الربعية والقبائل المضرية. ولكن بين اليمنيين والربعيين من ناحية، والمضريين من ناحية أخرى فرقًا عظيمًا، فكثرة الشعر الذي يُضاف إلى اليمنيين والربعيين كما رأيت وكما سترى متصلة بهذه الأيام والمواقع وبطائفة من النوادر والأعاجيب والأحاجي. وقل أن تعرف لأولئك وهؤلاء شاعرًا استقل بالشعر ولم يتخذه وسيلة إلى تسجيل طائفة من المفاخر أو طائفة من المثالب التي كانت تُضاف إلى قبيلته، في حين أن الأمر على غير ذلك بالقياس إلى المضريين؛ فلهم شعرهم الذي لا شك في أنه منحول متكلف لمثل ما نحل له الشعر الربعي وتكلف. لهم شعرهم الذي يتصل بالقصص والأيام والعصبيات، ولكن لهم غير هذا الشعر شعرًا آخر لا يتصل بالقصص ولا بالعصبيات، وإنما يتصل بطائفة من الشعراء اتخذوا الشعر لهم مهنة، ووقفوا حياتهم عليه، على أن الأمر إذا فكرت مختلف؛ فحظ اليمن من هؤلاء الشعراء قليل، أو قل: لا يكاد يوجد، فليس لها في الجاهلية شاعر إلا امرؤ القيس وسترى رأينا فيه.

وليس لها في الإسلام شاعر فحل، وإنما شعراء اليمانية في الإسلام مخترعون اختراعًا دون أن يكون لهم وجود تاريخي صحيح كوضاح اليمن، أو هم ضعاف متأخرون في الطبقة، وإنما نريد العصر الأموي وصدر الإسلام. فأما في العصر العباسي فقد أصبح الشعر شائعًا بين العرب من أهل الشمال والجنوب والموالي أنفسهم؛ فلا ينبغي إذن أن يعتد بالطائيين ولا بالسيد الحميري! فهؤلاء كانوا كأبي نواس وابن الرومي والمتنبي، الذين لم يكونوا من العرب في شيء، قد قالوا الشعر عن تعلم وصناعة، وقالوا في غير لغتهم الطبيعية، أو قل: إنهم قالوه في هذه اللغة التي أصبحت بحكم الدين والسياسة لغة الأدب.

ليس لليمن في الجاهلية شعراء، وحظها من الشعر في الإسلام قليل ضئيل، وذلك ملائم لطبيعة الأشياء؛ فلم تكن اللغة العربية لغة اليمن في الجاهلية، فلما جاء الإسلام أخذ بعض اليمنيين يتعلم العربية، ويتكلف الشعر فيها؛ فكان حظهم في هذا كحظ الموالي من الفرس الذين تعلموا العربية وتكلفوا الشعر فيها، لأسباب سياسية وعصبية، كما رأيت في الكتاب الثالث. وكان شعراء اليمن في الإسلام كشعراء الموالي قليلين ضعافًا متأخرين في الطبقة، متصلين بالأحزاب والعصبيات. ولعل أظهر هؤلاء الشعراء أعشى همدان، وقد كان شاعر اليمانية وشاعر عبد الرحمن بن الأشعث خاصة١٤ وقد قتله الحجاج.

أما ربيعة فحظها من الشعر والشعراء في الجاهلية أقل من حظ المضريين ولكنه أكثر من حظ اليمن؛ فالرواة يسمون لربيعة شعراء فحولًا في الجاهلية، ولكنهم لا يروون لهؤلاء الشعراء الفحول إلا شيئًا قليلًا من الشعر، نحن مضطرون إلى رفضه، كما سنرى عندما نعرض لشعر ربيعة بعد حين. فإذا جاء الإسلام فحظ ربيعة من الشعر دون حظ مضر وفوق حظ اليمن دائمًا، ولربيعة فحل في الإسلام استطاع أن يناهض فحول مضر جميعًا وهو الأخطل. ولربيعة شاعر آخر دون الأخطل ولكنه من كبار الشعراء هو القطامي. ثم لربيعة شعراء آخرون، ولكنهم قليلون ضعاف متأخرون في الطبقة كشعراء اليمن، وهذا أيضًا ملائم لطبيعة الأشياء؛ فقد كانت ربيعة عدنانية، نريد أنها كانت من عرب الشمال قريبة الموطن والنسب واللغة من المضريين، ولكنها لم تكن تتكلم لغة قريش قبل الإسلام، فأكبر الظن أن يكون شعرها الجاهلي قد حُمل على شعرائها حملًا، فلما كان الإسلام كان استعرابها أيسر وأسرع من استعراب اليمن ومن استعراب الموالي، فنجم فيها الشعراء ونبغ فيها الأخطل والقطامي. فأما مضر فقد كان لها في الجاهلية شعراء ومن قبائل مختلفة منها، في قيس وتميم وضبة وغيرها، وكان هؤلاء الشعراء يتخذون الشعر صناعة وفنًّا، وكان كل شيء يدل على أن هؤلاء الشعراء يمثلون نهضة عقلية فنية في هذا الإقليم من جزيرة العرب، فلما جاء الإسلام لم تضعف هذه النهضة بل قويت واشتد أزرها، وكثر عدد الشعراء وكثر النابهون منهم، واشتدت الخصومة والمنافسة بينهم طوال العصر الأموي وصدرًا من العصر العباسي. فكل هذا يدل على أن الشعر أصيل في مضر، أصيل وطبيعي، نشأ كما سترى حين نهضت مضر، وقوي حين قويت هذه النهضة، وبلغ أشده وأتى ثمره الطيب حين انتهت مضر في الإسلام إلى أقصى حظها من النهضة والقوة في جميع فروع الحياة، على حين لم يكن الشعر طبيعيًّا ولا أصيلًا في اليمن ولا في ربيعة؛ فتفاوت حظ اليمنيين والربعيين من الشعر حين تعلموا العربية القرشية بتفاوت قربهم من أهلها واستعدادهم لإتقانها وحظهم من الفن الأدبي.

ومن هنا نرى أن النظرية التي أشرنا إليها في الكتاب الثاني، وهي نظرية تنقل الشعر في القبائل، ليست نظرية صحيحة ولا طبيعية ولا ملائمة للواقع من طبيعة الأشياء. فلسنا نفهم أن ينشأ الشعر في اليمن ثم ينتقل منها إلى ربيعة ثم إلى قيس من مضر ثم إلى تميم، على نحو ما قال القدماء، وإنما نفهم أن ينشأ هذا الشعر العربي في مضر، وينتقل منها إلى أقرب القبائل العربية إليها طبيعة ولغة وموطنًا؛ إلى ربيعة ثم إلى قبائل عربية أخرى أبعد من ربيعة ولكنها تعلمت هذه اللغة العربية واشتركت في حياة العرب السياسية والدينية، ونافست مضر وربيعة منافسة قوية فحاربتهما بسلاحهما وهو الشعر، وهذه القبائل هي القبائل اليمنية. ثم انتقل في الوقت نفسه إلى أمم أخرى ليست من العرب في شيء، بل ليست من الساميين في شيء، ولكنها تعلمت العربية كاليمنيين وشاركت العرب في حياتهم السياسية والدينية، ونافستهم منافسة قوية وحاربتهم بسلاحهم وهو الشعر، وهذه الأمم هي الفرس وغير الفرس من هذه الشعوب التي خضعت لسلطان المسلمين.

وهنا اعتراض نظنه آخر سهم في كنانة أنصار القديم، ولكنك سترى أنه لن يكلفنا مشقة ولا عناء: فللأنصار شعراء ولخزاعة شعراء ولقضاعة شعراء، وهذه القبائل كلها يمنية، وقد صح لهؤلاء الشعراء — فما يظهر — شعر كثير. ومهما نفعل فلن نستطيع أن نُنكر شعر حسان وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك، ولن نستطيع أن نُنكر أن عبد الرحمن بن حسان قد أخذ الشعر عن أبيه ونبغ فيه، وظهر بعده ابنه سعيد بن عبد الرحمن، فكانت له سلسلة تشبه سلسلة زهير. وكان الأحوص الأنصاري من نوابغ الشعراء، وللأنصار في الجاهلية شعراء آخرون متفوقون، ليسوا أقل حظًّا في الإجادة من شعراء مضر. ومن التحكم أن يرفض شعر هؤلاء؛ لأنهم يمنيون ليس غير.

وكل هذا حق، ولكننا لا نرفض شعر هؤلاء، وإنما نقف منه موقفنا من شعر مضر؛ لأن هذا الشعر مضري، ولأن أصحابه مضريون، فللأنصار أن يعتقدوا أنهم يمنيون، ولأنصار القديم أن يعدوهم يمنيين، ولكنا نحن لا نعرف مطلقًا شيئًا صحيحًا يثبت لنا هذه اليمنية، وإنما نعرف أن هؤلاء الناس كانوا يقيمون في الحجاز، ولا نعرف عنهم شيئًا قبل قدومهم إلى الحجاز، بل لا نعرف متى قدموا إلى الحجاز؛ فهم عندنا حجازيون قد استوطنوا الحجاز وتكلموا لغته ولم تكن لهم لغة أخرى، وهذا كل ما نريد عندما نذكر المضريين؛ فقد رأيت في الكتاب الثاني أنا نستعمل ألفاظ مضر وربيعة وعدنان وقحطان وحمير لا نريد بها معانيها التي كان يفهمها النسابون، وإنما هي ألفاظ شاعت، وألفها الناس فنحن نستعملها ونريد بها المواطن الجغرافية.

فنحن لا نعرف عدنان ولا قحطان ولا مضر ولا ربيعة، وإنما نعرف الحجاز ونجدًا واليمن والعراق، نعرف هذه المواطن التي كانت مستقر هؤلاء العرب، ونعرف أن هذه اللغة القرشية كانت قبيل الإسلام ظاهرة في الحجاز ونجد، فإذا ذكرنا مضر فإنما نريد هؤلاء العرب الذين كانوا يتكلمون هذه اللغة ويتخذونها مظهرًا لحياتهم الأدبية. ومن الذي يستطيع أن يزعم أنه يعرف اتصال الرومانيين بأهل طروادة اتصالًا تاريخيًّا صحيحًا؟ ومع ذلك فقد كان الرومانيون يزعمون أنهم هاجروا من طروادة إلى إيطاليا، وقل مثل ذلك في كل هذه الأحاديث التي تنتحلها الشعوب لتصل أنسابها بالشعوب القديمة؛ فقد زعم بعض اليونان أنهم من سلالة الفينيقيين، وزعم بعضهم الآخر أنهم من سلالة المصريين! ونحن الآن عرب من الوجهة الأدبية مهما يكن نسبنا في حقيقة الأمر، لنكن متصلين بالمصريين القدماء أو باليونان أو بالترك أو بمن شئت من الشعوب التي غزت مصر واستقرت فيها، فذلك كله لا يغير حقيقة علمية واقعة، وهي أن لغتنا هي اللغة العربية القرشية، لا نعرف غيرها لغة طبيعية لنا منذ قرون.

ذلك شأن الأنصار ومن إليهم من هؤلاء العرب الذين استوطنوا شمال البلاد العربية، وظهر عليهم التاريخ وهم يتكلمون لغة هذا الشمال ويتخذون عاداته ونظمه السياسية والاجتماعية والدينية، فشعر هؤلاء الأنصار مضري كشعر قريش وتميم، بل كشعر اليهود الذين استعمروا شمال الحجاز، وتعلموا لغة أهله وشاركوهم فيما كانوا يقولون من شعر.

وخلاصة هذا البحث الطويل أنا نرفض في غير تردد كل ما يُضاف إلى اليمن وأهلها من شعر، ولكنا لا نستطيع أن نرفض شعر هذا الرجل الذي اعتدت به اليمانية واتخذته لها فخرًا، والذي اعتدت به العرب كلها في عصر من العصور، حتى اختلفت في أنه أكبر شعراء العصر الجاهلي، وهو امرؤ القيس. نقول: لا نستطيع أن نرفض شعر هذا الرجل جملة دون أن نقف عنده وقفة خاصة.

(٣) امرؤ القيس – عبيد – علقمة

لعل أقدم الشعراء الذين يُروى لهم شعر كثير يتحدث الرواة عنهم بأخبار كثيرة فيها تطويل وتفصيل هو امرؤ القيس.

نحن نعلم أن الرواة يتحدثون بأسماء طائفة من الشعراء زعموا أنهم عاشوا قبل امرئ القيس وقالوا شعرًا، ولكنهم لا يروون لهؤلاء الشعراء إلا البيت أو البيتين أو الأبيات، وهم لا يذكرون من أخبار هؤلاء الشعراء إلا الشيء القليل الذي لا يغني، وهم يعللون قلة الأخبار والأشعار التي يُمكن أن تضاف إلى هؤلاء الشعراء ببعد العهد وتقادم الزمن وقلة الحفاظ. وقد رأيت في الكتاب الماضي أن قليلًا من النقد لما يضاف إلى هؤلاء الشعراء ينتهي بك إلى جحود ما يُضاف إليهم من خبر أو شعر.

فلندع هؤلاء الشعراء ولنقف عند امرئ القيس وأصحابه الذين يظهر أن الرواة عرفوا عنهم ورووا لهم الشيء الكثير.

من امرؤ القيس؟ أما الرواة فلا يختلفون في أنه رجل من كندة. ولكن مَنْ كندة؟ لا يختلف الرواة في أنها قبيلة من قحطان، وهم يختلفون بعض الاختلاف في نسبها وتفسير اسمها وفي أخبار سادتها، ولكنهم على كل حال يتفقون على أنها قبيلة يمانية، وعلى أن امرأ القيس منها.

فأما اسم امرئ القيس واسم أبيه واسم أمه، فأشياء ليس من اليسير الاتفاق عليها بين الرواة، فقد كان اسمه امرأ القيس، وقد كان اسمه حندجًا، وقد كان اسمه قيسًا، وقد كان اسم أبيه عمرًا، وقد كان اسم أبيه حجرًا أيضًا. وكان اسم أمه فاطمة بنت ربيعة أخت مهلهل وكليب، وكان اسم أمه تملك. وكان امرؤ القيس يُعرف بأبي وهب، وكان يُعرف بأبي الحارث، ولم يكن له ولد ذكر، وكان يئد بناته جميعًا. وكانت له ابنة يقال لها: هند، ولم تكن هند ابنته، وإنما كانت بنت أبيه، وكان يُعرف بالملك الضليل، وكان يُعرف بذي القروح.

وعليك أنت أن تستخلص من هذا الخليط المضطرب ما تستطيع أن تُسميه حقًّا أو شيئًا يُشبه الحق، وأي شيء أيسر من أن تأخذ ما اتفقت عليه كثرة الرواة على أنه حق لا شك فيه؟ وكثرة الرواة قد اتفقت على أن اسمه حندج بن حجر، ولقبه امرؤ القيس، وكنيته أبو وهب، وأمه فاطمة بنت ربيعة. على هذا اتفقت كثرة الرواة، وإذا اتفقت الكثرة على شيء فيجب أن يكون صحيحًا، أو على أقل تقدير يجب أن يكون راجحًا.

أما أنا فقد أطمئن إلى آراء الكثرة، أو أراني مكرهًا على الاطمئنان إلى آراء الكثرة في المجالس النيابية وما يشبهها. ولكن الكثرة في العلم لا تغني شيئًا! فقد كانت كثرة العلماء تنكر كروية الأرض وحركتها، وظهر بعد ذلك أن الكثرة كانت مخطئة. وكانت كثرة العلماء ترى كل ما أثبت العلم الحديث أنه غير صحيح، فالكثرة في العلم لا تغني شيئًا.

وإذن فليس من سبيل إلى أن نقبل قول الكثرة في امرئ القيس، وإنما السبيل أن نوازن بينه وبين ما تزعم القلة. وليس إلى هذه الموازنة المنتجة من سبيل إذا لاحظت ما قدمناه في الكتاب الماضي من هذه الأسباب التي كانت تحمل على هذا النحل وتكلف القصص.

وإذن فلسنا نستطيع أن نفصل بين الفريقين المختلفين، وإنما نحن مضطرون إلى أن نقبل ما يقول أولئك وهؤلاء، على أن الناس كانوا يتحدثون به دون أن نعرف وجه الحق فيه، ولعل هذا وأشباهه من الخلط في حياة امرئ القيس أوضح دليل على ما نذهب إليه من أن امرأ القيس إن يكن قد وُجد حقًّا — ونحن نرجح ذلك ونكاد نُوقن به — فإن الناس لم يعرفوا عنه شيئًا إلا اسمه هذا، وإلا طائفة من الأساطير والأحاديث تتصل بهذا الاسم.

وهنا يحسن أن نلاحظ أن الكثرة من هذه الأساطير والأحاديث لم تشع بين الناس إلا في عصر متأخر، في عصر الرواة المدونين والقصاصين. فأكبر الظن إذن أنها نشأت في هذا العصر ولم تورث عن العصر الجاهلي حقًّا. وأكبر الظن أن الذي أنشأ هذه القصة ونماها إنما هو هذا المكان الذي احتلته قبيلة كندة في الحياة الإسلامية، منذ تمت للنبي السيطرة على البلاد العربية إلى أواخر القرن الأول للهجرة، فنحن نعلم أن وفدًا من كندة وفد على النبي وعلى رأسه الأشعث بن قيس١٥ ونحن نعلم أن هذا الوفد طلب — فيما تقول السيرة — إلى النبي أن يرسل معهم مفقهًا يعلمهم الدين.
ونحن نعلم أن كندة ارتدت بعد موت النبي، وأن عامل أبي بكر حاصرها في النَّجير وأنزلها على حكمه، وقتل منها خلقًا كثيرًا، وأوفد منها طائفة إلى أبي بكر فيها الأشعث بن قيس الذي تاب وأناب وأصهر إلى أبي بكر فتزوَّج أخته أم فروة١٦ وخرج — فيما يزعم الرواة — إلى سوق الإبل في المدينة فاستل سيفه ومضى في إبل السوق عقرًا ونحرًا حتى ظن الناس به الجنون، ولكنه دعا أهل المدينة إلى الطعام وأدى إلى أصحاب الإبل أموالهم، وكانت هذه المجزرة الفاحشة وليمة عرسه،١٧ ونحن نعلم أن هذا الرجل قد اشترك في فتح الشأم، وشهد مواقع المسلمين في حرب الفرس، وحسن بلاؤه في هذا كله١٨ وتولى عملًا لعثمان، وظاهر عليًّا على معاوية، وأكره عليًّا على قبول التحكيم في صفين.١٩ ونحن نعلم أن ابنه محمد بن الأشعث كان سيدًا من سادات الكوفة، عليه وحده اعتمد زياد حين أعياه أخذ حجر بن عديٍّ الكندي. ونحن نعلم أن قصة حجر بن عدي هذا وقتل معاوية إياه في نفر من أصحابه قد تركت في نفوس المسلمين عامة واليمنيين خاصة أثرًا قويًّا عميقًا مثل هذا الرجل في صورة الشهيد.٢٠
ثم نحن نعلم أن حفيد الأشعث بن قيس وهو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث قد ثار بالحجاج، وخلع عبد الملك، وعرض ملك آل مروان للزوال، وكان سببًا في إراقة دماء المسلمين من أهل العراق والشأم. وكان الذين قتلوا في حروبه يحصون فيبلغون عشرات الآلاف، ثم انهزم فلجأ إلى ملك الترك، ثم أعاد الكرة فتنقل في مدن فارس، ثم استيأس فعاد إلى ملك الترك، ثم غدر به هذا الملك فأسلمه إلى عامل الحجاج، ثم قتل نفسه في طريقه إلى العراق، ثم احتز رأسه وطوف به في العراق والشأم ومصر.٢١
أفتظن أن أسرة كهذه الأسرة الكندية تنزل هذه المنزلة في الحياة الإسلامية، وتؤثر هذه الآثار في تاريخ المسلمين، لا تصطنع القصص ولا تأجر القصاص لينشروا لها الدعوة ويذيعوا عنها كل ما من شأنه أن يرفع ذكرها ويبعد صوتها؟ بلى! ويحدثنا الرواة أنفسهم أن عبد الرحمن بن الأشعث اتخذ القصاص وأجرهم كما اتخذ الشعراء وأجزل صلتهم، وكان له قاصٌّ يقال له: عمر بن ذر، وكان شاعره أعشى همدان.٢٢
فما يُروى من أخبار كندة في الجاهلية متأثر من غير شك بعمل هؤلاء القصاص الذين كانوا يعملون لآل الأشعث. وقصة امرئ القيس بنوع خاص تشبه من وجوه كثيرة حياة عبد الرحمن بن الأشعث؛ فهي تُمثل لنا امرأ القيس مطالبًا بثأر أبيه، وهل ثار عبد الرحمن عند الذين يفقهون التاريخ إلا منتقمًا لحجر بن عدي؟ وهي تُمثل لنا امرأ القيس طامعًا في الملك، وقد كان عبد الرحمن بن الأشعث يرى أنه ليس أقل من بني أمية استئهالًا للملك، وكان يُطالب به. وهي تُمثل لنا امرأ القيس متنقلًا في قبائل العرب، وقد كان عبد الرحمن بن الأشعث متنقلًا في مدن فارس والعراق. وهي تُمثل امرأ القيس لاجئًا إلى قيصر مستعينًا به، وقد كان عبد الرحمن بن الأشعث لاجئًا إلى ملك الترك مستعينًا به. وهي تُمثل لنا أخيرًا امرأ القيس وقد غدر به قيصر بعد أن كاد له أسديٌّ في القصر،٢٣ وقد غدر ملك الترك بعبد الرحمن بعد أن كاد له رسل الحجاج. وهي تمثل لنا بعد هذا وذاك امرأ القيس وقد مات في طريقه عائدًا من بلاد الروم، وقد مات عبد الرحمن في طريقه عائدًا من بلاد الترك.

أليس من اليسير أن نفترض، بل أن نرجح أن حياة امرئ القيس كما يتحدث بها الرواة ليست إلا لونًا من التمثيل لحياة عبد الرحمن استحدثه القصاص إرضاء لهوى الشعوب اليمنية في العراق واستعاروا له اسم الملك الضليل اتقاءً لعمال بني أمية من ناحية، واستغلالًا لطائفة يسيرة من الأخبار كانت تُعرف عن هذا الملك الضليل من ناحية أخرى؟

•••

ستقول: وشعر امرئ القيس ما شأنه؟ وما تأويله؟ شأنه يسير وتأويله أيسر، فأقل نظر في هذا الشعر يلزمك أن تقسمه قسمين: أحدهما يتصل بهذه القصة التي قدمنا الإشارة إليها، وإذن فشأنه شأن هذه القصة نُحِل لتفسيرها أو تسجيلها، ونُحل لتمثيل هذا التنافس القوي الذي كان قائمًا بين قبائل العرب وأحيائهم في الكوفة والبصرة، وأقل درس لهذا الشعر يقنعك، إن كنت من الذين يألفون البحث الحديث، بأن هذا الشعر الذي يُضاف إلى امرئ القيس ويتصل بقصته إنما هو شعر إسلامي لا جاهلي. قيل: ونحل لهذه الأسباب التي أشرنا إليها ولأسباب أخرى فصلناها في القسم الثالث من هذا الكتاب، فهذا أحد القسمين. وأما القسم الثاني فشعر لا يتصل بهذه القصة، وإنما يتناول فنونًا من القول مستقلة عن الأهواء السياسية والحزبية، ولنا في ذا القسم رأي نسطره بعد حين.

وخلاصة هذا البحث القصير أن شخصية امرئ القيس — إذا فكرت — أشبه شيء بشخصية الشاعر اليوناني هوميروس. لا يشك مؤرخو الآداب اليونانية الآن في أنها قد وجدت حقًّا، وأثرت في الشعر القصصي حقًّا، وكان تأثيرها قويًّا باقيًا، ولكنهم لا يعرفون من أمرها شيئًا يمكن الاطمئنان إليه، وإنما ينظرون إلى هذه الأحاديث التي تروى عنه، كما ينظرون إلى القصص والأساطير لا أكثر ولا أقل. فامرؤ القيس هو الملك الضليل حقًّا، نريد أنه الملك الذي لا يُعرف عنه شيء يمكن الاطمئنان إليه، هو ضُلُّ بن قُلٍّ، كما يقول أصحاب المعاجم اللغوية. ومن غريب الأمر أن طائفة من الشعر تُنسب إلى امرئ القيس على أنه قالها حينما كان متنقلًا في القبائل العربية يمدح بها هذه ويهجو تلك، وتتصل بهذه الأشعار طائفة من الأخبار تبين نزول امرئ القيس في هذه القبيلة، والتجاءه إلى تلك القبيلة، وجواره عند فلان، واستعانته بفلان. وإن شيئًا مثل هذا يُلاحظ في حياة هوميروس؛ فهو — فيما يزعم رواة اليونان — قد تنقل في المدن اليونانية، فلقي من بعضها الكرامة والتجلة، ومن بعضها الإعراض والانصراف. ومؤرخو الآداب اليونانية يُفسرون هذه الأحاديث على أنها مظهر من مظاهر التنافس بين المدن اليونانية كلها يزعم لنفسه أنه ضيَّف هوميروس أو نشَّأه أو أجاره أو عطف عليه.

ونحن نذهب هذا المذهب نفسه في تفسير هذه الأخبار والأشعار التي تمس تنقل امرئ القيس في قبائل العرب؛ فهي محدثة نُحلت حين تنافست القبائل العربية في الإسلام، وحين أرادت كل قبيلة وكل حي أن تزعم لنفسها من الشرف والفضل أعظم حظ ممكن. وقد أحس القدماء بعض هذا؛ فصاحب «الأغاني» يحدثنا أن القصيدة القافيَّةَ التي تُضاف إلى امرئ القيس على أنه قالها يمدح بها السموءل حين لجأ إليه منحولة، نحلها دارم بن عقال وهو من ولد السموءل،٢٤ وأكبر ظننا أن دارم بن عقال لم ينحل القصيدة وحدها، وإنما نحل القصة كلها، ونحل ما يتصل بها أيضًا: نحل قصة ابن السموءل الذي قُتل بمنظر من أبيه حين أبى تسليم أسلحة امرئ القيس، ونحل قصة الأعشى الذي استجار بشريح بن السموءل وقال فيه هذا الشعر المشهور:
شريح لا تتركني بعدما علقت
حبالك اليوم بعد القد أظفاري
قد جلت ما بين بانقيا إلى عدن
وطال في العجم تردادي وتسياري
فكان أكرمهم عهدًا وأوثقهم
مجدًا أبوك بعرف غير إنكار
كالغيث ما استمطروه جاد وابله
وفي الشدائد كالمستأسد الضاري
كن كالسموءل إذ طاف الهمام به
في جحفل كهزيع الليل جرار
إذ سامه خطتي خسف فقال له:
قل ما تشاء فإني سامع حار
فقال: غدر وثكل أنت بينهما
فاختر وما فيهما حظ لمختار
فشك غير طويل ثم قال له:
اقتلْ أسيرك إني مانع جاري
أنا له خلف إن كنت قاتله
وإن قتلت كريمًا غير غوار
وسوف يعقبنيه إن ظفرت به
رب كريم وبيض ذات أطهار
لا سِرُّهن لدينا ذاهب هدرًا
وحافظات إذا استودعن أسراري
فاختار أدراعه كي لا يسب بها
ولم يكن وعده فيها بختار٢٥

ثم كانت هذه القصة المنحولة سببًا في نحل قصة أخرى هي قصة ذهاب امرئ القيس إلى القسطنطينية، وما يتصل بها من الأشعار. منحولة هذه القصيدة الرائية الطويلة التي مطلعها:

سما لك شوق بعدما كان أقصرا
وحلَّتْ سليمى بطن ظبي فعرعرا

منحول هذا الشعر الذي قاله امرؤ القيس حين دخل الحمام مع قيصر، والذي ننزِّه هذا الكتاب عن روايته. منحول هذا الحب الذي يقال: إن امرأ القيس أضمره لابنة قيصر. منحولة هذه الأشعار التي تُضاف إلى امرئ القيس حين أحس السم وهو قافل من بلاد الروم.

كل هذا منحول؛ لأنه يفسر هذه الأحاديث التي شاعت، لتلك الأسباب التي قدمناها.

وإذا لم يكن بد من التماس الأدلة الفنية على نحل هذا الشعر، فقد نحب أن نعرف كيف زار امرؤ القيس بلاد الروم وخالط قيصر حتى دخل معه الحمام وفتن ابنته، ورأى مظاهر الحضارة اليونانية في قسطنطينية، ولم يظهر لذلك أثر ما في شعره: لم يصف القصر ولم يذكره، لم يصف كنيسة من كنائس قسطنطينية، لم يصف هذه الفتاة الإمبراطورية التي فتنها، لم يصف الروميات، لم يصف شيئًا ما يمكن أن يكون روميًّا حقًّا. ثم يكفي أن تقرأ هذا الشعر لتحس فيه الضعف والاضطراب والجهل بالطريق إلى قسطنطينية.

ومهما يكن من شيء، فإن السذاجة وحدها هي التي تعيننا على أن نتصور شاعرًا عربيًّا قديمًا قال هذا الشعر الذي يُضاف إلى امرئ القيس في رحلته إلى بلاد الروم وقفوله منها.

وإذا رأيت معنا أن كل هذا الشعر الذي يتصل بسيرة امرئ القيس إنما هو من عمل القصاص، فقد يصح أن نقف معك وقفة قصيرة عند هذا القسم الثاني من شعر امرئ القيس، وهو الذي يفسر سيرته ولا يتصل بها. ولعل أحق هذا الشعر بالعناية قصيدتان اثنتان:
  • الأولى:
    قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
  • الثانية:
    ألا انعم صباحًا أيها الطلل البالي

فأما ما عدا هاتين القصيدتين، فالضعف فيه ظاهر، والاضطراب فيه بيِّن، والتكلف والإسفاف يكادان يلمسان باليد، وقد يكون لنا أن نلاحظ قبل كل شيء ملاحظة لا أدري كيف يتخلص منها أنصار القديم، وهي أن امرأ القيس — إن صحت أحاديث الرواة — يمني، وشعره قرشي اللغة، لا فرق بينه وبين القرآن في لفظه وإعرابه وما يتصل بذلك من قواعد الكلام. ونحن نعلم — كما قدمنا — أن لغة اليمن مخالفة كل المخالفة للغة الحجاز، فكيف نظم الشاعر اليمني شعره في لغة أهل الحجاز، بل في لغة قريش خاصة؟ سيقولون: نشأ امرؤ القيس في قبائل عدنان، وكان أبوه ملكًا على بني أسد، وكانت أمه من بني تغلب، وكان مهلهل خاله، فليس غريبًا أن يصطنع لغة عدنان ويعدل عن لغة اليمن، ولكننا نجهل هذا كله، ولا نستطيع أن نثبته إلا من طريق هذا الشعر الذي يُنسب إلى امرئ القيس، ونحن نشك في هذا الشعر ونصفه بأنه منحول.

وإذن فنحن ندور: نثبت لغة امرئ القيس التي نشك فيها بشعر امرئ القيس الذي نشك فيه. على أننا أمام مسألة أخرى ليست أقل من هذه المسألة تعقيدًا، فنحن لا نعلم ولا نستطيع أن نعلم الآن أكانت لغة قريش هي اللغة السائدة في البلاد العربية أيام امرئ القيس؟ وأكبر الظن أنها لم تكن لغة العرب في ذلك الوقت، وأنها إنما أخذت تسود في أواسط القرن السادس للمسيح، وتمت لها السيادة بظهور الإسلام كما قدمنا.

وإذن فكيف نظم امرؤ القيس اليمني شعره في لغة القرآن مع أن هذه اللغة لم تكن سائدة في العصر الذي عاش فيه امرؤ القيس؟ وأعجب من هذا أنك لا تجد مطلقًا في شعر امرئ القيس لفظًا أو أسلوبًا أو نحوًا من أنحاء القول يدل على أنه يمني، فمهما يكن امرؤ القيس قد تأثر بلغة عدنان فكيف نستطيع أن نتصور أن لغته الأولى قد مُحيت من نفسه محوًا تامًّا ولم يظهر لها أثر ما في شعره؟ نظن أن أنصار القديم سيجدون كثيرًا من المشقة والعناء ليحلوا هذه المشكلة، ونظن أن إضافة هذا الشعر إلى امرئ القيس مستحيلة قبل أن تُحل هذه المشكلة.

على أننا نحب أن نسأل عن شيء آخر؛ فامرؤ القيس ابن أخت مهلهل وكليب ابني ربيعة — فيما يقولون — وأنت تعلم أن قصة طويلة عريضة قد نُسجت حول مهلهل وكليب هذين، هذه قصة البسوس وهذه الحرب التي اتصلت أربعين سنة — فيما يقول القصاص — وأفسدت ما بين القبيلتين الأختين بكر وتغلب.٢٦ فمن العجيب ألا يشير امرؤ القيس بحرف واحد إلى مقتل خاله كليب، ولا إلى بلاء خاله مهلهل، ولا إلى هذه المحن التي أصابت أخواله من بني تغلب، ولا إلى هذه المآثر التي كانت لأخواله على بني بكر.

وإذن فأينما وجهت فلن تجد إلا شكًّا: شكًّا في القصة، شكًّا في اللغة، شكًّا في النسب، شكًّا في الرحلة، شكًّا في الشعر؛ وهم يريدون بعد هذا أن نؤمن ونطمئن إلى كل ما يُحدث به القدماء عن امرئ القيس. نعم نستطيع أن نؤمن وأن نطمئن لو أن الله قد رزقنا هذا الكسل العقلي الذي يحبب إلى الناس أن يأخذوا بالقديم تجنبًا للبحث عن الجديد، ولكن الله لم يرزقنا هذا النوع من الكسل؛ فنحن نؤثر عليه تعب الشك ومشقة البحث.

وهذا البحث ينتهي بنا إلى أن أكثر هذا الشعر الذي يُضاف إلى امرئ القيس ليس من امرئ القيس في شيء، وإنما هو محمول عليه حملًا، ومختلق عليه اختلاقًا، حمل بعضه العرب أنفسهم، وحمل بعضه الآخر الرواة الذين دونوا الشعر في القرن الثاني للهجرة.

ولننظر في المعلقة نفسها فلسنا نعرف قصيدة يظهر فيها التكلف والتعمل أكثر مما يظهران في هذه القصيدة؛ لا نحفل بقصة تعليق هذه القصائد السبع أو العشر على الكعبة أو في الدفاتر؛ فما نظن أن أنصار القديم يحفلون بهذه القصة التي نشأت في عصر متأخر جدًّا، والتي لا يثبتها شيء في حياة العرب وعنايتهم بالآداب. ولكننا نلاحظ أن القدماء أنفسهم يشكون في بعض هذه القصيدة، فهم يشكون في صحة هذين البيتين:

ترى بعر الآرام في عرصاتها
وقيعانها كأنها حب فلفل٢٧
كأني غداة البين يوم تحملوا
لدى سمرات الحي ناقف حنظل

وهم يشكون في هذه الأبيات:

وقرابة أقوام جعلت عصامها
على كاهل مني ذلول مرحل
وواد كجوف العير قفر قطعته
به الذئب يعوي كالخليع المعيل
فقلت له لما عوى: إن شأننا
قليل الغنى إن كنت لما تمول
كلانا إذا ما نال شيئًا أقاته
ومن يحترث حرثي وحرثك يهزل
وهم بعد هذا يختلفون اختلافًا كثيرًا في رواية القصيدة في ألفاظها وفي٢٨ ترتيبها، ويضعون لفظًا مكان لفظ وبيتًا مكان بيت. وليس هذا الاختلاف مقصورًا على هذه القصيدة؛ وإنما يتناول الشعر الجاهلي كله، وهو اختلاف شنيع يكفي وحده لحملنا على الشك في قيمة هذا الشعر. وهو اختلاف قد أعطى للمستشرقين صورة سيئة كاذبة من الشعر العربي، فخيل إليهم أنه غير منسق ولا مؤتلف، وأن الوحدة لا وجود لها في القصيدة، وأن الشخصية الشعرية لا وجود لها في القصيدة أيضًا، وأنك تستطيع أن تقدم وتؤخر، وأن تضيف إلى الشاعر شعرَ غيره دون أن تجد في ذلك حرجًا أو جناحًا، ما دمت لم تخل بالوزن ولا بالقافية.

وقد يكون هذا صحيحًا في الشعر الجاهلي؛ لأن كثرة هذا الشعر منحولة مصطنعة. فأما الشعر الإسلامي الذي صحت نسبته لقائليه فأنا أتحدى أي ناقد أن يعبث به أقل عبث دون أن يفسده، وأنا أزعم أن وحدة القصيدة فيه بينة، وأن شخصية الشاعر فيه ليست أقل ظهورًا منها في أي شعر أجنبي. إنما جاء هذا الخطأ من اتخاذ هذا الشعر الجاهلي نموذجًا للشعر العربي، مع أن هذا الشعر الجاهلي — كما قدمنا — لا يُمثل شيئًا ولا يصح إلا نموذجًا لعبث القصاص وتكلف الرواة.

ونظن أن أنصار القديم لا يخالفون في أن هذين البيتين قلقان في القصيدة وهما:

وليل كموج البحر أرخى سدوله
عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه
وأردف أعجازًا وناء بكلكل

فقد وضع هذان البيتان للدخول على البيت الذي يليهما وهو:

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
بصبح وما الإصباح منك بأمثل

وهذان البيتان أشبه بتكلف المشطر والمخمس منهما بأي شيء آخر.

فإذا فرغنا من هذا الشعر الذي لا نكاد نختلف في أنه دخيل في القصيدة، فقد نستطيع أن نرد القصيدة إلى أجزائها الأولى، وهذه الأجزاء هي أولًا وقوف الشاعر على الدار، وما يتصل بذلك من وصف خليلته، ثم ذكر الليل والاستطراد منه إلى الصيد، وما يتوسل به إلى الصيد من وصف الفرس، ثم ذكر البرق وما يتبعه من السيل.

ولنسرع القول بأن وصف اللهو مع العذارى وما فيه من فحش أشبه بأن يكون من نحل الفرزدق منه بأن يكون جاهليًّا، فالرواة يحدثوننا أن الفرزدق خرج في يوم مطير إلى ضاحية البصرة، فاتبع آثارًا حتى انتهى إلى غدير وإذا فيه نساء يستحممن، فقال: ما أشبه هذا اليوم بيوم دارة جلجل! وولى منصرفًا، فصاح النساء به: يا صاحب البغلة، فعاد إليهن، فسألنه وعزمن عليه ليحدثهن بحديث دارة جلجل، فقص عليهن قصة امرئ القيس، وأنشدهن قوله:

ألا رب يوم لك منهن صالح
ولا سيما يوم بدارة جلجل
الأبيات٢٩

والذين يقرءون شعر الفرزدق ويلاحظون فحشه وغلظته، وأنه قد ليم على هذا الفحش وعلى هذه الغلطة، لا يجدون مشقة في أن يضيفوا إليه هذه الأبيات، فهي بشعره أشبه. وكثيرًا ما كان القدماء يتحدثون بمثل هذه الأحاديث يضيفونها إلى القدماء وهم ينحلونها من عند أنفسهم، ومهما يكن من شيء، فلغة هذه الأبيات كلغة القصيدة كلها عدنانية قرشية يمكن أن تصدر عن شاعر إسلامي اتخذ لغة القرآن لغة أدبية.

أما وصف امرئ القيس لخليلته، وزيارته لها، وتجشمه ما تجشم للوصول إليها، وتخوفها الفضيحة حين رأته، وخروجها معه وتعفيتها آثارهما بذيل مرطها، وما كان بينهما من لهو، فهو أشبه بشعر عمر بن أبي ربيعة منه بأي شيء آخر. فهذا النحو من القصص الغرامي في الشعر فن عمر بن أبي ربيعة قد احتكره احتكارًا ولم ينازعه فيه أحد. ولقد يكون غريبًا حقًّا أن يسبق امرؤ القيس إلى هذا الفن ويتخذ فيه هذا الأسلوب ويعرف عنه هذا النحو، ثم يأتي ابن أبي ربيعة فيقلده فيه، ولا يشير أحد من النقاد إلى أن ابن أبي ربيعة قد تأثر بامرئ القيس، مع أنهم قد أشاروا إلى تأثير امرئ القيس في طائفة من الشعراء في أنحاء من الوصف، فكيف يمكن أن يكون امرؤ القيس هو منشئ هذا الفن من الغزل الذي عاش عليه ابن أبي ربيعة، والذي كوَّن شخصية ابن أبي ربيعة الشعرية ولا يعرف له ذلك؟

وأنت إذا قرأت قصيدة أو قصيدتين من شعر ابن أبي ربيعة لم تكد تشك في أن هذا الفن فنه ابتكره ابتكارًا، واستغله استغلالًا قويًّا، وعرفت العرب له هذا. وقل مثل هذا في هذا القصص الغرامي الذي تجده في قصيدة امرئ القيس الأخرى:

ألا انعم صباحًا أيها الطلل البالي

ففي هذا القصص الفاحش فن ابن أبي ربيعة وروح الفرزدق، ونحن نرجح إذن أن هذا النوع من الغزل إنما أُضيف إلى امرئ القيس: أضافه رواة متأثرون بهذين الشاعرين الإسلاميين.

بقي الوصف، ولا سيما وصف الفرس والصيد، ولكننا نقف فيه موقف التردد أيضًا، واللغة هي التي تضطرنا إلى هذا الموقف، فالظاهر أن امرأ القيس كان قد نبغ في وصف الخيل والصيد والسيل والمطر، والظاهر أنه قد استحدث في ذلك أشياء كثيرة لم تكن مألوفة من قبل، ولكن أقال هذه الأشياء في هذا الشعر الذي بين أيدينا أم قالها في شعر آخر ضاع وذهب به الزمان ولم يبق منه إلا الذكر، وإلا جمل مقتضبة أخذها الرواة فنظموها في شعر محدث نسقوه ولفقوه وأضافوه إلى شاعرنا القديم؟ هذا مذهبنا الذي نرجحه، فنحن نقبل أن امرأ القيس هو أول من قيد الأوابد، وشبه الخيل بالعصي والعقبان وما إلى ذلك، ولكننا نشك أعظم الشك في أن يكون قد قال هذه الأبيات التي يرويها الرواة، وأكبر الظن أن هذا الوصف الذي نجده في المعلقة وفي اللامية الأخرى فيه شيء من ريح امرئ القيس، ولكن من ريحه ليس غير.

هناك قصيدة ثالثة نجزم بأنها منحولة نحلًا وهي القصيدة البائية التي يقال: إن امرأ القيس أنشأها يُخاصم بها علقمة بن عبدة الفحل، وإن أم جندب زوج امرئ القيس قد غلَّبت علقمة على زوجها، وأنت تجد القصيدتين في ديوان امرئ القيس وديوان علقمة، فأما قصيدة امرئ القيس فمطلعها:

خليلي مرَّا بي على أم جندب
لنقضي لبانات الفؤاد المعذب

وأما قصيدة علقمة فمطلعها:

ذهبت من الهجران في كل مذهب
ولم يك حقًّا كل هذا التجنب

ويكفي أن تقرأ هذين البيتين لتحس فيهما رقة إسلامية ظاهرة، على أن هذين الشاعرين قد تواردا على معان كثيرة، بل على ألفاظ كثيرة، بل على أبيات كثيرة تجدها بنصها في القصيدتين معًا، وعلى أن البيت الذي يُضاف إلى علقمة وبه ربح القضية يُروى لامرئ القيس، وهو:

فأدركهن ثانيًا من عنانه
يمر كمر الرائح المتحلب

والبيت الذي خسر به امرؤ القيس القضية يُروى لعلقمة وهو:

فللسوط ألهوب وللساق درةٌ
وللزجر منهُ وقعُ أهوج منعب٣٠

وأنت تستطيع أن تقرأ القصيدتين دون أن تجد فيهما فرقًا بين شخصية الشاعرين، بل أنت لا تجد فيهما شخصية ما، وإنما تحس أنك تقرأ كلامًا غريبًا منظومًا جمع ما يمكن جمعه من وصف الفرس جملة وتفصيلًا. وأكبر الظن أن علقمة لم يفاخر امرأ القيس، وأن أم جندب لم تحكم بينهما، وأن القصيدتين ليستا من الجاهلية في شيء، وإنما هما صنع عالم من علماء اللغة لسبب من تلك الأسباب التي أشرنا في الكتاب الماضي إلى أنها كانت تحمل علماء اللغة على النحل. وكان أبو عبيدة والأصمعي يتنافسان في العلم بالخيل، ووصف العرب إياها: أيهما أقدر عليه وأحذق به، وما نظن إلا أن هاتين القصيدتين وأمثالهما أثر من آثار هذا النحو من التنافس بين العلماء من أهل الأمصار الإسلامية المختلفة.

وهنا وقفة أخرى لا بد منها، ذلك أن امرأ القيس لا يُذكر وحده، وإنما يُذكر معه من الشعراء علقمة — كما رأيت — وعبيد بن الأبرص. فأما علقمة فلا يكاد الرواة يذكرون عنه شيئًا إلا مفاخرته لامرئ القيس ومدحه ملكًا من ملوك غسان ببائيته التي مطلعها:

طحا بك قلب في الحسان طروب
بُعيد الشباب عصر حانَ مشيب

وإلا أنه كان يتردد على قريش ويناشدها شعره، وإلا أنه مات بعد ظهور الإسلام؛ أي في عصر متأخر جدًّا بالقياس إلى امرئ القيس الذي مهما يتأخر فقد مات قبل مولد النبي، والذي نرى نحن أنه عاش قبل القرن السادس وربما عاش قبل القرن الخامس أيضًا.

وأما عبيد فقد التمسنا في سيرته وما يُضاف إليه من الشعر ما يُعيننا على إثبات شخصية امرئ القيس وشعره، فكانت النتيجة محزنة جدًّا: ذلك أنها انتهت بنا إلى أن نقف من عبيد وشعره نفس الموقف الذي وقفناه من امرئ القيس وشعره، وليس علينا في ذلك ذنب؛ فالرواة لا يحدثوننا عن عبيد بشيء يقبل التصديق. إنما عبيد عند الرواة والقصاص شخص من أصحاب الخوارق والكرامات، كان صديقًا للجن والسماء معًا، عمر عمرًا طويلًا يصلون به إلى ثلاثة قرون، ومات ميتة منكرة: قتله النعمان بن المنذر، أو المنذر بن ماء السماء في يوم بؤسه. والرواة يعرفون شيطان عبيد واسم هذا الشيطان هبيد، وقد حاول بعضهم أن يرسل هذا المثل: «لولا هبيد ما كان عبيد»، وقد رووا لهبيد هذا شعرًا، وزعموا أنه أراد أن يلهم الشعر ناسًا غير عبيد فلم يُوفق، ولعبيد مع الجن أحاديث لا تخلو من لذة وعجب،٣١ ولكن كل ما نقرأ من أخبار عبيد لا يعطينا من شخصيته شيئًا ولا يبعث الاطمئنان إلا في أنفس العامة أو أشباه العامة.
فأما شعر عبيد فليس أشد من شخصيته وضوحًا، فالرواة يحدثوننا بأنه مضطرب ضائع، وابن سلام يحدثنا في موضع من كتابه «طبقات الشعراء» أنه لم يبقَ من عبيد وطرفة إلا قصائد بقدر عشر،٣٢ ولكنه يحدثنا في موضع آخر أنه لا يعرف له إلا قوله:
أقفر من أهله ملحوبُ
فالقطَبِيَّات فالذنوبُ
ثم يقول ابن سلام: ولا أدري ما بعد ذلك،٣٣ ولكن رواة آخرين يروون هذه القصيدة كاملة، ويروون له شعرًا آخر في هجاء امرئ القيس ومعارضته، وفي استعطاف حجر على بني أسد،٣٤ ويكفي أن تقرأ هذه القصيدة التي قدمنا مطلعها لتجزم بأنها منحولة لا أصل لها، وحسبك أنه يثبت فيها وحدانية الله وعلمه على نحو ما يثبتهما القرآن، فيقول:
والله ليس له شريك
علام ما أخفت القلوب

فأما شعره الآخر الذي عارض فيه امرأ القيس وهجا فيه كندة فلا حظَّ له من صحة فيما نعتقد، وذلك أن فيه إسفافًا وضعفًا وسهولة في اللفظ والأسلوب لا يمكن أن تُضاف إلى شاعر قديم، ويكفي أن تقرأ هذه القصيدة التي أولها:

يا ذا المخوفنا بقتـ
ـل أبيه إدلالًا وحينا
أزعمت أنك قد قتلـ
ـت سراتنا كذبا ومينا٣٥

لتعرف أنها من عمل القصاص، وأن هذا الشعر وأشباهه إنما هو من أثر التنافس بين العصبية اليمنية والمضرية.

ولولا أننا نؤثر الإيجاز ونحرص عليه لروينا لك هذا الشعر ووضعنا يدك على مواضع التوليد فيه، ولكن الرجوع إلى هذا الشعر يسير، والحكم عليه أيسر، وإذن فكل شعر امرئ القيس الذي يتصل بشعر عبيد هذا منحول أيضًا كشعر عبيد.

وقد رأيت من هذه الإلمامة الصغيرة بهؤلاء الشعراء الثلاثة: امرئ القيس وعبيد وعلقمة، أن الصحيح من شعرهم لا يكاد يُذكر، وأن الكثرة المطلقة من هذا الشعر مصنوعة لا تُثبت شيئًا ولا تنفي شيئًا بالقياس إلى العصر الجاهلي، لا نستثني من ذلك إلا قصيدتين اثنتين لعلقمة:
  • الأولى:
    طحا بك قلب في الحسان طروب
  • والثانية:
    هل ما علمت وما استودعت مكتوم

فقد يمكن أن يكون لهاتين القصيدتين نصيب من الصحة مع شيء من التحفظ في بعض أبيات القصيدة الثانية، ولكن صحة هاتين القصيدتين لا تمس رأينا في الشعر الجاهلي، فقد رأيت أن علقمة متأخر العصر جدًّا، وأنه مات بعد ظهور الإسلام. ورأيت أيضًا أنه كان يأتي قريشًا ويعرض عليها شعره، على أننا احتفظنا لأنفسنا بالشك في بعض أبيات من القصيدة الثانية يظهر فيها التوليد، وهي هذه الأبيات التي يذهب فيها الشاعر مذهب الحكمة وضرب المثل.

(٤) عمرو بن قميئة – مهلهل – جليلة

وشاعران آخران يتصل ذكرهما بذكر امرئ القيس. كان أحدهما — فيما يقول الرواة — صديقًا له، صحبه في رحلته إلى قسطنطينية، ولم يعد من هذه الرحلة كما لم يعد امرؤ القيس؛ وهو عمرو بن قميئة، وكان الآخر خال امرئ القيس — فيما يقول الرواة — وهو مهلهل بن ربيعة.٣٦

ولا بد من وقفة قصيرة عند هذين الشاعرين، فسترى بعد قليل من التفكير أن حياتهما ليست أوضح ولا أثبت من حياة امرئ القيس وعبيد، وأن شعرهما ليس أصح ولا أصدق من شعر امرئ القيس وعبيد.

ولنلاحظ قبل كل شيء أن بين امرئ القيس وعمرو بن قميئة شبهًا غريبًا؛ فقد كان امرؤ القيس يُسمى الملك الضلِّيل، وفسرنا نحن هذا الاسم تفسيرًا غير الذي اتفق عليه الرواة وأصحاب اللغة، فقلنا: إنه الملك المجهول الذي لا يُعرف عنه شيء، قلنا: إنه ضُلُّ بن قُلٍّ. وكانت العرب تُسمي عمرو بن قميئة عمرًا الضائع، فأما المتأخرون من الرواة بعد الإسلام فقد التمسوا لهذه التسمية تفسيرًا فوجدوه في سهولة ويسر، أليس قد رحل مع امرئ القيس إلى القسطنطينية؟ أليس قد مات في هذه الرحلة؟ فهو إذن عمرو الضائع؛ لأنه ضاع في غير قصد ولا وجه، أما نحن فنفسر هذا الاسم كما فسرنا اسم امرئ القيس، ونرى أن عمرو بن قميئة ضاع كما ضاع امرؤ القيس من الذاكرة، ولم يُعرف من أمره شيء إلا اسمه هذا، كما لم يُعرف من امرئ القيس ولا من أمر عبيد إلا اسماهما، ووُضعت له قصة كما وُضعت لكل من صاحبيه قصة، وحُمل عليه شعر كما حُمل على صاحبيه الشعر أيضًا.

قال الرواة: إن ابن قميئة عمر طويلًا، وعرف امرأ القيس وقد انتهت به السن إلى الهرم، ولكن امرأ القيس أحبه واستصحبه في رحلته رغم سنه،٣٧ قال ابن سلام: «إن بني أقيش تدعي بعض شعر امرئ القيس لعمرو بن قميئة، وليس ذلك بشيء.»٣٨ وفي الحق أن هذا ليس بشيء؛ فإن هذا الشعر لا يمكن أن يكون لعمرو بن قميئة كما لا يمكن أن يكون لامرئ القيس؛ فهو شعر محدث محمول.

وإذا كان عمرو بن قميئة لا يعرف امرأ القيس، إلا بعد أن تقدمت به السن وأدركه الهرم، فيجب أن يكون قد قال الشعر قبل امرئ القيس الذي لم تتقدم به السن، والرواة يزعمون أن ابن قميئة قال الشعر في شبابه الأول، وإذن فليس امرؤ القيس هو أول من فتح للناس باب الشعر، ولكن ما لنا نقف عند شيء كهذا والرواة يضطربون فيه اضطرابًا شديدًا؟ فهم يزعمون أن أول من قصد القصائد مهلهل بن ربيعة خال امرئ القيس، وكأن امرأ القيس إنما جاءه الشعر من قبل أمه، ومعنى ذلك أن الشعر عدناني لا قحطاني. ومن هنا نشأت نظرية أخرى تزعم أن الشعر يمانٍ كله، بدئ بامرئ القيس في الجاهلية وختم بأبي نواس في الإسلام. فأنت ترى أنَّا حين نقف عند مسألة كهذه لا نتجاوز العصبية بين عدنان وقحطان، ولكن سترى أكثر من هذا بعد قليل.

قصة عمرو بن قميئة التي يرويها الرواة ليست شيئًا قيمًا، وإنما هي حديث كغيره من الأحاديث، فهم يزعمون أن أباه تُوفي عنه طفلًا فكفله عمه، ونشأ عمرو جميلًا وضيء الطلعة، فكلفت به امرأة عمه وكتمت ذلك، حتى إذا غاب زوجها لأمر من أموره أرسلت إلى الفتى، فلما جاء دعته إلى نفسها، فامتنع وفاء لعمه وامتناعًا عن منكر الأمر وانصرف. ولكنها حنقت عليه وألقت على أثره جفنة، حتى إذا عاد زوجها أظهرت الغضب والغيظ وقصت على زوجها الأمر وكشفت عن الأثر، فغضب الرجل على ابن أخيه.٣٩ وهنا يختلف الرواة، فمنهم من يزعم أنه همَّ بقتله، فهرب إلى الحيرة، ومنهم من يزعم أنه أعرض عنه: ومهما يكن من شيء فقد اعتذر الشاب إلى عمه في شعر نروي لك منه طرفًا لتلمس بيدك ما جاء فيه من سهولة ولين وتوليد:
خليليَّ لا تستعجلا أن تزودا
وأن تجمعا شملي وتنتظرا غدا
فما لبثي يومًا بسائق مغنم
ولا سرعتي يومًا بسائقة الردى
وإن تنظرا في اليوم أقض لبانة
وتستوجبا منًّا عليَّ وتحمدا
لعمرك ما نفس بجد رشيدة
تؤامرني سوءًا لأصرم مرثدا
وإن ظهرت مني قوارص جمة
وأفرغ من لؤمي مرارًا وأصعدا
على غير جرم أن أكون جنيته
سوى قول باغ كادني متجهدا
لعمري لنعم المرء تدعو بخلة
إذا ما المنادي في المقامة نددا
عظيم رماد القدر لا متعبس
ولا موئس منها إذا هو أوقدا
وإن صرحت كحلٌ وهبت عرية
من الريح لم تترك من المال مرقدا
صبرت على وطء الموالي وخطبهم
إذا ضن ذو القربى عليهم وأخمدا
ولم يحم حُرْمَ الحي إلا محافظ
كريم المحيا ماجد غير أجردا٤٠
ونظن أن النظر في هذه القصة وفي هذه القصيدة يكفي ليقتنع القارئ بأننا أمام شيء منحول متكلف لا حظ له من صدق، وليس خيرًا من هذه القصيدة هذا الشعر الذي يقال: إن عمرو بن قميئة أنشأه لما تقدمت به السن يصف به هرمه وضعفه،٤١ ولعله قاله قبل أن يرتحل مع امرئ القيس إلى بلاد الروم. ويزعم الشعبي — أو من روى عن الشعبي — أن عبد الملك بن مروان تمثل به في علته التي مات فيها، وهو:
كأني وقد جاوزت تسعين حجة
خلعت بها عني عِنان لجامي
على الراحتين مرة وعلى العصا
أنوء ثلاثًا بعدهن قيامي
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى
فما بال من يرمي وليس برام؟
فلو أن ما أرمي بنبل رميتها
ولكنما أرمي بغير سهام
إذا ما رآني الناس قالوا: ألم يكن
حديثًا جديد البرى غير كهام
وأفنى وما أفنى من الدهر ليلة
وما يُفنَ ما أفنيت سلك نظامي
وأهلكني تأميل يوم وليلة
وتأميل عام بعد ذاك وعام٤٢

فنحن نستطيع بعد هذا أن نضيف عمرو بن قميئة إلى صاحبيه الضائعين: عبيد وامرئ القيس، وأن ننتقل إلى مهلهل، لنرى ماذا يمكن أن يثبت لنا من أمره وشعره.

فأما أمره فنظن أنه يسير لا سبيل إلى الاختلاف فيه، فيجب أن نبلغ من السذاجة حظًّا غير قليل لنسلم بما كان يتحدث به الرواة من أمر هذه القصة الطويلة العريضة؛ قصة البسوس. ونظن أن الاتفاق يسير على أن هذه القصة قد طولت ونميت وعظم أمرها في الإسلام حين اشتد التنافس بين ربيعة ومضر من ناحية، وبين بكر وتغلب من ناحية أخرى. وليس مهلهل في حقيقة الأمر إلا بطل هذه القصة؛ فقد عظم أمره وارتفع شأنه بمقدار ما نميت هذه القصة وطول فيها. ولسنا ننكر أن خصومة عنيفة كانت بين القبيلتين الشقيقتين بكر وتغلب في العصور الجاهلية القديمة، وأن هذه الخصومة قد انتهت إلى حروب سُفكت فيها الدماء وكثرت فيها القتلى، ولكن أسباب هذه الخصومة ومظاهرها وأعراضها وآثارها الأدبية قد ذهبت كلها ولم يبقَ منها إلا ذكرى ضئيلة تناولها القصاص فاستغلوها استغلالًا قويًّا. ووجدت بكر وتغلب وربيعة كلها حاجتها في هذا الاستغلال، ولِمَ لا؟ ألم تكن النبوة والخلافة ومظاهر الشرف كلها لمضر في الإسلام؟ وكيف يستطيع العرب من ربيعة أن يؤمنوا لمضر بهذه السيادة وهذا المجد دون أن يثبتوا لأنفسهم في قديم العهد — على أقل تقدير — مجدًا وشرفًا وسيادة؟ وقد فعلوا: فزعموا أنهم كانوا سادة العرب من عدنان في الجاهلية: كان منهم الملوك والسادة، وكان منهم الذين ذادوا القحطانية عن ولد عدنان، وكان منهم الذين قاوموا طغيان اللخميين في العراق والغسانيين في الشأم، وكان منهم الذين هزموا جيوش كسرى في يوم ذي قار. لمضر إذن حديث العرب بعد الإسلام، ولربيعة قديم العرب قبل الإسلام، فإذا لاحظت إلى هذا ما كان من الخصومة الفعلية بين ربيعة ومضر أيام بني أمية وما كان من الخصومة الأدبية بين جرير شاعر مضر الذي يقول:

إن الذي حرم المكارم تغلبًا
جعل النبوة والخلافة فينا
هذا ابن عمي في دمشق خليفة
لو شئت ساقكم إلى قطينا

وبين الأخطل الذي يقول:

أبني كليب إن عميَّ اللذا
قتلا الملوك وفككا الأغلالا

نقول: إذا لاحظت كل هذه الخصومات لم يصعب عليك أن تتصور كثرة النحل في القصص والشعر حول ربيعة عامة، وحول هاتين القبيلتين من ربيعة خاصة؛ وهما بكر وتغلب، على أن بعض الرواة كانوا يظهرون كثيرًا من الشك فيما كانت تتحدث به بكر وتغلب من أمر هذه الحروب.

ومهما يكن من شيء فليست شخصية مهلهل بأوضح من شخصية امرئ القيس أو عبيد أو عمرو بن قميئة؛ وإنما تركت لنا قصة البسوس منه صورًا هي إلى الأساطير أقرب منها إلى أي شيء آخر. ومن هنا قال ابن سلام: إن العرب كانت ترى أن مهلهلًا كان يكثر ويدعي في قوله بأكثر من فعله٤٣ والحق أن مهلهلًا لم يتكثر ولم يدع شيئًا، وإنما تكثرت تغلب في الإسلام ونحلته ما لم يقل. ولم تكتف بهذا النحل، بل زعمت أنه أول من قصد القصيد وأطال الشعر. ثم أحست ما نحس الآن أو أحسه الرواة أنفسهم؛ وهو أن في هذا الشعر اضطرابًا واختلاطًا، فزعمت أو زعم الرواة، أنه لهذا الاضطراب والاختلاط سُمي مهلهلًا؛ لأنه هلهل الشعر، والهلهلة: الاضطراب، ويستشهد ابن سلام على هذا بقول النابغة:
أتاك بقول هلهل النسج كاذب٤٤

وليس من شك في أن شعر مهلهل مضطرب، فيه هلهلة واختلاط.

ولكننا نستطيع أن نجد هذه الهلهلة نفسها في شعر امرئ القيس وعبيد وابن قميئة وكثير غيرهم من شعراء العصر الجاهلي؛ فقد كانوا جميعًا مهلهلًا إذن.

غير أننا لا نستطيع أن نطمئن إلى أن يهلهل شعراء الجاهلية جميعًا الشعر، بحيث يصبح لكل منهم شخصيات شعرية مختلفة تتفاوت في القوة والضعف، وفي الشدة واللين، وفي الإغراب والسهولة، وإذن فمن الذي هلهل الشعر؟ هلهله الذين وضعوه من القصاص والناحلين وأصحاب التنافس والخصومة بعد الإسلام.

ويحسن أن نظهرك على شيء من شعر مهلهل لترى كما نرى أنه لا يمكن أن يكون أقدم شعر قالته العرب:

أليلتنا بذي حسم أنيري
إذا أنت انقضيت فلا تحوري
فإن يك بالذنائب طال ليلي
فقد أبكي مع الليل القصير
فلو نبش المقابر عن كليب
فيعلم بالذنائب أي زير
بيوم الشعثمين لقر عينًا
وكيف لقاء مَن تحت القبور
وأني قد تركت بواردات
بجيرًا في دم مثل العبير
هتكت به بيوت بني عُباد
وبعض الغشم أشفى للصدور
على أن ليس يوفى من كليب
إذا برزت مخبأة الخدور
وهمامَ بن مرة قد تركنا
عليه القشعمان من النسور
ينوء بصدره والرمح فيه
ويخلجه خدبٌّ كالبعير
فلولا الريح أسمع من بحجر
صليل البيض تقرع بالذكور
فدى لبني شقيقة يوم جاءوا
كأسد الغاب لجت في الزئير
كأن رماحهم أشطان بئر
بعيد بين جاليها جرور
غداة كأننا وبني أبينا
بجنب عنيزة رحيا مدير
تظل الخيل عاكفة عليهم
كأن الخيل ترخص في غدير٤٥

أليس يقع من نفسك موقع الدهش أن يستقيم وزن هذا الشعر وتطرد قافيته، وأن يلائم قواعد النحو وأساليب النظم التي لا يشذ في شيء ولا يظهر عليه شيء من أعراض القدم أو مما يدل على أن صاحبه هو أول من قصد القصيدة وطول الشعر؟ أليس يقع في نفسك هذا كله موقع الدهش حين تلاحظ معه سهولة اللفظ ولينه، وإسفاف الشاعر فيه إلى حيث لا تشك أنه رجل من الذين لا يقدرون إلا على مبتذل اللفظ وسوقيه؟

ولكننا لا نريد أن نترك مهلهلًا هذا دون أن نضيف إليه امرأة أخيه جليلة التي رثت كليبًا — فيما يقول الرواة — بشعر لا ندري أيستطيع شاعر أو شاعرة في هذا العصر الحديث أن يأتي بأشد منه سهولة ولينًا وابتذالًا، مع أننا نقرأ للخنساء وليلى الأخيلية شعرًا فيه من قوة المتن وشدة الأسر ما يعطينا صورة صادقة للمرأة البدوية العربية. قالت جليلة:

يا ابنة الأقوام إن شئت فلا
تعجلي باللوم حتى تسألي
فإذا أنت تبينت الذي
يوجب اللوم فلومي واعذلي
إن تكن أخت امرئ ليمت على
شفق منها عليه فافعلي
جلَّ عندي فعل جساس فيا
حسرتي عما انجلت أو تنجلي
فعل جساس على وجدي به
قاصم ظهري ومدنٍ أجلي
لو بعين فقئت عيني سوى
أختها فانفقأت لم أحفل
تحمل العين قذى العين كما
تحمل الأم أذى ما تفتلي
يا قتيلًا قوض الدهر به
سقف بيتيَّ جميعًا من علِ
هدم البيت الذي استحدثته
وانثنى في هدم بيتي الأول
ورماني قتله من كثب
رمية المُصْمَى به المستأصل
يا نسائي دونكن اليوم قد
خصني الدهر برزء معضل
خصني قتل كليب بلظى
من ورائي ولظًى مستقبلي
ليس من يبكي ليومين كمن
إنما يبكي ليوم ينجلي٤٦

وقد أعرضنا في كل هذه الأحاديث عن أسجاعٍ ما نظن أن أحدًا يرتاب في أنها مصنوعة متكلفة، ونعتقد أن قراءة هذا الشعر الذي رويناه تكفي لنضيف في غير مشقة مهلهلًا وامرأة أخيه إلى ابن أخته امرئ القيس.

وقد فرغنا من امرئ القيس ومن يتصل به من الشعراء، ولكننا لم نفرغ من الشعراء أنفسهم، فلا بد من وقفات أخرى قصيرة عند طائفة منهم، وستثبت لك هذه الوقفات أننا لسنا غلاة ولا مسرفين إن خشينا ألا يقتصر الشك على امرئ القيس وشعره.

(٥) عمرو بن كلثوم – الحارث بن حلزة

ونحن حين ندع مهلهلًا وامرأة أخيه إلى هذين الشاعرين من أصحاب المعلقات لا نتجاوز ربيعة، بل لا نتجاوز هذين الحيين من ربيعة؛ وهما حيا بكر وتغلب، فعمرو بن كلثوم تغلبي، وهو في عُرف الرواة لسان تغلب الناطق، هو الذي سجل مفاخرها وأشاد بذكرها في شعره، أو بعبارة أدق: في قصيدته التي تُروى بين المعلقات. وقد كان — فيما يقول الرواة — بطلًا من أبطال تغلب، ورث القوة والأيد وشدة البأس وإباء الضيم عن جده مهلهل؛ فقد كانت أمه ليلى بنت مهلهل.

وقد أُحيط عمرو بن كلثوم في مولده ونشأته، بل في مولد أمه، بطائفة من الأساطير لا يشك أشد الناس سذاجة في أنها لون من ألوان العبث والنحل: زعموا أن مهلهلًا لما ولدت له ليلى أمر بوأدها فأخفتها أمها، ثم نام فأتاه آتٍ وتنبأ له بأن ابنته هذه ستلد ابنًا يكون له شأن، فلما أصبح سأل عن ابنته فقيل: وئدت، فكذب وألح، فأُظهرت له، فأمر بإحسان غذائها، ثم تزوجت كلثومًا، فما زالت ترى فيما يرى النائم من يأتيها فيُخبرها عن ابنها بالأعاجيب حتى ولدته ونشأته. قالوا وقد ساد عمرو بن كلثوم قومه ولما يتجاوز الخامسة عشرة.٤٧
فكل هذه الأحاديث التي نُشير إليها إشارة، تدل على أن عمرو بن كلثوم قد أُحيط بطائفة من الأساطير جعلته إلى أبطال القصص أقرب منه إلى أشخاص التاريخ. ومع ذلك فقد يظهر أنه وجد حقًّا، وقد يظهر أنه على خلاف ما قدمنا ذكرهم من الشعراء، وقد أعقب؛ فصاحب «الأغاني» يحدثنا بأن كان له عقب كان باقيًا إلى أيامه.٤٨
وسواء أكان عمرو بن كلثوم شخصًا من أشخاص التاريخ أم بطلًا من أبطال القصص، فإن القصيدة التي تُنسب إليه لا يمكن أن تكون جاهلية أو لا يمكن أن تكون كثرتها جاهلية. وهل نستطيع قبل كل شيء أن نطمئن إلى ما يتحدث به الرواة من أن عمرو بن كلثوم قتل ملكًا من ملوك الحيرة هو عمرو بن هند المشهور، ذلك حين بغى عمرو بن هند هذا وانتهى به الطغيان إلى أن طمع في أن تستخدم أمه ليلى بنت مهلهل أم عمرو هذا، قال الرواة: فطلبت هند أم الملك إلى ليلى بنت المهلهل أن تناولها طبقًا؛ فأجابتها ليلى: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها، وصاحت ليلى: وا ذلاه! يا لتغلب! وكان ابنها عمرو في قبة الملك فسمع دعاءها فوثب إلى سيف معلق فضرب به الملك، ونهضت بنو تغلب فنهبوا قبة الملك وعادوا إلى باديتهم.٤٩

غير أن النص التاريخي الذي يثبت هذه القصة لم يصل إلينا بعد، وهل من المعقول أن يُقتل ملك الحيرة هذه القتلة ويقف الأمر عند هذا الحد بين آل المنذر وبني تغلب من ناحية، وبين ملوك الفرس وأهل البادية من ناحية أخرى؟ أليس هذا لونًا من الأحاديث التي كان يتحدث بها القصاص يستمدونها من حاجة العرب إلى المفاخرة والتنافس؟ بلى! وقصيدة عمرو بن كلثوم نفسها نوع من هذا الشعر الذي كان ينحل مع هذه الأحاديث. وأنت إذا قرأت هذه القصيدة رأيت أن مهلهلًا لم يكن يتكثر وحده، وإنما أورث التكثر والكذب سبطه عمرو بن كلثوم، فلسنا نعرف كلمة تُضاف إلى الجاهليين وفيها من الإسراف والغلو ما في كلمة عمرو بن كلثوم هذه. على أن رأي الرواة فيها يُشبه رأيهم في معلقة امرئ القيس فهم يشكون في بعضها، وهم يختلفون في الأبيات الأولى منها: أقالها عمرو بن كلثوم، أم قالها عمرو بن عدي ابن أخت جذيمة الأبرش؟ فأما الذين يضيفون هذه الأبيات لعمرو بن كلثوم فيرون أن مطلع القصيدة:

ألا هبي بصحنك فاصبحينا

وأما الآخرون فيرون أن مطلعها:

قفي قبل التفرق يا ظعينا

وأولئك وهؤلاء لا يختلفون في إنطاق عمرو بن عدي بالبيتين:

صددت الكأس عنا أم عمرو
وكان الكأس مجراها اليمينا
وما شر الثلاثة أم عمرو
بصاحبك الذي لا تصبحينا

وأنت حين تمضي في القصيدة ترى فيها أبياتًا مكررة تقع وسط القصيدة وفي آخرها، ولكن هذا النحو من الاضطراب مشترك في أكثر الشعر الجاهلي، مصدره اختلاف الروايات، فإذا قرأت القصيدة نفسها فستجد فيها لفظًا سهلًا لا يخلو من جزالة، وستجد فيها معاني حسانًا، وفخرًا لا بأس به لولا أن الشاعر يُسرف فيه من حين إلى حين إسرافًا ينتهي به إلى السخف؛ كقوله:

إذا بلغ الرضيع لنا فطامًا
تخر له الجبابر ساجدينا

وستجد فيها أبياتًا تمثل إباء البدوي للضيم واعتزازه بقوته وبأسه؛ كقوله:

ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا

قلت: إن هذا البيت يمثل إباء البدوي للضيم، ولكني أسرع فأقول: إنه لا يمثل سلامة الطبع البدوي وإعراضه عن تكرار الحروف إلى هذا الحد الممل:

ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا

فقد كثرت هذه الجيمات والهاءات واللامات، واشتد هذا الجهل حتى مل، وهم يحملون على الأعشى بيتًا فيه مثل هذا النوع من التعسف، لكنا نشك في صحة هذا البيت الذي يُضاف إلى الأعشى.

ومهما يكن من شيء، فإن في قصيدة ابن كلثوم هذه من رقة اللفظ وسهولته ما يجعل فهمها يسيرًا على أقل الناس حظًّا من العلم باللغة العربية في هذا العصر الذي نحن فيه. وما هكذا كانت تتحدث العرب في منتصف القرن السادس للمسيح وقبل ظهور الإسلام بما يقرب من نصف قرن، وما هكذا كانت تتحدث ربيعة خاصة في هذا العصر الذي لم تسد فيه لغة مضر ولم تصبح فيه لغة الشعر، بل ما هكذا كان يتحدث الأخطل التغلبي الذي عاش في العصر الأموي؛ أي بعد ابن كلثوم بنحو قرن، واقرأ هذه الأبيات وحدثني أتطمئن إلى جاهليتها:

قفي قبل التفرق يا ظعينا
نخبرك اليقين وتخبرينا
قفي نسألك هل أحدثت صرمًا
لوشك البين أم خنت الأمينا؟
بيوم كريهة ضربًا وطعنًا
أقر به مواليك العيونا
وإن غدًا وإن اليوم رهن
وبعد غد بما لا تعليمنا
تريك إذا دخلت على خلاء
وقد أمنت عيون الكاشحينا
ذراعي عيطل أدماء بكر
هجان اللون لم تقرأ جنينا
وثديًا مثل حق العاج رخصًا
حصانًا من أكف اللامسينا
ومتني لدنة سمقت وطالت
روادفها تنوء بما ولينا
ومأكمة يضيف الباب عنها
وكشحًا قد جننت به جنونا
وساريتي بلنط أو رخام
يرن خشاش حليهما رنينا

واقرأ هذه الأبيات أيضًا:

ألا لا يعلم الأقوام أنا
تضعضعنا وأنا قد ونينا
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
بأي مشيئة عمرو بن هند
نكون لقيلكم فيها قطينا؟
بأي مشيئة عمرو بن هند
تطيع بنا الوشاة وتزدرينا؟
تهددنا وتوعدنا رويدًا
متى كنا لأمك مقتوينا؟
فإن قناتنا يا عمرو أعيت
على الأعداء قبلك أن تلينا

وهذه الأبيات:

ونحن التاركون لما سخطنا
ونحن الآخذون لما رضينا
وكنا الأيمنين إذا التقينا
وكان الأيسرين بنو أبينا
فصالوا صولة فيمن يليهم
وصلنا صولة فيمن يلينا
فآبوا بالنهاب وبالسبايا
وأبنا بالملوك مصفدينا
إليكم يا بني بكر إليكم
ألما تعرفوا منا اليقينا

وهذه الأبيات ووازن بينها وبين الأبيات الأخيرة:

وقد علم القبائل من معد
إذا قبب بأبطحها بنينا
بأنا المطعمون إذا قدرنا
وأنا المهلكون إذا ابتلينا
وأنا المانعون لما أردنا
وأنا النازلون بحيث شينا
وأنا التاركون إذا سخطنا
وأنا الآخذون إذا رضينا
وأنا العاصمون إذا أطعنا
وأنا العارمون إذا عصينا
ونشرب إن وردنا الماء صفوًا
ويشرب غيرنا كدرًا وطينا

وهذه الأبيات:

إذا ما الملك سام الناس خسفًا
أبينا أن نقر الذل فينا
لنا الدنيا ومن أمسى عليها
ونبطش حين نبطش قادرينا
ملأنا البر حتى ضاق عنا
وماء البحر نملؤه سفينا
إذا بلغ الرضيع لنا فطامًا
تخر له الجبابر ساجدينا
أمتن من هذه القصيدة وأرصن قصيدة الحارث بن حلزة، وكان لسان بكر — فيما يقول الرواة — ومحاميها والذائد عنها بين يدي عمرو بن هند أيضًا. زعموا أن عمر بن هند أصلح بين القبيلتين المختصمتين بكر وتغلب واتخذ منهما رهائن، فتعرضت رهائن تغلب لبعض الشر وهلكت أو هلك أكثرها، فتجنت تغلب على بكر وطالبت بدية الهلكى، وأبت بكر، وكادت تستأنف الحرب بينهما، واجتمعت أشرافها إلى عمرو بن هند ليحكم بينهم، وأحس الحارث ميل الملك إلى تغلب، فنهض فاعتمد على قوسه وارتجل هذه القصيدة، قالوا وكان به وضح، وكان الملك قد أمر أن يكون بينه وبينه ستار، فلما أخذ ينشد قصيدته أخذ الملك يعجب به ويدنيه شيئًا فشيئًا حتى أجلسه إلى جانبه وقضى لبكر.٥٠

ويكفي أن تقرأ هذه القصيدة لترى أنها ليست مرتجلة ارتجالًا، وإنما هي نُظمت وفكر فيها الشاعر طويلًا، ورتب أجزائها ترتيبًا دقيقًا، وليس فيها من مظاهر الارتجال إلا شيء واحد، وهو هذا الإقواء الذي تجده في قوله:

فملكنا بذلك الناس حتى
ملك المنذر بن ماء السماء

فالقافية كلها مرفوعة إلا هذا البيت، ولكن الإقواء كان شيئًا شائعًا حتى عند الشعراء الإسلاميين، الذين لم يكونوا يرتجلون في كل وقت. نقول: إن قصيدة الحارث أمتن وأرصن من قصيدة ابن كلثوم، وقد نظمتا في عصر واحد — إن صح ما يقول الرواة — فهما مسوقتان إلى عمرو بن هند، فاقرأ هذه الأبيات للحارث ووازن بينها في اللفظ والمعنى وبين ما قدمنا لك من شعر عمرو:

ملك أضرع البرية لا يو
جد فيها لما لديه كفاء
ما أصابوا من تغلبي فمطلو
ل، عليه إذا أصيب العفاء
كتكاليف قومنا إذا غزا المنـ
ـذر هل نحن لابن هند رعاء؟!
إذا أحل العلياء قبة ميسو
ن فأدنى ديارها العوصاء
فتأوت له قراضبة من
كل حي كأنهم ألقاء
فهداهم بالأسودين وأمر الله
بلغ يشقى به الأشقياء
إذ تمنونهم غرورًا فساقتـ
ـهم إليكم أمنية أشراء
لم يغروكم غرورًا ولكن
يرفع الآل شخصهم والضحاء

وانظر إلى هذه الأبيات يعير فيها الشاعر تغلب بإغارات كانت عليهم، لم ينتصفوا لأنفسهم من أصحابها:

أعينا جناح كندة أن يغـ
ـنم غازيهم ومنا الجزاء
ليس منا المضربون ولا قيـ
ـس ولا جندل ولا الحداء
أم جنايا بني عتيق فمن يغـ
ـدر فإنا من حربهم برءاء
أم علينا جرى العباد كما نيـ
ـط بجوز المحمل الأعباء؟
وثمانون من تميم بأيديـ
ـهم رماح صدورهن القضاء
تركوهم ملحبين وآبوا
بنهاب يصم منها الحداء
أم علينا جرى حنيفة أم ما
جمعت من محارب غبراء
أم علينا جرى قضاعة أم ليـ
ـس علينا فيما جنوا أنداء
ثم جاءوا يسترجعون فلم تر
جع لهم شامة ولا زهراء

فأنت ترى أن بين القصيدتين فرقًا عظيمًا في جودة اللفظ وقوة المتن وشدة الأسر. على أن هذا لا يُغير رأينا في القصدتين؛ فنحن نرجح أنهما منحولتان، وكل ما في الأمر أن الذين كانوا ينحلون كانوا كالشعراء أنفسهم يختلفون قوة وضعفًا وشدة ولينًا، فالذي نحل قصيدة الحارث بن حلزة كان من هؤلاء الرواة الأقوياء الذين يحسنون تخير اللفظ وتنسيقه، ونظم القصيد في متانة وأيد، ولسنا نتردد في أن نُعيد ما قلناه من أن هاتين القصيدتين وما يشبههما مما يتصل بالخصومة بين بكر وتغلب إنما هو من آثار التنافس بين القبيلتين في الإسلام لا في الجاهلية.

(٦) طرفة بن العبد – المتلمس

وشاعران آخران من ربيعة نقف عندهما وقفة قصيرة، هما طرفة بن العبد والمتلمس، وإنما نجمعهما لأن القصص جمعهما من قبل، فقد زعموا أن المتلمس كان خال طرفة.٥١ ولم يقف جمع القصص بينهما عند هذا الحد، بل قد جمعهما في الشيء القليل الذي نعرفه عنهما؛ ذلك أن لطرفة والمتلمس أسطورة لهج بها الناس منذ القرن الأول للهجرة، وهم يختلفون في روايتها اختلافًا كثيرًا، ولكنا نتخير من هذه الروايات أيسرها وأقربها إلى طبيعة الإنسان.
زعموا أن هذين الشاعرين هجوا عمرو بن هند حتى أحنقاه عليهما، ثم وفدا عليه، فتلقاهما لقاء حسنًا وكتب لهما كتابين إلى عامله بالبحرين، وأوهمهما أنه كتب لهما بالجوائز والصلات، فخرجا يقصدان إلى هذا العامل، ولكن المتلمس شك في كتابه فأقرأه غلامًا من أهل الحيرة، فإذا فيه أمر بقتل المتلمس فألقى كتابه في النهر، وألح على طرفة في أن يفعل فعله فأبى، وافترق الشاعران: مضى أحدهما إلى الشأم فنجا، ومضى الآخر إلى البحرين فلقي الموت.٥٢ وكان طرفة حديث السن لم يتجاوز العشرين في رأي بعض الرواة ولم يتجاوز السادسة والعشرين في رأي بعضهم الآخر، وقد كثرت الأحاديث حول هذه القصة، وأفضت إلى أشياء أعرضنا عن ذكرها لظهور النحل فيها. وغضب عمرو بن هند على المتلمس حين هرب إلى الشام وأفلت من الموت، فأقسم لا يطعم حب العراق، واتصل هجاء المتلمس له.٥٣

والرواة المحققون يعدون هذين الشاعرين من المقلين، بل لم يروِ ابن سلام للمتلمس شيئًا ولم يُسم له قصيدة، فأما طرفة فقد قال ابن سلام عنه في موضع: إنه هو وعبيد من أقدم الفحول، ولم يبقَ لهما إلا قصائد بقدر عشر، واستقل ابن سلام هذه القصائد على الشاعرين، وقال: إنه قد حُمل عليهما حمل كثير، وقد رأيت أنه حين أراد أن يضع عبيدًا في طبقته لم يعرف له إلا بيتًا واحدًا، فأما طرفة فقد عرف له المطولة وروى مطلعها هكذا:

لخولة أطلال ببرقة ثهمد
وقفت بها أبكي وأبكي إلى الغد

وعرف له الرائية المشهورة:

أصحوت اليوم أم شاقتك هر
ومن الحب جنون مستقر
وعرف له قصائد أخرى لم يدل عليها، وقال: إنه أشعر الناس بواحدة،٥٤ يريد المعلقة، وبين أيدينا ديوان لطرفة يشتمل على هاتين القصيدتين وقصيدة أخرى مشهورة، وهي:
سائلوا عنا الذي يعرفنا
بخزَازَى يوم تحلاق اللمم

ثم مقطوعات أخرى ليست بذات غناء، وأنت إذا قرأت شعر طرفة رأيت فيه ما ترى في أكثر هذا الشعر الذي يُضاف إلى الجاهليين، ولا سيما المضريين منهم، من متانة اللفظ وغرابته أحيانًا، حتى لتقرأ الأبيات المتصلة فلا تفهم منها شيئًا دون أن تستعين بالمعاجم. ولكنك مضطر إلى أن تلاحظ أن هذا الشعر أشبه بشعر المضريين منه بشعر الربعيين؛ فنحن لم نجمع شعراء ربيعة عفوًا، وإنما جمعناهم فيما تحدثنا به إليك في هذا الكتاب إلى الآن لأن بينهم شيئًا يتفقون فيه جميعًا، هو هذه السهولة التي تبلغ الإسفاف أحيانًا، لا نستثني منهم في ذلك إلا قصيدة الحارث بن حلزة، فكيف شذ طرفة عن شعراء ربيعة جميعًا فقوى متنه واشتد أسره، وآثر من الإغراب ما لم يُؤثر أصحابه، ودنا شعره من شعر المضريين؟

وانظر هذه الأبيات التي يصف بها الناقة:

وإني لأمضي الهم عنده احتضاره
بعوجاء مرقال تروح وتغتدي
أمون كألواح الإران نصأتها
على لاحب كأنه ظهر برجد
جمالية وجناء تردى كأنها
سفنجة تبرى لأزعر أربد
تباري عتاقًا ناجيات وأتبعت
وظيفًا وظيفًا فوق مور معبد
تربعت القفين في الشول ترتعي
حدائق موليِّ الأسرَّة أغيد
تريع إلى صوت المهيب وتتقي
بذي خصل روعات أكلف ملبد
كأن جناحي مضرحي تكنفا
حفافيه شُكَّا في العسيب بمسرد

وهو يمضي على هذا النحو في وصف ناقته، فيضطرنا إلى أن نفكر فيما قلناه — من قبل — من أن أكثر هذه الأوصاف أقرب إلى أن يكون من صنعة العلماء باللغة منه إلى أي شيء آخر، ولكن دع وصفه للناقة واقرأ:

ولست بحلال التلاع مخافة
ولكن متى يسترفد القوم أرفد
فإن تبغني في حلقة القوم تلقني
وإن تقتنصني في الحوانيت تصطد
متى تأتني أصبحك كأسًا روية
وإن كنت عنها ذا غنًى فاغنَ وازدد
وإن يلتقِ الحي الجميع تلاقني
إلى ذروة البيت الشريف المصمد
نداماي بيض كالنجوم وقينة
تروح علينا بين برد ومجسد
رحيبٌ قطابُ الجيب منها رقيقة
بجس الندامى بضة المتجرد
إذا نحن قلنا: أسمعينا انبرت لنا
على رسلها مطروقة لم تشدد
إذا رجعت في صوتها خلت صوتها
تجاوب أظآر على ربع ردي

فسترى في هذه الأبيات لينًا ولكن في غير ضعف، وشدة ولكن في غير عنف، وسترى كلامًا لا هو بالغريب الذي لا يُفهم، ولا هو بالسوقي المبتذل، ولا هو بالألفاظ قد رصفت رصفًا دون أن تدل على شيء. وامضِ في قراءة القصيدة فستظهر لك شخصية قوية ومذهب في الحياة واضح جلي: مذهب اللهو واللذة يعمد إليهما من لا يؤمن بشيء بعد الموت، ولا يطمع من الحياة إلا فيما تتيح له من نعيم برئ من الإثم والعار على ما كان يفهمهما عليه هؤلاء الناس:

وما زال تشرابي الخمور ولذتي
وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدي
إلى أن تحامتني العشيرة كلها
وأفردت إفراد البعير المعبد
رأيت بني غبراء لا ينكرونني
ولا أهل هذاك الطراف الممدد
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي؟
فإن كنت لا تسطيع دفع منيتي
فدعني أبادرها بما ملكت يدي
ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى
وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة
كميت متى ما تُعلَ بالماء تزبد
وكري إذا نادى المضاف محنبًا
كسيد الغضا نبهته المتورد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجبٌ
ببهكنة تحت الطراف المعمد

في هذا الشعر شخصية بارزة قوية، لا يستطيع من يلمحها أن يزعم أنها متكلفة أو منحولة أو مستعارة، وهذه الشخصية ظاهرة البداوة واضحة الإلحاد، بينة الحزن واليأس والميل إلى الإباحة في قصد واعتدال. هذه الشخصية تمثل رجلًا فكر والتمس الخير والهدى فلم يصل إلى شيء، وهو صادق في يأسه، صادق في حزنه، صادق في ميله إلى هذه اللذات التي يؤثرها. ولست أدري أهذا الشعر قد قاله طرفة أم قاله رجل آخر، وليس يعنيني أن طرفة قائل هذا الشعر، بل ليس يعنيني أن أعرف اسم صاحب هذا الشعر؛ وإنما الذي يعنيني هو أن هذا الشعر صحيح لا تكلف فيه ولا نحل، وأن هذا الشعر لا يشبه ما قدمنا في وصف الناقة ولا يمكن أن يتصل به، وأن هذا الشعر إنما هو من الشعر النادر الذي نعثر به من حين إلى حين في تضاعيف هذا الكلام الكثير الذي يُضاف إلى الجاهليين، فنحس حين نقرؤه أنا نقرأ شعرًا حقًّا فيه قوة وحياة وروح.

وإذن فأنا أرجح أن في هذه القصيدة شعرًا صنعه علماء اللغة، هو هذا الوصف الذي قدمنا بعضه، وشعرًا صدر عن شاعر حقًّا هو هذه الأبيات وما يشبهُها، ولسنا نأمن أن يكون في هذه الأبيات نفسها ما دس على الشاعر دسًّا ونُحله نحلًا.

فأما صاحب القصيدة فيقول الرواة: إنه طرفة، ولست أدري أهو طرفة أم غيره، بل لست أدري أجاهلي هو أم إسلامي؟ وكل ما أعرفه هو أنه شاعر بدوي ملحد شاك.

ولست أحب أن أقف عند القصيدتين الأخريين؛ فإن شخصية الشاعر تستخفي فيهما استخفاء وتعود معهما إلى هذا الشعر الذي وقفت عنده غير مرة، والذي يمثل مجد القبيلة وفخرها القديم. وأكبر الظن أن هاتين القصيدتين كقصيدة الحارث بن حلزة وضعتا في الإسلام تخليدًا لمآثر بكر بن وائل.

فلندع طرفة ولنصل إلى المتلمس، وأمر المتلمس أيسر من أمر طرفة، فشعره يعود بنا إلى شعر ربيعة الذي قدمنا الإشارة إليه، وإلى ما فيه من رقة وإسفاف وابتذال، ومن غريب أمره أن التكلف فيه ظاهر ولا سيما في القافية، فيكفي أن تقرأ سينيته التي أولها:

يا آل بكر ألا لله أمكم
طال الثواء وثوب العجز ملبوس

لتحس تكلف القافية. على أن هذه القصيدة مضطربة الرواية؛ فقد يوضع آخرها في أولها، وقد يروى مطلعها:

كم دون مية من مستعمل قذف
ومن فلاة بها تستودع العيس

وللمتلمس قصيدة أخرى ليست أجود ولا أمتن من هذه، ولعلها أدنى منها إلى الرداءة، وهي التي مطلعها:

ألم ترَ أن المرء رهن منية
صريع لعافي الطير أو سوف يرمس؟
فلا تقبلن ضيمًا مخافةَ ميتة
وموتن بها حرًّا وجلدك أملس

ويقول فيها:

وما الناس إلا ما رأوا وتحدثوا
وما العجز إلا أن يضاموا فيجلسوا

وربما كانت ميمية المتلمس أجود ما يُضاف إليه من الشعر، وهي التي أولها:

يعيرني أمي رجال ولا أرى
أخا كرم إلا بأن يتكرما

وأكبر الظن أن كل ما يُضاف إلى المتلمس من شعره أو أكثره — على أقل تقدير — مصنوع، الغرض من صنعته تفسير طائفة من الأمثال وطائفة من الأخبار حفظت في نفوس الشعب عن ملوك الحيرة وسيرتهم، في هؤلاء الأخلاط من العرب وغير العرب الذين كانوا يسكنون السواد، ولا أستبعد أن يكون شخص المتلمس نفسه قد اخترع اختراعًا، تفسيرًا لهذا المثل الذي كان يُضرب بصحيفة المتلمس، والذي لم يكن الناس يعرفون من أمره شيئًا، ففسره القصاص واستمدوا تفسيره من هذه الأساطير الشعبية الى أشرنا إليها غير مرة.

(٧) الأعشى

على أن لربيعة في جاهليتها شاعرًا لا يخلو أمره من الغرابة فيما يظهر؛ وهو الأعشى ميمون بن قيس، الذي يُعرف أحيانًا بأعشى قيس، وأحيانًا أخرى بأعشى بكر، ويُذكر غالبًا لقبه الأعشى ليس غير. وهو يكنى: أبا بصير، وهو متأخر فيما يقول الرواة، أدرك الإسلام وكاد يُسلم. ومن الناس من يؤرخ وفاته بسنة سبع للهجرة كأنما يستنبط ذلك من هذه القصة التي تحدثنا أنه وفد على النبي فاعترضته قريش وصدته عن سبيل الله، مغرية إياه بمائة ناقة حمراء، منفرة له عن الإسلام بما فيه من حظر للخمر والزنا والقمار، وفي هذه القصة أن أبا سفيان قال له: إن بيننا وبين محمد هدنة، ففهم الذين أرخوا موت الأعشى أن أبا سفيان إنما يذكر هدنة الحديبية. ومهما يكن من شيء فالأعشى متأخر، وكل الأخبار التي تتصل به والأسماء التي تُذكر معه تدل على أنه كان متأخرًا؛ فهم يذكرون أنه مدح طائفة من الناس كلهم كان في آخر العصر الجاهلي، ولهذا كله قيمته، فقد كان الأعشى إذن يعيش في العصر الذي ظهرت فيه لغة قريش، وأخذت تمتد وتتجاوز الحجاز ونجد بعض الشيء. والرواة يحدثوننا أن الأعشى كان يعيش في اليمامة؛ فليس هو إذن من ربيعة العراق، وإنما هو أقرب إلى داخلية البلاد العربية الشمالية. ولكن الرواة بعد هذا لا يعرفون من أمر الأعشى إلا طائفة من الأحاديث لا سبيل إلى الثقة بها أو الاطمئنان إليها، بعض هذه الأحاديث فيه رائحة الأساطير، وبعضها ظاهر فيه الكذب والنحل، وبعضها يستنبط من أبيات من الشعر شائعة على هذا النحو الذي يستنبط به القدماء أخبارهم من شعر لا يُعرف من أين جاء. فهم يحدثوننا مثلًا بأن قيس بن جندل أبا الأعشى كان يُعرف بقتيل الجوع؛ لأنه أوى إلى غار فسقطت على فمه صخرة سدته، ومات الرجل فيه جوعًا: يستنبطون ذلك من بيت يضيفونه إلى خصم للأعشى كان يهاجيه واسمه جهنام، وهذا البيت هو:

أبوك قتيل الجوع قيس بن جندل
وخالك عبد من جماعة راضع

والرواة يمثلون لنا الأعشى صاحب لهو ولذة وشراب، يظهر لك ذلك فيما يضاف إليه من الشعر، كما يظهر في طائفة من الأخبار؛ فقد رُوي عن بعض ولاة اليمامة أنه سأل عن دار الأعشى فدُل عليه، وسأل عن قبره فأُخبر بأنه في فناء الدار، فقصد إلى هذه الدار ورأى القبر فإذا هو رطب، فسأل عن ذلك فأُخبر بأن الفتيان يجتمعون حول هذا القبر فيشربون ويعدون الأعشى واحدًا منهم، فإذا جاءت نوبته صبوا على القبر حظه من الخمر، فذلك علة رطوبته. وإذا صح هذا الخبر فقد كان فتيان اليمامة في القرن الأول للهجرة مسرفين في اللهو مغرقين في شرب الخمر، لا يستترون ولا يصطنعون في ذلك شيئًا من الحيطة. وإذا كان حظ الأعشى وحده كافيًا ليحتفظ لقبره بهذه الرطوبة فما بال حظوظ هؤلاء الفتيان مجتمعين! والظاهر أن هذا الخبر لا قيمة له، إنما هو من هذه الأخبار الى تتصل بما في الأساطير من منادمة الموتى وصب الخمر على قبورهم.

والرواة يحدثوننا أيضًا بأن فتيان اليمامة كانوا يتصلون بالأعشى، ولا سيما حين يعود من أسفاره فيطعمون عنده ويشربون، وما نرى هذا كله إلا نوعًا من التفسير لما يُضاف إلى الأعشى من الشعر الذي يصف فيه الخمر، ولما يُروى من أنه أحجم عن الإسلام وآثر التريث سنة ليستنفد صبابة من الخمر كانت بقيت له.

على أن الرواة لا يعرفون — كما قلنا — من حياة الأعشى شيئًا يمثل لنا بعض التمثيل نشأته أو حياته كهلًا وشيخًا. وهم بعد هذا يجمعون على أنه كان من الشعراء المقدمين، يعدونه من هؤلاء الأربعة الذين يؤلفون الطبقة الأولى؛ وهم امرؤ القيس والأعشى والنابغة وزهير. ثم يجمعون هؤلاء الأربعة في سجع يضيفه بعضهم إلى يونس بن حبيب، وبعضهم إلى غير يونس بن حبيب؛ وهو أن امرأ القيس أشعر الناس إذا ركب، والأعشى أشعرهم إذا طرب، والنابغة أشعرهم إذا رهب، وزهير أشعرهم إذا رغب. يستنبطون هذا من كثرة ما يُضاف إلى امرئ القيس من وصف الخيل والصيد، وإلى النابغة من الاعتذار، وإلى الأعشى من وصف الخمر، وإلى زهير من المدح. ولكن امرأ القيس لم يكن صاحب خيل وصيد ليس غير، وإنما كان إلى ذلك صاحب لهو ودعارة وفجور. ولم يكن النابغة صاحب اعتذار فحسب، وسترى أن الاعتذار في شعر النابغة ليس شيئًا، وإنما كان النابغة صاحب وصف ومدح وهجاء، إن صح ما يضيف إليه الرواة. والأعشى يصف الخمر، ولكن حظه من المدح أعظم من حظه من وصف الخمر، وهو أكثر مدحًا من زهير، ومدحه — إن صح ما يُضاف إليه من الشعر — منوع كثير الفنون. وكان زهير يمدح، ولكنه كان يصف ويشبب ويحسن الهجاء، فليس لهذا السجع إذن قيمة إلا في قوافيه.

والرواة يفتنون في تقديم بعض هؤلاء الشعراء على بعض، ولكن ابن سلام يروي لنا من ذلك جملة قصيرة لها قيمتها: يحدثنا بأن أهل البصرة كانوا يقدمون امرأ القيس، وأهل الكوفة كانوا يقدمون الأعشى، وأهل الحجاز والبادية كانوا يقدمون زهيرًا والنابغة،٥٥ فأما تقديم أهل الحجاز والبادية زهيرًا والنابغة فطبيعي؛ فقد كان زهير والنابغة شاعرين بدويين متصلين بأهل الحجاز والبادية اتصال موطن ونسب وسياسة ولغة قبل كل شيء، كما سترى ذلك حين نعرض لشعر مضر، وأما أهل العراق في البصرة والكوفة فقد كانت كثرتهم يمنية ربعية، ومن المعقول أن يؤثروا شعر هذين الشاعرين؛ وأحدهما — فيما يقول الرواة — يمني خالص هو امرؤ القيس، والآخر ربعي في نسبه، ولكن شعره في اليمنية كثير وهو الأعشى. وربما لا يقف تقديم العراقيين لهذين الشاعرين عند هذا الحد؛ فأحد هذين الشاعرين عراقي النشأة والمولد والشعر والحياة — إن صح ما قدمناه من الفرض — وهو امرؤ القيس، فقد لفقت قصته تلفيقًا في العراق بعد قصة عبد الرحمن بن الأشعث، واخترع شعره اختراعًا في العراق أيضًا. وسترى بعد قليل أن كثيرًا من شعر الأعشى اخترع ونظم في الكوفة وغيرها من البيئات العراقية يمنية كانت أو ربعية.

ويحدثنا الرواة بأن الأعشى أول من تكسب بالشعر، ويروون في ذلك أحاديث، ولكنهم يحدثوننا في الوقت نفسه بأن النابغة كان عظيمًا رفيع المكانة في قومه، ولكنه تكسب بشعره فغض ذلك منه وحط من قدره. فقد كان التكسب بالشعر إذن يغض من الشعراء ويحط من أقدارهم في الجاهلية. ولكن التكسب بالشعر لم يغض من زهير ولم يحط من قدره؛ لا يحدثنا الرواة بشيء من ذلك. وكان التكسب بالشعر لا يغض من الأعشى ولا يحط من قدره، بل كان يرفعه ويعظم شأنه ويجعله مخوفًا مهيبًا، ويغري العرب بتملقه واصطناعه، وحسبك أن أبا سفيان فزع وجزع حين أحس أن الأعشى وافد على المدينة فمادح النبي، فاحتال في صده عن ذلك، وجمع إليه أشراف قريش وأنذرهم إن لم يجمعوا للأعشى مائة ناقة حمراء أن يضرم عليهم نيران العرب بمدحه النبي؛ فأشفقت قريش وجمعت مائة ناقة حمراء، وما كانت قريش تحب جمع النوق الحمر، ولا تميل إلى هذا النوع من العطاء.

وحسبك ما يُروى من أخبار المحلق الذي أخذت أمه أو عمته تلح عليه في أن يضيف الأعشى أو يهدي إليه ناقة أبيه وبرديه وزقًّا من الخمر حتى فعل، فأصبح عظيمًا ضخم الثورة.

وحسبك أن امرأة كسدت عليها بناتها، فرغبت إلى الأعشى في أن يشبب بواحدة منهن لعلها تنفق، فشبب الأعشى بإحداهن فتزوجت ثم شبب بالثانية فوجدت قرينًا، ثم شبب بالثالثة فأسرع إليها الخاطبون، وما زال يشبب بهن واحدة واحدة، ويتقاضى على ذلك جزورًا حتى زوجهن جميعًا.٥٦

كل هذا يدل على أن تكسب الأعشى بالشعر لم يغض منه ولا حط من قدره.

والرواة يقولون: إن الأعشى كان لا يمدح رجلًا إلا رفعه، يستشهدون على ذلك بقصة المحلق، وقصة هذا الرجل الكلبي الذي هجاه الأعشى فوضعه، وظفر الكلبي بالأعشى مرة فكاد يقتله لولا أن استجار بشريح بن السموءل في القصة التي قدمناها لك.٥٧
وكانوا يقولون: إنه لم يهج رجلًا إلا وضعه، يذكرون هذا الكلبي ويذكرون علقمة بن علاثة، وله مع علقمة بن علاثة هذا خبر لا يخلو من فكاهة؛ زعموا أن الأعشى مدح الأسود العنسى، ولم يكن عند الأسود نقد، فأعطاه عرضًا من الدهن والطيب والبرود وعاد الأعشى بمتاعه. فلما كان في بلاد بني عامر خافهم على نفسه فاستجار علقمة بن علاثة فأجاره، قال الأعشى: تجيرني من الإنس والجن؟ قال نعم، قال الأعشى: ومن الموت؟ قال علقمة لا، فتحول الأعشى إلى عامر بن الطفيل — وكان يُنافس علقمة — فاستجاره فأجاره عامر، قال الأعشى: تجيرني من الإنس والجن؟ قال نعم، قال الأعشى: ومن الموت؟ قال نعم. قال الأعشى: وكيف تجيرني من الموت؟ قال عامر: إن مت في جواري أرسلت ديتك إلى أهلك، قال الأعشى: الآن عرفت أنك تجيرني من الموت. واتصل بعامر وفضله على علقمة في قصيدته المشهورة:٥٨
علقم ما أنت إلى عامر
الناقض الأوتار والواتر

وهجا علقمة في قصيدة صادية يقول فيها:

تبيتون في المشتى ملاءً بطونكم
وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا

ثم أدركه مع علقمة ما أدركه مع الكلبي، فوقع في بلاده وأُتي به إلى علقمة، فاعتذر واستعطف ومدح، وعفا عنه علقمة.

والرواة يمثلون لنا الأعشى مرة فقيرًا لا يجد ما يُطعم به أصدقاءه، ومرة أخرى غنيًّا له أرض فيها كروم وعنب، وهم يحدثوننا بأنه مدح سلامة ذا فائش الحميري بلاميته التي أولها:

إن محلًّا وإن مرتحلا
وإن في السفر إذا مضوا مهلا

والتي يقول فيها:

الشعر قلدته سلامة ذا فا
ئش والشيء حيثما جعلا
فأعطاه سلامة مائة ناقة حمراء وحللًا وكرشًا مدبوغة قد ملئت عنبرًا، وقال له: إياك أن تخدع عما فيها، فورد الحيرة فباعها بثلاثمائة ناقة حمراء، فاجتمع له من مدح سلامة ذي فائش أربعمائة ناقة حمراء غير الحلل.٥٩

والرواة يمثلون الأعشى رحالة كثير التجوال، وقد مدح الناس جميعًا بشعره وهم يضيفون إليه هذين البيتين:

وطوفت للمال آفاقه
عمان فحمص فأورشلم
أتيت النجاشي في داره
وأرض النبيط وأرض العجم

وأكبر الظن أن الرجل لم يطوف هذا التطواف، ولم يأت النجاشي ولا أرض النبيط ولا أرض العجم، ولعله إن فعل شيئًا من ذلك لم يتجاوز أن مدح طائفة من أشراف العرب في نجد والحجاز وأطراف اليمن مما يليهما وفي الحيرة وبادية الشام. ولكن الرواة يزعمون أنه وصل إلى كسرى ومدحه وأخذ عطاءه، وهم يفكهون برواية هذه القصة، وهي أن كسرى سمعه يتغنى بقصيدته في المحلق وأولها:

أرقت وما هذا السهاد المؤرق
وما بي من سقم وما بي تعشق
فلما فُسر له البيت قال: إن كان قد سهر في غير سقم ولا عشق فهو لص.٦٠
ونحن إذا حاولنا أن نحصي ما بقي من مدح الأعشى فسنرى أن كثرة هذا المدح منصرفة إلى اليمنيين؛ فقد مدح الأعشى سلامة ذا فائش،٦١ ومدح أهل نجران، ومدح قيس بن معديكرب، ومدح الأشعث بن قيس الكندي، ومدح الأسود العنسى،٦٢ ومدح الأسود بن المنذر أخا النعمان، ثم مدح هوذة بن علي صاحب اليمامة وهو ربعي. ثم فخر هو في شعره بربيعة وموقفها من الفرس في ذي قار فأكثر الفخر، ولم يمدح من مضر إلا عامر بن الطفيل٦٣ وإنما مدحه ليهجو علقمة خصمه، ثم مدح علقمة حين وقع في يده، ومدح النبي.

فإذا صح أيضًا أنه مدح كسرى، فقد كان الأعشى شاعر الشعوبية حقًّا لا نريد أنه كان شاعرها في الجاهلية — فلم تكن هناك شعوبية — وإنما نريد أنه كان شاعرها في الإسلام. نريد أن هذه الكثرة من شعر الأعشى قد صنعت في الإسلام في الكوفة، وكانت مظهر التحالف العصبي بين ربيعة واليمن على مضر. وما الذي يمنع القصاص والناحلين أن يستغلوا شاعرًا كالأعشى عُرف بأنه كان كثير المدح فيطوفوا به في الآفاق وينطقوه بمدح الأشراف من حمير وكندة وغيرهما من القبائل اليمانية، ثم بمدح أشراف ربيعة، وفي هذا كله مناهضة لجاهلية مضر، بعد أن عجزت ربيعة اليمن عن مناهضة مضر في الإسلام وفيها النبوة والخلافة؟

نعم! مدح الأعشى عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة وهما مضريان، ولكني قد ذكرت لك الظروف التي كان فيها هذا المدح. وإن شئت أن أحدثك برأيي في صراحة وصدق فإني أشك شكًّا شديدًا في أن يكون الأعشى قد مدح عامرًا أو مدح علقمة، وإنما كانت المنافرة بين هذين الرجلين، واشتدت العصبية حولهما في الإسلام لا في الجاهلية، فنحلت هذه العصبية من الشعر في مدح الرجلين وهجائهما شيئًا كثيرًا، حُمل بعضه على الأعشى وبعضه على لبيد وبعضه على الحطيئة وبعضه على شعراء آخرين. ويكفي أن تقرأ قصة هذه المنافرة في «الأغاني» لترى أنها قصة قد وُضعت ورُصت وزُينت على نحو ما كانت ترصَّع القصص وتزين بالسجع والشعر الغريب، ولا سيما حين تتصل هذه القصص بالأعراب. أنا إذن لا أطمئن إلى مدح الأعشى لهذين المضريين، ستقول: ولكنه مدح المحلق الكلابي فرفعه وهو مضري! وما رأيك في أني لست أكثر اطمئنانًا إلى قصة المحلق مني إلى قصة عامر وعلقمة، وإنما أخشى أن يكون مدح الأعشى كله أو ما بقي لنا من مدح من الأعشى قد نحل وصنع وتنافست فيه القيسية واليمنية والربعية، وكانت قصيدة المحلق هذه مظهرًا من مظاهر هذا التنافس. ستقول: ولكنه مدح النبي والنبي مضري! وما رأيك في أني لا أشك في أن الأعشى لم يمدح النبي، ولا أتردد في القطع بأن هذه الدالية التي تُروى للأعشى في مدح النبي منحولة، نحلها قاصٌّ ضعيف الحظ من الشعر رديء النظم، مهلهل اللفظ قليل المهارة في النحل. ويكفي أن تقرأ هذه القصيدة لترى أنها أسخف ما يُضاف إلى الأعشى، وأنها، ولا سيما المدح فيها، إلى المتون أقرب منها إلى الشعر الجيد.

وانظر بعض هذه القصيدة:

ألا أيهذا السائلي: أين يممت
فإن لها في آل يثرب موعدا؟
فإن تسألي عني فيا رب سائل
حفي عن الأعشى به حيث أصعدا
أجدت برجليها النجاء وراجعت
يداها خناقًا لينًا غير أجردا
وفيها إذا ما هجَّرت عجرفية
إذا خلت حرباء الظهيرة أصيدا
وأما إذا ما أدلجت فترى لها
رقيبين جديا ما يغيب ومزفدا
فآليت لا أرثي لها من كلالة
ولا من حفًى حتى تزور محمدا
نبي يرى ما لا ترون وذكره
أغار لعمري في البلاد وأنجدا
متى ما تناخي عند باب ابن هاشم
تراحي وتلقي من فواضله يدا
له صدقات ما تغب ونائل
وليس عطاء اليوم مانعه غدا
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى
ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على ألا تكون كمثله
فترصد للأمر الذي كان أرصدا
فإياك والميتات لا تقربنها
ولا تأخذن سهمًا حديدًا لتفصدا
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه
ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا
ولا تقربن جارة إن سرها
عليك حرام فانكحن أو تأبدا
وذا الرحم القربى فلا تقطعنه
لعاقبة ولا الأسير المقيدا
وسبح على حين العشيات والضحى
ولا تحمد الشيطان والله فاحمدا
ولا تسخرن من بائس ذي ضرارة
ولا تحسبن المرء يومًا مخلدا٦٤

أنا إذن شديد الشك في كل ما يُضاف إلى الأعشى من المدح، أتهمه بأنه مظهر من مظاهر العصبية في الإسلام، فإذا لم يكن بد من التماس شخصية للأعشى فلست ألتمسها في هذا المدح، وإنما ألتمسها في غيره من الفنون التي تصرف فيها الأعشى، وأمر هذه الفنون مختلط أيضًا.

فللأعشى غزل، وله وصف للخمر، وله وصف للصيد، ولكني أجد في غزل الأعشى لينًا شديدًا أعرفه في شعر ربيعة، وأعلله بالتكلف والنحل. وما رأيك فيما يُروى عن الشعبي من أنه كان يقول: إن الأعشى أغزل الناس في بيت وأخنثهم في بيت وأشجعهم في بيت؛ فأما بيت الغزل فقوله:

غراء فرعاء مصقول عوارضها
تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل

وأما أخنث بيت فقوله:

قالت هريرة لما جئت زائرها:
ويلي عليك وويلي منك يا رجل!

وأما أشجع بيت فقوله:

قالوا: الطراد! فقلنا: تلك عادتنا
أو تنزلون فإنا معشر نُزل٦٥

ولست أدري أحق أن الغزل والخنوثة والشجاعة قد اجتمعت في هذه الأبيات للأعشى كما لم تجتمع لغيره، ولكني أعرف أن فيها لينًا شديدًا يقربها من هذا الشعر الربعي الذي أشرت إليه غير مرة، وليس مطلع هذه القصيدة نفسها بأقل لينًا من هذه الأبيات:

ودِّع هريرة إن الركب مرتحل
وهل تطيق وداعًا أيها الرجل؟

وفي هذه القصيدة نفسها أبيات لا تشك في أنها منحولة قد قصد بها إلى العبث والدعابة، وهي:

عُلِّقتها عرضًا وعلقت رجلًا
غيري وعلِّق أخرى غيرها الرجل
وعلقته فتاة ما يحاولها
ومن بني عمها ميت بها وَهِل
وعلِّقتني أُخَيْرَى ما تلائمني
فأجمع الحب حب كله تبل
فكلنا مغرم يهذي بصاحبه
ناء ودانٍ ومخبول ومختبل

على أن في هذه القصيدة شعرًا جيدًا لا يخلو من متانة ورصانة، وتجد مثل هذا الشعر الجيد في القصيدة الأخرى اللامية:

ما بكاء الكبير بالأطلال
وسؤالي وما ترد سؤالي!

ولكن أمر هذه القصيدة لا يخلو من عجب؛ فقد بدأها الشاعر بالغزل وانتقل منه إلى الوصف ثم إلى المدح، مدح الأسود بن المنذر، حتى إذا قضى من هذا المدح وطره عاد إلى الغزل ثم إلى وصف الصيد فختم به القصيدة، والمألوف أن يتخلص الشاعر إلى المدح فيمضي فيه حتى ينتهي من القصيدة، فأما العدول عنه إلى الغزل والوصف مرة أخرى فغريب! وأكبر الظن أن هذا المدح قد أُدخل في هذه القصيدة إدخالًا ولم يكن منها ولا سيما وأنت تقرأ هذا المدح فتحس فيه روحًا عباسيًّا متأخرًا.

ولولا أن هذا السفر لا يتسع للإطالة لعرضنا عليك قصيدتين أو قصائد من شعر الأعشى، عرضًا فيه نقد وتحليل والتماس لشخصية الشاعر إن كانت له شخصية ظاهرة.

وخلاصة رأينا في الأعشى أنه شاعر عاش في آخر العصر الجاهلي، وتصرف في فنون من الشعر أظهرها الغزل والخمر والوصف، ومدح طائفة من أشراف العرب، ولكن العصبية استغلت هذا المدح، ولعله كان قد ضاع فأضافت إليه مكانه مدحًا كثيرًا لليمنيين والربعيين ومدحًا قليلًا للمضريين. ولا شك في أن بين هذا الشعر الذي يُضاف إلى الأعشى مقطوعات وأبياتًا يمكن أن يكون الأعشى قد قالها حقًّا، ولكن تمييز هذه الأبيات والمقطوعات مما يُحيط بها من المنحول المتكلف ليس بالشيء اليسير. على أن هذا المنحول الذي يُضاف إلى الأعشى مختلف أشد الاختلاف، ففيه الجيد المتقن وفيه الضعيف السخيف، ولعلك لم تنسَ ما قال ابن سلام من أن من اليسير تمييز ما ينحله الرواة والمتكلفون، في حين يكون العسر كل العسر في تمييز ما ينحله العرب أنفسهم، وعندنا أنك تجد في شعر الأعشى خاصة نماذج مختلفة لهذا الشعر الذي تكلفه العرب والذي تكلفه الرواة المتأخرون.

وهناك شعراء آخرون من ربيعة كنا نستطيع أن نقف عندهم ونلم بشعرهم إلمامًا، وننتهي فيهم إلى مثل ما انتهينا إليه في أمر هؤلاء الشعراء الذين درسناهم في هذا البحث القصير، ولكنا نكتفي بما قدمنا؛ فقد ضربنا المثل، ويُخيل إلينا أنَّا قد وضحنا وبينَّا وأزلنا الحجاب عن كل ما نريد أن نقوله في موقفنا بإزاء هذا النوع من الشعر الجاهلي.

ونحن لم نقصد في هذا الكتاب إلى أن ندرس الشعراء ولا إلى أن نحلل شعرهم، وإنما قصدنا إلى أن نبسط رأينا في طريقة درس هذا الشعر الجاهلي وهؤلاء الشعراء الجاهليين، وقد بلغنا من ذلك ما كنا نريد. فأما تتبع الشعراء شاعرًا شاعرًا، ودرس شعرهم قصيدة قصيدة ومقطوعة مقطوعة، فقد نفرغ لبعضه في غير هذا الكتاب، ومهما نفعل فلن نستطيع أن ننهض به وحدنا في عام أو أعوام، بل لا بد من أن ينهض به معنا الذين يحبون الحق فيسعون إليه ويطلبونه، على أنا نريد أن نختم البحث بملاحظتين:
  • الأولى: أن هذا الدرس الذي قدمناه ينتهي بنا إلى نتيجة إلا تكن تاريخية صحيحة فهي فرض يحسن أن يقف عنده الباحثون ويجتهدوا في تحقيقه؛ وهي أن أقدم الشعراء فيما كانت تزعم العرب وفيما كان يزعم الرواة إنما هم يمنيون أو ربعيون، وسواء أكانوا من أولئك أو من هؤلاء فما يُروى من أخبارهم يدل على أن قبائلهم كانت تعيش في نجد والعراق والجزيرة؛ أي في هذه البلاد التي تتصل بالفرس اتصالًا ظاهرًا، والتي كان يهاجر إليها العرب من عدنان وقحطان على السواء.

    وإذن فنحن نرجح أن هذه الحركات التي دفعت أهل اليمن من ناحية وأهل الحجاز من ناحية أخرى إلى العراق والجزيرة ونجد، في عصور مختلفة — ولكنها لا تكاد تتجاوز القرن الرابع للمسيح — قد أحدثت نهضة عقلية وأدبية، لما كان من اختلاط الجنسين العربيين فيما بينهما ومن اتصالهما بالفرس.

    ومن هذه النهضة نشأ الشعر، أو قل — إذا كنت تريد التحقيق: ظهر الشعر وقوي وأصبح فنًّا أدبيًّا، وقد ذهب هذا الشعر ولم يبقَ لنا منه شيء إلا الذكرى، ولكن لم يكد يأتي القرن السادس للمسيح حتى تجاوزت هذه النهضة أقطار العراق والجزيرة ونجد، وتغلغلت في أعماق البلاد العربية نحو الحجاز فمست أهله، ومن هنا ظهر الشعر في مضر ومن إليهم من أهل البلاد العربية الشمالية، فالشعر — كما ترى — يمني قوي حين اتصلت القحطانية بربيعة، ولكنا لم نعرفه ولم نصل إليه إلا حين تغلغل في البلاد العربية وأخذته مضر عن ربيعة. ولعل هذا النحو من الفهم أصدق تفسير لنظرية تنقل الشعر في القبائل، وهي النظرية التي ناقشناها غير مرة، وأبينا أن نأخذها كما كان يأخذها القدماء. ومن هنا نستطيع أن نقول: إنا تعمدنا الفصل بين شعر اليمن وربيعة من ناحية، وشعر مضر من ناحية أخرى، فلنا في شعر مضر رأي غير رأينا في شعر اليمن وربيعة؛ لأننا نستطيع أن نؤرخه ونحدد أوليته، ولأننا نستطيع أن نقبل بعض قديمه دون أن تحول بيننا وبين ذلك عقبة لغوية عنيفة.

    وسترى أن الشعراء الجاهليين من مضر قد أدركوا الإسلام كلهم أو أكثرهم فليس غريبًا أن يصح من شعرهم شيء كثير.

  • الثانية: أن الذين يقرءون هذا البحث قد يفرغون من قراءته وفي نفوسهم شيء من الأثر لهذا الشك الأدبي الذي نردده في كل مكان من الكتاب، وقد يشعرون مخطئين أو مصيبين بأننا نتعمد الهدم تعمدًا، ونقصد إليه في غير رفق ولا لين، وقد يتخوفون عواقب هذا الهدم على الأدب العربي عامة، وعلى القرآن الذي يتصل به هذا الأدب خاصة.

    فلهؤلاء نقول: إن هذا الشك لا ضرر منه ولا بأس به، لا لأن الشك مصدر اليقين ليس غير؛ بل لأنه قد آن للأدب العربي وعلومه أن تقوم على أساس متين، وخير للأدب العربي أن يزال منه في غير رفق ولا لين ما لا يستطيع الحياة ولا يصلح لها، من أن يبقى مثقلًا بهذه الأثقال التي تضر أكثر مما تنفع، وتعوق عن الحركة أكثر مما تُمكن منها.

    ولسنا نخشى على القرآن من هذا النوع من الشك والهدم بأسًا؛ فنحن نُخالف أشد الخلاف أولئك الذين يعتقدون أن القرآن في حاجة إلى الشعر الجاهلي لتصح عربيته وتثبت ألفاظه، نخالفهم في ذلك أشد الخلاف؛ لأن أحدًا لم يُنكر عربية النبي فيما نعرف، ولأن أحدًا لم يُنكر أن العرب قد فهموا القرآن حين سمعوه تتلى عليهم آياته، وإذا لم يُنكر أحد أن النبي عربي، وإذا لم يُنكر أحد أن العرب قد فهموا القرآن حين سمعوه، فأي خوف على عربية القرآن من أن يبطل هذا الشعر الجاهلي، أو هذا الشعر الذي يُضاف إلى الجاهليين؟ وليس بين أنصار القديم أنفسهم من يستطيع أن ينازع في أن المسلمين قد احتاطوا أشد الاحتياط في رواية القرآن وكتابته ودرسه وتفسيره، حتى أصبح أصدق نص عربي قديم يمكن الاعتماد عليه في تدوين اللغة العربية وفهمها. وهم لم يحفلوا برواية الشعر ولم يحتاطوا فيها، بل انصرفوا عنها في بعض الأوقات طائعين أو كارهين، ولم يراجعوها إلا بعد فترة من الدهر وبعد أن عبث النسيان والزمان بما قد كان حفظ من شعر العرب في غير كتابة ولا تدوين، فأيهما أشد إكبارًا للقرآن وإجلالًا له وتقديسًا لنصوصه وإيمانًا بعربيته: ذلك الذي يراه وحده النص الصحيح الصادق الذي يُستدل بعربيته القاطعة على تلك العربية المشكوك فيها، أم ذلك الذي يستدل على عربية القرآن بشعر كان يرويه وينحله في غير احتياط ولا تحفظ قوم منهم الكذاب ومنهم الفاسق ومنهم المأجور ومنهم صاحب اللهو والعبث؟

    أما نحن فمطمئنون إلى مذهبنا، مقتنعون بأن الشعر الجاهلي أو كثرة هذا الشعر الجاهلي لا تمثل شيئًا ولا تدل على شيء إلا ما قدمنا من العبث والكذب والنحل، وأن الوجه — إذا لم يكن بد من الاستدلال بنص على نص — إنما هو الاستدلال بنصوص القرآن على عربية هذا الشعر لا بهذا الشعر على عربية القرآن.

١  يروي السيوطي في كتابه «الأوج في خبر عوج» — نسخة خطية بدار الكتب رقم ١٢٣ مجموعات ص٤٢ — أن بعض المفسرين قال: إن عنقود العنب كان لا يحمله إلا أربعة رجال ينقلونه على لوح من الخشب بينهم، وإن الرمانة تسع في جوفها خمسة أو أربعة رجال. ويروي القرطبي في تفسيره أن حبة القمح كانت ككلى البقرة.
٢  راجع كتاب «عرائس المجالس» للثعلبي ص٤٦ طبع بولاق. وراجع هذا أيضًا في كتاب «الأوج في خبر عوج» للسيوطي.
٣  عقد المبرد فصلًا في تكاذيب الأعراب فراجعه في كتاب «الكامل» ص٣٤٧.
٤  راجع في هذا كتاب «المزهر» للسيوطي جزء ثانٍ ص٢٤٨ وما بعدها، وراجع أيضًا في ذلك فصلًا لأبي هلال العسكري في كتابه «الصناعتين» جزء ٢ صفحة ٥١ طبع الآستانة سنة ١٣٢٠.
٥  «الأغاني» ج١٣ ص١١٠، وقد أوردها ابن كثير في «تاريخه» جزء ثانٍ صفحة ١٨٥ يضيفها إلى عمرو بن الحارث بن مضاض، وفي روايته اختلاف كثير عن رواية صاحب «الأغاني»، وكذلك أوردها ابن خلدون جزء ثانٍ صفحة ٣٢٢.
٦  «الأغاني»، جزء ٢٠ ص٧.
٧  راجع الخلاف على ولاية البيت في ابن خلدون جزء ثان صفحة ٣٣٢ وما بعدها، وفي ابن كثير جزء ثان صفحة ٢٠٥ وما بعدها.
٨  راجع ابن كثير جزء ثان صفحة ١٩٢.
٩  أولها:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا
ويقول أبو عبيدة: إن الذي قاله ثلاثة عشر بيتًا والباقي منحول وَلَّدَهُ الناس عليه.
١٠  راجع هذه القصيدة في «المفضليات» للضبي و«الأغاني» جزء ١٥ صفحة ٧٥.
١١  «الأغاني» جزء ١٥ صفحة ٧٨.
١٢  «الأغاني» جزء ١٥ صفحة ٩٧.
١٣  «الأغاني» جزء ١١ صفحة ٦٥.
١٤  «الأغاني» جزء ٥ صفحة ١٥٣.
١٥  راجع «تاريخ ابن كثير» جزء ثالث صفحة ١٨٠.
١٦  ابن خلدون جزء ثان صفحة ٦٧ إلى ٦٩، و«تاريخ الطبري» جزء ٣ صفحة ٢٧٥ وما بعدها طبع مصر، و«تاريخ ابن الأثير» جزء ٢ صفحة ١٦٠ طبع بولاق.
١٧  «أسد الغابة» جزء ١ صفحة ٩٨.
١٨  «تهذيب التهذيب» جزء ١ صفحة ٩٨.
١٩  المصدر نفسه.
٢٠  «الأغاني» ج١٦ صفحة ٢ وما بعدها.
٢١  راجع «الكامل» لابن الأثير ج٤ صفحة ١٩١-١٩٢، ٢٠٦-٢٠٧، و«الطبري» جزء ٨ صفحة ٣٩-٤٠.
٢٢  «الأغاني» ج٥ صفحة ١٥٣.
٢٣  راجع «الكامل» لابن الأثير ج١ صفحة ١٨٥.
٢٤  «الأغاني» ج٨ صفحة ٧٠.
٢٥  «الأغاني» ج٨ ص٧٩، وراجع أيضًا ترجمة الأعشى في «طبقات الشعراء» لابن قتيبة صفحة ١٣١.
٢٦  راجع «الكامل» لابن الأثير جزء أول صفحة ١٨٧ وما بعدها.
٢٧  «العقد الثمين» ٢٠٤.
٢٨  «العقد الثمين» ٢٠٥.
٢٩  «الأغاني» ج١٩ صفحة ٢٦ وما بعدها.
٣٠  انظر تحكيم أم جندب في «الأغاني» ج٧ ص١٢٨.
٣١  راجع مقدمة «جمهرة أشعار العرب» للقرشي.
٣٢  صفحة ١.
٣٣  صفحة ٣١.
٣٤  «الأغاني» ج١٩ صفحة ٥٧.
٣٥  «الأغاني» ج٧ ص٨٥ ومختارات ابن الشجري صفحة ٩٠.
٣٦  «الأغاني» جزء ١٦ صفحة ١٥٨.
٣٧  «الأغاني» ج١٦ صفحة ١٥٨.
٣٨  ابن سلام صفحة ٣٧.
٣٩  «الأغاني» ج١٦ ص١٩٤.
٤٠  «الأغاني» ج١٦ ص١٥٨.
٤١  «الأغاني» ج١٦ ص١٦٥.
٤٢  المصدر نفسه.
٤٣  صفحة ١٢.
٤٤  المصدر نفسه.
٤٥  «الأغاني» ج٤ ص١٤٧.
٤٦  «الأغاني» ج٤ ص١٥٠.
٤٧  «الأغاني» ج٩ ص١٥٧.
٤٨  «الأغاني» ج٩ ص١٧٦.
٤٩  «الأغاني» ج٩ ص١٧٦.
٥٠  «الأغاني» ج٩ ص١٧١.
٥١  «طبقات ابن سلام» ص٣٦، و«الأغاني» ج٢١ ص١٢١.
٥٢  «الأغاني» ج٢١ ص١٢٥ وما بعدها.
٥٣  «الأغاني» ج٢١ ص١٢٨.
٥٤  ابن سلام ص٣٠.
٥٥  «طبقات ابن سلام» صفحة ١٦.
٥٦  «الأغاني» ج٨ صفحة ٧٩.
٥٧  المصدر نفسه.
٥٨  «الأغاني» ج٨ ص٨٠.
٥٩  «الأغاني» جزء ٨ صفحة ٨٢.
٦٠  «طبقات ابن قتيبة» طبع أوروبا ص١٣٧.
٦١  «الأغاني» ج٨ ص٨٢.
٦٢  «الأغاني» ج٨ ص٨٠.
٦٣  «الأغاني» ج١٥ ص٥٥.
٦٤  «الأغاني» ج٨ صفحة ٨٢.
٦٥  «الأغاني» ج٨ صفحة ٧٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤