مقدمة

ماذا نفعل الآن؟

يتناول هذا الكتاب الركودَ الاقتصادي الذي تعانيه الولاياتُ المتحدة وعددٌ من الدول الأخرى حاليًّا؛ هذا الركود الذي بدأ عامَه الخامس دون أيِّ بوادر تبشِّر بقرب نهايته. وغنيٌّ عن القول أن العديد من الكتب التي تتناول الأزمةَ المالية لعام ٢٠٠٨ — الذي مثَّلَ بدايةَ الركود — قد نُشِرت بالفعل، ولا شك أن كثيرًا غيرها في طريقه للنشر، إلا أن هذا الكتاب — في اعتقادي — يختلِف عن غيره من الكتب؛ حيث يحاوِل أن يُجِيب عن سؤال مختلف. في الغالب، تطرح المؤلَّفات الكثيرة المعنِيَّة بكارثتنا الاقتصادية سؤالًا مفاده: «كيف حدث ذلك؟» أما أنا فأتساءل: «ماذا نفعل الآن؟»

من الواضح أن هذين السؤالين يرتبط أحدهما بالآخر إلى حدٍّ ما، غير أنهما ليسا متطابقين بأي حال من الأحوال؛ فمعرفة أسبابِ الإصابة بالنوبات القلبية تختلف تمامًا عن معرفة كيفية علاجها، وهذا ينطبِق أيضًا على الأزمات الاقتصادية. حاليًّا، ينبغي أن تكون مسألةُ العلاجِ هي شاغلنا الأكبر؛ فكلما قرأتُ مقالًا أكاديميًّا أو مقالَ رأيٍ يناقِش ما علينا فِعْله لمنع وقوع الأزمات الاقتصادية في المستقبل — وقد قرأتُ العديدَ من تلك المقالات — شعرتُ ببعض التبرُّم. بالطبع يستحِقُّ هذا السؤالُ أن نُولِيه اهتمامنا، ولكن بما أننا لم نتعافَ بعدُ من الأزمة الأخيرة، أَلَا يجدر بنا أن نجعل من تحقيقِ هذا التعافي أولويتنا الأولى؟

نحن لا نزال نعاني آثارَ الكارثة الاقتصادية التي أصابَتْ أوروبا والولايات المتحدة منذ أربع سنوات؛ فالناتج المحلي الإجمالي — الذي ينمو عادةً بنحو درجتين مئويتين سنويًّا — نما بالكاد عن أعلى معدلاته في مرحلةِ ما قبل الأزمة، حتى في البلدان التي شهدَتْ تعافيًا قويًّا نسبيًّا، فيما انخفض بمعدلٍ يتجاوز العشرة في المائة في دولٍ أوروبيةٍ عدة. وفي الوقت ذاته، لا تزال معدلاتُ البطالةِ على جانبَيِ المحيط الأطلسي عند مستوًى لم يكن لأحدٍ أن يتصوَّرَه قبل الأزمة.

وأزعم أن أفضلَ طريقةٍ للتفكير في هذا الركود المستمِرِّ هو تقبُّلُ حقيقةِ أننا نعيش حالةَ كسادٍ؛ صحيح أنه ليس الكسادَ الكبيرَ، على الأقل بالنسبة إلى معظمنا (ولكن ربما كان لليونانيين أو الأيرلنديين أو حتى الإسبان — الذين بلغَتْ نسبةُ البطالة لديهم ٢٣ في المائة، ووصلَتْ إلى ما يقرب من ٥٠ في المائة بين الشباب — رأْيٌ آخَر). ومع ذلك، فهذه الحالة هي تقريبًا نفسها التي وصفها جون مينارد كينز في ثلاثينيات القرن العشرين بقوله: «حالة مزمنة من النشاط دون المستوى الطبيعي تستمِرُّ فترةً طويلةً دون أيِّ ميلٍ ملحوظ تجاه التعافي أو الانهيار التام.»

هذا الوضع غير مقبول؛ بعض الخبراء الاقتصاديين ومسئولي السياسات العامة يبدون راضين بتجنُّب «الانهيار التام»، إلا أن الواقع هو أن هذه «الحالة المزمنة من النشاط دون المستوى الطبيعي» — التي تنعكس في المقام الأول على انعدام فرص العمل — تخلِّفُ أضرارًا بشرية تراكمية هائلة.

ولذلك، فمن الأهمية بمكان أن نتَّخِذَ إجراءاتٍ من شأنها تعزيز تعافٍ حقيقي وكامل. وهنا يكمن بيت القصيد؛ فإننا نعرف كيف نفعل ذلك، أو على الأقل «حريٌّ» بنا أن نعرف؛ فنحن نعاني من مشكلات واضحةِ الشبهِ — على الرغم من الاختلافات في التفاصيل الناتجة عن مرور خمسة وسبعين عامًا من التغيُّر الاقتصادي والتكنولوجي والاجتماعي — بتلك التي وقعَتْ في ثلاثينيات القرن العشرين. نحن على درايةٍ بما كان ينبغي على صنَّاع السياسات فعله آنذاك، وذلك من خلال كلٍّ من التحليلِ المعاصر الذي قام به كينز وغيره، والعديدِ من الأبحاث والتحليلات اللاحقة، وهذه التحليلات ذاتها هي ما تخبرنا بما علينا فعله إزاء محنتنا الحالية.

لكن للأسف، نحن لا تستخدم ما لدَيْنا من معرفة؛ لأن الكثيرَ من الأشخاص المهمِّين — من ساسةٍ ومسئولين حكوميين والشريحة الأكبر من الكتَّاب والمتحدِّثين المعبِّرين عن الأعراف المتبَّعة — اختاروا، لمختلف الأسباب، أن يتناسوا الدروسَ المستفادة من التاريخ، والاستنتاجاتِ التي توصَّلَتْ إليها التحليلاتُ الاقتصادية على مدى أجيال عدة، ليستعيضوا عن تلك المعرفة التي توصَّلْنا إليها بشقِّ الأنفس بأحكامٍ مُسبَقة تتَّفِق مع تحيزاتهم الأيديولوجية والسياسية. والأخطر من ذلك كله أن الأعراف السائدة بين مَن اعتادَ بعضُنا أن يُطلِق عليهم — على سبيل السخرية — «الأشخاصَ البالغِي الأهمية»؛ نَحَّتْ جانبًا المقولةَ الجوهرية لكينز؛ أَلَا وهي: «إن الازدهار — وليس الركود — هو الوقت المناسب للتقشُّف.» فالآن، على الحكومة أن تزيد من الإنفاق — عوضًا عن خفضه — حتى يتمكَّنَ القطاعُ الخاص من النهوض بالاقتصاد مجدَّدًا، ولكن على النقيض من ذلك أصبحَتْ سياسات التقشُّف التي تقضي على فرص العمل هي القاعدة.

يحاوِل هذا الكتابُ أن يُرخِي قبضةَ هذه المعتقدات السائدة المدمِّرة، ويسوق الحججَ الداعمة للسياسات التوسُّعية التي تسهم في خلق فُرَصِ العمل، والتي كان يجب علينا اتِّبَاعها منذ البداية. ولإثبات وجهة نظري، احتجْتُ لتقديم الأدلة؛ أجل، يحتوي هذا الكتاب على رسوم بيانية، ولكني أرجو ألَّا يجعله هذا يبدو كتابًا تقنيًّا، أو يُبعِده عن متناول القارئ العادي الواعي، حتى إنْ لم يكن الاقتصادُ ضمنَ مجالات اهتمامه المعتادة؛ فالواقع أن ما أحاوِل أن أفعله هنا هو أن أتجاوَزَ الأشخاصَ المهمِّين الذين ساروا بنا في الطريق الخطأ — أيًّا كانَتِ الأسبابُ — مكبِّدين اقتصاداتنا ومجتمعاتنا خسائرَ باهظة، وأناشِد الرأي العام المستنير في محاولةٍ لدفعنا إلى الطريق الصحيح.

ثمة احتمال — مجرد احتمال — أن تكون اقتصاداتنا قد أصبحَتْ على مسارٍ سريعٍ نحو التعافي الحقيقي عندما يصل هذا الكتاب إلى المكتبات، وعندها ستصبح هذه المناشدة غير ضرورية؛ طبعًا أنا أرجو حدوثَ ذلك، وإن كنتُ أشكُّ فيه كثيرًا. في المقابل، تدلُّ كلُّ المؤشرات على أن الاقتصاد سيظلُّ ضعيفًا فترةً طويلة جدًّا ما لم يغيِّر صُنَّاعُ السياسات لدَيْنا من اتجاهاتهم؛ وهدفي هنا هو الضغْطُ — من خلال الجمهور المستنير — من أجل حدوث هذا التغيير، وإنهاء هذا الكساد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤