نوع نادر من الأشباح

١

كان البارونُ القويُّ كالبسبراتن يسكنُ قلعةَ واينستاين العتيقةَ الواقعةَ في وادي الراين الأعلى في خريف عام ١٣٥٢، كما يعرفُ الجميع، واشتُهر في تلك النواحي بلقبِ شيخ العشرين قِنِّينَة، وهو لقبٌ استمدَّه مما ذاعَ عنه من قُدْرته على احتِساء تلك الكميَّةِ من الخمر يوميًّا. كان للبارون كثيرٌ من المَيزات الرائعة الأخرى؛ فقد كان رجُلًا نبيلًا ودُودًا مُخلِصًا حريصًا على المصلحة العامَّة وخدمة الآخرين، كما أنه سرقَ وأحرقَ ونهبَ، وساقَ مواشي جيرانه وزوجاتهم وأخواتهم إلى أعلى جوانبِ قلعة واينستاين الشاهقة. وقد فعل ذلك برقَّةٍ نابِعةٍ من القلب أكسبتْه احترامًا صادقًا بين مُعاصريه.

ذات ليلةٍ كان البارون الصالِح يَجلسُ مُنفردًا في القاعةِ الكبرى بقلعة واينستاين، وكان في حالةٍ من السعادة الغامرة؛ فقد تعشَّى جيِّدًا كعادته. واصطفَّ فوق المِنْضدة أمامه عِشرون زجاجةً فارغةً في طابور، وكأنَّها قِطارٌ من ذِكريات الماضي القريب المُحبَّبةِ إلى النَّفس. لكنَّ البارون كان لديه سببٌ آخَر للرِّضا عن نفسه وعن العالم؛ إذ أضاءَ الإحساسُ بأنه قد صار أبًا في ذلك اليوم ملامحَه بتورُّدٍ لطيفٍ لا تستطيع الخمرُ بِمُفردها أن تضفيَه على وجهه.

وصاح البارون ساعتَها، في نَبرةٍ جعلتِ العشرين زجاجةً الفارغةَ تَرِنُّ وكأنها كئوسٌ موسيقيَّة، بينما أطلق عشرون طقْمًا من أطقُم الدُّروع الخاصة بأجداده والمعلَّقة حول الجُدران جهيرًا معدِنيًّا عميقًا مُتمِّمًا نغمةَ الكئوس: «ماذا؟! يا ويلتاه! بالخارج! أهلًا أيها القهرمان!» فأسرع القهرمانُ للمُثول بين يديه.

قال شيخ العشرين قِنِّينة: «أيها القهرمان، أتقول إن البارونة في حالةٍ جيدة؟»

فأجاب القهرمان: «لقد بلغَني أن صاحبةَ العِصمةِ على خيرِ ما يُرام.»

فاستغرق البارونُ في تفكيرٍ صامتٍ بُرهةً، متأملًا الزجاجات الفارغةَ بعينَيْن شارِدتَيْن، وأردف: «وتقول أيضًا إنهم كانوا …»

فقال القهرمان بحزم: «أربعة، لقد أُبلغت خبرًا أكيدًا أنهم أربعة، وكلُّهم ذكور.»

أهوى البارون على المِنْضدةِ بقبضةٍ قويَّةٍ، وصاح عاليًا بحماسةٍ تَدُلُّ على شعورٍ صادقٍ بالفخْر: «إن ذلك، إن ذلك — في هذه الأيام التي حظِيَتْ فيها مبادئُ مالثوس اللعينةُ بالقَبول بين الطبقات العُليا — هو ما أُسمِّيه جَديرًا بالإكبار … أُقسم بالقديس كريستوفر إنه لَجديرٌ بالإكبار، ولا فخر!» ثم راحت عيناه تتأمَّلان الزجاجات الفارغة ثانيةً، وأضاف، بعد لحظةِ صمتٍ قصيرة: «أظن، أيها القهرمان، أنه يُمكِننا في ظلِّ هذه الظروف أن نُغامِر ﺑ…»

فبادَر القهرمان مُجيبًا: «لن يكون هناك أنسبُ من هذا. سأُحضر قِنِّينةً أخرى في الحال، ومن أفضل الأنواع. ما رأي سُموِّك في زجاجةِ خمرٍ مُعتَّقةٍ من سنة ١٣٠٤، سنة المُذَنَّب؟»

فقال البارون مُتردِّدًا، وهو يُداعِب شارِبَه: «ولكن … لقد فهمتُ من كلامك أنهم كانوا أربعة … أربعة ذكور. أليس كذلك؟»

فأجاب القهرمانُ، وقد التقطَ الفكرةَ بحضورِ ذهنِ خادمٍ حسَنِ التَّدريب: «هذا صحيحٌ يا مولاي. سوف أحضِر أربعَ قِنانٍ أخرى.»

عندما وضع الخادمُ المُتميِّزُ أربعَ زجاجاتٍ جديدة على المِنْضدة في مُتناوَل يدِ البارون، قال بعفويَّةٍ: «ثَمَّة شيخٌ صالحٌ عابرُ سبيلٍ في ساحة القلعة يا مولاي، يبحثُ عن مأوًى وعشاء. إنه من بلادِ ما وراء جبال الألب، وهو مُسافرٌ باتِّجاه مدينة كولون.»

قال البارون، في غيرِ اكتراث: «أظنُّكم فتَّشتُموه جيدًا من أجلِ الغنائم.»

فأجابه الخادم: «لقد مرَّ الرجُلُ هذا الصباحَ عبْرَ منطقةِ نفوذِ ابن عمِّكم الكريمِ الأصل، الكونت كونراد، كونت شيوينكينفيلس. وأظنُّ أنَّ من اليسيرِ على فخامتِك أن تُدرِكَ أنه لمْ يَعُد لديه الآن أيُّ شيءٍ إلا نزْر يَسيرٌ مِن القِطَع النقدية النُّحاسيَّة الزهيدة.»

صاح البارون، بمَحبَّة: «ابنُ عمِّي النَّبيل كونراد! إنها لأعظم بَلِيَّةٍ في حياتي أنَّني أعيش بجانب شيوينكينفيلس. لكنكم أرحتُم الرجُلَ الصالحَ من عبء قِطَعِه النُّحاسية. أليس كذلك؟»

قال القهرمان مُبتسِمًا ابتسامةَ اعتذار: «لمْ تكُن تَستحقُّ أن نستوليَ عليها يا سيدي.»

فزمْجرَ البارون قائلًا: «يا للعجب! إنك الآن تُثير غضبي. قِطَعٌ معدِنية، ولا تستحق أن تستولوا عليها! ربما لم يكن الأمر من أجل قِيمتها الفعليَّة، وإنما كان يَجدرُ بكم أن تُجرِّدوه منها إعمالًا للمبدأ أيها الأحمق.»

نكَّس القهرمانُ رأسه، وأخذ يُتمتمُ بما يُعلِّل موقفَه، وراح في الوقت نفسه يفتحُ الزجاجةَ الحادية والعشرين.

أردفَ البارون بنبرةٍ أقلَّ عُنفًا، وإن كانت لا تزال صارمة: «إياكَ، إن كنتَ تُقدِّر مكانتي وحياتَك التافهة، أن تسمحَ لنفسك بالانحرافِ قيْدَ شَعرةٍ عن المبدأ بسبب ما هو ظاهر من تفاهةِ الغنيمة. إنَّ العِنايةَ بالتفاصيلِ النابِعةَ من يَقَظةِ الضميرِ لَهي أحد العناصرِ الجوهريَّةِ لازدهارِ أيِّ عمل … في الحقيقة، إنها تُشكِّل الأساسَ للاقتصاد السياسي كلِّه.»

صدر صوت نَزْع السِّدادة عن الزجاجة الثانية والعشرين، كأنما يؤكِّد هذا التصريح.

مضى البارون في حديثه، وقد هدأ بعضَ الشيء: «مع ذلك، فليس هذا باليوم الذي أستطيع أن أُثيرَ فيه ضجَّةً كبيرةً على أمرٍ تافه. أربعة، وكلهم ذكور! إنه لأحدُ أيام مَجد واينستاين. افتحِ القِنِّينتَيْن المُتبقِّيتَيْن أيها القهرمان، وأدخلْ عليَّ الغريبَ الصالح؛ فأنا أتوقُ لتسليةِ نفسي به.»

٢

بدا الرجُل الغريب، عند رؤيته من خلال زُجاجات البارون التي نيَّفتْ على العشرين، رجُلًا طاعِنًا في السِّن، يُناهِز عمرُه الثمانين على أقلِّ تقدير. كان يرتدي مِعطفًا رماديًّا رثًّا ويحمِل عصا حُجَّاج معقوفة، وكانت هيئته هيئةَ شيخٍ مُسنٍّ غيرِ مُؤذ. يبدو بمظهرٍ مُبتذلٍ جدًّا بحيث يصعُب أن يُثيرَ اهتمامَ أحد، ولو بِضعَ دقائق‎. ندِم البارونُ على استدعائه، ولكن لكونه إنسانًا وافرَ الأدب، عندما لا يكون في ثورَة غضَبه، فقد أمرَ ضيفَه بالجلوس وملأ له كأسًا من خمرِ سَنةِ المُذَنَّب.

بعد انحناءةٍ كاملةٍ، لم تتخلَّلها ذرَّةُ خنوع، تناولَ الحاجُّ الكأس وتذوَّق الخمر وكأنه يُقيِّمها. ورفع الكأس عالِيًا في مُواجهة الضَّوء بيدٍ مُرتعشةٍ، ثم تذوَّقَها ثانيةً. ويبدو أن التجرِبة منحتْه إحساسًا عظيمًا بالرِّضا؛ فراحَ يمسَح بيَدِه على لِحيته البيضاء الطويلة.

قال البارون، وهو يَغمِز بعينه ناحيةَ اللوحة المرسومة بالحجم الطبيعي لأحد أجداده: «يبدو أنك خبيرٌ بالخمور. لقد أرضَتْ هذه ذوقَك. أليس كذلك؟»

فأجاب الحاجُّ: «إلى أبعد الحدود، بيْدَ أن قِوامَها مُتغيِّرٌ قليلًا من طول مُدَّة التَّخزين. ومن عَبَقِها ودرجةِ لونِها، أستطيع القولَ إنها مصنوعةٌ من محصولِ عِنب سنة ١٣٠٤، الذي نما على المُنحدَر الوَعر في جنوب الجنوب الشرقي للقلعة، في مُفترَق الطريقَيْن المؤدِّيَيْن إلى أسفل التل. إن أشعَّة الشمس المُنعكسةَ من البُرج تُعطي مَيزةً خاصَّةً لنموِّ النبات في هذه البُقعة بالتحديد، لكنَّ خدَمَك الأوغادَ خزَّنوا الزجاجات في الجانب غير المُناسِب من القَبْو. كان ينبغي أن تُوضع في الجانب الجافِّ منه، قُرب المكان الذي احتَجزَ فيه جدُّك الجَسورُ سيجيسموند نبيلُ واينستاين، الملقَّبُ بأشعرِ اليدين، زوجتَه الثالثةَ استعدادًا للزَّواج من الرابعة.»

رمقَ البارون ضيفَه بنظرة ذُهول، وقال: «يا للعجب! لكن … يبدو أنك على دِرايةٍ بمَداخِل هذا المكان ومَخارِجه.»

ردَّ الرجُلُ الغريبُ، وهو يَرتشِفُ شرابَه بهدوء قائلًا: «لئن كنتُ كذلك، فما تجاوزَ هذا حُدودَ الأمور الطبيعية؛ فلقد عِشتُ أكثر من ستِّين عامًا تحت سقف هذا المكان، وأعرِفُ كلَّ ثُقبٍ فيه؛ فقد كنتُ أنا نفسي — يومًا ما — أحدَ نُبَلاء واينستاين.»

فأشار البارون إلى صدره بإشارةِ الصليب، وسحبَ كُرسيَّه بعيدًا عن الزجاجات والغريب قليلًا.

فقال الحاجُّ، ضاحكًا: «أوه، يا إلهي! هدِّئ رَوعَك؛ فأنا أعرِفُ أن كلَّ قلعةٍ جيدةِ التنظيمِ بها شبَحٌ من الأسلاف، ولكني إنسانٌ من لحمٍ ودمٍ حقيقيَّين. لقد ظللتُ لوردَ واينستاين حتى سافرتُ منذ اثنتي عشرة سنة لدراسةِ علومِ ما وراء الطبيعة في الجامعات العربية، فأقصاني كَتَبةُ العدلِ المَلاعينُ عن التَّرِكة. كيف لهم أن يفعلوا هذا؟! إنني أعرف هذه القاعةَ منذ الطفولة؛ ففي تلك الجِهة هنالك تُوجَدُ المِدْفأة التي اعتدتُ أن أُدفئ عندها أصابعَ قدَمي وأنا طفل. وها هي هناك الدِّرعُ ذاتها التي كنتُ أزحف داخِلَها وأنا صبيٌّ في السادسة وأختبئ حتى كادت والدتي الراحِلة — نيَّحَها الرَّب — تكاد تموت مِن الخوف عليَّ. يبدو لي الأمرُ قريبًا وكأنما حدثَ أمس فقط. وها هو ذا مُعلَّقٌ على الحائط ذلك السَّيفُ الصارمُ المُزدوَجُ المِقْبض، سيفُ جَدِّنا فرانز، المُلقَّب بذي الأُذُن الواحدة، والذي جزَزْتُ به شارِبَ والدي الثَّمِل وهو جالسٌ مُشوَّشَ الذِّهن بينما يتجرَّع زجاجتَه العشرين. وها هي ذي الخوذةُ نفسُها … لكنْ لعلَّ هذه الذكريات قد أشعرتْك بالضَّجر. أرجو أن تَغفِر ثرثرةَ رجُلٍ عجوزٍ عاد لزيارةِ مَرتعِ طفولتهِ وشبابه.»

ضغط البارونُ بِيَده على جبهته وقال: «إنَّني شخصيًّا أعيش في هذه القلعة منذ نِصفِ قرنٍ من الزمان، ولديَّ معرفةٌ بالقدْرِ المقبولِ بتاريخِ أسلافي القريبين. لكنني لا أستطيعُ القولَ إنَّني حظيتُ بشرَفِ مَعرفتِك من قبلُ مُطلقًا. ومع ذلك، اسمح لي أن أصُبَّ لك كأسًا.»

قال الحاجُّ، وهو يمدُّ يدَه بالكأس: «إنها خمرٌ جيِّدة، إلَّا أنها قد تكون خمرَ سنة ١٣٩٢، عندما كان العِنب …»

فحملَقَ البارونُ في ضيفه، وقال هازئًا: «إن عِنب سنة ١٣٩٢ يحتاج إلى أربعين سنةً قبلَ أن يَنضَج. إنك هَرِمٌ، يا صديقي، وأفكارُك مُشوَّشة.»

فردَّ الحاجُّ بهدوء: «معذِرةً سيِّدي الكريم، إن خمر سنة ١٣٩٢ مُخزَّنة منذ أربعين سنة. إنك لا تُجيد تذكُّر التواريخ.»

سأله البارون: «في أي سنةٍ نحن؟»

«بحسب التقويم، وحساب النجوم، وما سلفَ من الزمن، وبحسب إجماع الناس، إنها سنةُ ١٤٣٣ الميلادية.»

صاح البارون بقوَّة: «قَسمًا برُوحي وأمَلي في الخلاص إنها لسنة ١٣٥٢ بعد ميلاد المسيح.»

عقَّبَ الضيفُ المَهيبُ قائلًا: «من الواضِح أن ثَمَّة سوءَ فهْمٍ في مَوضعٍ ما. لقد وُلدتُ هنا سنةَ ١٣٥٢، سنة الغزوِ التُركيِّ لأوروبا.»

ردَّ شيخُ العشرين قِنِّينة، وقد استعادَ سيطرَته على نفسه: «حمدًا للرب، ما من أتراكٍ غزَوا أوروبا. فإما أنك ساحرٌ أو دعِيٌّ. وعلى كلِّ حالٍ سآمرُ بسَحبِك وتمزيقك إرْبًا إرْبًا حالَما نُنهي هذه الزجاجة. من فضلك أكملْ ذكرياتك المُثيرة، ولا تستَبْقِ شيئًا مِن الخمر.»

ردَّ الحاجُّ بروِيَّة: «أنا لا أُمارِسُ السِّحرَ مُطلقًا. وبالنِّسبة لكوني دَعِيًّا، فلْتفحصْ وجهي جيدًا. ألا تُميِّزُ فيه أنفَ العائلةِ الغليظَ القصيرَ الشديدَ الحُمرة؟ وماذا تقول في التَّجاعيد الثلاث الجانِبيَّة والاثنتين القُطْريَّتَين على جبيني؟ إنَّني أراها فوقَه منذ سنين. ألا تُشبِه خُدودي خُدودَ عائلة واينستاين؟ دقِّقِ النَّظر. إنَّني ألتمِسُ منك التدقيق.»

فأقرَّ له البارون قائلًا: «إنك حقًّا تُشْبِهنا إلى حدٍّ مُريع.»

تابَعَ الضيفُ قائلًا: «لقد كنتُ الصبيَّ الأصغر بين أربعة توائم. وكان إخوتي الثلاثةُ ضُعَفاءَ مرضى؛ فلم يعيشوا طويلًا بعدَ ولادتهم. وكنتُ — وأنا طفلٌ — محبوبَ والدي المِسكين، الذي كان لديه بعضُ الخِصال التي تستحقُّ أن يُشاد بذِكرِها، رغم كونه شيخًا سِكِّيرًا مُسرِفًا في الشراب ولِصًّا عديمَ الضمير.»

أجفلَ البارونُ وتكدَّرتْ ملامِحه.

«كان الناس قد دأبوا على تَسميتِه شيخ العشرين قِنِّينة. وفي رأيي غير المُتحيِّز، بناءً على ما أذكره، أن لقبَ شيخ الأربَعين قِنِّينة كان سيُصبِح أقربَ إلى الحقيقة.»

فصرخ البارون: «هذا كذِبٌ! إنني نادِرًا ما أتجاوز العِشرين زجاجة.»

واصلَ الحاجُّ، دون أن يُلقي بالًا لمُقاطعة البارون: «وأمَّا عن سُمعتِه في المجتمع، فلا بدَّ من الاعتراف بأنه لمْ يكن هناك ما هو أسوأ منها؛ لقد كان مصدرَ رُعبٍ للبُسَطاء من الناس لأميالٍ حولنا. كانتْ حقوق المِلكيَّة مُعرَّضةً للخطر إلى أبعد الحدود في هذا الجوار؛ إذ لمْ يَعرفْ جشعُ والدي المأسوفِ عليه حدودًا، ولكن لمْ يجرؤ أحدٌ على الجهر بالشكوى، فما كانت الأرواح في مأمنٍ أكثر من قُطعان الخِراف أو الأموال. كم كرِهَ الناسُ طَيفَه، وكم اشتدُّوا في لَعنهِ من وراء ظهره! أذكرُ جيدًا، وأنا في الرابعة عشرة تقريبًا — لا بدَّ أنها كانت سنة ١٣٦٦، سنةَ احتلال الأتراك مدينةَ أدَرْنة — أن هوجو العملاق، عامل الطاحونة، استدعاني وقال: «أيها الصبي، إنَّ أنفك جميلٌ جدًّا.» فقلتُ، وأنا أنتصِب في وقفتي: «إنه أنفٌ جميلٌ يا هوجو.» فسألني هوجو مُتهكِّمًا: «وهل هو ثابتٌ وقوي؟» فأجبته: «أعتقِد أنه ثابتٌ وقويٌّ بما فيه الكفاية، لكن لِمَ تسألُ أسئلةَ الحمقى هذه؟» فقال هوجو وهو ينصرف عنِّي: «حسنٌ، حسنٌ أيها الصبي، لكن راقبْ أنفك بكِلتا عينيك جيدًا عندما لا يكون والدُك مشغولًا بعملٍ ما؛ فإن ضميره ليَسمَح له بِسرقة أنف ابنِه من وجهه إذا لمْ تتوافر له غنيمةٌ أفضل لنَهبِها».»

صاح البارون بصوتٍ هادِر: «أُقسم بالقدِّيس كريستوفر أن هوجو العِملاق، عامل الطاحونة، سوف يدفع ثمن هذا! لطالَما شككتُ فيه. وحقِّ القديس كريستوفر لأحطِّمنَّ كلَّ عظْمةٍ في جسَدِه الحقير.»

فردَّ الحاجُّ بهدوء: «سيكون هذا انتقامًا دنيئًا؛ فهوجو العِملاق يتوسَّد قبرَه منذُ ستِّين سنةً الآن.»

قال البارون، وهو يضعُ كِلتا يديه على رأسه، ويرمُق ضيفَه بنظرةٍ عاجِزةٍ تمامًا: «هذا صحيح، لقد نسيتُ أنَّنا الآن في القرن المُقبِل من الزمان — ذلك إذا لم تكن أنتَ مُجرَّد شبح.»

ردَّ الحاجُّ بحسم: «أستَميحُك عُذرًا والِدي المُحترم، إذا فنَّدتُ فَرْضيَّتَك بالمنطق؛ لأنها تنال منِّي في موضعٍ حسَّاسٍ للغاية، وتطعَن، بطبيعة الحال، في حقيقتي الماديَّة ووضعي بِوَصفي ذاتًا حقيقية مُستقلَّة. والآن، ما موقفُ كلٍّ منَّا؟ إنك تقرُّ بأن تاريخ ميلادي كان في سنة ١٣٥٢ ميلادية. وهذا أمر قد لا يُمكِن لَومُ ذاكِرتِك عليه. ومن ناحيةٍ أخرى، وبتناقُضٍ غريب، فأنتَ تؤكِّد، برغم التقويم والتاريخ وتَسلسُل الأحداث، أنَّنا لا نزال في عام ١٣٥٢ ميلادية. لو كنتَ واحِدًا من أصحاب الكهف، فإنَّ هلوستَك — حتى لا أستخدِم لفظًا أكثر حدَّةً — قد تُغتفر، ولكنك لستَ أحدَ أصحابِ الكهفِ ولا أنتَ قدِّيسٌ كذلك. إن كلَّ سنةٍ من السنوات الثمانين المُخزَّنةِ في حقيبةِ خِبراتي تَعترِض على خطئك الفادِح. أنا مَن له حقٌّ مشروعٌ وأصيلٌ في مُناقشة قضية وجودك المادي، وليسَ أنت. هل سمِعتَ قطُّ بشبح، أو طيف، أو خيال، أو روح، أو وَهْمٍ يأتي من المُستقبل ليُلازِم، أو يُزعِج، أو يُفزِع أفرادَ جيلٍ سابقٍ عليه؟»

اضطُرَّ البارون للاعتِراف بأنه لمْ يَسمع مُطلقًا بمثل هذا.

«لكنك سبَقَ أن سمِعتَ بحالاتٍ لأطياف، أو أرواح، أو أشباح، سَمِّهم بما شئتَ، غزَوا الحاضرَ من غياهبِ سجونِ الماضي. أليس كذلك؟»

أشار البارون إلى صدره مرةً أخرى بإشارة الصليب، وراحَ يُحدِّق في اضطرابٍ إلى أركان المبنى المُظلِمة، وهمَسَ قائلًا: «إن كنتَ حقًّا أحد نُبَلاء واينستاين، فلا بدَّ أنك تعلَمُ أن الأشباح من ذلك النوع تجتاحُ هذه القلعة. إنَّ من العسير أن تتجوَّل في أرجائها بعد الغسقِ دون أن تتعثَّر في نصف دزينة منهم.»

قال الحاجُّ الرابِط الجأش ذو المنطق: «إنك بهذا تتنازَل عن دعواك؛ فأنت تقعُ فيما يُسمِّيه مُعلمُ أصولِ المنطقِ المبجَّلُ؛ معلِّمي، العلَّامةُ العربي ابنُ داستي، بالانتحار الأُسلوبيِّ القِياسي؛ ففي حين تُنكِر وجودَ أشباحٍ من المُستقبَل، تُجِيزُ ألَّا يكون من النادِر مُلاقاة أشباح الماضي. وأنا الآن، وبوصفي إنسانًا، أؤكد لك هذه الفرضية: إنَّ احتمالَ أن تكون أنت طيفًا أرجحُ بكثيرٍ من أن أكون أنا كذلك!»

امتُقِع لونُ البارون حُمرةً، وسأل الضيفَ: «أمِنْ آداب البُنوَّة أن تُنكِرَ بشريَّةَ والِدك؟»

ردَّ الحاجُّ حُجَّةَ البارون دون أن يفقِد هدوءه وقال: «وهل من الأُبوَّة أن تُعرِّض بزيفِ وجودِ ابنِك الذي من صُلبك؟»

صاح البارون، ولونه ما زال يشتدُّ حُمرةً: «أُقسِم بجميع القِدِّيسين أن هذه القضية سوف تُسوَّى، وقريبًا جدًّا! أيُّها القهرمان، أنت أيُّها القهرمان!» وراح البارون يُنادي مرَّاتٍ ومرَّات، لكن دون جدوى.

فأشار عليه الحاجُّ بهدوءٍ قائلًا: «أرِح رِئتيك، فلن يتحرَّك الخادِمُ الأمهرُ في العالم من قبرِه لأجلِ صُراخِك هذا.»

تقهقرَ شيخُ العِشرين قِنِّينة إلى الوَراء وانهار في كُرسيِّه في يأس. حاوَل أن يتكلَّم، لكنَّ لسانه وحَلقه امتَنَعا عن أداء وظيفتِهما، ولم يزيدا على إصدارِ أصوات خرخرةٍ غير مفهومة.

قال ضيفه بنبْرة استحِسان: «هذا أفضل. تصرَّفْ كطيفٍ مَهيبٍ جليلٍ من القرن الماضي، شبحٍ حسنِ السلوكِ ليس بصخَّابٍ ولا عنيف. ولديك الآن مُتَّسعٌ من الوقت كي تُصبِح مُسالِمًا في تصرُّفاتك؛ فقد كنتَ عنيفًا بما يكفي قبلَ موتِك.»

قال البارون لاهِثًا: «موتي؟»

اعتذر الحاجُّ قائلًا: «اغفر لي ذِكرَ هذه الواقعة البغيضة.»

تمتم البارون، وشَعْرُه مُنتصِبٌ فوق رأسه: «موتي! أَودُّ أن أسمع تفاصيل هذا.»

قال الحاجُّ، وقد بدا مُستغرِقًا في التفكير: «كان عُمري بالكاد يربو على الخامسة عشرة في هذا الوقت، لكنِّي لن أنسى أبدًا تلك الأحداث الأكثر سُخريةً على الإطلاق التي صاحَبَت الانتفاضةَ الشهيرة الكُبرى التي وضَعَت حدًّا لمسيرة والدي الفاضل. لقد بلغ غضبُ الناس حدًّا تجاوَزَ احتمالَهم بِسبب فظاعَةِ جرائمك؛ فهبُّوا أخيرًا هبَّةَ رجُلٍ واحدٍ من كلِّ حدَبٍ وصوبٍ حولنا، واندفعوا أفواجًا — يقودُهم صديقي القديم، هوجو العملاق، عامل الطاحونة — إلى شوينكينفيلس، واستنجدوا بابن عمِّك، الكونت كونراد، ليحمِيَهم منك؛ أنت الذي يُفترَض بك أن تحمِيَهم. فاستمع نبيلُ شوينكينفيلس إلى شكاواهم بروعٍ جم. وأجاب بأنه لَطالما راقَبَ أفعالك المَقيتةَ بتألُّمٍ وارتياع؛ وأنه كثيرًا ما عارَضَك بسببها، لكن دون جدوى؛ وأنه كان يَعدُّك بَليَّة الحي؛ وأن قلعتَك كانتْ مُتخمَةً بالكنوز المُلطَّخة بالدِّماء والأسلاب المُكتسَبة بطريقةٍ مُشينة، وأنه صارَ الآن يرى أنَّ من واجِبه الشخصي — بوصفه قيِّمًا على النظام القانوني والأخلاق القويمة — أن يَزحَف بجيْشه على واينستاين، وأن يقضي عليك من أجْلِ الصَّالح العام.»

صرخ شيخُ العشرين قِنِّينة: «يا للقُرصان المُنافِق!»

أردف الحاجُّ: «الأمر الذي شرَع في تنفيذه، مدعومًا في ذلك بخَدَمِك أنفسهم وليس خدَمِه وحسب. وعليَّ أنْ أعترِف بأنك قد أقمتَ دفاعاتٍ حصينة. ولولا أنَّ قهرمانك الشرِّير باعَكَ لشوينكينفيلس وأنزلَ جِسر القلعة المُتحرِّك في إحدى الليالي وأنتَ تُذهِب عقلكَ كالمُعتاد بزجاجاتك العشرين، لما تمكَّن كونراد قطُّ — فيما أرى — من أيِّ مَدخلٍ من مداخل القلعة، ولكانت عيناي الصغيرتان رُحِمَتا من فظاعةِ ما غُلبَتا عليه من النظرِ إلى جُثةِ والدي المُبجَّل وهي تتدلَّى في نهايةِ حبلٍ مُعلَّقٍ بأعلى أبراج الحِصن الشمالي الغربي.»

دَفن البارون وجهَه في يديه وراح يبكي مِثل الأطفال، ثم قال مُتلعثِمًا: «أشَنَقوني؟ أفَعلوا ذلك؟»

قال الحاجُّ: «يؤسِفُني أنه ما من تفسيرٍ آخر لِما حدَث. لقد كانت هذه هي النتيجة الحَتميَّة لمِثل ما كنتَ تقوم به. لقد علَّقوك من رقَبَتك. أعدموك. خنقوك بحبلٍ حتى الموت؛ وكان الحُكمُ الذي اتَّفق عليه المُجتمَع أن موتك «قتلٌ مُبرَّر». أوَتبكي يا أبي؟! انظُر إليَّ إذَن يا أبَتِ. إنني أبكي كذلك للعارِ الذي لَحِق بعائلةِ نبيل واينستاين! تعالَ هنا بين ذراعي.»

تعانَقَ الوالدُ وابنُه عِناقًا طويلًا حنونًا تمازجتْ فيه دُموعُهما التي ذَرَفاها على نَكْبةِ واينستاين. وعندما استفاقَ البارون من انفعِاله وجدَ نفسَه وحيدًا لا يُرافِقه إلا صحوةُ ضميره وأربعٌ وعشرون زجاجةً فارغة. وقد اختفى الحاجُّ.

٣

في غضون ذلك، وفي المبنى المُخصَّص لعِيادة الولادة، كان المكان يضِجُّ بالفوضى واللَّغَط والقلق. وعلى أربعِ أرائكَ ضخمةٍ جلسَتْ أربعٌ من كُبرَيات المُمرِّضات الخبيرات، وفي حِجر كلِّ واحدةٍ مِنهنَّ وِسَادةٌ من رِيش النَّعام، وفوق كلِّ وِسادة استلقَت بِضعةٌ مُتناهيةُ الصِّغَر من بِضَعِ البشريَّة التي أُضيفتْ مُؤخرًا إلى جُملة نُبَلاء واينستاين. كانتْ إحدى المُمرِّضات المُتمرِّسات قد غلَبَها النُّعاس أثناء أداء واجبها؛ وعندما استيقظتْ وَجدَت الوِسادة التي في حِجرِها شاغرة. وكشفَ إحصاءٌ عاجِلٌ أجراه الخدَم المَذعورون، عن حقيقةِ الأمر المُفزِعة؛ فبرغم أنه كان لا يزال ثَمَّة أربع أرائك، وأربع نساءٍ خبيرات، وأربع وسائد، فلمْ يكن يُوجَد إلا ثلاثة رُضَّعٍ فقط. استُدعي القهرمان، بوصفه خبيرًا في الرياضيات والحسابات، من الدَّور السُّفليِّ على الفور، فلمْ تزِد حساباتُه على أن أكَّدَت الشكوكَ المُروِّعة. لقد اختفى أحد التوائم الأربعة.

اتُّخِذَتْ إجراءاتٌ عاجِلةٌ بسبب حالة الطوارئ المُخيفة هذه. ففُتِّشتْ أركان الغُرَف دون جدوى، وفُتِّشتْ كذلك كَوماتٌ من كُسوات الأسِرَّة وسلالٌ من الملابس الكتَّانيَّة مرَّاتٍ ومرات. وامتدَّ البحثُ إلى أجزاءٍ أخرى من القلعة. حتى إن القهرمان أرسل بعض الخدَم الكتومين الثِّقات على صَهوات الجِياد لتَمشيط الريف المُحيط. لكنَّهم عادوا كاسِفي الوجوه؛ ولمْ يُعثَر لنبيلِ واينستاين المفقود على أثر.

وطيلةَ ساعةٍ شاقَّةٍ من الزَّمن امتزجت صرخاتُ الرُّضَّع الثلاثة المُهمَلين مع عَويل الأمِّ المَحمومة، التي اتَّجه إليها وحدَها انتباهُ النِّسوة الحكيمات الأربع. وفي نهاية تلك الساعة تعافتْ صاحِبة العِصمة بما يكفي كي تُناشِد خادِماتها بعملِ إحصاءٍ أخيرٍ، وإن كان مَيئوسًا من نتيجته. كان ثلاثةُ رُضَّع يصرخون بقوَّةٍ وفي تَناغُمٍ فوقَ ثلاثِ وسائد. وكان مُضطجِعًا على الوسادة الرابعة صبيٌّ رابعٌ، تعلو وجهَه ابتسامةٌ غامضةٌ، رغم آثارِ دموعٍ حديثةِ العهدِ على وجنتَيْه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤