الفصل العاشر

فجر اليورو

مرَّتْ عشرُ سنواتٍ منذ أن خطَتْ مجموعةٌ رائدةٌ من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي خطوةً بالغةَ الأهمية وأطلقَتِ العملةَ الموحدة؛ اليورو. وفي ١ يناير ١٩٩٩ — بعد سنواتٍ من الاستعدادات المتأنِّية — أصبَحَ اليورو العملةَ الرسميةَ لأكثر من ٣٠٠ مليون مواطِنٍ في منطقة اليورو الوليدة. وبعد ثلاث سنوات — في أول يومٍ من سنة ٢٠٠٢ — بدأَتْ عملات اليورو المعدنية اللامعة وأوراق اليورو الجديدة في الظهور، لتحلَّ محلَّ ١٢ عملة وطنية في حافظات الناس وجيوبهم. وبعد مرور عقدٍ على نشأتها، نحتفل بالاتحاد الاقتصادي والنقدي واليورو، كما نبحث في مدى وفائه بوعده.

حدثَتْ بعضُ التغييرات السارَّة منذ إطلاق اليورو؛ فاليوم، اتَّسَعَ نطاقُ منطقة اليورو ليشمل ١٥ بلدًا — بانضمامِ سلوفينيا في عام ٢٠٠٧، وقبرص ومالطا في ٢٠٠٨ — وأخذَتْ معدلات العمالة والنمو في الارتفاع مع تحسُّنِ الأداء الاقتصادي. وعلاوةً على ذلك، أصبَحَ اليورو تدريجيًّا عملةً دوليةً بحقٍّ، ويمنح منطقةَ اليورو دورًا أكبرَ في الشئون الاقتصادية الدولية.

إلا أن الفوائد التي جلَبَها اليورو لا تقتصِرُ على الأرقام والإحصاءات فحسب؛ فقد تسبَّبَ كذلك في زيادة الخيارات واليقين والأمان، والفُرَص في حياة المواطنين اليومية. وفي هذا الكُتَيِّب، نقدِّمُ بعضَ الأمثلة على إدخالِ اليورو — في الماضي والحاضر — تحسُّنًا حقيقيًّا على أرض الواقع لسكان أوروبا كافةً. (الأشخاص الممثلين في قصصِ النجاح العشْرِ خيالِيُّون؛ لكن المواقف تُمثِّل أوضاعًا نموذجيةً تستنِد إلى بياناتٍ حقيقيةٍ.)

مقدمة كُتَيِّب «عشر سنوات على اليورو: ١٠ قصص نجاح»
الصادر عن المفوضية الأوروبية في بداية عام ٢٠٠٩

خلال السنوات القليلة الماضية، بَدَتِ المقارنةُ بين التطوُّرات الاقتصادية في أوروبا والولايات المتحدة وكأنها سباقٌ بين الأعرج والكسيح، أو بَدَتْ — في تعبيرٍ آخَر — وكأنها منافَسةٌ على الاستجابة الأسوأ للأزمة. وفي وقتِ كتابة هذه السطور، تبدو أوروبا متقدِّمةً في السباق نحو الكارثة، ولكنها تحتاج إلى بعض الوقت.

إذا كان ما أقوله يبدو قاسيًا، أو معبِّرًا عن شماتةٍ أمريكيةٍ، فدعوني أوضِّح مقصدي: إنَّ المتاعبَ الاقتصادية التي تتكبَّدُها أوروبا لَأمرٌ رهيبٌ حقًّا، ليس فقط بسببِ المعاناة التي تتسبَّب فيها، ولكن بسبب تبعاتها السياسية أيضًا؛ فطوال ستين عامًا تقريبًا، انخرطَتْ أوروبا في تجربة نبيلة، تمثَّلَتْ في محاولة إصلاح قارة مزَّقَتْها الحربُ عن طريق الاندماج الاقتصادي، ووضعها على طريق السلام والديمقراطية الدائمَين. ويمثِّل نجاح هذه التجربة نجاحًا للعالم بأسره، كما أن العالم كله سيعاني إذا ما باءَتْ بالفشل.

بدأَتِ التجربةُ عام ١٩٥١، مع إنشاءِ الجماعة الأوروبية للفحم والصلب؛ لا تَدَعْ ذلك الاسمَ غير المميز يخدعك، فقد كانَتْ تلك محاولةً مثاليةً إلى حدٍّ كبيرٍ لجعل الحرب في أوروبا أمرًا مستحيلًا؛ فبإقامة تجارة حرة في الفحم والصلب — أيْ إلغاء كافة الرسوم الجمركية والقيود على الشحنات الاقتصادية العابرة الحدود، بحيث تتمكَّن مصانعُ الصلب من شراء الفحم من أقربِ منتِج له، حتى لو كان على الجانب الآخَر من الحدود — استطاعَت الاتفاقية تحقيقَ مكاسب اقتصادية، إلا أن هذه الاتفاقية استطاعَتْ أيضًا أن تضمنَ اعتمادَ مصانع الصلب الفرنسية على الفحم الألماني، والعكس؛ بحيث يصير لأيِّ اقتتالٍ في المستقبل بين الدولتين عواقبُ وخيمة؛ ومن ثَمَّ كان ثمة أملٌ في استبعاده تمامًا.

حقَّقَتْ جماعة الفحم والصلب نجاحًا كبيرًا، وأصبحَتْ نموذجًا يُحتذَى لسلسلةٍ من الخطوات المماثلة؛ ففي عام ١٩٥٧، أنشأَتْ ستُّ دولٍ أوروبية الجماعةَ الاقتصادية الأوروبية، وهو اتحادٌ جمركي يسمح بالتجارة الحرة بين أعضائه مع وضْعِ تعريفات جمركية مشتركة على الواردات القادمة من الخارج. وفي سبعينيات القرن العشرين، انضَمَّتْ كلٌّ من بريطانيا وأيرلندا والدنمارك إلى تلك الجماعة، وفي الوقت نفسه اتَّسَعَ دورُ الجماعة الأوروبية؛ حيث بدأَتْ في تقديم المساعدات إلى المناطق الأكثر فقرًا، وتشجيع الحكومات الديمقراطية في جميع أنحاء أوروبا. وفي ثمانينيات القرن العشرين، كُوفِئَتْ إسبانيا والبرتغال واليونان على التخلُّصِ من حكَّامها الطغاة بالانضمام إلى الجماعة؛ وبدأَتِ الدولُ الأوروبية في تعميقِ العلاقات الاقتصادية فيما بينها من خلال تنسيق الضوابط الاقتصادية، وإزالة المراكز الحدودية، وضمان حرية حركة العمال.

في كلِّ مرحلةٍ، كانَتِ المكاسبُ الاقتصادية الناتجة عن الاندماج الوثيق تأتي مقترنةً بدرجةٍ أقوى من الاندماج السياسي؛ فالسياسات الاقتصادية لا تُعنَى أبدًا بالاقتصاد فحسب، بل إنها طالما كانَتْ تهدف إلى تعزيز الوحدة الأوروبية. على سبيل المثال، كانَتِ الفوائدُ الاقتصادية لتحرير التجارة الحرة بين إسبانيا وفرنسا بعد وفاة الجنرال فرانسيسكو فرانكو بالقوة نفسها التي كانت عليها أثناء حكمه (كما أن مشكلات انضمامِ إسبانيا كانَتْ حقيقيةً بعد وفاته بقدرِ ما كانَتْ من قبلُ)، ولكنَّ إضافةَ إسبانيا الديمقراطية للمشروع الأوروبي كانَتْ هدفًا قيِّمًا أكثرَ ممَّا كان تحريرُ التجارة مع دولة ذات حكم دكتاتوري؛ ويساعد ذلك على تفسيرِ ما يبدو الآن خطأً قاتلًا؛ أَلَا وهو قرارُ الانتقال إلى عملةٍ موحَّدةٍ؛ فقد كانَتِ النخبُ الأوروبية أسيرةَ فكرةِ إنشاءِ رمزٍ قويٍّ للوحدة، حتى إنهم بالَغُوا في تصوير مكاسِب توحيدِ العملة، ونحَّوْا جانبًا التحذيراتِ من سلبياتٍ لا يُستهان بها لهذه العملة الموحَّدة.

مشكلة العملة (الموحَّدة)

مما لا شك فيه أنه ثمة تكاليف حقيقية لاستخدام عملات متعدِّدة، وهي التكاليف التي يمكن تجنُّبها باعتماد عملة موحدة؛ فتكلفة التجارة عبر الحدود ترتفع إذا كانَتْ تتطلَّبُ تبادُلَ عملاتٍ، أو الإبقاءَ على عملات متعدِّدة في متناول اليد، أو الاحتفاظَ بها في الحسابات المصرفية، أو كلَّ ما سبق. وتُدخِل إمكانيةُ تقلُّبِ أسعار الصرف عنصرَ عدم اليقين؛ ومن ثَمَّ يصبح التخطيطُ أكثرَ صعوبةً وتصير الحسابات أقلَّ وضوحًا عندما لا تستخدِم الإيراداتُ والمصروفاتُ الوحدةَ نفسها دائمًا. وكلما زادَتْ تجارة الوحدة السياسية مع جيرانها، زادت إشكالية امتلاكها عملةً مستقلةً؛ ولهذا لن يكون امتلاكُ بروكلين — على سبيل المثال — دولارًا خاصًّا بها مثل كندا فكرةً صائبةً.

ولكنَّ ثمة أيضًا مميزاتٍ مهمةً لامتلاكك عملتَكَ الخاصةَ؛ من أيسرها على الفهم أن تخفيض قيمة العملة مقابِل العملات الأخرى قد يساهِم في بعض الأحيان في عملية التكيُّف مع أيِّ صدمةٍ اقتصادية.

فَلْننظر إلى هذا المثال الواقعي تمامًا: لنفترِضْ أنَّ إسبانيا أمضَتْ جزءًا كبيرًا من العقد الماضي مدعومةً بطفرة هائلة في سوق الإسكان، موَّلَتْها تدفُّقاتٌ كبيرةٌ من رءوس الأموال القادمة من ألمانيا، وقد غذَّتْ هذه الطفرةُ التضخُّمَ ورفْعَ الأجور في إسبانيا بالنسبة إلى الأجور في ألمانيا؛ ولكن اتَّضَحَ أن هذه الطفرة كانت متضخِّمةً نتيجةَ فقاعةٍ، ما لبثَتْ أن انفجرَتْ؛ ونتيجةً لذلك، تحتاجُ إسبانيا إلى إعادةِ توجيهِ اقتصادها بعيدًا عن الإسكان والعودة به نحو التصنيع. ولكن في هذه المرحلة لم يَعُدِ التصنيعُ الإسباني تنافسيًّا؛ لأن الأجور الإسبانية أصبحَتْ مرتفعةً جدًّا مقارَنةً بالأجور الألمانية؛ فكيف يمكن لإسبانيا أن تصبح قادرةً على المنافسة مرة أخرى؟

يتمثَّل أحدُ السبلِ إلى تحقيق ذلك في إقناع العمَّال الإسبان بقبول أجور أقل، أو دفْعهم إلى ذلك. في الواقع، يصبح ذلك السبيل الوحيد المتاح لتحقيق التنافسية إذا كان لدى إسبانيا وألمانيا نفس العملة، أو إذا كانَتِ العملةُ في إسبانيا ثابتةً في مقابل العملة الألمانية، بسبب سياسات غير قابلة للتغيير.

ولكن إذا كانَتْ إسبانيا تمتلك عملتها الخاصة، وكانت على استعدادٍ لترك قيمتها تنخفض، فسيمكنها تقريب مستوى الأجور فيها من نظيره في ألمانيا عن طريق تخفيض قيمة عملتها ببساطة؛ فيمكن لتغيير قيمة العملة — بأن تصير قيمة كلِّ مارك ألماني ١٠٠ بيزيتا بدلًا من ٨٠ بيزيتا — أن يخفض الأجور الإسبانية مقابل الأجور الألمانية بنسبة ٢٠ في المائة بضربةٍ واحدةٍ، مع الإبقاء على الأجور الإسبانية «بعملة البيزيتا» كما هي.

لماذا يُعَدُّ هذا أسهلَ من مجرد التفاوض على أجورٍ أقلَّ؟ أفضل تفسيرٍ يأتي من ميلتون فريدمان دون سواه، الذي دافَعَ عن أسعار الصرف المَرِنة في المقال الكلاسيكي الذي نشَرَه عام ١٩٥٣ تحت عنوان: «حجة أسعار الصرف المَرِنة» في كتاب «مقالات في الاقتصاد الوضعي»، وإليكم ما كتبه:

من المثير للدهشة، أن الحجة الداعمة لأسعار الصرف المَرِنة مطابِقةٌ تقريبًا للحجة الداعمة للتوقيت الصيفي؛ أليس من السخف أن نغيِّرَ الساعةَ في الصيف عندما يمكن تحقيقُ نفس النتيجة تمامًا من خلال تغييرِ عاداتِ كلِّ فردٍ على حدة؟ كلُّ المطلوب هو أن يقرِّرَ كلُّ شخصٍ أن يصل إلى مكتبه مبكرًا ساعةً عن موعده، ويتناول الغداءَ مبكرًا ساعةً، وهكذا دواليك. ولكن من البديهي أن تغييرَ الساعة التي ترشد الجميع أبسطُ كثيرًا من حثِّ كلِّ فردٍ على حدة على تغيير نمط استجابته للتوقيت، على الرغم من رغبة الجميع في ذلك. الوضع مماثِل تمامًا في سوق الصرف؛ إن السماح لسعرٍ واحدٍ بالتغيير — وهو سعر صرف العملات الأجنبية — أبسطُ كثيرًا من أن تعتمِدَ على التغيُّرات في حشدٍ من الأسعار التي تشكِّل مجتمعةً البنيةَ الداخلية للأسعار.

من الواضح أن هذا صحيح؛ فالعمَّال دائمًا ما يحجمون عن قبول خفض أجورهم، ولكن أكثر ما يدفعهم للإحجام هو عدم تأكُّدهم من قبول العمَّال الآخَرين لخفضٍ مماثِلٍ، وما إذا كانَتْ تكاليفُ المعيشة سوف تنخفض مع انخفاض أجور العمالة. لا توجد لدى أيِّ بلدٍ أعرفه نوعيةُ أسواق العمالة والمؤسسات التي من شأنها أن تيسِّرَ الاستجابةَ للوضع الذي وصفْتُه للتوِّ في إسبانيا عن طريق تخفيض الأجور في القطاعات كافةً، ولكنَّ البلدانَ يمكن أن تخفِّض أجورَها النسبية بين عشيةٍ وضحاها — دون عوائق تقريبًا — عن طريق خفض قيمة العملة، وثمة بلدان تلجأ إلى هذا الحلِّ فعلًا.

إذَنْ، فتوحيد العملة ينطوي على مفاضَلةٍ؛ فمن ناحيةٍ، تحقِّق العملةُ المشتركة مكاسِبَ من ناحية الكفاءة؛ حيث تنخفض تكاليف الأعمال التجارية، ويُفتَرَض تحسُّنُ عملية تخطيطها؛ ومن ناحيةٍ أخرى، تترتَّبُ عليها خسائرُ في المرونة، وهو ما يمكن أن يتسبَّبَ في مشكلةٍ كبيرةٍ إذا حدثَتْ «صدماتٌ غير متماثِلةٍ» هائلة، مثل انهيار الطفرة العقارية الذي شهدَتْه بعض البلدان ولم تشهده كلها.

من الصعب تقييمُ المرونة الاقتصادية كَمِّيًّا، ومن الأصعب تقييمُ المكاسبِ المترتبة على العملة المشتركة كمِّيًّا؛ ومع ذلك، فثمة عددٌ كبيرٌ من المؤلَّفات الاقتصادية التي تتناول معايير «المنطقة المثلى للعملة»، وهو مصطلح فني قبيح، ولكنه مفيد يعبِّر عن مجموعة البلدان التي من شأنها أن تستفيد من عملية دمج عملاتها. فماذا تقول هذه المؤلَّفات؟

أولًا: لا معنى لتوحيد العملة ما لم يكن حجمُ التبادُلِ التجاري بين البلدان كبيرًا؛ ففي تسعينيات القرن العشرين، ثبَّتَتِ الأرجنتين قيمةَ البيزو لتساوي دولارًا أمريكيًّا واحدًا، وافترضَتْ أن يستمِرَّ ذلك إلى الأبد. ذلك التصرُّف لا يماثِلُ التخلِّي عن عملتها تمامًا، ولكنْ كان الهدف منه أن يكون ثانيَ أفضل خيار، واتضح بعد ذلك أن هذه الخطوة كان مصيرها الفشل، وانتهَتْ بتخفيض قيمةِ العملة والعجز عن السداد؛ وكان أحدُ أسباب ذلك أن الأرجنتين لا تربطها صلةٌ اقتصاديةٌ وثيقةٌ بالولايات المتحدة، التي تمثِّل ١١ في المائة فقط من وارداتها و٥ في المائة من صادراتها؛ فمن ناحيةٍ، كانت المكاسِبُ المترتِّبة على تهيئة مناخٍ من اليقين في قطاع الأعمال فيما يتعلَّق بارتباط سعر الدولار بالبيزو ضئيلةً إلى حدٍّ ما مهما بلغَتْ؛ حيث إن حجمَ تجارة الأرجنتين مع الولايات المتحدة ضئيلٌ جدًّا؛ ومن ناحيةٍ أخرى، فإن الضررَ الذي لحق بالأرجنتين جرَّاء تقلُّبِ أسعار العملات الأخرى — وخاصةً الهبوط الكبير الذي شهده كلٌّ من اليورو والريال البرازيلي مقابِل الدولار — جعل أسعارَ صادرات الأرجنتين مُبالَغًا فيها جدًّا.

وفق هذا المعيار، كان وضْعُ أوروبا يبدو حسنًا؛ فحجم التبادُلِ التجاري بين الدول الأوروبية يصل إلى حوالي ٦٠ في المائة من إجمالي تجارتها، علمًا بأن حجمَ تجارة هذه البلدان «كبيرٌ جدًّا». أما فيما يتعلَّقُ بمعيارَيْن آخَريْن مهِمَّيْن — وهما انتقال الأيدي العاملة، والاندماج المالي — فلم تَبْدُ أوروبا مناسِبةً بالقدر ذاته لمسألة توحيد العملة.

احتلَّ موضوعُ انتقال العمالة موقعَ الصدارة في البحث الذي افتتَحَ الميدانَ المعنِيَّ بمنطقةِ العملة بأسره، والذي أعَدَّه الخبيرُ الاقتصاديُّ الكَنَدِيُّ المَوْلِدِ روبرت موندِل عام ١٩٦١. وخلاصةُ حجةِ موندِل هي أن مشكلات التكيُّف مع طفرة الازدهار في ساسكاتشوان في نفس الوقت الذي تشهد فيه كولومبيا البريطانية ركودًا — أو العكس — ستكون أقلَّ بكثيرٍ إذا استطاعَ العمَّالُ أن يتنقَّلوا بحُرِّيةٍ حيثما تتواجَدُ الوظائف. وفي الواقع، تتنقَّلُ اليد العاملة بحُريةٍ بين المقاطعات الكندية — فيما عدا مقاطعة كيبيك — وكذلك بين الولايات الأمريكية، إلا أنها لا تتحرك بحرِّيةٍ مماثلةٍ بين الدول الأوروبية؛ فعلى الرغم من أن الأوروبيين صار من حقِّهم قانونًا منذ عام ١٩٩٢ أن يلتحقوا بالعمل في أي مكان من الاتحاد الأوروبي، فإن الانقساماتِ اللغويةَ والثقافيةَ كبيرةٌ لدرجةِ أنه حتى التفاوُت الكبير في معدلات البطالة لا يُسفِر إلا عن نِسَبٍ محدودةٍ من الهجرة بين بلدان الاتحاد.

وقد سلَّطَ بيتر كينين، من جامعة برنستون، الضوءَ على أهمية الاندماج المالي بعد مرور بضع سنوات على بحث موندِل. ولتوضيح وجهة نظر كينين، دعونا نحاوِل تخيُّلَ مقارَنةٍ بين اقتصادَيْن متشابهَيْن إلى حدٍّ كبيرٍ في هذه اللحظة — مع تنحيةِ المظهر العام جانبًا — هما أيرلندا ونيفادا. شهد كلا الاقتصادين فقاعاتٍ عقاريةً ضخمةً وانفجارَها؛ ما أفضى إلى وقوعهما في ركودٍ عميقٍ صعد بمعدلات البطالة إلى عنان السماء، كما شهدَا العديدَ من حالات التخلُّفِ عن سداد أقساط الرهن العقاري.

ولكن في حالة نيفادا، خفَّفَتِ الحكومةُ الفيدرالية وقْعَ هذه الصدمات إلى حدٍّ كبيرٍ؛ فنيفادا تدفع ضرائبَ أقلَّ كثيرًا إلى واشنطن هذه الأيام، ولكنَّ سكانَ الولاية من كبار السن ما زالوا يحصلون على شيكات الضمان الاجتماعي، وما زالَتِ الرعايةُ الصحية تدفع فواتيرهم الطبية؛ إذَنْ فالولاية تتلقَّى فعليًّا معونةً كبيرةً. وفي الوقت ذاته، تضمن وكالةٌ فيدراليةٌ — مؤسسة تأمين الودائع الفيدرالية — ودائعَ بنوك نيفادا، كما تتحمَّل مؤسَّستَا فاني وفريدي — وهما مؤسَّستان مدعومتان من الحكومة الفيدرالية — بعضَ الخسائر الناتجة عن التخلُّف عن دفع أقساط الرهن العقاري.

على النقيض من ذلك، تقف أيرلندا بمفردها تقريبًا في مواجهة أزمتها؛ فهي المنوطة بإنقاذ بنوكها، ودفْع المعاشات وفواتير الرعاية الصحية من إيراداتها الخاصة التي تقلَّصَتْ إلى حدٍّ هائل. فعلى الرغم من الأوقات العصيبة التي يمرُّ بها المكانان، نجد أن أيرلندا تواجِهُ أزمةً لا تعانيها نيفادا.

وليس في ذلك ما يثير الدهشة؛ فمنذ عشرين عامًا — عندما بدأَتْ فكرةُ العملة الأوروبية الموحَّدة تتحرَّك في اتجاهِ التنفيذ الفعلي — تفهَّمَ كثيرون الإشكاليةَ التي يمثِّلها إنشاءُ تلك العملة. في الواقع، كان ثمة نقاشٌ أكاديمي موسع لهذه القضية (شاركْتُ فيه شخصيًّا)، وأبْدَى علماءُ الاقتصاد الأمريكيون المعنِيُّون بوجهٍ عامٍّ تشكُّكًا إزاءَ قضية اليورو، وكان تشكُّكُهم مبنِيًّا في الأساس على أن الولايات المتحدة تبدو نموذجًا جيدًا لما يلزم لجعل الاقتصاد مناسِبًا لفكرةِ العملة الواحدة، وكانت أوروبا بعيدةً تمامًا عن هذا النموذج. كنا نرى أن حركةَ العمالة كانت ضعيفةً جدًّا، كما أن عدم وجود حكومةٍ مركزية، وما من شأن تلك الحكومة أن توفِّره من حائطِ صدٍّ تلقائيٍّ؛ زاد من تلك الشكوك.

إلا أنهم نحَّوْا هذه التحذيرات جانبًا. كان بريق فكرة اليورو — إنْ جازَ التعبير — والشعور بأن أوروبا تتَّخِذُ خطوةً بالغةَ الأهمية نحو إنهاء تاريخها الحربي أخيرًا والتحوُّل إلى منارة للديمقراطية، ساطِعًا إلى حدٍّ آسِر. وعندما تساءَلَ المرءُ كيف ستتصرَّفُ أوروبا حين تجد بعضَ الاقتصادات مزدهرةً، واقتصاداتٍ أخرى في تراجُعٍ — كما هو الحال في ألمانيا وإسبانيا الآن — كانَ الردُّ الرسمي الذي يتلقَّاه مفاده أن دولَ اليورو جميعًا ستتبع سياساتٍ سليمةً، بحيث لا تَحدث «صدماتٌ غيرُ متماثِلةٍ» من هذا القبيل، وإن حدثَتْ بطريقة أو بأخرى، فإن «الإصلاحات الهيكلية» من شأنها أن تُكسِبَ الاقتصاداتِ الأوروبيةَ المرونةَ الكافيةَ لإجراء التعديلات اللازمة.

أما ما حدث في الواقع فكان الصدمةَ غيرَ المتماثِلة الكبرى، وكان استحداث اليورو في حدِّ ذاته السببَ فيها.

فقاعة اليورو

دخل اليورو حيِّزَ الوجود رسميًّا في بداية عام ١٩٩٩، وإنْ كانَتْ عملاتُ اليورو الورقية والمعدنية لم تصل إلا بعد مرور ثلاث سنوات أخرى. (رسميًّا، أصبَحَ الفرنك الفرنسي والمارك الألماني والليرة الإيطالية، وما شابهها من عملاتٍ، فئةً من فئات اليورو؛ بحيث صار الفرنك الفرنسيُّ = ١ / ٦٫٥٥٩٧ من اليورو، والمارك الألمانيُّ = ١ / ١٫٩٥٥٨٣ من اليورو … إلخ.) وكان لهذا تأثيرٌ حتميٌّ فوريٌّ؛ فقد أشعَرَ المستثمرين بالأمان.

ولنكونَ أكثر تحديدًا، أدَّى ذلك إلى شعورِ المستثمرين بالأمان إزاء وضْعِ نقودهم في بلدانٍ كان الاستثمار فيها يُعتبَر خطِرًا فيما مضى؛ فقد كانَتْ أسعارُ الفائدة في جنوب أوروبا أعلى بكثيرٍ من أسعارها في ألمانيا على مرِّ التاريخ؛ لأن المستثمرين كانوا يُطالِبون بعلاوةٍ تعويضًا عن مخاطر تخفيضِ قيمة العملة والعجز عن السداد أو أحدهما. مع صدور اليورو اختفَتْ تلك العلاوات؛ فكانَتِ الديونُ الإسبانية والإيطالية وحتى الديون اليونانية تُعامَل على أنها آمِنةٌ بدرجةٍ تصل تقريبًا إلى أمان الديون الألمانية.

أدَّى هذا إلى خفضٍ كبيرٍ في تكلفة اقتراض النقود في جنوب أوروبا؛ ما أفضى إلى ازدهارٍ هائلٍ في سوق العقارات، سرعان ما تحوَّلَ إلى فقاعاتٍ ضخمةٍ في قطاع الإسكان.

كانت آليات عمل تلك الطفرات أو الفقاعات في قطاع الإسكان تختلف نوعًا ما عن آلية عمل فقاعة الولايات المتحدة؛ فقد كان التمويلُ غير التقليدي أقلَّ بكثيرٍ من الإقراض المباشِر من البنوك التقليدية، إلا أن البنوك المحلية لم يكن لديها من الودائع ما يكفي لدعم كلِّ تلك القروض؛ ومن ثَمَّ فقد تحوَّلَتْ إلى سوق الجملة، مقترِضةً النقودَ على نطاقٍ هائلٍ من بنوك دول «المحور» الأوروبية — وخاصةً ألمانيا — التي لم تشهد طفرةً مماثِلةً؛ ولذلك كانت ثمة تدفُّقاتٌ ضخمةٌ لرأس المال من محور أوروبا إلى محيطها المزدهر.

غذَّتْ تدفُّقاتُ رءوس الأموال طفراتٍ أدَّتْ بدورها إلى ارتفاع الأجور؛ ففي العقد الذي تلا إصدارَ عملة اليورو، ارتفعَتْ تكاليفُ وحدة العمل (وهي الأجور المعدلة لتتناسِب مع الإنتاجية) حوالي ٣٥ في المائة في جنوب أوروبا، مقارَنةً بارتفاع نسبته ٩ في المائة فقط في ألمانيا، وأصبحَتِ الصناعةُ في جنوب أوروبا غيرَ تنافسيةٍ؛ ما استتبَعَ بدوره أن البلدان التي كانَتْ تجتذبُ تدفُّقاتٍ ماليةً ضخمةً بدأَتْ تعاني عجزًا تجاريًّا ضخمًا بالتوازي مع تلك التدفُّقات المالية. وحتى نستطيع تخيُّلَ ما كان يحدث — وما يجب إصلاحُه الآن — يوضِّح الشكلُ أدناه تزايُدَ اختلالِ الموازين التجارية داخل أوروبا بعد إدخال اليورو؛ فيُظهِر أحدُ الخطَّيْن ميزانَ الحساب الجاري في ألمانيا (وهو مقياسٌ عامٌّ للميزان التجاري)، بينما يوضِّح الآخَرُ موازينَ الحسابات الجارية المجمَّعة لليونان وأيرلندا والبرتغال وإسبانيا وإيطاليا، وتلك الفجوةُ المتَّسِعة هي أساس مشكلاتِ أوروبا.

figure
بعد استحداث اليورو، تعرَّضَتِ اقتصاداتُ اليونان وأيرلندا والبرتغال وإسبانيا وإيطاليا لعجزٍ ضخمٍ في حساباتها الجارية، وهو مقياس عريض للميزان التجاري. وفي المقابل، انتقلَتْ ألمانيا إلى فائضٍ ضخمٍ بالتوازي معها (المصدر: صندوق النقد الدولي).

لكنَّ قلةً من الناس أدركَتْ مَبلَغَ الخطر وهو في طورِ التكوُّن، بل إنه كان ثمة شعورٌ بالرضا يكاد يبلغ حدَّ النشوة. ثم انفجرَتِ الفقاعات.

أشعلَتِ الأزمةُ المالية في الولايات المتحدة فتيلَ الانهيار في أوروبا، إلا أن الانهيارَ كان سيحدث عاجلًا أو آجِلًا على أي حال. وفجأةً، وجَدَ اليورو نفسَه في مواجهةِ صدمةٍ غير متماثِلةٍ هائلة، وكانَتِ الصدمةُ أسوأَ كثيرًا بسبب غياب الاندماج المالي.

فانفجارُ فقاعاتِ الإسكان — الذي حدَثَ بعد انفجارِ فقاعة الإسكان في الولايات المتحدة بفترةٍ قصيرةٍ، ولكنه كان في طريقه للوقوع بالفعل بحلول عام ٢٠٠٨ — لم يُغرِق الدولَ التي شهدَتِ انفجارَ الفقاعة في الركود فحسب، وإنما وضَعَ ميزانياتِهَا تحت ضغطٍ شديدٍ أيضًا؛ فانهارَتِ الإيراداتُ جنبًا إلى جنبٍ مع الإنتاج وفُرَصِ العمل؛ فيما ارتفَعَ معدلُ الإنفاق على إعاناتِ البطالة ليبلغ عنان السماء، ووجدَتِ الحكوماتُ (أو وضعَتْ) نفسها على حافة الهاوية بسبب خططها المكلفة لإنقاذ البنوك؛ حيث لم تكن تضمن الودائعَ البنكية فحسب، وإنما كانت تضمن في كثيرٍ من الحالاتِ الديونَ التي ركمَتْها بنوكُها لدى بنوكٍ في بلدان دائنة؛ ومن ثَمَّ ارتفعَتْ معدلات الديون والعجز، وازدادَ قلقُ المستثمرين. وفي عشيةِ الأزمة، كانَتْ أسعارُ الفائدة على الديون الأيرلندية الطويلة الأجل أقلَّ قليلًا من أسعار الفائدة على الديون الألمانية، بينما كانت أسعارُ الفائدة على الديون الإسبانية أعلى منها قليلًا. وبينما أكتبُ هذه السطور، صارَتْ أسعارُ الفائدةِ الإسبانية تعادِلُ نظيرتَها الألمانية مرتين ونصفًا، بينما وصلَتْ أسعارُ الفائدة الأيرلندية إلى أربعة أمثال أسعار الفائدة الألمانية.

سأتحدَّثُ عن الاستجابة بالسياسات قريبًا، إلا أنني بحاجةٍ لتناوُلِ بعض الخرافات الواسعة الانتشار أولًا؛ فالقصة التي ربما تكونون قد سمعتموها عن مشكلاتِ أوروبا — والتي أصبحَتِ الأساسَ المنطقي للسياسات الأوروبية بحكم الواقع — تختلف تمامًا عن القصة التي سردتُهَا للتوِّ.

الوهم الأوروبي الكبير

في الفصل الرابع، وصفتُ الكذبةَ الكبرى المتعلِّقة بالأزمة الأمريكية وكشفتُ زيفَها، وهي الكذبة المتمثِّلة في ادِّعاء أن الوكالات الحكومية تسبَّبَتْ في أزمةٍ من خلال محاولتها الخاطئة مساعدةَ الفقراء؛ أما أوروبا فلها روايتها المشوهة الخاصة، وهي رواية كاذبة حول أسبابِ الأزمة تعترض طريقَ التوصُّل إلى حلولٍ حقيقيةٍ، وتؤدِّي في الواقع إلى تبنِّي سياساتٍ تزيد الأمورَ سوءًا.

لا أظنُّ أن مروِّجِي الحكاية الأوروبية الكاذبة شكَّاكون متشائمون مثل نظرائهم الأمريكيين، فأنا لا أرى القدرَ ذاته من التلاعُبِ المتعمَّد بالبيانات فيما بينهم، ويُخيَّل إليَّ أن معظمهم يصدِّقُ ما يقوله؛ ولذلك دعونا نطلق عليها الوهمَ الكبيرَ بدلًا من الكذبة الكبيرة. إلا أنه ليس من الواضح إنْ كان هذا يجعل الوضعَ أفضلَ بأي حال؛ فهو لا يزال وضعًا خاطئًا جملةً وتفصيلًا، والمروِّجون لهذا المبدأ يصمُّون آذانَهم، مثل اليمين الأمريكي تمامًا، عن الأدلة المخالِفة لوجهة نظرهم.

ويتمثَّل وَهْمُ أوروبا الكبير في الآتي: إنه الاعتقاد بأن السببَ الرئيسي في أزمة أوروبا كان انعدامَ المسئولية على الصعيد المالي؛ حيث ركمَتِ الدولُ عجزًا مفرطًا في ميزانياتها — بحسب الرواية السائدة — وأغرقَتْ نفسَها في الديون، والمهم الآن هو فرْضُ قواعِد من شأنها أن تمنع حدوثَ ذلك مرةً أخرى.

ولكنْ بالتأكيد قد يتساءَلُ بعضُ القرَّاء: أَلَيْسَ هذا ما حدث في اليونان إلى حدٍّ كبيرٍ؟ الإجابة هي نعم، على الرغم من أن القصة اليونانية أكثر تعقيدًا من ذلك، فإنَّ ما يهمنا هنا هو أن ما حدث في اليونان ليس نفسه ما حدث في البلدان الأخرى التي تعاني الأزمةَ، ولو كانت المسألةُ تقتصر على مشكلة اليونان، ما كانت لتصبح أزمةً بهذا الحجم؛ فاقتصادُ اليونان صغيرٌ، ويمثِّلُ أقلَّ من ٣ في المائة من مجموع الناتج المحلي الإجمالي لدول اليورو، وحوالي ٨ في المائة فقط من الناتج المحلي الإجمالي لدول اليورو الواقعة في الأزمة.

إلى أيِّ مدًى يُعَدُّ تحويلُ الخطاب نحو «اليونان» في أوروبا مضلِّلًا؟ ربما يمكن للمرء أن يتذرع بالتصرُّفات المالية غير المسئولة في البرتغال أيضًا، وإنْ لم يكن على النطاق نفسه. ولكنَّ أيرلندا كانَتْ تتمتَّعُ بفائضٍ في الميزانية ومستوًى منخفضٍ من المديونية عشية حدوث الأزمة، وفي عام ٢٠٠٦ وصَفَها جورج أوزبورن — محرِّك السياسة الاقتصادية في بريطانيا حاليًّا — بأنها «نموذجٌ برَّاقٌ لفنِّ الممكن في صناعة السياسات الاقتصادية الطويلة الأجل.» وكذلك كانَتْ إسبانيا تحظَى بفائضٍ في الميزانية ومستوى مديونيةٍ منخفضٍ، أما إيطاليا فكانت تعاني مستوًى عاليًا من المديونية الموروثة من سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته، عندما كانَتِ السياساتُ غيرَ مسئولة حقًّا، ولكنها كانَتْ تعمل بثباتٍ على تقليلِ نسبة الدَّيْن إلى الناتج المحلي الإجمالي.

figure
كانت الدول الأوروبية التي تعاني الآن ورطةً ماليةً، تعمل على تحسينِ وضْعِ مديونيتها باطِّرادٍ — جماعةً — إلى أن ضربَتْها الأزمةُ المالية (المصدر: صندوق النقد الدولي).

كيف وصلَتِ الأمورُ إلى هذا الحدِّ؟ يوضِّح الشكلُ السابق الديونَ كنسبةٍ مئويةٍ من الناتج المحلي الإجمالي للدولة «المتوسطة» ضمن دول الأزمة الحالية، وهو متوسط نسبة الدَّيْن — مرجَّح بالناتج المحلي الإجمالي — إلى الناتج المحلي الإجمالي في الدول الخمس (مرةً أخرى: اليونان وأيرلندا والبرتغال وإسبانيا وإيطاليا). حتى عام ٢٠٠٧، كان هذا المعدل ينخفض باطِّرادٍ؛ أيْ إنه على العكس مِن أن تبدو مجموعةُ الدول الخمس مُسرِفةً، بَدَا أن وضْعَها المالي في سبيله إلى التحسُّن بمرور الوقت، ولم تحدث الزيادةُ الحادة في ديونها إلا مع ظهور الأزمة.

إلا أن العديد من الأوروبيين من أصحاب المناصب المهمة — خاصةً الساسة والمسئولين في ألمانيا، وأيضًا قيادات البنك المركزي الأوروبي وقادة الرأي في جميع أنحاء عالم المال والبنوك — ملتزمون التزامًا عميقًا بالوهم الكبير، ولا يمكن لأيِّ قدرٍ من الأدلة المعارضة أن تهزَّ إيمانَهم به؛ ونتيجةً لذلك، غالبًا ما تُصاغ مشكلةُ التعامُلِ مع الأزمة صياغةً أخلاقية؛ فالدول وقعَتْ في ورطةٍ لأنها أخطأَتْ، ويجب أن تعاني تكفيرًا عن خطيئتها.

وذلك أسلوب سيئ جدًّا للتعامُل مع المشكلات الفعلية التي تواجِهُها أوروبا.

المشكلة الأساسية في أوروبا

إذا نظرتم إلى أوروبا — أو تحديدًا إلى منطقة اليورو إجمالًا؛ أيْ بجمع الأرقام الواردة عن البلدان التي تستخدم اليورو كافةً — فستجدون أنه لا يبدو أنها ينبغي أن تكون في مثل هذا الوضع السيئ؛ فدَيْن القطاعَيْن الخاص والعام أقلُّ من نظيرَيْهما في الولايات المتحدة بعض الشيء؛ ما يشير إلى أنه ينبغي وجودُ مساحةٍ أكبر للمناورة؛ كما أن معدلات التضخُّم تبدو مشابِهةً لمثيلتها في الولايات المتحدة، دون أيِّ تلميحٍ إلى تفشِّي التضخُّم، وعلى أيِّ حالٍ فأوروبا ككلٍّ لديها حسابٌ جارٍ متوازِنٌ إلى حدٍّ كبيرٍ؛ ما يعني أنها ليسَتْ في حاجةٍ إلى اجتذابِ رءوس الأموال من مكان آخَر.

لكن أوروبا ليسَتْ وحدةً واحدةً، بل هي مجموعةٌ من الدول لكلٍّ منها ميزانيتها الخاصة (لأن الاندماج المالي بها ضعيف جدًّا) وسوقُ العمل الخاصة بها (لأن حركة العمالة بها منخفضةٌ)، ولكنها لا تمتلك عملتَها الخاصةَ؛ وهذا ما تسبَّبَ في الأزمة.

فلْننظر إلى إسبانيا — التي أعتبرها رمزًا لاقتصاد أزمة اليورو — ونغضَّ الطرفَ لوهلةٍ عن قضية الميزانية الحكومية. كما رأينا بالفعل، شهدَتْ إسبانيا — خلال السنوات الثماني الأولى التالية لإصدار اليورو — تدفُّقاتٍ ضخمةً من الأموال غذَّتْ فقاعةً ضخمةً في قطاع الإسكان، كما أدَّتْ إلى ارتفاعٍ كبيرٍ في الأجور والأسعار مقارَنةً بالأسعار والأجور في النُّظُم الاقتصادية لبلدان المحور الأوروبية. المشكلة الأساسية في إسبانيا — والتي ينبثِقُ عنها سائرُ المشكلات — هي احتياجها إلى العودة بتكاليفها وأسعارها مرةً أخرى إلى المعدل المعتاد. كيف يمكن لهذا أن يحدث؟

يمكن لهذا أن يحدث من خلال حدوثِ تضخُّم في النظم الاقتصادية لبلدان المحور. لنفترِضْ أن البنك المركزي الأوروبي اتَّبَعَ سياسةَ المال السهل، بينما اتَّبَعَتِ الحكومةُ الألمانية سياساتِ التنشيط المالي؛ سيعني هذا تشغيلًا كاملًا في ألمانيا، حتى مع استمرار البطالة المرتفعة في إسبانيا؛ ومن ثَمَّ لن ترتفع الأجورُ في إسبانيا كثيرًا، وقد لا ترتفع على الإطلاق، بينما ستزيد الأجورُ الألمانية كثيرًا؛ وعليه ستظلُّ التكاليفُ الإسبانية كما هي، في حين ترتفع التكاليف الألمانية، وسيكون هذا التعديل سهلًا نسبيًّا من جانب إسبانيا؛ ليس سهلًا، وإنما سهلًا «نسبيًّا».

إلا أن الألمان لا يطيقون فكرةَ التضخُّم البتة؛ وذلك بسبب ذكريات التضخُّم الكبير في مستهلِّ عشرينيات القرن العشرين. (الغريب هنا أنهم أقلُّ تذكُّرًا بكثيرٍ للسياسات الانكماشية التي اعتُمِدَتْ في مستهلِّ ثلاثينيات القرن العشرين، والتي مهَّدَتِ الطريقَ فعليًّا لظهور مَن تعرفون؛ وسنتحدَّثُ عن ذلك أكثرَ في الفصل الحادي عشر.) وربما يكون الشيءُ الأوثق صلةً بالموضوع هو أن حدودَ ولاية البنك المركزي الأوروبي تفرض عليه الحفاظَ على استقرارِ الأسعار، وهذا هو كلُّ ما في الأمر. أما مسألة مدى إلزام تلك الولاية، فما زالَتْ قيدَ البحث، وأظنُّ أن البنك المركزي الأوروبي يمكنه أن يجد وسيلةً لتبرير حدوث تضخُّمٍ معتدل على الرغم ممَّا ينصُّ عليه ميثاقه؛ إلا أن العقلية السائدة تعتبِر التضخُّمَ شرًّا مستطيرًا، أيًّا كانَتْ تبعاتُ السياسات التي تؤدِّي إلى انخفاض التضخُّم.

والآن لنرَ ما يعنيه ذلك بالنسبة إلى إسبانيا، وتحديدًا أنْ يكونَ عليها أن تُعِيدَ تكاليفها إلى الوضع المعتاد من خلال الانكماش؛ وهو ما يُعرَف في لغة اليورو باسم «خفض قيمة العملة داخليِّا»، وهذا شيء يصعب جدًّا تحقيقه؛ لكَوْنِ الأجور جامدةً تجاه الخفض؛ فهي تنخفض ببطءٍ وعلى مضضٍ، حتى في مواجهة معدلات البطالة الهائلة.

إذا كان ثمة أيُّ شكوك حول جمودها في مواجهة الخفض، يتعيَّن على السجل الحافل لأوروبا في هذا الصدد أن يبدِّدَها؛ فَلْننظر في قضية أيرلندا، التي يُنظَر إليها عمومًا بوصفها دولةً تتمتَّع بأسواقِ عمل «مَرِنة» جدًّا، وهو تعبيرٌ ملطَّف آخَر، يشير إلى اقتصاد يُسمَح فيه لأرباب العمل بفصْلِ العمَّالِ أو خفض رواتبهم أو كلَيْهما معًا بسهولةٍ نسبية. فعلى الرغم من مرور عدة سنوات منذ ارتفاع معدلات البطالة إلى حدٍّ لا يُصدَّق (حوالي ١٤٪ في وقت كتابة هذه السطور)، فإنه لم تتراجع الأجورُ الأيرلندية إلا بنسبة ٤ في المائة عن أقصى حدٍّ بلغتْه؛ لذلك فصحيحٌ أن أيرلندا بصددِ تخفيض قيمة عملتها داخليًّا، ولكنها تفعل ذلك ببطءٍ شديدٍ. والوضع مشابِهٌ في لاتفيا، وهي ليسَتْ من دول اليورو، ولكنها رفضَتْ فكرةَ تخفيض قيمة عملتها. وفي إسبانيا نفسها، ارتفَعَ متوسطُ الأجور قليلًا في الواقع على الرغم من نسبة البطالة المرتفعة جدًّا، إلا أن هذا قد يكون وهمًا إحصائيًّا في جزءٍ منه.

بالمناسبة، إذا كنتم تريدون مثالًا توضيحيًّا على وجهة نظر ميلتون فريدمان، التي تقول بأنه من الأسهل كثيرًا خفضُ الأجور والأسعار ببساطةٍ عن طريق تخفيض قيمة العملة، فَلْتنظروا إلى حالة أيسلندا؛ فقد اشتهرَتْ تلك الدولة الجزرية الصغيرة بضخامةِ كارثتها المالية، وكان المتوقَّعُ أن تكون الآن أسوأَ حالًا من أيرلندا، إلا أن أيسلندا أعلنَتْ أنها لن تتحمَّلَ مسئوليةَ ديون المصرفيِّين الهاربين، كما أنها كانَتْ تتمتَّع بميزةٍ كبيرةٍ، وهي أنها كانَتْ لا تزال تمتلك عملتها الخاصة؛ مما يسَّرَ كثيرًا استِعادتَهَا قدرتَهَا التنافسيةَ؛ فما كان منها إلا أن تركَتْ سعرَ الكرونا يهبط ببساطةٍ، وهكذا انخفضَتِ الأجورُ فيها بنسبة ٢٥ في المائة مقابل اليورو.

إلا أن إسبانيا لا تمتلك عملتها الخاصة؛ وهذا يعني أن عودةَ التكاليف في إسبانيا وسائر الدول لمستوياتها الصحيحة تستلزم المرورَ بفترةٍ طويلةٍ من البطالة الشديدة الارتفاع بما يكفي لسحْقِ الأجور ببطء. وهذا ليس كل شيء؛ فالدول التي تُجبَر حاليًّا على خفض تكاليفها، هي نفسها التي كان لديها أضخمُ تراكُمٍ من ديون القطاع الخاص قبل الأزمة، والآن صارَتْ تواجِهُ الانكماشَ، الذي سيزيد من العبء الحقيقي لهذا الدَّيْن.

ولكن ماذا عن الأزمة المالية، والارتفاع الحاد في أسعار الفائدة على الديون الحكومية في جنوب أوروبا؟ إلى حدٍّ كبير، هذه الأزمة المالية نتيجةٌ ثانويةٌ لمشكلة انفجارِ الفقاعات والتكاليف الزائدة عن المعتاد؛ فعندما بدأَتِ الأزمةُ، ارتفَعَ العجزُ ليبلغ عنان السماء، وارتفَعَ الدَّيْن في قفزةٍ مفاجئةٍ عندما تحرَّكَتِ الدولُ المتعثِّرة لإنقاذ أنظمتها المصرفية. أما السبيل المعتاد الذي تلجأ إليه الحكوماتُ في نهاية المطاف لمواجهة زيادة عبء الديون — وهو مزيجٌ من التضخُّم والنموِّ يؤدِّي إلى خفض الدَّيْن بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي — فلَمْ يكن متاحًا لدول منطقة اليورو، التي ظلَّتْ محكومًا عليها بقضاء سنواتٍ من الانكماش والركود عوضًا عنه. ليس من المستغرَب إذَنْ أن يتساءَلَ المستثمرون عن مدى رغبة دول جنوب أوروبا في سداد ديونها بالكامل، أو قدرتها على سدادها.

إلا أن هذه ليسَتِ القصةَ الكاملة؛ فثمة عنصرٌ آخَر في أزمة اليورو — نقطة ضعف أخرى في مسألة العملة المشتركة — فاجَأَ الكثيرين، وأنا منهم؛ إذ تبيَّنَ أن الدول التي تفتقِرُ إلى عملةٍ خاصةٍ بها شديدةُ العُرضةِ لنوبات الذُّعْرِ التي تحقق أسوأ مخاوفها ذاتيًّا؛ حيث تتسبَّبُ جهودُ المستثمرين لتجنُّبِ الخسائر الناجمة عن العجز عن السداد في حدوث هذا العجز ذاته الذي يخشونه في نهاية المطاف.

كان أولَ مَن ذكَرَ هذه النقطةَ الاقتصاديُّ البلجيكيُّ باول دي خراو، الذي أشارَ إلى أنَّ أسعارَ الفائدة على الديون البريطانية أقلُّ بكثيرٍ من أسعار الفائدة على الديون الإسبانية — حيث تبلغ الأولى ٢ في المائة، والثانية ٥ في المائة وقت كتابة هذه السطور — على الرغم من أن الديون والعجز في بريطانيا أعلى، ويمكن القول إن التوقُّعات المالية المنتظَرة لها أسوأ من إسبانيا، حتى مع وضع الانكماش في إسبانيا في الاعتبار. ولكن كما أشارَ دي خراو، فإسبانيا تواجِهُ خطرًا واحدًا لا تخشاه بريطانيا؛ أَلَا وهو: تجميدُ السيولة.

وإليكم ما كان يعنيه؛ الحكومات الحديثة كلها تقريبًا عليها كميةٌ لا بأسَ بها من الديون، وليسَتْ كلها من سندات الثلاثين عامًا؛ فثمة الكثير من الديون القصيرة الأجل والديون المُستَحَقَّة خلال بضعة أشهر فقط، بالإضافة إلى سندات العامين والثلاثة أعوام والخمسة أعوام، وكثير منها مُستحِّق الدفع في أيِّ وقتٍ. تعتمد الحكوماتُ على قدرتها على ترحيل معظم هذه الديون، ويكون ذلك في الواقع من خلال بيع سنداتٍ جديدةٍ لسداد أخرى قديمة؛ فإذا رفَضَ المستثمرون شراءَ سندات جديدة لسببٍ ما، فحتى الحكومات التي كانَتْ قادرةً على الوفاء بالتزاماتها في الأصل، تُجبَر على التخلُّف عن السداد.

هل يمكن أن يحدث هذا للولايات المتحدة؟ في الواقع، لا؛ لأن بنك الاحتياطي الفيدرالي سيتدخَّلُ لشراء الديون الفيدرالية، وبذلك يَطبع النقودَ فعليًّا لدفع فواتير الحكومة. ولا يمكن لهذا أن يحدث أيضًا في بريطانيا أو اليابان أو أيِّ بلد يقترض بعملته المحلية ويمتلك بنكًا مركزيًّا خاصًّا به، ولكن هذا يمكن أن يحدث في أيِّ بلدٍ من بلدان اليورو، التي لا يمكنها الاعتماد على البنك المركزي الأوروبي لتوفير السيولة في حالة الطوارئ. وإذا اضطرَّ أيُّ بلد من بلدان منطقة اليورو إلى التخلُّف عن السداد بسبب ضائقةٍ نقديةٍ من هذا النوع، فقد ينتهي به الأمر إلى عدم التمكُّن من سداد ديونه بالكامل أبدًا.

ويؤدِّي هذا على الفور إلى إمكانية حدوث الأزمة التي تتحقَّق ذاتيًّا؛ حيث تؤدِّي مخاوفُ المستثمرين من التخلُّف عن السداد بسبب حدوث ضائقةٍ نقديةٍ إلى نبْذِ سندات هذه البلاد، وبذلك يجلبون الضائقةَ النقدية التي يخشونها ذاتها. وحتى لو لم تكن هذه الأزمةُ قد وقعَتْ بعدُ، فمن السهل أن نتوقَّعَ كيف يمكن أن يؤدِّي التوترُ المستمِرُّ بشأن إمكانية وقوع مثل هذه الأزمات؛ إلى مطالَبةِ المستثمرين برفع أسعار الفائدة حتى يُقْدموا على إقراض الدول المعرَّضة لحالاتِ الذُّعْرِ التي تؤدِّي إلى حدوث الأزمات.

وبالفعل منذ أوائل عام ٢٠١١ صارت ثمة عقوبةٌ واضحة مرتبِطة باليورو؛ حيث واجَهَتِ الدولُ التي تستخدم اليورو ارتفاعًا في تكاليف الاقتراض عن الدول المماثِلة لها في الآفاق الاقتصادية والمالية، التي احتفظَتْ بعملاتها الخاصة؛ فالمقارنة ليسَتْ بين إسبانيا والمملكة المتحدة فحسب، بل إن المقارَنةَ المفضَّلةَ لديَّ هي المقارَنةُ بين ثلاث دول اسكندنافية، هي: فنلندا والسويد والدنمارك، وكلها من المفترض أنها تتمتَّعُ بدرجةِ جدارةٍ ائتمانية مرتفعةٍ؛ إلا أن فنلندا — التي تقع ضمن الدول المستخدِمة لليورو — شهدَتِ ارتفاعًا كبيرًا في تكاليف الاقتراض مقارَنةً بتكاليف الاقتراض في السويد، التي احتفظَتْ بعملتها الخاصة حرةً، وحتى مقارَنةً بالدنمارك، التي أبقَتْ على سعر صرف عملتها ثابتًا مقابِل اليورو، ولكنها احتفظَتْ بعملتها الخاصة؛ ومن ثَمَّ لديها القدرة على إنقاذ نفسها في مواجهة أيِّ أزمة مالية.

إنقاذ اليورو

نظرًا للمتاعب التي يشهدها اليورو الآن، يبدو أن المتشكِّكين إزاءَ الاتحاد الأوروبي، الذين حذَّروا من أن أوروبا لم تكن مستعِدَّةً حقًّا لإصدار عملةٍ موحَّدةٍ، كانوا على حقٍّ؛ وعلاوةً على ذلك، فإن الدول التي اختارَتْ عدم اعتماد اليورو — بريطانيا والسويد — لا تواجِهُ تلك الظروفَ الصعبة التي تمرُّ بها جيرانها من مستخدِمي اليورو. إذَنْ، هل ينبغي للدول الأوروبية التي تعاني هذه الورطة أن تعكِسَ مسارَها ببساطة وتعود إلى عملاتها المستقلة؟

ليس بالضرورة؛ فحتى أمثالي من المتشكِّكين إزاء الاتحاد الأوروبي يُدرِكون أن تفكيكَ عملة اليورو الآن بعد خروجها للنور سيكون له تبعات وخيمة جدًّا؛ مبدئيًّا أيُّ بلد يُبدِي احتمالية الخروج عن اليورو سيتعرَّض لموجةِ ذُعْرٍ مصرفيٍّ عارمة، حين يتسابَقُ المودعون لنقل نقودهم إلى دولةٍ من دول اليورو الأكثر موثوقيةً. كما أن عودة الدراخما اليونانية أو البيزيتا الإسبانية من شأنه أن يفضي إلى مشكلاتٍ قانونية هائلة، بينما يحاوِلُ الجميعُ حسابَ قيمة الديون والعقود المحسوبة باليورو.

وعلاوةً على ذلك، فإن التحوُّلَ عن اليورو تمامًا سيمثِّل هزيمةً سياسيةً مُنكَرَةً للمشروع الأوروبي الأشمل الذي يرمي إلى تحقيقِ الوحدة والديمقراطية من خلال الاندماج الاقتصادي؛ وهو المشروع الذي يحمل — كما قلتُ في البداية — أهميةً بالغةً ليس لأوروبا فحسب، بل للعالم أجمع.

لذلك سيكون من الأفضل إيجادُ وسيلةٍ لإنقاذ اليورو، فكيف يمكن تحقيق ذلك؟

الخطوة الأولى — والأكثر إلحاحًا — هي أنه يتعيَّنُ على أوروبا أن تضع حدًّا لنوبات الذُّعْر المصرفي؛ فبسبيلٍ أو آخَر، يجب أن يكون ثمة ضمانٌ لتوفر سيولة كافية — ضمان بأن السيولة لن تنفَدَ فجأةً من الحكومات بسبب نوبةِ ذُعْرٍ اجتاحَتِ السوقَ — مماثِلٌ للضمان الذي تقدِّمه فعليًّا الحكوماتُ التي تقترض بعملتها المحلية. أكثر الطرق بديهيةً للقيام بذلك هي أن يكون البنكُ المركزي الأوروبي على استعدادٍ لشراء السندات الحكومية من دول اليورو.

ثانيًا: الدول التي تتجاوز التكاليفُ والأسعارُ فيها الحدودَ المعقولة — وهي البلدان الأوروبية التي تعاني عجزًا كبيرًا في ميزانها التجاري، ولكنها لا تستطيع الاستمرارَ على هذا المنوال — تحتاجُ إلى مسارٍ مقبولٍ تسلكه لتستعيدَ قدرتها التنافسية. فعلى المدى القصير، يتعيَّن على بلدانِ الفائض أن تكون مصدرًا للطلب القوي على صادرات بلدان العجز، وبمرور الوقت، لو لم ينطوِ هذا المسارُ على انكماشٍ شديدِ التكلفة في بلدان العجز، فلا بد أن ينطوي على تضخُّمٍ طفيفٍ لكنه ملحوظ في بلدان الفائض، وتضخُّمٍ أقل نوعًا ولكنه ملحوظ أيضًا في منطقة اليورو ككلٍّ؛ ٣ أو ٤ في المائة مثلًا. وذلك كله يتلخَّص في اتِّبَاع البنك المركزي الأوروبي سياسةً ماليةً توسعيةً جدًّا، بالإضافة إلى اتخاذ تدابير تنشيط مالي في ألمانيا وعددٍ قليلٍ من البلدان الأصغر منها.

وأخيرًا، على الرغم من أن القضايا المالية ليسَتْ هي صلب المشكلة، فإن بلدان العجز تعاني في هذه المرحلة مشكلاتِ الديون والعجز، وسوف تضطر إلى ممارسةِ قدرٍ لا بأس به من التقشُّف المالي مع مرور الوقت لضبط أوضاعها المالية.

إذَنْ فهذا على الأرجح هو ما يقتضيه إنقاذُ اليورو؛ فهل يمكن تحقيقُ شيءٍ من ذلك القبيل؟

قدَّمَ لنا البنك المركزي الأوروبي مفاجآتٍ سارةً منذ تولَّى ماريو دراجي رئاسةَ البنك بعد جان كلود تريشيه. صحيحٌ أن دراجي رفَضَ مطالِبَ شراءِ السندات من بلدان الأزمة رفضًا قاطعًا، إلا أنه وجَدَ وسيلةً لتحقيق نفس النتيجة إلى حدٍّ ما من خلال الباب الخلفي، بإعلانه عن برنامجٍ يقدِّم بموجبه البنكُ المركزي الأوروبي قروضًا غير محدودةٍ للبنوك الخاصة، مع قبول سندات الحكومات الأوروبية على سبيل الضمان؛ ونتيجةً لذلك تراجَعَتْ — وقت كتابة هذه السطور — احتمالاتُ حدوثِ نوبات الذُّعْر التي تؤدِّي إلى ارتفاعِ أسعار الفائدة على السندات الأوروبية ارتفاعًا صاروخيًّا.

ولكن حتى في ظلِّ هذا البرنامج، لا تزال الحالاتُ الأكثر تطرُّفًا — مثل اليونان والبرتغال وأيرلندا — منعزلةً عن أسواق رءوس الأموال الخاصة؛ ولذلك اعتمدَتْ على سلسلةٍ من برامج الإقراض المخصَّصة من المجموعة الثلاثية المكوَّنة من أقوى الحكومات الأوروبية، والبنك المركزي الأوروبي، وصندوق النقد الدولي. ولكن للأسف، ظلَّ الإمدادُ النقدي الذي قدَّمَتْه تلك المجموعةُ الثلاثية قليلًا جدًّا، ومتأخِّرًا. وفي مقابل هذه القروض الطارئة، فُرِض على بلدان العجز تطبيقُ برامج فورية قاسية تضمَّنَتْ خفضَ الإنفاق وزيادة الضرائب؛ وهي برامج تدفعهم إلى ركودٍ أعمق، وتظلُّ قاصرةً حتى من ناحيةِ حساباتِ الميزانية البحتة؛ حيث يتسبَّبُ انكماشُ الاقتصاد في تقلُّصِ الإيرادات الضريبية.

وفي الوقت نفسه، لم تُتَّخَذْ أيُّ إجراءاتٍ من شأنها أن تهيِّئَ بيئةً توفِّر لبلدان العجز مسارًا مقبولًا لاستعادة قدرتها التنافسية؛ وبينما أُجبِرَتْ دولُ العجز على تدابير التقشُّف الوحشية، انخرطَتْ بلدانُ الفائض في برامج تقشُّفية هي الأخرى؛ ما قوَّضَ الآمالَ في نمو الصادرات. وعلى العكس من الإقرار بالحاجة إلى زيادة التضخُّم قليلًا، رفَعَ البنك المركزي الأوروبي أسعارَ الفائدة في النصف الأول من عام ٢٠١١ لدرْءِ خطرِ التضخُّم الذي لم يكن له وجودٌ إلا في مخيلة البنك وحده. (أُلغِيَتْ أسعارُ الفائدة المرتفعة في وقتٍ لاحقٍ، ولكن بعد وقوع ضررٍ كبيرٍ.)

لماذا جاءَتِ استجابةُ أوروبا لأزمتها سيئةً إلى هذا الحدِّ؟ لقد اقترحتُ بالفعل جزءًا من الإجابة؛ أَلَا وهو أن عددًا كبيرًا من قادة القارة يبدو مصمِّمًا على إلقاءِ المسئولية على عاتق اليونان، واعتبارِ جميع مَن وقعوا في الأزمة — وليس اليونان فحسب — وقعوا فيها نتيجة تصرُّفاتهم المالية غير المسئولة. وفي ظلِّ هذا الاعتقاد الخاطئ، ينشأ اتجاهٌ طبيعيٌّ للجوء لعلاجٍ خاطِئٍ؛ فإذا كان التبذيرُ المالي هو المشكلة، فيجب أن تكون الاستقامةُ المالية هي الحل؛ هنا يُعامَل الاقتصادُ بوصفه مسرحيةً أخلاقيةً، مع تطوُّرٍ إضافيٍّ وهو أن معظم الذنوب التي يُعَاقَب عليها الاقتصادُ لم تحدث من الأساس.

ولكن هذا مجرد جزءٍ من القصة؛ فأوروبا ليسَتْ وحدها إطلاقًا في عجزها عن استيعاب مشكلاتها الحقيقية، وإصرارها في المقابل على التصدِّي لمشكلاتٍ وهميةٍ؛ ففي عام ٢٠١٠، أُغرِم عددٌ كبيرٌ من أفراد النخبة السياسية على جانبَيِ المحيط الأطلسي بمجموعةٍ مترابطةٍ من المغالَطات بشأن الديون والتضخُّم والنموِّ، وسأحاول في الفصل التالي أن أشرح هذه المغالطات، وكذلك سبب اتخاذ العديد من الشخصيات المهمة قرارَ تأييد تلك المغالطات؛ وهي مهمةٌ أصعبُ بكثير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤