الفصل الأول

ما مدى سوء الوضع؟

أعتقد أنه مع بداية ظهور البراعم الخضراء في مختلف الأسواق، ومع بدء عودة بعض الثقة، سيبدأ بذلك حراكٌ إيجابيٌّ يُعِيد اقتصادنا لسابق عهده.

«هل ترى براعم خضراء؟»

«نعم، أرى براعم خضراء.»

بن برنانكي، رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي
في حوارٍ مع برنامج «٦٠ دقيقة»، ١٥ مارس ٢٠٠٩

في مارس ٢٠٠٩، أبدَى بن برنانكي — المعروف عنه أنه ليس أكثرَ الرجال مَرَحًا ولا شاعريةً — تفاؤلًا كبيرًا حيالَ المشهد الاقتصادي؛ فبعدَ إفلاسِ بنك ليمان براذرز بستة أشهر، دخلَتِ الولايات المتحدة مرحلةَ تدهُورٍ اقتصاديٍّ مخيف. لكن ظهر رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في البرنامج التليفزيوني «٦٠ دقيقة» ليعلن أننا صرنا على مشارف ربيع اقتصاديٍّ.

وعلى الفور ذاعَ صيت تصريحات برنانكي، لا سيما أنها تحمِل تشابُهًا غريبًا مع كلام تشانس — المعروف كذلك باسم تشونسي جاردنر — ذلك البستاني الساذج الذي يظنُّه الناسُ رجلًا حكيمًا في فيلم «أن تكون هناك». في أحد المشاهد، يُطلَب من تشانس أن يُعلِّق على السياسة الاقتصادية، فيؤكِّد للرئيس أنه: «ما دامَتِ الجذورُ لم تُقطَع، فكلُّ شيءٍ في الحديقة على ما يرام، وكلُّ شيءٍ سيكون على ما يرام … سيشهد الربيع نموًّا.» وعلى الرغم ممَّا شابَ الأمرَ من مزاح، فقد امتدَّ تفاؤلُ برنانكي على نطاقٍ واسعٍ. وفي نهاية ٢٠٠٩، اختارَتْ مجلة «تايم» برنانكي شخصيةَ العام.

لكن مع الأسف، لم يكن كلُّ شيءٍ في الحديقة على ما يرام، ولم يتحقَّقِ النموُّ الموعود قطُّ.

وحتى نكون مُنصِفين، فقد كان برنانكي محقًّا حين قال إن الأزمة بدأَتْ تنفرج؛ فقد بدأ الذعر الذي اجتاحَ الأسواقَ المالية ينحسر، وبدأ التدهورُ الاقتصادي يتباطأ. ووفقًا لمسئولي الرصد والتسجيل الرسميين في «المكتب الوطني للأبحاث الاقتصادية»، فإن ما يُسمَّى بالركود الكبير الذي بدأ في ديسمبر ٢٠٠٧ انتهى في يونيو ٢٠٠٩، وبدأ التعافي؛ ولكن إن كان هذا هو التعافي، فإنه لم يقدِّمِ الكثيرَ لغالبية الأمريكيين؛ فقد ظلَّتِ الوظائفُ شحيحةً، واستنزفَتْ أعدادٌ متزايِدةٌ من الأُسَر مدَّخَراتِها، وفقَدَتْ منازلها، والأسوأ من ذلك كله أنها فقدَتِ الأملَ. صحيح أن معدَّلَ البطالة قد انخفَضَ من الذروة التي وصَلَ إليها في أكتوبر ٢٠٠٩، لكن التقدُّمَ كان أبطأ من غراب نوح؛ وما زلنا ننتظر — بعد كلِّ هذه السنوات — ظهورَ «الحراك الإيجابي» الذي تحدَّثَ عنه برنانكي.

هذا ما حدث في الولايات المتحدة التي شهدَتْ تعافيًا جزئيًّا على الأقل، أما البلدان الأخرى، فلم تتمكَّنْ حتى من تحقيقِ ذلك؛ ففي أيرلندا واليونان وإسبانيا وإيطاليا، لم تكن مشكلاتُ الديون وبرامج «التقشُّف» — التي كان من المفترض أن تعمل على استعادةِ الثقة — سببًا في إجهاضِ أيِّ نوعٍ من التعافي فحسب، بل أسفرَتْ أيضًا عن نوباتِ ركودٍ متكرِّرةٍ، وارتفاعِ معدلات البطالة حتى بلغَتْ عنان السماء.

واستمرت المعاناة طويلًا؛ فها أنا ذا أكتب هذه الكلمات بعد مرور ما يقرب من ثلاث سنوات على اعتقاد برنانكي أنه يرى براعمَ خضراء، وبعد ثلاث سنوات ونصف على إفلاس بنك ليمان براذرز، وأكثر من أربع سنوات على بداية الركود الكبير؛ ولا يزال مواطِنو الدول الأكثر تقدُّمًا في العالم، الدول الغنية بالموارد والمواهب والمعارف — كلُّ المكونات اللازمة لتحقيقِ الازدهار وتوفير مستوًى معيشيٍّ لائقٍ للجميع — يعيشون حالةً من المعاناة الشديدة.

فيما يلي في هذا الفصل، سأحاول أن أوثِّق بعضَ الأبعادِ الرئيسية لهذه المعاناة، وسوف أركِّزُ في الأساس على الولايات المتحدة الأمريكية لكونها بلادي، ولكونها أيضًا البلدَ الذي أعرفه حقَّ المعرفة، بينما أُفرِدُ مساحةً كبيرةً لمناقشة معاناةِ الخارج في جزءٍ لاحقٍ من هذا الكتاب، وسأبدأ بالموضوع الأكثر أهميةً — الذي كان أداؤنا فيه الأسوأ — أَلَا وهو البطالة.

ندرة الوظائف

تقول الحكمة المأثورة إن خبراء الاقتصاد يعرفون سعرَ كلِّ شيء، لكنهم لا يعرفون قيمةَ أيِّ شيء، والحقيقة أن هذا الاتهامَ يحمل بين طيَّاته جانبًا كبيرًا من الحقيقة؛ فنظرًا لأن الاقتصاديين يُعْنَون في الأساس بدراسةِ تداول النقود وإنتاج الأشياء واستهلاكها، فإن لديهم تحيُّزًا متأصِّلًا تجاه افتراضِ أن المال والمادة هما كلُّ ما يهمُّ. إلا أنه ثمة مجالُ بحثٍ اقتصاديٍّ يركِّز على كيفيةِ ارتباطِ معايير الرفاهة التي يحدِّدها الأفرادُ بأنفسهم — مثل السعادة أو «الرضا عن الحياة» — بالجوانب الأخرى من الحياة، وتُعرَف هذه الأبحاثُ باسم «أبحاث السعادة»؛ بل إن بن برنانكي ألقَى خطابًا حولَ هذا الموضوع عام ٢٠١٠ تحت عنوان «اقتصاديات السعادة». وهذه الأبحاث تخبرنا شيئًا بالغَ الأهمية عن الورطة التي وقعنا فيها.

بالفعل تخبرنا أبحاثُ السعادةِ أن المال لا يظلُّ بالغَ الأهمية بمجرد أن تصل إلى مرحلةِ القدرة على تحمُّلِ تكاليفِ ضرورات الحياة. صحيح أن عائد الثراء ليس صفرًا بالمعنى الحرفي للكلمة؛ فبصفةٍ عامةٍ، مواطِنُو البلدان الغنية أكثر شعورًا بالرضا عن حياتهم من مواطِني الدول الأقل ثراءً، فضلًا عن ذلك فإنَّ كوْنَكَ أكثر ثراءً أو أكثر فقرًا ممَّن تقارِن نفسك بهم قضيةٌ مهمةٌ في حدِّ ذاتها، ولهذا يمكن أن يكون لانعدام المساواة الهائل تأثيرٌ مدمِّرٌ على المجتمع؛ لكن في نهاية المطاف، المالُ أقلُّ أهميةً مما يظنُّ أنصارُ المادية البحتة والعديدُ من الاقتصاديين.

إلا أن هذا لا يعني أن الشئونَ الاقتصادية غير مهمة في تقييم حقيقة الأمور؛ فثمة أمر يحرِّكُه الاقتصادُ ويشكِّل أهميةً كبرى لسعادة الإنسان، وهو الحصول على وظيفةٍ؛ فالأشخاص الذين يرغبون في العمل ولا يجدون وظيفةً يعانون أشد المعاناة؛ ليس فقط من جرَّاء انعدامِ الدَّخْل، ولكن أيضًا بسبب شعورهم بتضاؤل قيمتهم الذاتية، ويمثِّل هذا سببًا رئيسيًّا لتوصيفِ ما يحدث الآن من بطالة جماعية — مستمرَّة في الولايات المتحدة منذ أربع سنوات — بالمأساة.

ما مدى خطورةِ مشكلة البطالة؟ هذا السؤال يستدعي بعضَ الدراسة.

لا شكَّ أن ما يثير اهتمامنا هو البطالة «القسرية»؛ فمَن لا يعملون لأنهم اختاروا عدمَ العمل، أو على الأقل عدم العمل في اقتصاد السوق — من المتقاعِدين الراضين بوَضْع التقاعُد، أو الأزواج والزوجات الذين قرَّروا التفرُّغ لإدارة المنزل — لا يعنوننا، ولا يعنينا المعاقون، الذين يمثِّل عجْزُهم عن العمل أمرًا مؤسِفًا، لكنه ليس وليدَ مشكلاتٍ اقتصاديةٍ.

طالما كان ثمة مَن يزعمون أنه لا يوجد شيء يُسمَّى البطالة القسرية، وأن أيَّ شخصٍ يستطيع أن يجدَ وظيفةً إذا كان راغبًا حقًّا في العمل وليس صعب الإرضاء فيما يختصُّ بالأجر أو ظروف العمل. هناك مثلًا شارون أنجل — المرشَّحة الجمهورية لمجلس الشيوخ — التي أعلَنَت في ٢٠١٠ أن العاطلين عن العمل «مدلَّلون»؛ وأنهم اختاروا أن يتعيَّشوا من إعاناتِ البطالة عوضًا عن العمل. ولدَيْنا أعضاء مجلس شيكاجو للتجارة الذين سَخِروا من المتظاهرين المناهِضين للتفاوت في أكتوبر ٢٠١١، وأمطروهم بوابلٍ من استماراتِ التقدُّم للعمل في سلسلةِ مطاعم ماكدونالدز. ولدَيْنا أيضًا خبراء اقتصاديون من أمثال كيسي موليجان من جامعة شيكاجو، الذي كتب عددًا من المقالات لموقع نيويورك تايمز أصرَّ فيها على أنَّ الانخفاضَ الحادَّ في العمالة بعد الأزمة المالية عام ٢٠٠٨ يعكس تضاؤلَ الرغبة في العمل، وليس انعدام فُرَص العمل.

يأتي الردُّ التقليدي على هؤلاء من فقرةٍ في مستهلِّ رواية «كنز سييرا مادري» (التي اشتهَرَ الفيلم المُقتبَس منها عام ١٩٤٨، من بطولة همفري بوجارت ووالتر هيوستن): «أيُّ شخصٍ مستعِدٍّ للعمل وجادٍّ في ذلك، سوف يجدُ وظيفةً بكل تأكيد. لكن لا تذهب إلى مَن يقول لك هذا؛ لأنه لا يملك وظيفةً يقدِّمها لك، ولا يعرف أحدًا يمكن أن يدلَّك على وظيفة شاغرة؛ وهذا هو السبب تحديدًا في أنه يعطيك هذه النصيحةَ الطيبةَ، النابعةَ من المحبة الأخوية، التي تُظهِر مدى قصور معرفته بالعالم.»

هذا هو الوضع تمامًا، أما فيما يتعلَّق باستماراتِ التقدُّمِ للعمل لدى ماكدونالدز، فإنه في أبريل ٢٠١١، أعلنَتْ ماكدونالدز عن ٥٠ ألفَ فرصةِ عمل جديدة، وتقدَّمَ لها نحو مليون شخص.

باختصارٍ، إذا كانَتْ لديك أيُّ معرفةٍ بالعالم، فسوف تعرف أن البطالةَ القسرية قضيةٌ حقيقية تمامًا، وأنها حاليًّا مشكلة كبيرة جدًّا.

ما مدى سوء مشكلة البطالة القسرية؟ وإلى أيِّ مدًى تفاقَمَ الوضْعُ؟

يستند مقياس البطالة في الولايات المتحدة الذي تسمع به عادةً في الأخبار إلى استطلاعٍ يُسأَل فيه البالغون عمَّا إذا كانوا يعملون أو جادِّين في البحث عن عمل؛ فالباحثين عن عملٍ ولكنهم لا يشغلون وظائف هم مَن يُعتَبَرون عاطلين عن العمل. وفي ديسمبر ٢٠١١، بلَغَ عددُ العاطلين عن العمل من هذا المنطلق أكثر من ١٣ مليون أمريكي، بعد أن كان ٦٫٨ ملايين عام ٢٠٠٧.

غير أنك إذا أعملْتَ فِكْرَكَ في هذه القضية، فستجد أن هذا التعريف الثابت للبطالة يُغفل جزءًا كبيرًا من الجوانب المؤلمة للقضية؛ فماذا عمَّن يرغبون في العمل، لكنهم غير جادِّين في البحث عنه؛ إما بسبب عدم وجود فُرَص عملٍ يسعون في طلبها، وإما لأن طول البحث دون جدوى قد ثبَّطَ هِمَمَهم؟ وماذا عن أولئك الذين يرغبون في العمل بدوامٍ كامِلٍ، لكنهم لم يجدوا سوى وظائف بدوامٍ جزئيٍّ؟ يحاول المكتب الأمريكي لإحصاءات العمل أن يُدرِج هؤلاء التعساء ضمن مقياسٍ أشمل عن البطالة معروف باسم «يو ٦»، ويشير إلى أن هذا المقياس الأشمل كشَفَ وجود نحو ٢٤ مليون أمريكي عاطِل عن العمل — ما يساوي نحو ١٥ في المائة من القوة العاملة — أي قرابة ضعف عدد العاطلين عن العمل قبل الأزمة.

لكن حتى هذا المقياس أخفَقَ في التعبير عن شدة المحنة؛ ففي الولايات المتحدة الحديثة، تضمُّ معظمُ الأُسَر زوجين عامِلَيْن؛ وهذه الأُسَر تعاني على الصعيدين المادي والنفسي إذا أصبَحَ أحدُ الزوجين عاطلًا عن العمل. وثمة عمَّال كانوا يحاولون تغطيةَ نفقات معيشتهم بالعمل في وظيفةٍ ثانيةٍ، والآن لا يملكون سوى وظيفة واحدة غير كافية، أو كانوا يعتمِدون على أجرِ الوقت الإضافي الذي لم يَعُدْ متاحًا. ثمة مشتغلون بالأعمال الحرة شهدوا تقلُّصًا في دخلهم، وعمَّالٌ مَهَرة اعتادوا الحصولَ على وظائف جيدة، لكنهم اضطروا الآن لقبول أعمالٍ لا توظِّف أيًّا من مهاراتهم؛ والقائمة تطول.

لا يوجد تقديرٌ رسميٌّ لعدد الأمريكيين المحاصَرِين في هذا النوع من الهوامش المحيطة بالبطالة الرسمية، إلا أنه في يونيو ٢٠١١، أظهَرَ استطلاعُ رأيٍ أجرَتْه منظمةُ الاقتراع «ديموكراسي كور» بين الناخبين المرجَّحين — مجموعة يرجَّح أنها أفضل حالًا من السكان ككلٍّ — أن ثلثَ الأمريكيين تعرَّضوا، إما هم أنفسهم وإما أحد أفراد أُسَرِهم، إلى فقدان وظيفة، وأن ثلثًا آخَر يعرف شخصًا فقَدَ وظيفته. علاوةً على ذلك، تعرَّضَ ما يقرب من ٤٠ في المائة من الأُسَر إلى خفض ساعات العمل أو الأجور أو المزايا الوظيفية.

إذَنْ، فالمعاناة واسعةُ الانتشار. لكن لم تنتهِ القصةُ عند هذا الحد؛ إذ ضربت الأضرارُ الناجمة عن الاقتصاد المتدهور بجذورها عميقًا في حياة ملايين البشر.

حياة خربة

دائمًا ما يكون ثمة بطالة في اقتصاد معقَّدٍ وديناميكيٍّ مثل اقتصاد الولايات المتحدة الحديثة؛ فمع كل يوم يمرُّ تفشل بعضُ الشركات، ويتسبب فشلها في اختفاء بعض الوظائف، في حين تنمو شركات أخرى، وتحتاج إلى المزيد من الموظفين. قد يستقيل العمَّال أو يُفصَلون من عملهم لأسباب خاصة بهم، ويعيِّن أربابُ عملهم بدلاءَ لهم. وفي عام ٢٠٠٧، عندما كانت سوق العمل في وضع جيد جدًّا، استقالَ أكثر من ٢٠ مليون عامل من عمله أو فُصِل منه، في حين وُظِّف عدد أكبر من ذلك.

كل هذه الحركة تعني أن قدرًا من البطالة يبقى، حتى عندما تكون الظروف مواتيةً؛ لأنه غالبًا ما يستغرق العمَّال المستقبليون وقتًا في البحث عن وظيفة جديدة، أو قبول عرض وظيفة جديدة. وكما رأينا، كان ثمة ما يقرب من سبعة ملايين عامل عاطل عن العمل في خريف ٢٠٠٧، على الرغم من أن الاقتصاد كان مزدهرًا إلى حدٍّ كبيرٍ. كما كان ثمة الملايين من الأمريكيين العاطلين عن العمل في ذروة طفرة تسعينيات القرن العشرين، عندما انتشرت دعابة أن كلَّ مَن يجتاز «اختبار المرآة» — ما يعني أن أيَّ شخصٍ تُحدِث أنفاسُه بخارًا على المرآة، كنايةً عن كونه حيًّا — يمكن أن يحصل على عملٍ.

إلا أنه في أوقات الرخاء تكون البطالةُ في الغالب حالةً مؤقتةً؛ ففي أوقات الرخاء، يكون ثمة شِبه توافُقٍ بين عدد الباحثين عن عملٍ وعدد فُرَص العمل؛ ونتيجةً لذلك يعثر أكثرُ الباحثين عن عمل على وظيفةٍ بسرعة إلى حدٍّ كبيرٍ. فمن بين عدد السبعة ملايين أمريكي العاطلين عن العمل قبل الأزمة، ظلَّ أقلُّ من الخُمس عاطلًا لمدة تصل إلى ستة أشهر، وظلَّ أقلُّ من العُشْر عاطلًا عن العمل لمدة عام أو أكثر.

وتغيَّرَ هذا الوضعُ تمامًا منذ حدوث الأزمة، فحاليًّا ثمة أربعة باحثين عن عملٍ مقابِل كلِّ فرصة عمل؛ مما يعني أن العامل الذين يفقد وظيفته يجد صعوبةً بالغةً في الحصول على وظيفة أخرى. وثمة ستة ملايين أمريكي — أيْ ما يقرب من خمسة أمثال العدد عام ٢٠٠٧ — عاطلون عن العمل منذ ستة أشهر أو أكثر، فيما ظلَّ أربعة ملايين عاطلين عن العمل لمدةٍ تزيد عن عام، بعد أن كان العدد ٧٠٠ ألف شخص فقط قبل الأزمة.

وهذه تجربة تكاد تكون جديدةً من نوعها تمامًا على الأمريكيين، وأنا أقول «تكاد» لأن البطالة الطويلة الأجل كانَتْ متفشِّيةً بلا شك في الولايات المتحدة أثناء الكساد الكبير، إلا أنها لم تتكرَّرْ منذ ذلك الحين؛ فمنذ ثلاثينيات القرن العشرين، لم يجد هذا العدد الكبير من الأمريكيين أنفسهم شِبه محاصَرين في حالةِ بطالةٍ دائمةٍ.

تخلِّف البطالةُ الطويلةُ الأجل جرحًا غائرًا في معنويات العاملين في أي مكان، وفي الولايات المتحدة — حيث شبكة الأمان الاجتماعي أضعف من مثيلاتها في أيِّ دولةٍ متقدِّمةٍ أخرى — يمكن للبطالة أن تتحوَّل بسهولةٍ إلى كابوس؛ فغالبًا ما يعني فقْدُ الوظيفة خسارةَ التأمين الصحي. وتُستنفَد إعانات البطالة، التي لا تتجاوز عادةً نحو ثلث الدخل المفقود في كل الأحوال. وعلى مدار ٢٠١٠-٢٠١١، حدث انخفاضٌ طفيفٌ في معدلات البطالة الرسمية، إلا أن عدد الأمريكيين العاطلين عن العمل الذين لا يتلقَّون إعانةَ بطالةٍ قد تضاعَفَ. ومع استمرار البطالة، تتدهور الأوضاعُ المالية للأُسَر؛ إذ تُستَنزَف مدَّخَراتُها، وتعجز عن دفع الفواتير، وتفقد بيوتها.

وهذا ليس كل شيء؛ فعلى الرغم من أن أسباب البطالة الطويلة الأجل تكمن بوضوحٍ في ظروفٍ ذات صلة بالاقتصادِ الكلي وفشلِ السياسات — وهي أمور خارجة عن سيطرة أي شخص — فإن هذا لا يقي الضحايا من الوَصْم؛ فهل يؤدِّي قضاءُ وقت طويل دون عمل إلى تآكُلِ مهارات العمل حقًّا، ويجعل منك خيارًا غير مناسِب للتوظيف؟ وهل تشير حقيقةُ كونكَ ظللتَ عاطلًا عن العمل فترةً طويلةً إلى أنك كنتَ فاشِلًا في الأساس؟ ربما لا يكون هذا صحيحًا، ولكن العديد من أرباب العمل «يعتقدون» أنها الحقيقة، وبالنسبة إلى العامل قد يكون هذا هو كل ما يهم؛ فإذا فقدتَ وظيفتك في ظلِّ هذا الاقتصاد، فسيكون من الصعب جدًّا العثورُ على وظيفة أخرى، وإذا ظللتَ عاطلًا عن العمل لفترة طويلة، فسوف تُعتَبَر ممَّنْ يتعذَّر توظيفهم.

وأضيفُ إلى جميعِ ما سبق الضررَ اللاحق بالحياة الخاصة للأمريكيين؛ ستدركون ما أعنيه إذا كنتم تعرفون شخصًا وقَعَ في بئرِ البطالة الطويلة الأجل؛ فحتى إن لم يكن يمرُّ بضائقةٍ ماليةٍ، فإن الصفعة التي تصيب كرامته واحترامه لِذَاته يمكن أن تدمِّرَه، وبطبيعة الحال تزداد الأمور سوءًا إذا كان ثمة ضائقة مالية أيضًا. عندما تحدَّث بن برنانكي عن «أبحاث السعادة»، أكَّدَ على نتيجةٍ مفادُها أن السعادة تعتمد بقوةٍ على شعور المرء بأنه يملك زمام أمره. فكِّروا فيما يحدث لذلك الشعور عندما تريد أن تعمل، ولكن تمضي شهورٌ عديدة دون أن تستطيع العثورَ على وظيفة، أو عندما تتهاوى الحياةُ التي بَنَيْتَها لأن نقودك تنفد؛ فلا عجب أن تشير الدلائل إلى أن البطالة الطويلة الأجل تفضي إلى القلق والاكتئاب النفسي.

في الوقت نفسه، هناك محنة أولئك الذين لم يشغلوا وظيفةً حتى الآن؛ لأنهم يدخلون عالَمَ العمل لأول مرة. حقًّا، يا له من وقت عصيب للشباب!

فمعدل البطالة بين العمالة الشابة — مثلها مثل الشرائح الديموغرافية كلها تقريبًا — تضاعَفَ تقريبًا في أعقاب الأزمة، ثم انحسَرَ قليلًا، ولكنْ حيث إن البطالة بين الشباب أعلى من نظيرتها بين الأكبر سنًّا حتى في أوقات الرخاء، فقد انعكَسَ ذلك على زيادةٍ أكبرَ بكثيرٍ في معدلات البطالة نسبةً إلى القوى العاملة.

والعمَّال الشباب الذين توقَّعَ المرءُ أن يكونوا الأقدرَ على الصمود في وجه الأزمة الأخيرة — لِكَونهم حديثِي التخرُّج من الجامعات، ويُفترَض أنهم يمتلكون من المعرفة والمهارات التي يتطلَّبُها الاقتصادُ الحديث ما لا يملكه غيرهم — لم يكونوا بمعزل عن آثارها بأي حال؛ فقرابة رُبعِ الخريجين الجدد إما عاطلون عن العمل وإما يعملون بدوامٍ جزئيٍّ فقط، كما حدث انخفاضٌ ملحوظ في الأجور بالنسبة إلى مَن يشغلون وظائفَ بدوامٍ كاملٍ؛ وذلك على الأرجح لأن كثيرين منهم اضطروا إلى قبول وظائف منخفضة الأجر لا توظِّف مستواهم التعليمي.

ثمة شيء آخَر؛ أَلَا وهو الزيادة الحادة في عدد الأمريكيين الذين تتراوح أعمارُهم بين أربعة وعشرين عامًا وأربعة وثلاثين عامًا ممَّن يعيشون مع ذويهم؛ ولا يعبِّر ذلك عن صحوةٍ مفاجئةٍ في تفانِي الأبناء، بل بالأحرى يعبِّر عن انخفاضٍ جذريٍّ في فُرَص العيش في غير كَنَف ذويهم.

هذا الوضع مُحبِط جدًّا للشباب؛ فمن المفترض أن يَمْضوا قدمًا في حياتهم، ولكن بدلًا من ذلك وَجدوا أنفسهم في وضع الانتظار، ويمكن تفهُّم قلق الكثيرين منهم على مستقبلهم؛ فما مدى التأثير الذي ستخلِّفه مشكلاتهم الحالية على حياتهم في المستقبل؟ متى يمكنهم أن يتعافَوا تمامًا من سوء الحظ الذي أصابهم حين تخرَّجوا في ظلِّ هذا الاقتصاد الشديد الاضطراب؟

في الواقع لن يحدث هذا أبدًا؛ فقد عقدَتْ ليزا كان — الخبيرة الاقتصادية بكلية الإدارة في جامعة ييل — مقارَنةً بين المسار المِهَني لخريجي الجامعات الذين حصلوا على شهاداتهم في سنواتٍ شهدَتِ ارتفاعًا في معدلات البطالة، وبين الخريجين في أوقات الازدهار؛ وكان أداءُ خريجي الأوقات العصيبة أسوأَ بكثيرٍ، ليس فقط في السنوات القليلة التي تلَتِ التخرُّجَ، ولكن طوال حياتهم العملية. وقد كانت تلك الفترات الزمنية الماضية التي شهدَتِ ارتفاعَ معدلاتِ البطالة قصيرةً نسبيًّا مقارَنةً بما نشهده الآن؛ ما يدل على أن الضررَ الذي سيلحق بحياة الشباب الأمريكي على المدى الطويل سيكون أكبرَ بكثيرٍ هذه المرة.

النقود

النقود؟ هل أتى أحدٌ على ذِكْر النقود؟ أنا شخصيًّا لم أذكرها حتى الآن، على الأقل ليس صراحةً، وقد فعلتُ ذلك عن عمدٍ؛ فعلى الرغم من أن الكارثة التي نمرُّ بها تتعلَّقُ إلى حدٍّ كبيرٍ بالأسواق والنقود — والفشل في الحصول على النقود وإنفاقها — فإن ما يصل بالمسألة إلى حدٍّ كارثيٍّ هو البُعْد الإنساني، وليس النقود الضائعة.

وبما أننا تطرَّقنا إلى هذا الأمر، فأودُّ أن أشير إلى أننا نتحدَّث عن الكثير من النقود الضائعة.

أكثر المقاييس المستخدمة شيوعًا لتتبُّع المستوى العام للأداء الاقتصادي هو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، وهو القيمة الإجمالية للسلع والخدمات المنتجة في اقتصادٍ ما، مع أخذ التضخُّمِ في الاعتبار. ويمكن تعريفه على وجه التقريب بأنه كمية الأشياء (والتي تشمل الخدماتِ بطبيعة الحال) التي يُنتجها الاقتصادُ في فترة زمنية محدَّدة. وحيث إن الدخل يأتي مِن بَيع الأشياء، يطلَق عليه أيضًا إجمالي الدخل المكتسَب، الذي يحدِّد حجمَ الكعكة المُقسَّمة بين الأجور والأرباح والضرائب.

قبل الأزمة، كان معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في الولايات المتحدة يتراوح ما بين ٢ و٢٫٥ بالمائة سنويًّا في المتوسط؛ وذلك لأن القدرة الإنتاجية للاقتصاد كانَتْ تنمو مع مرور الزمن؛ ففي كل عام كان ثمة المزيد من العمال المستعِدِّين للعمل، والمزيد من الآلات والمنشآت التي يستخدمها هؤلاء العمَّال، والمزيد من التكنولوجيا المتطورة المتاحة للاستخدام. كانت ثمة انتكاسات عَرَضية — فترات ركود — ينكمش خلالها الاقتصادُ لفترة وجيزة عوضًا عن أن ينمو؛ في الفصل التالي سأتناول سبب حدوث ذلك وكيفيته، غير أن هذه الانتكاسات كانت — عادةً — قصيرةً وطفيفةً، وتلتها دفقاتٌ من النمو ساعدَتْ الاقتصادَ على تعويض ما فقده من مكاسب.

حتى هذه الأزمة الأخيرة، كانت أسوأ انتكاسةٍ مرَّ بها الاقتصاد الأمريكي منذ الكساد الكبير هي «الركود المزدوج» فيما بين عامَيْ ١٩٧٩ و١٩٨٢، الذي تَمثَّلَ في دورتين متلاحقتين من الركود، والأجدر أن يُنظَر إليهما على أنهما دورةُ ركودٍ واحدة توسَّطَها بعض التذبذب. في أشد مراحل هذا الركود — في أواخر عام ١٩٨٢ — انخفض الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة ٢ في المائة عن الذروة التي وصَلَ إليها في فترة الازدهار السابقة، إلا أن الاقتصاد استردَّ عافيته بقوةٍ، ووصل معدل النمو إلى ٧ في المائة على مدار العامين التاليين — فيما أُطلِق عليه «طلوع النهار على الولايات المتحدة» — ثم عاد إلى مساره الطبيعي.

كان الركود الكبير — وهو التدهور الذي أصاب الاقتصاد فيما بين نهايات عام ٢٠٠٧ ومنتصف عام ٢٠٠٩، عندما استقرَّ الاقتصاد — أكثرَ شدةً وحدَّةً؛ إذ تراجَعَ الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة ٥ في المائة على مدى ثمانية عشر شهرًا، إلا أن الأهم من ذلك هو أنه لم يحدث تعافٍ قويٌّ، بل إن معدل النمو كان أقلَّ من الطبيعي منذ انتهاء الركود رسميًّا، وتولَّدَ عن ذلك ناتِجٌ اقتصاديٌّ أقلُّ بكثيرٍ مما ينبغي.

يُصدِر مكتبُ الميزانية في الكونجرس تقديرًا للناتج المحلي الإجمالي الحقيقي «المحتمَل»، يُستخدَم على نطاق واسع، ويُعرَّف بأنه مقياس «الناتج المستدام، الذي لا تضيف كثافة استخدام الموارد فيه إلى ضغوط التضخُّم ولا تنتقص منها.» يمكن تصوير الأمر بأنه ما قد يحدث إذا عمل المحرك الاقتصادي بكامل طاقته دون إنهاكٍ؛ وهو تقييم لما يمكننا وينبغي لنا تحقيقه، وهو بالتقريب ما ستصل إليه إنْ تتبعْتَ وضْعَ اقتصادِ الولايات المتحدة عام ٢٠٠٧، وتوقَّعْتَ ما كان سيكون عليه الإنتاج الآن لو كان النموُّ استمرَّ على معدله المتوسط على المدى الطويل.

يرى بعض الاقتصاديين أن هذا النوع من التقديرات مضلِّل، وأن قدرتنا الإنتاجية تلقَّتْ ضربةً قاصمةً، وسوف أشرح في الفصل الثاني أسبابَ اختلافي مع هذا الرأي. أما الآن، فدعُونا نأخذ التقديرات الصادرة من مكتب الميزانية في الكونجرس على عِلَّاتها؛ تقضي هذه التقديرات بأنه أثناء كتابتي هذه السطور، يعمل الاقتصاد الأمريكي بأقل من إمكاناته بحوالي ٧ في المائة، أو يمكننا أن نقول إن إنتاجنا السنوي الحالي يقلُّ حوالي تريليون دولار عمَّا يمكننا — وينبغي لنا — أن ننتجه.

وهذه هي القيمة «السنوية»، أما إذا جمعنا مُجمَلَ ما فقدناه منذ بداية الركود، فسنجد أن القيمة المفقودة تصل إلى نحو ٣ تريليونات دولار. ونظرًا لاستمرار ضعف الاقتصاد، فمن المتوقَّع أن يزدادَ هذا الرقمُ كثيرًا. وحاليًّا سنكون محظوظين جدًّا إذا استطعنا الإفلاتَ من هذا الركود بخسارةٍ تراكميةٍ في الناتج قدرها ٥ تريليونات دولار «فقط».

وهذه ليست خسائر على الورق مثل الثروة التي ضاعَتْ عندما انفجرَتْ فقاعةُ الإنترنت أو فقاعةُ الإسكان، اللتان مثَّلَتَا ثروةً لم تكن حقيقيةً في المقام الأول. بل نحن نتحدَّث هنا عن منتجاتٍ قيِّمةٍ كان من الممكن — بل من الواجب — تصنيعها ولم تُصَنَّع، نتحدَّث عن أجورٍ وأرباحٍ كان من الممكن — بل من الواجب أيضًا — أن تُكتسَب ولكنها لم تتحقَّق قطُّ، وتلك ٥ تريليونات دولار أو ٧ تريليونات دولار أو ربما أكثر لن نستعيدها أبدًا. سيتعافى الاقتصاد في نهاية المطاف — أو أن هذا ما أتمنَّاه — ولكنه على أحسن الفروض سيعود إلى مساره القديم، ولن يعوِّض كلَّ السنوات التي قضاها متخلِّفًا عن ذلك المسار.

وقد تعمَّدْتُ أن أقول «على أحسن الفروض»؛ لأنه ثمة أسبابٌ قوية للاعتقاد بأن طولَ فترة ضعفِ الاقتصاد سوف يُلحِق ضررًا كبيرًا بإمكاناته على المدى الطويل.

مستقبل ضائع

وسط كلِّ الأعذار التي نستمع إليها لتبرير عدم اتخاذ الإجراءات اللازمة لوضع حدٍّ لهذا الكساد، ثمة مقولة متكرِّرة على لسان المدافعين عن التقاعُس، مفادها أننا في حاجة — على حدِّ قولهم — إلى التركيز على المدى الطويل، لا المدى القصير.

وهذا غير صحيح على عدة مستويات، كما سنرى لاحقًا في هذا الكتاب؛ فهذا الزعم ينطوي — في جملة أمور أخرى — على تنحٍّ فكريٍّ ورفضٍ لتحمُّل مسئوليةِ فهْم الكساد الحالي؛ فإنه لَأمرٌ مغرٍ ويسيرٌ أن نزيح هذه الأحداثَ غير السارة كلها جانبًا ونتحدث باستخفافٍ عن المدى الطويل، إلا أن ذلك مسلَكُ الكسالى والجبناء؛ هذا ما كان جون مينارد كينز يقصده تحديدًا عندما كتب أحد أشهر مقاطعه قائلًا: «هذا «المدى الطويل» دليلٌ مضلِّلٌ للأحداث الجارية؛ «فعلى المدى الطويل» سنكون جميعًا في عداد الأموات، وسيكون الاقتصاديون قد أخذوا على عاتقهم مهمةً سهلةً جدَّا — ولا طائلَ منها على الإطلاق — إنْ كان كلُّ ما يمكن أن يخبرونا به في المواسم العاصفة، أنه بعد فترة طويلة من مُضِيِّ العاصفة سيعود البحرُ هادئًا من جديد.»

إن التركيز على المدى الطويل فحسب يعني تجاهُلَ المعاناة الكبيرة التي يُلحِقها الكسادُ الحالي بالناس وحياتهم التي يدمِّرها إلى غير رَجعة، بينما تقرءون هذه السطورَ. ولكن هذا ليس كل شيء؛ فالمشكلات التي نعانيها على المدى القصير — إذا جازَ وصْفُ ركودٍ في عامه الخامس بأنه «قصير المدى» — تضرُّ أيضًا بإمكاناتنا على المدى الطويل، من خلال قنوات متعدِّدة.

لقد سبَقَ أن ذكرْتُ قناتين منها؛ الأولى هي التأثير الهدَّام للبطالة الطويلة الأجل؛ فإذا ما سادَ الظنُّ بأن العمَّال الذين ظلُّوا عاطلين عن العمل فتراتٍ طويلةً غير قابلين للتوظيف، فهذا تقليص للقوى العاملة الفعلية للاقتصاد على المدى الطويل، ومن ثَمَّ لقدرتها الإنتاجية. ومحنة خريجي الجامعات المضطرين إلى تولِّي وظائفَ لا يُعمِلون فيها مهاراتِهم مشابِهةٌ للمشكلة السابقة؛ فمع مرور الوقت، قد يجدون أنفسهم وقد انخفَضَ تقييمُهم — على الأقل في نظر أرباب العمل المحتملين — ليصبحوا في منزلة العمالة غير الماهرة؛ وهو ما يعني أن تعليمهم قد ذهب سدًى.

وثمة طريقة ثانية يقوِّض بها الركودُ مستقبلَنا تتمثَّل في انخفاضِ مستوى الاستثمارات التجارية؛ فالشركات لم تَعُدْ تنفق الكثيرَ لتوسيع نطاق قدراتها، بل إن القدرات التصنيعية انخفضَتْ نحو ٥ في المائة منذ بداية الركود الكبير؛ حيث عمدَتِ الشركاتُ إلى استهلاكِ قدرتها الإنتاجية القديمة ولم تستبدل بها أخرى جديدة. وثمة الكثير من الأساطير التي تحيط بموضوع انخفاض مستوى الاستثمارات؛ فيقولون: إنها حالة عدم اليقين! إنه الخوف من الاشتراكيين في البيت الأبيض! ولكن الحقيقة أنه ليس في الأمر لغز؛ فالاستثمارات منخفِضة لأن الشركات لا تبيع ما يكفي لاستغلال القدرات التي تمتلكها بالفعل.

المشكلة هي أنه عندما يسترِدُّ الاقتصادُ عافيتَه في نهاية المطاف — هذا إنِ استرَدَّها — فسيصطدم بمحدودية القدرات واختناقات الإنتاج في وقتٍ أقربَ بكثيرٍ مما كان سيحدث لو لم يُعْطِ الركودُ المستمر للشركات الأسبابَ الكافية لثَنْيِها عن الاستثمار في المستقبل.

وأخيرًا وليس آخِرًا، فإن التعامل (السيئ) مع الأزمة الاقتصادية يَستتبع تخريبَ البرامج العامة التي تخدم المستقبل.

فتعليم الشباب أمرٌ ذو أهمية حيوية في القرن الحادي والعشرين، وهذا ما أجمَعَ عليه الساسةُ والخبراءُ، إلا أن الركودَ المستمر — الناتج عن خلْقِ أزمةٍ ماليةٍ لحكومات الولايات والحكومات المحلية — قد أدَّى إلى الاستغناء عن حوالي ٣٠٠ ألف من معلِّمي المدارس. وقد دفعَتِ الأزمةُ المالية ذاتُها حكوماتِ الولايات والحكومات المحلية إلى تأجيل الاستثمار — أو إلغائه — في مجالات البنية التحتية للنقل والمياه؛ مثل: شقِّ نفقِ سكك حديدية ثانٍ أسفلَ نهر هدسون — كنَّا في أمَسِّ الحاجة إليه — ومثل مشروعات السكك الحديدية العالية السرعة التي أُلغِيَت في ويسكونسن وأوهايو وفلوريدا، ومشروعات السكك الحديدية الخفيفة التي أُلغِيَت في عددٍ من المدن، وهكذا دواليك. وقد شهدَتِ الاستثمارات العامة — بعد تعديلها لمراعاة التضخُّم — انخفاضًا حادًّا منذ بدء الركود؛ هذا يعني مرة أخرى أنه عندما يتعافى الاقتصاد في نهاية المطاف — هذا إنْ تعافَى — سنصطدم باختناقات ونقْصٍ في الموارد في وقتٍ أقربَ ممَّا نظنُّ.

إلى أيِّ مدًى ينبغي أن تقلقنا تلك التضحيات بالمستقبل؟ لقد دَرَس صندوقُ النقد الدولي تبعاتِ الأزمات المالية السابقة في عددٍ من البلدان، وجاءَتْ نتائجُ هذه الدراسة مُقلِقةً جدًّا؛ فقد خلصَتْ إلى أن هذه الأزمات لا تُحدِث ضررًا شديدًا على المدى القصير فحسب، وإنما يبدو أنها تُحدِث خسائرَ فادحةً على المدى الطويل أيضًا؛ إذ يسلك النموُّ والتوظيفُ مسارًا أدنى بصفة شبه دائمة. وهنا بيت القصيد؛ فالأدلة تشير إلى أن اتخاذ إجراءات فعَّالة للحدِّ من عمقِ الركود ومدَّتِه بعد وقوع أزمةٍ ماليةٍ، يقلِّل ذلك الضررَ على المدى الطويل أيضًا؛ وهو ما يعني أنه على العكس من ذلك، الفشل في اتخاذ مثل هذه الإجراءات — وهو ما يحدث الآن — يحتِّمُ علينا أيضًا تقبُّلَ مستقبلٍ منقوص مفعم بالمرارة.

معاناة الخارج

حتى هذه اللحظة كان حديثي مقتصِرًا على الولايات المتحدة الأمريكية؛ وذلك لسببين بديهيين؛ أولًا: أنها بلادي، ولذلك فمعاناتها تمسُّ شغافَ قلبي، وثانيًا: أنها البلد الذي أعرفه حقَّ المعرفة. ولكن معاناة الولايات المتحدة ليست فريدةً من نوعها بأي حال من الأحوال.

فالوضع في أوروبا على وجهِ التحديد محبِطٌ بالقدر ذاته؛ إذ عانَتْ أوروبا إجمالًا تراجُعًا في فُرَص العمل، لم يَبْلغ الحدَّ الذي تشهده الولايات المتحدة، إلا أنه ما زالَ رهيبًا. أما من حيث الناتج المحلي الإجمالي، ففي الواقع كان أداءُ أوروبا أسوأ. وعلاوة على ذلك، فإن التجربة الأوروبية غير متكافِئةٍ إلى حدٍّ كبيرٍ بين الدول؛ فعلى الرغم من أن ألمانيا لم يمسَسْها سوءٌ نسبيًّا (حتى الآن، ولكن دعونا نرى ما سيحدث لاحقًا)، تواجِهُ الدولُ الهامشية في أوروبا كارثةً محقَّقة. وَلْنكُنْ أكثرَ تحديدًا، فنقول إذا كان هذا الوقت عصيبًا للشباب في الولايات المتحدة — حيث يبلغ معدل البطالة ١٧ في المائة بين الشباب دون الخامسة والعشرين — فالوضع كابوسيٌّ في إيطاليا، حيث يبلغ معدل البطالة بين الشباب ٢٨ في المائة؛ وفي أيرلندا، حيث تبلغ النسبة ٣٠ في المائة؛ وفي إسبانيا، حيث تبلغ النسبة ٤٣ في المائة.

أما الأخبار السارَّة فيما يتعلَّق بأوروبا — إنْ جازَ التعبير — فهي أنه نظرًا لأن شبكات الأمان الاجتماعي في الدول الأوروبية أقوى بكثيرٍ من مثيلتها في الولايات المتحدة، فإن التبعات المباشِرة للبطالة أخفُّ وطأةً بكثير. فالرعاية الصحية الشاملة تعني أن فقدان وظيفتك في أوروبا لا يؤدِّي لفقدان التأمين الصحي أيضًا، هذا بالإضافة إلى أن إعانات البطالة السخية نسبيًّا في أوروبا تَحُدُّ من تفشِّي الجوع والتشرُّد.

إلا أن التركيبة الأوروبية العجيبة التي تجمع بين الوحدة والانقسام — من حيث اعتماد معظم الدول عملةً موحَّدةً دون إقامة الوحدة السياسية والاقتصادية اللازمة لتوحيد العملة — أصبحَتْ موطنَ ضعفٍ بالِغٍ ومصدرًا للأزمات المتجددة.

كان ثمة تفاوُتٌ في تأثير الركود على مختلف أنحاء أوروبا — كما كان الحال في الولايات المتحدة — وأصبحَتِ المناطقُ التي شهدَتْ أكبرَ الفقاعات قبل الأزمة تواجِهُ الآن أكبرَ كسادٍ؛ يمكن أن نعتبِرَ إسبانيا هي فلوريدا الأوروبية، وأيرلندا هي نيفادا الأوروبية. الفارق هنا هو أن السلطة التشريعية بولاية فلوريدا لا تُضطر للقلق بشأن توفير النقود اللازمة لدفع تكاليف الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي — الذين تتكفَّل بهما الحكومة الفيدرالية — أما إسبانيا فهي مسئولة عن نفسها، وكذا الوضع في اليونان والبرتغال وأيرلندا. إذَنْ، فقد تسبَّبَ الكسادُ الاقتصادي في أوروبا في أزمات مالية، صارَ مستثمِرو القطاع الخاص بمقتضاها يُحجِمون عن إقراض عددٍ من البلدان؛ وتسبَّبَتِ الاستجابةُ لهذه الأزمات المالية — في صورةِ المحاولات الشرسة والمحمومة لخفض الإنفاق — في دفع معدلات البطالة في دول المحيط الأوروبي إلى مستوياتها أثناء الكساد الكبير، ويبدو في وقت كتابة هذه السطور أنها في سبيلها إلى دفع أوروبا إلى حالةٍ من الركود التامِّ.

سياسات اليأس

تجاوزَتِ التكلفةُ النهائية للكساد الكبير حدَّ الخسائر الاقتصادية، أو حتى المعاناة المرتبطة بالبطالة الجماعية؛ فقد كانت للكسادِ آثارٌ سياسية كارثية أيضًا. على وجه التحديد، من المتعارف عليه حديثًا الربطُ بين صعود هتلر والتضخُّم الجامح الذي شهدَتْه ألمانيا عام ١٩٢٣، هذا في حين أن ما جاء به إلى السلطة فعليًّا كان الكساد الذي سادَها في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين؛ وهو الكساد الذي كان أشدَّ وطأةً ممَّا في سائر أوروبا؛ وذلك بسبب السياساتِ الانكماشيةِ للمستشار هاينريش برونينج.

هل من الممكن أن يَحدث أمرٌ مشابِه اليوم؟ ثمة وصمةُ عارٍ راسخةٌ ولها ما يبرِّرها تتعلَّق بعقدِ أيِّ مقارنة مع الحكم النازي (انظر «قانون جودوين»)، ومن الصعب تصوُّرُ حدوثِ أمرٍ بهذا السوء في القرن الحادي والعشرين. ومع ذلك، فإنه من الغباء أن نهوِّن من المخاطر التي يمثِّلها الركودُ المطوَّل على القيم والمؤسسات الديمقراطية. في واقع الأمر، لقد شهدَتْ بلاد مختلف أنحاء العالم الغربي صعودًا واضحًا للسياسات المتطرفة — من الحركات الراديكالية المعادية للمهاجرين، والحركات القومية المتطرفة — وبالفعل نجد المشاعرَ الاستبدادية كافةً في ازدهار. في الواقع، يبدو أن ثمة دولةً غربيةً — وهي المجر — في سبيلها بالفعل إلى العودة إلى نظامٍ استبداديٍّ يذكِّرنا بالنُّظُم التي سادَتْ معظمَ أنحاء أوروبا في ثلاثينيات القرن العشرين.

والولايات المتحدة ليسَتْ منيعةً ضدَّ تلك النزعة؛ فهل يمكن لأحدٍ أن يُنكِرَ أن الحزبَ الجمهوري قد أصبح أكثر تطرُّفًا بكثيرٍ في السنوات القليلة الماضية؟ وأصبحَتْ لديه فرصةٌ معقولة للسيطرة على كلٍّ من الكونجرس والبيت الأبيض في وقتٍ لاحقٍ من هذا العام — على الرغم من تطرُّفه — وذلك لأن التطرُّف يزدهر في البيئة التي لا تقدِّم فيها الأصواتُ المحترمة أيَّ حلولٍ، بينما تعاني الشعوب.

لا تستسلموا

لقد رسمتُ لتوِّي صورةَ كارثة إنسانية هائلة، ولكن الكوارث تَحدث بالفعل، والتاريخ مليءٌ بقصص الفيضانات والمجاعات والزلازل وأمواج تسونامي. أما مَبْعث هول هذه الكارثة — وما ينبغي أن يكون مبعثَ «غضبِكَ» — فهو أنه لا توجد ضرورةٌ لكلِّ هذا؛ فنحن لم نتعرَّضْ لوباءٍ من الجراد، ولم نفقد معرفتنا التكنولوجية؛ فينبغي أن تصبح الولايات المتحدة وأوروبا أكثر ثراءً — وليس أكثر فقرًا — مما كانَتَا عليه منذ خمس سنوات مضَتْ.

بالإضافة إلى ذلك، فهذه الكارثة لا يكتنفها الغموض؛ فأثناءَ الكسادِ الكبير، كان للزعماء آنذاك عذرهم؛ فلم يكن أحدٌ يعرف حقيقةَ ما يحدث أو كيفيةَ إصلاحه، أما زعماء اليوم فليس لديهم مثل هذا العذر؛ فنحن «لدَيْنا ما نحتاجه من المعرفة والأدوات لوضْعِ حدٍّ لهذه المعاناة.»

لكننا لا نستخدمها. في الفصول التالية سأحاول أن أشرح السبب، وكيف أَمْكَنَ لمزيجٍ من المصالح الشخصية والأيديولوجية المشوهة أن تمنعنا من حلِّ مشكلةٍ قابلةٍ للحلِّ. وعليَّ أن أعترف بأن مشاهدة عجزِنا التام عن القيام بما ينبغي، يورثني في بعض الأحيان شعورًا باليأس.

ولكنَّ هذا ردُّ الفعلِ الخاطئ.

فبينما استمرَّ الركود، وجدتُ نفسي أستمِعُ مرارًا إلى أغنية جميلة غنَّاها بيتر جابرييل وكيت بوش في ثمانينيات القرن العشرين؛ تجري أحداثُ الأغنية في زمانٍ ومكانٍ غير محدَّدَيْن، سادَتْ فيهما بطالةٌ جماعية؛ فينساب صوتُ الرجل القانِط معبِّرًا عن يأسه قائلًا: «لكلِّ وظيفةٍ يتقدَّمُ كثيرون.» ليجيبَه صوتُ السيدةِ مشجِّعًا: «لا تستسلم.»

إنها أوقات عصيبة، وتبدو أفظعَ لأن كلَّ ما يحدث لا داعيَ له. ولكن لا تستسلموا؛ فيمكننا أن نُنهِيَ هذا الكساد، لا بشيءٍ سوى وضوحِ الرؤية والإرادة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤