الفصل الحادي عشر

أنصار التقشُّف

«تخفيض تلو الآخَر؛ يقول العديدُ من الاقتصاديين إنَّ خطرَ الانكماش يلوح جليًّا في الأفق؛ فما وجهة نظرك في هذا الصدد؟»

«لا أعتقد أن مثل هذه المخاطر يمكن أن تتحقَّقَ؛ على العكس من ذلك، فإن توقُّعاتِ التضخُّم ثابتةٌ إلى حدٍّ كبير بما يتماشَى مع تعريفنا — أقل من ٢ في المائة، وقريبة من ٢ في المائة — وقد ظلَّتْ ضمن هذه الحدود حتى خلال الأزمة الأخيرة. وفيما يتعلَّقُ بالاقتصاد، ففكرةُ أن التدابير التقشُّفية من الممكن أن تؤدِّي إلى الركود غيرُ صحيحةٍ.»

«غير صحيحة؟»

«نعم، الحقيقة أنه في هذه الظروف، كلُّ ما من شأنه أن يساعِد على زيادة ثقة الأُسَر والشركات والمستثمرين في استدامة أوضاع المالية العامة، يصبح مفيدًا لتعزيزِ النمو وخلْقِ فُرَصِ العمل؛ ولديَّ اعتقادٌ قويٌّ في أنه في ظلِّ الظروف الحالية، ستؤدِّي السياساتُ الباعثة على الثقة إلى تعزيز التعافي الاقتصادي وليس عرقلته؛ لأن الثقة هي العامل الأهم اليوم.»

لقاء جان كلود تريشيه رئيس البنك المركزي الأوروبي
مع صحيفة لا ريبوبليكا الإيطالية، يونيو ٢٠١٠

خلال الأشهر المخيفة التي تلَتْ سقوطَ بنك ليمان براذرز، وافقَتْ حكوماتُ الدول الكبرى كلُّها تقريبًا على أنه لا بدَّ من تعويض الانهيار المفاجئ في إنفاق القطاع الخاص، وتحوَّلَتْ نحوَ المزيدِ من السياسات التوسُّعية المالية والنقدية — بزيادةِ الإنفاق، وخفضِ الضرائب، وطباعةِ المزيدِ من القواعد النقدية — في محاولةٍ للحدِّ من الأضرار. كانت الحكوماتُ في ذلك تتبع نصيحةَ الكتب التقليدية؛ والأهم من ذلك، أنها كانت تطبِّقُ الدروسَ المستخلصة بشقِّ الأنفس من الكساد الكبير.

إلا أنه في عام ٢٠١٠ حدث شيء غريب؛ إذ قرَّرَ عددٌ كبيرٌ من نخبةِ صنعِ السياسات في العالم — المصرفيِّين والمسئولين الماليين الذين تتحدَّدُ الأعراف المُتَّبَعة وفقًا لهم — نبْذَ الكتب والدروس التاريخية، وقلْبَ الأمور رأسًا على عقب. ما أعنيه هو أن الدعوات المنادية بخفض الإنفاق ورفع الضرائب ورفع أسعار الفائدة — حتى في مواجهة البطالة الجماعية — راجَتْ فجأةً.

وبالفعل أعني أن هذا قد حدث فجأةً؛ فهيمنةُ المؤمنين بالتقشُّف الفوري — أو «أنصار التقشُّف»، وهو اللقب الموفق الذي أطلَقَه عليهم المحلِّلُ المالي روب بارِنتو — كانت قد ترسَّخَتْ بالفعل بحلول ربيع ٢٠١٠، عندما أصدرَتْ منظمةُ التعاون الاقتصادي والتنمية تقريرَها الأخير عن الآفاق الاقتصادية. ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية هي مؤسسة بحثية مقرُّها باريس، تقوم بتمويلها مجموعةٌ من حكومات البلدان المتقدِّمة؛ ولهذا السبب يشيرُ البعضُ أحيانًا إلى العالم المتقدِّم اقتصاديًّا بمنظمةِ التعاون الاقتصادي والتنمية؛ لأن عضويتها تُعَدُّ مرادِفةً للتقدُّم إلى حدٍّ كبيرٍ؛ لذا فهي مكان تقليدي جدًّا بالضرورة، من نوعية الأماكن التي تُناقَش فيها الوثائقُ فقرةً فقرةً لتجنُّبِ الإساءةِ إلى أيٍّ من الأطراف الرئيسية.

فماذا كانت النصيحة التي قدَّمَها هذا الكيان الرائد للأعراف المُتَّبَعة إلى الولايات المتحدة في ربيع عام ٢٠١٠، مع انخفاض التضخُّم، وارتفاع البطالة، ووصول تكاليف اقتراض الحكومة الفيدرالية لما يقترب من أدنى المستويات القياسية؟ كانت النصيحة هي أنه على الحكومة الأمريكية أن تتحرَّكَ فورًا لخفض العجز في الموازنة، وعلى بنك الاحتياطي الفيدرالي أن يرفع أسعارَ الفائدة القصيرة الأجل بدرجةٍ كبيرةٍ بحلول نهاية العام.

لحسن الحظ، لم تأخذ السلطاتُ الأمريكية بهذه النصيحة؛ حدَثَ بعضُ التضييقِ المالي «الضمني» عندما تلاشَى أثرُ التدابير التنشيطية التي اتَّخَذَها أوباما، ولكن لم يحدث تحوُّلٌ كامِلٌ نحو التقشُّف، ولم يكتفِ بنك الاحتياطي الفيدرالي بالإبقاء على أسعار الفائدة منخفِضَةً، بل شرع كذلك في برنامجٍ لشراء السندات في محاوَلةٍ لتعزيز التعافي الضعيف. أما في بريطانيا، فقد أسلَمَتْ الانتخاباتُ مقاليدَ الأمور إلى ائتلافٍ من المحافظين والديمقراطيين الليبراليين، أخَذَ نصيحةَ منظمةِ التعاون الاقتصادي والتنمية على محمل الجدِّ؛ حيث فرَضَ برنامجًا لخفض الإنفاق الوقائي، على الرغم من أن بريطانيا — مثلها في ذلك مثل الولايات المتحدة — كانت تواجِهُ ارتفاعًا في معدلات البطالة، وكذلك انخفاضًا كبيرًا في تكاليف الاقتراض.

في الوقت نفسه، أصبَحَ التقشُّف المالي أحدَثَ صَيْحة في القارة الأوروبية، وبدأ البنك المركزي الأوروبي يرفع أسعارَ الفائدة في أوائل عام ٢٠١١، على الرغم من حالة الكساد العميق التي كان يشهدها اقتصادُ منطقة اليورو، وعدم وجود أيِّ تهديدٍ مُقنِع باحتماليةِ حدوث تضخُّمٍ.

ولم تكن منظمةُ التعاون الاقتصادي والتنمية وحدها مَن طالَبَتْ بالتضييق النقدي والمالي حتى في مواجَهةِ الكساد، بل شارَكَها في ذلك منظماتٌ دولية أخرى — مثل بنك التسويات الدولية ببازل — وكذلك عددٌ من الاقتصاديين المؤثِّرين مثل راجورام راجان من شيكاجو، وأصواتٌ مسموعة في عالَمِ الأعمال مثل بيل جروس من بيمكو. وفي الولايات المتحدة، استغَلَّ الجمهوريون البارزون مختلفَ الحجج المؤيِّدة للتقشُّفِ لتبريرِ دعوتهم إلى خفض الإنفاق والتضييق النقدي. من المؤكَّد أن بعض الأشخاص والمنظمات قد خالَفُوا هذا الاتجاهَ؛ فمِن الجدير بالذكر والسرور أن صندوق النقد الدولي ظلَّ بوقًا لما اعتبرتُه السياسات المتعقِّلة. ولكن من الإنصاف أن أقولَ إنه في ٢٠١٠-٢٠١١، تحرَّكَ مَن أدعوهم «الأشخاصَ البالغي الأهمية» اقتداءً بالمدوِّن دَنكان بلاك — وهم الأشخاص الذين يعبِّرون عن آراءٍ يراها الأشخاصُ المؤثِّرون المحترمون سليمةً — بقوةٍ صوبَ الرأي القائل بأن وقت التضييق قد حان، على الرغم من عدم وجود أيِّ شيءٍ يشير إلى التعافي التام من الأزمة المالية وتداعياتها.

فماذا كان وراء هذا التحوُّل المفاجئ في السياسات السائدة؟ في الواقع، يمكن الإجابة على هذا السؤال بطريقتين: يمكننا أن نحاوِلَ النظرَ في الحجج الموضوعية التي سيقَتْ دفاعًا عن التقشُّف المالي والتضييق النقدي، أو يمكننا أن نحاوِلَ فهْم الدوافع المحرِّكة لأولئك الذين كانوا شديدي اللهفة إلى التحوُّل عن مكافحة البطالة.

في هذا الفصل، سأحاوِلُ أن أنظر في هذه المسألة من هاتين الزاويتين، ولكنني سوف أنظر في الحجج الموضوعية أولًا.

إلا أنه ثمة مشكلةٌ في ذلك: إذا ما حاولتَ تحليلَ حججِ أنصار التقشُّف، فستجد أنك تطارِدُ هدفًا متحركًا مراوغًا. وفيما يتعلَّق بأسعار الفائدة تحديدًا، غالبًا ما أشعر كما لو كان دعاةُ رفع الأسعار يلعبون لعبةَ كرة كالفِن؛ اللعبة الفكاهية في سلسلةِ القصص الفكاهية المصوَّرة كالفِن وهوبز؛ حيث يغيِّر اللاعبون قواعدَ اللعبة باستمرارٍ؛ فقد بَدَا أن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وبنك التسويات الدولية، ومختلف أنواع الاقتصاديين والماليين؛ واثقون تمامًا من أن أسعار الفائدة لا بد أن ترتفعَ، أما تبريراتهم لذلك فما انفكَّتْ تتغير، وقد أظهرَتْ هذه القابلية للتغيُّر بدورها أن الدوافعَ الحقيقية للمطالَبةِ بالتضييق لم تكن لها علاقةٌ بالتقييم الموضوعي للاقتصاد، كما تعني أيضًا أنني لا أستطيع أن أقدِّمَ نقدًا لحجةٍ «بعينها» تدعم التقشُّف وارتفاع أسعار الفائدة؛ حيث كان ثمة العديدُ من الحجج التي لا يتفق بالضرورة بعضُها مع بعضٍ.

دعونا نبدأ بالحجة التي كانت الأكثر قوةً على الأرجح؛ وهي الخوف؛ وتحديدًا الخوف من أن الدول التي لا تدير ظهرَها للتنشيط المالي وتنتقل إلى التقشُّف — حتى في مواجهة معدلات البطالة المرتفعة — ستجد نفسها في مواجَهةِ أزماتِ ديونٍ مماثِلةٍ لأزمة اليونان.

عامل الخوف

لم تأتِ سياسةُ مناصَرةِ التقشُّف من العدم؛ فحتى في الشهور التي تلَتْ سقوطَ بنك ليمان براذرز مباشَرةً، ندَّدَتْ بعضُ الأصوات بمحاولاتِ إنقاذ الأنظمة الاقتصادية الكبرى من خلال الانخراط في الإنفاق بالاستدانة وطبع النقود، إلا أنه في خضم الأحداث، طغَتِ الأصواتُ الداعية إلى اتخاذ إجراءاتٍ توسُّعيةٍ عاجلة على تلك الأصوات إلى حدٍّ كبيرٍ.

إلا أنه بحلول أواخر عام ٢٠٠٩، كانَتِ الأسواقُ المالية والاقتصاد العالمي على حدٍّ سواء قد استقرَّا؛ بحيث تراجعَتِ الحاجةُ الملِحَّة إلى التحرُّك، ثم جاءَتِ الأزمةُ اليونانية، والتي اغتنَمَها مناهِضُو المدرسة الكينزية في كلِّ مكان فرصةً لتكون مثالًا على ما سيحدث لسائر الدول إن لم نَسِرْ على صراطِ الاستقامة المالية الضيِّق المستقيم.

أشرتُ بالفعل في الفصل العاشر إلى أن أزمةَ الديون اليونانية كانت فريدةً من نوعها حتى داخلَ أوروبا، وأن سائر الدول التي تمرُّ بأزماتِ ديونٍ في منطقة اليورو تعرَّضَتْ لها نتيجةَ الأزمة المالية، وليس العكس؛ وفي الوقت نفسه، لم تشهد الدولُ التي لا تزال تحتفظ بعملاتها أيَّ شيءٍ يُشبِهُ أزمةَ الدَّيْن الحكومي التي تعرَّضَتْ لها اليونان، حتى تلك التي كان لديها ديونٌ كثيرةٌ وعجز كبير، مثل الولايات المتحدة وكذلك بريطانيا واليابان.

ولكنَّ أيًّا من هذه الملاحظات لم يبدُ مهمًّا في نقاشات السياسات؛ فعلى حدِّ تعبيرِ عالِم السياسة هنري فاريل في دراسةٍ تتناوَلُ صعودَ وسقوطَ السياسات الكينزية خلال الأزمة: «فُسِّرَ انهيارُ ثقة السوق في اليونان على أنه مثالٌ على مخاطِرِ التبذير المالي؛ وبهذا صارَتِ الدولُ التي أوقَعَتْ نفسها في صعوباتٍ ماليةٍ خطيرةٍ تخاطِرُ بانهيار ثقة السوق، وربما الدمار المحقق.»

وبالفعل راجَتْ بين الشخصيات المحترمة التحذيراتُ المروعة عن كارثةٍ وشيكةِ الوقوع ما لم نتحرَّكْ فورًا لخفض العجز؛ فقد قدَّمَ إرسكين بولز الرئيس المشارك — الرئيس «الديمقراطي» المشارك — لِلَجنةٍ كان منوطًا بها تقديمُ خطةٍ لخفض العجز على المدى الطويل؛ شهادةً أمام الكونجرس في مارس ٢٠١١ — بعد بضعة أشهر على فشل اللجنة في التوصُّل إلى اتفاقٍ — وحذَّرَ من أزمة ديونٍ قد تقع في أي وقت، قائلًا:

المشكلة ستحدث حتمًا، مثلما أشارَ الرئيسُ السابق لبنك الاحتياطي الفيدرالي أو رئيسُ وكالة موديز؛ فتلك مشكلةٌ سيكون علينا أن نواجِهَها. قد تحدث خلال عامين، ربما أقل قليلًا، وربما أكثر قليلًا، ولكن إذا بدأ المصرفيون في آسيا يعتقدون أننا لن نستطيع أن نسدِّدَ ديوننا ونَفِيَ بالتزاماتنا، فَلْنتوقَّفْ ونفكِّرْ للحظة فيما يمكن أن يحدث إذا توقَّفوا عن شراء ديوننا.

ماذا سيحدث لأسعار الفائدة؟ وما سيحدث للاقتصاد الأمريكي؟ سوف تدمِّرُنا الأسواقُ تمامًا إذا لم نسارِعْ لحلِّ هذه المشكلة. المشكلة حقيقيةٌ، وحلولها مؤلمةٌ، وعلينا أن نتحرَّكَ.

وهنا تدخَّلَ الرئيس المشارك — آلان سيمبسون — مؤكِّدًا على أن ذلك سيَحدث خلال «أقلَّ» من عامين. في الوقت نفسه، لم يُبدِ المستثمرون الفعليون أيَّ قلق؛ فقد كانَتْ أسعارُ الفائدة على السندات الأمريكية الطويلة الأجل منخفضةً وفقًا للمعايير التاريخية وقتَ حديث بولز وسيمبسون، واستمرَّتْ في الانخفاض إلى أدنى مستوياتها على مدار عام ٢٠١١.

ثمة ثلاث نقاط أخرى تستحق الذكر؛ أولًا: في وقت مبكرٍ من عام ٢٠١١، كان لدى المتشائمين عذرٌ مفضلٌ يفسِّر التناقُضَ الواضح بين تحذيراتهم من وقوع كارثة وشيكة واستمرار انخفاض أسعار الفائدة؛ فقد زعموا أن بنك الاحتياطي الفيدرالي يُبقِي الأسعارَ منخفضةً بشكلٍ مصطَنَعٍ عن طريق شراء الديون في إطار برنامج «التيسير الكَمِّي» الذي تبنَّاه البنك، وقالوا إن أسعار الفائدة سترتفع عندما ينتهى هذا البرنامج في يونيو؛ إلا أنها لم ترتفع.

ثانيًا: ادَّعَى المتوعِّدون بأزمةِ ديونٍ وشيكةٍ إثبات صِدْق حدسهم في أغسطس ٢٠١١، عندما خفضت ستاندرد آند بورز — وكالة التصنيف الائتماني — تصنيفَ الحكومة الأمريكية، وسحبَتْ منها مرتبتَها السابقة الممتازة، وظهرَتْ تصريحاتٌ عديدةٌ من قبيل أن «السوق قالَتْ كَلِمَتَها»، ولكن لم تكن السوق هي التي تحدَّثَتْ، بل مجرد وكالة تصنيف كانت — مثل نظيراتها — قد أعطَتْ تصنيفًا ممتازًا للعديد من الأدوات المالية التي تحوَّلَتْ في نهاية المطاف إلى نفاياتٍ سامةٍ. وكان ردُّ فعلِ السوق فعليًّا إزاء تخفيض وكالة ستاندرد آند بورز التصنيفَ الأمريكي … لا شيء، بل إن تكاليف الاقتراض في الولايات المتحدة انخفضَتْ. وكما ذكرتُ في الفصل الثامن، لم يكن هذا مفاجئًا للاقتصاديين الذين درسوا تجربة اليابان؛ فقد خفضتْ كلٌّ من الوكالتين المتنافستين ستاندرد آند بورز وموديز تصنيفَ اليابان عام ٢٠٠٢ — عندما كان وضْعُ الاقتصاد في اليابان يماثِلُ وضْعَه في الولايات المتحدة في ٢٠١١ — ولم يحدث أيُّ شيءٍ على الإطلاق.

وأخيرًا: حتى إنْ أخَذَ المرءُ التحذيراتِ من أزمة الديون التي تلوح في الأفق على محمل الجدِّ، فلم يتَّضِح إطلاقًا أن التقشُّفَ المالي الفوري — في صورة خفض الإنفاق وزيادة الضرائب في ظلِّ اقتصادٍ يعاني بالفعل كسادًا عميقًا — من شأنه أن يساعِدَ في الوقاية من تلك الأزمة؛ فخفضُ الإنفاق أو زيادةُ الضرائب يَصلح عندما يكون الاقتصادُ قريبًا من حالة التوظيف الكامل، والبنكُ المركزي بصددِ رفْعِ أسعارِ الفائدة لدرْءِ مخاطر التضخُّم. في تلك الحالة، لن يؤدِّي خفضُ الإنفاق إلى كساد الاقتصاد؛ لأن البنك المركزي سيتمكَّنُ من تعويضِ تأثيرِ خفض الإنفاق عن طريق خفض أسعار الفائدة، أو على الأقل عدم زيادتها. أما إذا كان الاقتصادُ يعاني من كساد شديد، وكانت أسعارُ الفائدة تقترِبُ من الصفر بالفعل، فلن يمكن تعويضُ آثارِ خفض الإنفاق، وسيزداد كسادُ الاقتصاد؛ ما سيفضي إلى تقليلِ الإيرادات، وضياع جزءٍ على الأقل من التخفيض المرجوِّ للعجز.

إذَنْ، فحتى لو كان المرءُ قَلِقًا من احتمالية فقد الثقة، أو من وضْعِ الميزانية في المدى البعيد على الأقل، فسيشير المنطقُ الاقتصادي على ما يبدو إلى ضرورةِ إرجاء التقشُّف. وينبغي وضْعُ خططٍ لخفض الإنفاق وزيادة الضرائب على المدى الطويل، إلا أن هذه التخفيضات والزيادات لا ينبغي أن تدخلَ حيِّزَ التنفيذ قبل أن يستعِيدَ الاقتصادُ قوَّتَه.

لكنَّ أنصارَ التقشُّف رفضوا هذا المنطق، وأصَرُّوا على أن التخفيضات الفورية ضروريةٌ لاستعادة الثقة؛ وأن استعادة الثقة من شأنها إكسابُ ذلك الخفض أثرًا توسُّعيًّا، وليس انكماشيًّا. ويقودنا هذا إلى الشقِّ الثاني من النقاش؛ وهو الجدل حول آثارِ التقشُّف على الإنتاج والعمالة في اقتصادٍ يعاني الكسادَ.

جنيَّة الثقة

افتتحتُ هذا الفصل بتصريحات جان كلود تريشيه — الذي كان رئيسًا للبنك المركزي الأوروبي حتى خريف عام ٢٠١١ — التي تلخِّص العقيدةَ البادية التفاؤل — والسذاجة — التي اجتاحَتْ أروقةَ السلطة في عام ٢٠١٠. تقبَّلَتْ هذه العقيدةُ فكرةَ أن التأثير المباشِر لخفْضِ الإنفاق الحكومي هو تقليل الطلب، الذي من شأنه أن يؤدِّي — بتساوي جميع العوامل الأخرى — إلى تباطُؤِ النشاط الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة. إلا أن أمثال تريشيه يصرُّون على أن «الثقة» ستعوِّض هذا التأثير المباشِر وأكثر.

في البداية، اعتدْتُ أن أدعو هذا المذهبَ الاعتقادَ في «جنيَّة الثقة»، ويبدو أن هذا التعبير الذي صُغتُه قد عَلِقَ في الأذهان. ولكن عمَّ كان كل ذلك؟ هل مِن الممكن أن يُفضِيَ خفْضُ الإنفاق الحكومي في الواقع إلى زيادة الطلب؟ نعم، هذا ممكن؛ ففي الواقع، ثمة طريقان يمكن لخفض الإنفاق من خلالهما أن يقود إلى زيادة الطلب من حيث المبدأ؛ إما عن طريق خفض أسعار الفائدة، وإما من خلال دفع الناس لتوقُّعِ خفْضِ الضرائب في المستقبل أو كلَيْهما.

وإليكم طريقةَ عَمَلِ قناة أسعار الفائدة: ستنخفض تقديراتُ المستثمرين — الذين انبهروا بجهودِ الحكومة لخفض عجز ميزانيتها — للاقتراض الحكومي في المستقبل؛ ومن ثم لمستوى أسعار الفائدة المستقبلية. ونظرًا لأن أسعار الفائدة الطويلة الأجلِ اليومَ تعكس توقُّعاتِ أسعار الفائدة المستقبلية، يمكن لتوقُّعِ انخفاض الاقتراض المستقبلي أن يؤدِّي إلى انخفاض أسعار الفائدة على الفور، وهذا الانخفاض يمكن أن يُفضِي إلى زيادةِ الإنفاق الاستثماري على الفور.

في المقابل، يمكن للتقشُّف الحالي أن يثير إعجابَ المستهلكين؛ فقد يستخلصون من حماس الحكومة لخفض الإنفاق أن الضرائب لن ترتفعَ في المستقبل كما كانوا يتوقَّعون، واعتقادُهم بأن العبء الضريبي سينخفض سيجعلهم يشعرون بأنهم أكثر ثراءً ويتَّجِهون لزيادة الإنفاق على الفور أيضًا.

إذَنْ، فالمسألة لم تكن إنْ كان من الممكن للتقشُّف أن يوسِّعَ الاقتصادَ من خلال هذه القنوات أم لا، وإنما إنْ كان من المعقول أن نصدِّقَ أن التأثيراتِ الإيجابيةَ — سواء أكانت من خلال قناة سعر الفائدة أم الضريبة المتوقَّعة — ستعوِّض التأثيرَ المباشِرَ لانخفاض الإنفاق الحكومي الذي يؤدِّي إلى الكساد، لا سيما في ظلِّ الظروف الراهنة.

بالنسبة إليَّ — وإلى اقتصاديين كثيرين غيري — بَدَا الجوابُ واضحًا؛ وهو أن فكرة التقشُّف التوسُّعي مُستبعَدة إلى حدٍّ كبيرٍ بوجه عام، وخاصةً في ظلِّ حالة العالم في عام ٢٠١٠، والتي استمرَّتْ بعد مرور عامين. وأكرِّر، النقطةُ الرئيسيةُ هي أنه لتبرير تصريحاتٍ كتلك التي أَدْلَى بها جان كلود تريشيه لصحيفة لا ريبوبليكا، لا يكفي مجرد «وجود» هذه الآثار المرتبطة بالثقة، بل يجب أن تكون قويةً بما يكفي لأكثر من تعويض الآثار المباشِرة للتقشُّف المفضي إلى الكساد في الوقت الحالي. كان من الصعب تصوُّرُ هذا بالنسبة إلى قناة أسعار الفائدة، علمًا بأن أسعار الفائدة كانَتْ بالفعل منخفضةً جدًّا في بداية ٢٠١٠ (وأصبحَتْ أقلَّ وقتَ كتابةِ هذه السطور)؛ أما بالنسبة إلى الآثار المترتِّبة على الضرائب المستقبلية المتوقَّعة، فكَمْ ممَّنْ نعرفهم يتَّخذون قراراتِهم حول مقدار ما يستطيعون إنفاقه هذا العام من خلال محاولةِ تقديرِ تأثيرِ القرارات المالية الحالية على ضرائبهم بعد خمس أو عشر سنوات؟

يقول أنصار التقشُّف: لا بأس، لدَيْنا أدلة عملية قوية على مزاعمنا. وينطوي هذا على قصة شائقة.

قبل الأزمة بعقد من الزمان — في عام ١٩٩٨ — نشَرَ الخبيرُ الاقتصادي ألبرتو أليسينا من جامعة هارفرد ورقةً بعنوان «حكايات التصحيح المالي»، وهي دراسة معنِيَّة بالبلدان التي تحرَّكَتْ لتخفيضِ العجز الضخم في الميزانية. في هذه الدراسة، دافَعَ الكاتب عن الآثار القوية للثقة، التي تبلغ قوَّتُها مدًى يجعل التقشُّفَ يؤدِّي إلى التوسُّع الاقتصادي فعليًّا في كثيرٍ من الحالات. كانت النتيجة مُدهِشةً، ولكنها لم تَستَلْفِتْ الانتباهَ — أو الدراسة النقدية — في ذلك الوقت كما كان يمكن للمرء أن يتوقَّع. في عام ١٩٩٨، استمَرَّ الإجماع العام بين الاقتصاديين على أن بنك الاحتياطي الفيدرالي والبنوك المركزية الأخرى تستطيع دائمًا أن تقوم بما يلزم لتحقيق الاستقرار الاقتصادي؛ ولذلك فإن الآثار المترتِّبةَ على السياسات المالية لم تَبْدُ مهمةً بأي حال.

طبعًا بحلول عام ٢٠١٠، كانَتِ الأمورُ قد اختلفَتْ تمامًا، عندما أصبحَتْ مسألةُ زيادةِ التدابير التنشيطية مقابِل التقشُّف تتصدَّرُ نقاشاتِ السياسات. تمسَّكَ دعاةُ التقشُّف بادِّعاء أليسينا، وكذلك بورقةٍ بحثيةٍ جديدةٍ كتَبَها بالاشتراك مع سيلفيا أرداجنا، حاولَتِ الوقوفَ على «التغييرات الكبرى في السياسة المالية» في عيِّنةٍ كبيرةٍ من البلدان والفترات الزمنية، وادَّعَتْ أنها تتضمَّنُ العديدَ من الأمثلة على التقشُّف التوسُّعي.

وقد عضَّدَا هذه المزاعمَ باستحضارِ أمثلةٍ من التاريخ؛ فقالَا: انظروا إلى أيرلندا في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، أو إلى كندا في منتصف تسعينيات ذلك القرن، أو إلى العديد من الحالات الأخرى؛ فقد خفَّضَتْ هذه الدولُ عجْزَ ميزانياتها بدرجةٍ كبيرةٍ، وازدهرَتِ اقتصاداتُها عوضًا عن أن تتراجَعَ.

في الأوقات العادية، تضطلع آخِر الأبحاث الأكاديمية بدورٍ صغيرٍ جدًّا في مناقشاتِ السياسة في عالم الواقع، ويمكن القول إن هذا هو ما ينبغي أن يحدث؛ ففي خضمِّ الأحداثِ السياسية، كَمْ من صنَّاع السياسة مؤهَّل حقًّا لتقييم جودةِ تحليل إحصائيٍّ أجراه أحدُ الأساتذة؟ الأفضل أن تُمهَل عمليةُ النقاش الأكاديمي المعتاد والفحص اللازم وقتًا لتمييز الغثِّ من السمين، إلا أنَّ بحثَ أليسينا وأرداجنا اعتُمِدَ على الفور، وتبنَّاه صنَّاعُ السياسات ومناصِروها في جميع أنحاء العالم. كان هذا مُؤسِفًا؛ لأنه لا النتائج الإحصائية ولا الأمثلة التاريخية التي يُفترَض أن تكون دليلًا على التقشُّف التوسُّعي استطاعَتْ أن تصمد مطلقًا على أرض الواقع متى بدأ التدقيق فيها.

كيف ذلك؟ كان ثمة نقطتان رئيسيتان: مشكلةُ العلاقة الارتباطية الزائفة، وحقيقةُ أن السياسة المالية لا تنفرد بالساحة عادةً، ولكن هذا هو حالها الآن.

بالنسبة إلى النقطة الأولى، فلْننظرْ إلى مثال التحوُّل الأمريكي الكبير من عجزِ الميزانية إلى فائضِ الميزانية في نهاية تسعينيات القرن العشرين؛ ارتبَطَ هذا التحوُّلُ بازدهارِ الاقتصاد، فهل كان ذلك مثالًا على التقشُّف التوسُّعي؟ لا، لم يكن كذلك؛ فإلى حدٍّ كبيرٍ عكَسَ الازدهارُ وانخفاضُ العجز عامِلًا ثالثًا، وهو طفرةُ التكنولوجيا وفقاعتها، التي ساعَدَتْ على دفْعِ الاقتصاد إلى الأمام، ولكنها تسبَّبَتْ أيضًا في ارتفاع أسعار أسهم البورصة لتبلغ عنان السماء، والتي تُرجِمت بدورها في صورة ارتفاعٍ في الإيرادات الضريبية. إذَنْ فالارتباط بين انخفاض العجز والاقتصاد القوي لم ينطوِ على علاقةٍ سببيةٍ.

قام أليسينا وأرداجنا بتصحيحِ مصدرٍ واحدٍ للعلاقة الارتباطية الزائفة — وهو معدل البطالة — إلا أنه عند إخضاع بحثهم للدراسة، سرعان ما اتَّضَحَ أن هذا لم يكن كافيًا؛ فما أورداه من فترات التقشُّف المالي وكذلك التنشيط المالي لم يكن متوافقًا مع الأحداث السياسية الفعلية على الإطلاق. على سبيل المثال، لم يشيرَا إلى جهود التدابير التنشيطية الحثيثة في اليابان عام ١٩٩٥، أو تحوُّلها الحاد نحو التقشُّف في ١٩٩٧.

في العام الماضي، حاوَلَ بعضُ الباحثين في صندوقِ النقد الدولي معالجةَ هذه المشكلة عن طريق استخدام المعلومات المباشِرة المتعلِّقة بتغيُّر السياسات لتحديد فترات التقشُّف المالي؛ ووجَدَ الباحثون أن التقشُّفَ المالي يدفع الاقتصاد إلى الكساد عوضًا عن دفعه نحو التوسُّع.

ولكن حتى هذا النهج لم ينجح في تصوير مدى «كينزية» العالم الآن؛ لماذا؟ لأن الحكومات عادةً ما تكون قادرةً على اتخاذ إجراءاتٍ لتعويض آثارِ تقشُّفِ الميزانية — على وجه الخصوص: خفض أسعار الفائدة أو تخفيض قيمة العملة أو كلاهما — لا تتوافر لمعظم الاقتصادات المتعثِّرة في الكساد الحالي.

فَلْننظر إلى مثالٍ آخَر، هو كندا في منتصف تسعينيات القرن العشرين التي خفَّضَتْ عجزَ ميزانيتها بشكلٍ حادٍّ، مع الحفاظ على التوسُّع الاقتصادي القوي. عندما جاءت الحكومة الحالية في بريطانيا إلى السلطة، كان يروق لمسئولِيها الاستشهادُ بالحالة الكندية لتبريرِ اعتقادهم بأن سياسات التقشُّف التي يتبنَّوْنها لن تسبِّبَ تباطؤًا اقتصاديًّا حادًّا، ولكن إذا نظرنا إلى ما كان يحدث في كندا في ذلك الوقت، فسنرى أولًا أن أسعارَ الفائدة انخفَضَتْ بشكلٍ كبيرٍ، وهو شيء غير ممكن بالنسبة إلى بريطانيا المعاصرة؛ لأن أسعارَ الفائدة فيها منخفضة جدًّا بالفعل. وكذلك سنرى أن كندا كانت قادرةً على زيادة الصادرات بمعدلات كبيرة إلى جارتها المزدهرة — الولايات المتحدة الأمريكية — ويُعزَى ذلك جزئيًّا إلى الانخفاض الحاد في قيمة الدولار الكندي. ومن جديدٍ، لا يصلح هذا لبريطانيا في الوقت الراهن؛ لأن جارتها — منطقة اليورو — أبعَدُ ما تكون عن الازدهار، كما أن الضعفَ الاقتصادي في منطقة اليورو تسبَّبَ كذلك في ضعف عملتها.

يمكنني أن أسترسِلَ، ولكن يبدو أنني قد استرسلتُ أكثرَ من اللازم بالفعل؛ ما أودُّ أن أشيرَ إليه هنا هو أن الضجةَ التي ثارَتْ حول الأدلةِ المزعومة على فكرةِ التقشُّف التوسُّعي كانت غير متناسِبةً بالمرة مع قوة تلك الأدلة؛ في الواقع، سرعان ما انهارَتِ الحجةُ المؤيِّدةُ للتقشُّف التوسُّعي حالما بدَأَ التدقيق المتمعِّن فيها. من الصعب تجنُّبُ الوصول إلى استنتاجٍ مفاده أن النخبة السياسية تبنَّتْ تقريرَ أليسينا وأرداجنا ودروسَ التاريخ المزعومة بلهفةٍ، دون أن تتحقَّقَ على الإطلاق من صحة هذه الأدلة؛ لأن هذه الدراسات كانَتْ تقول للنخبة ما يرغبون في سماعه. ولِمَ كان هذا هو ما يرغبون في سماعه؟ سؤالٌ في محله، ولكن دعونا أولًا ندرس كيف سارَتْ إحدى تجارب التقشُّف الكبرى.

التجربة البريطانية

معظم البلدان التي تعتمد سياساتِ التقشُّف القاسية على الرغم من ارتفاع معدلات البطالة تلجأُ لذلك مرغمةً؛ فقد وجدَتْ كلٌّ من اليونان وأيرلندا وإسبانيا نفسها غيرَ قادرةٍ على تجديد ديونها، واضطرت إلى خفض الإنفاق ورفع الضرائب لإرضاء ألمانيا والحكومات الأخرى التي تقدِّمُ لها القروض الطارئة؛ إلا أنه كان ثمة حالة واحدة مثيرة لحكومةٍ انخرطَتْ في التقشُّف غير مكرَهةٍ لإيمانها بجنيَّة الثقة؛ كانت تلك هي حكومة رئيس الوزراء ديفيد كاميرون في بريطانيا.

مثَّلَتْ سياساتُ كاميرون المتشدِّدة مفاجأةً سياسيةً. صحيح أن حزب المحافظين كان يدعو إلى التقشُّف قبل الانتخابات البريطانية عام ٢٠١٠، ولكنه لم يستطِعْ تشكيلَ الحكومةِ إلا من خلال عقد تحالُفٍ مع الديمقراطيين الليبراليين، الذين توقَّعْنا أن يمثِّلوا قوةً معتدِلةً؛ ولكن بدلًا من ذلك، انجرَفَ الديمقراطيون الليبراليون في غمار حماسة المحافظين، وبعد تولِّي كاميرون منصبَه بفترة قصيرة، أعلَنَ عن برنامجٍ لخفْضِ الإنفاق على نحوٍ جذريٍّ. ولأن بريطانيا — على عكس الولايات المتحدة — ليس لديها نظامٌ يسمح لأقليةٍ حازمةٍ بعرقلةِ السياسات التي تُملِيها القمةُ، فقد دخَلَ برنامج التقشُّفِ حيِّزَ التنفيذ.

كانت سياساتُ كاميرون تستند صراحةً إلى المخاوف المتعلِّقة بالثقة؛ فعند إعلان جورج أوزبورن — وزير الخزانة — أولَ ميزانيةٍ تُوضَع بعد تولِّيه منصبَه، صرَّحَ بأنه دون خفض الإنفاق، ستواجِهُ بريطانيا:

ارتفاعًا في أسعار الفائدة، وانهيارَ المزيد من الشركات، وارتفاعًا حادًّا في البطالة، وقد تتعرض لخسارة فادحة في الثقة وانتهاء مرحلة التعافي. ولا يمكننا أن نسمح بحدوث ذلك؛ هذه الميزانية ضرورية لمعالجة ديون بلادنا، ولمنح اقتصادنا الثقة. هذه ميزانية حتمية.

وقد أشادَ بسياسات كاميرون كلٌّ من المحافظين ومَن يَعُدُّون أنفسَهم وسطيِّين في الولايات المتحدة؛ على سبيل المثال؛ راح ديفيد برودر من صحيفة واشنطن بوست يتغزَّل في محاسن تلك السياسات قائلًا: «لقد أبدى كاميرون وشركاؤه في الائتلاف مثابَرةً جريئةً، متجاهِلين تحذيراتِ الاقتصاديين من أن الدواءَ القويَّ المفاجئ قد يضع نهايةً لعملية تعافِي الاقتصاد البريطاني، ويعود بالبلاد إلى حالة الركود.»

فكيف سارت الأمور؟

حسنًا، صحيح أن أسعار الفائدة البريطانية ظلَّتْ منخفضةً، إلا أن نفس الشيء حدث في الولايات المتحدة واليابان، اللتين تزيد مستوياتُ الديون فيهما عن بريطانيا، لكنهما لم تخوضَا تحوُّلًا حادًّا نحو التقشُّف؛ فببساطةٍ يبدو أن المستثمرين لا يشعرون بالقلق إزاء أيِّ دولةٍ متقدِّمة تحظى بحكومةٍ مستقرةٍ وعملتها الخاصة.

وماذا عن جنيَّة الثقة؟ هل أصبَحَ المستهلكون والشركات أكثرَ ثقةً بعد تحوُّل بريطانيا نحو التقشُّف؟ على العكس من ذلك، انخفضَتْ ثقةُ قطاعِ الأعمال إلى مستوياتٍ لم تشهدها بريطانيا منذ أسوأ مراحل الأزمة المالية، وتراجعَتْ ثقةُ المستهلكين دون المستويات التي وصلَتْ إليها في ٢٠٠٨-٢٠٠٩.

ونتَجَ عن ذلك اقتصادٌ لم يَزَلْ غارقًا في كسادٍ عميقٍ. وكما أوضَحَ مركزُ الأبحاث البريطاني «المعهد الوطني للأبحاث الاقتصادية والاجتماعية» في عمليةٍ حسابيةٍ مُذهِلةٍ، أنه ثمة ناحية حقيقية ساءَ فيها أداءُ بريطانيا خلال هذا الركود عمَّا كان عليه في فترةِ الكساد الكبير؛ وهي أنه بحلول العام الرابع منذ بدء الكساد الكبير، كان الناتجُ المحلي الإجمالي البريطاني قد عاد إلى ذروته السابقة، ولكنْ هذه المرة لا يزال الناتجُ المحلي الإجمالي أقلَّ بكثيرٍ من مستوياته في أوائل عام ٢٠٠٨.

وفي وقتِ كتابة هذه السطور، تبدو بريطانيا على أعتابِ ركودٍ جديدٍ.

لا يمكن لأحد أن يتصوَّرَ أن يكون ثمة دليلٌ أقوى من ذلك على خطأ أنصار التقشُّف. وعلى الرغم من ذلك، فبينما أنا أكتب هذا الكتابَ، ظلَّ كاميرون وأوزبورن مُصِرَّيْن على عدم تغيير مسارهما.

النقطة الإيجابية الوحيدة فيما يتعلَّق بوضْعِ بريطانيا هي أن بنك إنجلترا — نظير بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في بريطانيا — قد واصَلَ بذْلَ كلِّ ما في وسْعِه للتخفيف من حدة الركود، وهو يستحق ثناءً خاصًّا على ذلك؛ لأن بعض الأصوات لم تكتفِ بالمطالبة بالتقشُّف المالي، بل طالَبَتْ أيضًا برفع أسعار الفائدة كذلك.

عمل الكساد

قد تكون رغبةُ أنصار التقشُّف في خفْضِ الإنفاق الحكومي وخفْضِ العجز — حتى في مواجهة اقتصادٍ يعاني من الكساد — محضَ عناد؛ وأنا شخصيًّا أراها رغبةً شديدةَ التدمير؛ ومع ذلك، فتفهُّمُها ليس من الصعوبة بمكانٍ؛ لأن العجز المستمر يمكن أن يصبح مشكلةً حقيقيةً. أما ما يستعصى على الفهم حقًّا فهو الرغبة في رفع أسعار الفائدة. في الواقع، لقد صُدِمتُ تمامًا عندما دعَتْ منظمةُ التعاون الاقتصادي والتنمية إلى رفع أسعار الفائدة في مايو ٢٠١٠، وما زلتُ أراها دعوةً غريبةً وتسترعي الانتباه.

لماذا نرفع أسعارَ الفائدة عندما يكون الاقتصادُ غارقًا في كسادٍ عميقٍ، ولا يلوح خطرٌ يُذكَر من التضخُّم؟ لا تنفكُّ التفسيراتُ المطروحة تتغيَّر.

ففي عام ٢٠١٠، عندما دعَتْ منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى رفع أسعار الفائدة، أتَتْ بفعل غريب؛ فقد ناقضَتْ توقُّعاتها الاقتصادية ذاتها؛ إذ أظهرَتْ تلك التوقُّعاتُ — المستندة إلى نماذج المنظمة — أنه ثمة اتجاهٌ لانخفاض التضخُّم وارتفاع معدلات البطالة لسنواتٍ قادمةٍ، إلا أن الأسواق المالية — التي كانَتْ أكثر تفاؤلًا في ذلك الوقت (ثم غيَّرَتْ رأيها لاحقًا) — توقَّعَتْ ضمنيًّا بعضَ الارتفاع في التضخُّم. كانت معدلات التضخم المتوقَّعة لا تزال منخفضةً وفقًا للمعايير التاريخية، ولكنَّ منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تمسَّكَتْ بالارتفاع في معدل التضخُّم المتوقَّع لتبرير دَعْوتها إلى التضييق النقدي.

وبحلول ربيع ٢٠١١، أدَّى ارتفاعٌ حادٌّ في أسعار السلع إلى ارتفاع التضخُّم الفعلي، واستشهَدَ البنك المركزي الأوروبي بهذا الارتفاع بوصفه سببًا لرفع أسعار الفائدة. قد يبدو ذلك معقولًا، لولا شيئان؛ أولًا: كان واضحًا تمامًا من البيانات أن هذا الأمر كان حدثًا عارضًا مدفوعًا بالأحداث خارج أوروبا، وأنه لم يحدث تغيُّرٌ يُذكَر في التضخُّم الحقيقي، وأن ارتفاعَ معدل التضخُّم الكلي سينعكس مساره على الأرجح في المستقبل القريب، وهو ما حدث بالفعل. ثانيًا: من الحوادث الشهيرة مبالَغةُ البنك المركزي الأوروبي في ردِّ فعله إزاء الارتفاع الطفيف المؤقَّت في التضخُّم المدفوع بالسلع عام ٢٠٠٨؛ حيث رفَعَ أسعارَ الفائدة بينما كان الاقتصادُ العالميُّ على وشكِ الوقوع في هاوية الركود. بالتأكيد لن يقع البنك في نفس الخطأ مرةً أخرى بعد بضع سنوات؟ لكنه فعَلَ.

لماذا يتعامَلُ البنكُ المركزي الأوروبي بمثل هذا الإصرار العنيد؟ الإجابة — على ما أظنُّ — هي أنه في عالَمِ المال كان ثمة كراهيةٌ عامة لأسعار الفائدة المنخفضة ليس لها أيُّ علاقةٍ بمخاوف التضخُّم، فقد اتُّخِذَتْ مخاوفُ التضخُّم ذريعةً لدعم هذه الرغبة السابقة الوجود لرؤية أسعار الفائدة ترتفع.

ولماذا يرغب أحدٌ في رفع أسعار الفائدة على الرغم من ارتفاع معدلات البطالة وانخفاض التضخُّم؟ الحقيقة أنه كانت ثمة بعضُ المحاولات لتقديم تفسيرٍ منطقيٍّ لذلك، لكنها كانت جميعًا تبعث على الارتباك في أحسن الأحوال.

على سبيل المثال: نشَرَ راجورام راجان من جامعة شيكاجو مقالًا في صحيفة فاينانشال تايمز تحت عنوان «على برنانكي أن يُنهِيَ عصرَ أسعار الفائدة المتدنية»، حذَّرَ فيه من أن أسعار الفائدة المنخفضة قد تؤدِّي إلى «زيادة المخاطرة وتضخُّم أسعار الأصول»، وهو ما كان تخوُّفًا غريبًا نظرًا لمشكلة البطالة الجماعية الواضحة الحاضرة. ولكنه قال كذلك إن هذه البطالة ليسَتْ من النوع الذي يمكن حلُّه من خلال زيادة معدلات الطلب — وهي الحجة التي تناوَلْتُها وفنَّدْتُها، كما آمل، في الفصل الثاني — وأردَفَ قائلًا:

خلاصةُ القول هي أن التعافي الحالي الذي لم يخلق وظائفَ يشير إلى أن الولايات المتحدة يتحَتَّمُ عليها إجراءُ إصلاحاتٍ هيكليةٍ عميقةٍ لتحسين وضع جانب العرض؛ فجودةُ قطاعها المالي وبنيتُها التحتية وكذلك رأسُ مالها البشري، كلُّ ذلك بحاجةٍ إلى تحسينٍ جادٍّ وصعبِ التحقيق سياسيًّا. إذا كان هذا هو هدفَنا، فليس من الحكمة أن نحاوِلَ إعادةَ أنماط الطلب التي كانَتْ سائدةً قبل الركود إلى الحياة، متَّبِعين السياساتِ النقديةَ نفسها التي أدَّتْ إلى وقوع الكارثة.

إنَّ فكرةَ تمثيلِ أسعارِ الفائدة المنخفضة بما يكفي لتعزيز الوصول إلى حالةِ التوظيف الكامل عقبةً أمامَ التكيُّف الاقتصادي تبدو فكرةً غريبةً، لكنها بَدَتْ مألوفةً كذلك لمَنْ شاهدوا مِنَّا تخبُّطَ الاقتصاديين في محاولة استيعاب الكساد الكبير. لقد تشابَهَ مقالُ راجان إلى حدٍّ بعيدٍ مع فقرةٍ سيئةِ السمعة لجوزيف شومبيتر، حذَّرَ فيها مِن أيِّ سياساتٍ علاجيةٍ قد تَحُول دونَ تحقُّقِ «عمل الكساد»، قائلًا:

في «جميع» الحالات — وليس في الحالتين موضع التحليل فحسب — جاء التعافي من تلقاء نفسه. لا شك في صِدْقِ هذا الجزء من الحديث عن قوى التعافي الكامنة في منظومتنا الصناعية، إلا أن هذا ليس كلَّ شيء؛ حيث يقودنا التحليلُ الذي قُمْنَا به إلى الاعتقاد بأن التعافي لا يكون سليمًا إلا إذا جاء من تلقاء نفسه؛ وذلك لأن أيَّ انتعاشةٍ متولِّدةٍ عن التدابير التنشيطية الاصطناعية تمنعُ إتمامَ جزءٍ من عمل الكساد، وتضيف إلى بقايا الاختلال التي لم تُحَلَّ بعدُ اختلالًا جديدًا يلزم تصفيته بدوره؛ ما يهدِّدُ الأعمالَ التجارية بأزمةٍ أخرى في المستقبل. وتحديدًا، تقدِّمُ قصتنا «قرينة» ضد التدابير العلاجية التي تؤدِّي عملَها من خلال النقود والائتمان؛ فالمشكلة الأساسية «لا» تتعلَّقُ بالنقد والائتمان، والسياسات من هذا النوع يزيد احتمالُ إبقائها على الاختلال، والإضافة إليه، وتوليد مشكلاتٍ إضافيةٍ في المستقبل.

عندما كنتُ أَدْرس الاقتصادَ، كانت الادِّعاءات من قبيل ادِّعاءات شومبيتر تُوصَف بأنها من خصائص المدرسة «التصفوية»، التي تؤكِّد في الأساس على أن المعاناة التي تحدث في ظلِّ الكساد مفيدةٌ وطبيعيةٌ، ولا ينبغي فعل أي شيء للتخفيف من حدتها. وقد لُقِّنَّا أن مذهبَ التصفوية دحضَتْه الأحداثُ دحضًا حاسمًا؛ فبالإضافة إلى كينز، حارَبَ ميلتون فريدمان هذا النوعَ من الفِكْر.

إلا أنه في عام ٢٠١٠، عادَتْ حججٌ من المدرسة التصفوية لا تختلف عن حجج شومبيتر (أو حايك) إلى بؤرة الضوء، وتمثِّل كتاباتُ راجان الإعلانَ الأكثر وضوحًا عن بزوغ التصفوية الجديدة، إلا أنني سمعتُ حججًا مماثِلةً من العديد من المسئولين الماليين، ولم تُقدَّم أيُّ أدلة جديدة أو تبريرات متأنِّية لتفسير عودة هذا المذهب إلى الحياة؛ فما مصدر جاذبيته المفاجئة؟

أعتقد أنه علينا أن نتحوَّلَ هنا إلى قضية الدوافع؛ لماذا لاقَى مذهبُ التقشُّف كلَّ هذا القبولِ لدى «الأشخاص البالغي الأهمية»؟

الأسباب

تأمَّلَ جون مينارد كينز — في مستهلِّ تحفته «النظرية العامة للتوظيف والفائدة والمال» — في أسبابِ سيطرة الاعتقاد بأن الاقتصاد لا يمكن أبدًا أن يعاني عدمَ كفاية الطلب؛ ومن ثَمَّ تخطئ الحكوماتُ إنْ سعَتْ يومًا لزيادة الطلب — وهو ما أشارَ إليه باقتصادِ «ريكاردو»؛ تيمُّنًا باسم الاقتصادي ديفيد ريكاردو الذي اشتهرَ في بدايات القرن التاسع عشر — على آراء المفكِّرين المحترمين تلك الفترة الطويلة. وما زالَتْ تأمُّلاتُه نافذةً وقويةً الآن كما كانت وقت كتابتها:

يمثِّل الانتصارُ الكامل لريكاردو لغزًا مثيرًا للفضول؛ فلا بد أنه كان نتيجةً لمجموعةٍ مركَّبةٍ من التلاؤماتِ بين ذلك المذهب والبيئة التي نشأ فيها، وأظنُّ أن وصولَه إلى نتائج تختلف تمامًا عمَّا يمكن أن يتوقَّعَه الشخصُ العادي أضافَ إلى مكانته الفكرية. كما أن تعاليمه التي كانت — عند ترجمتها عمليًّا — متقشِّفةً وغيرَ مستساغةٍ في كثيرٍ من الأحيان، أضفَتْ عليه طابعَ الفضيلة. وقد تسبب تكييف كلامه بحيث يحمل بنيةً فوقية منطقية واسعة ومتناسِقة، في مَنْحه مظهرًا جميلًا. كما أورثتْه قدرتُه على تفسيرِ الكثير من أوجُه الظلم الاجتماعي والقسوةِ الواضحة على أنها حدَثٌ لا مفَرَّ منه في مخطط التقدُّم، وأن أي محاولةٍ لتغيير هذه الأشياء من الأرجح أن تضرَّ أكثرَ مما تنفع؛ قبولًا لدى أهل السُّلطة. أما إتاحَتُه قدرًا من التبرير للأنشطة الحرة للأفراد الرأسماليين، فجذَبَتْ إليه دعْمَ القوة الاجتماعية المهيمنة وراء أهل السُّلطة.

في الواقع؛ إن الجزء المتعلِّق بكيف أن المذهب الاقتصادي الذي يطالِبُ بالتقشُّف يبرِّرُ أيضًا الظلمَ الاجتماعي والقسوةَ على نطاقٍ أشمل، وكيف يحبِّبه ذلك إلى أهلِ السُّلطة؛ يبدو سليمًا إلى حدٍّ كبيرٍ.

يمكننا أن نضيف رؤيةً نافذةً أخرى جاء بها أحدُ اقتصاديِّي القرن العشرين، وهو ميخال كاليتسكي، الذي كتَبَ مقالًا فطِنًا عام ١٩٤٣ عن أهمية التذرُّع بحجة «الثقة» بالنسبة إلى كبار رجال الأعمال؛ فقد أشار إلى أنه ما دمنا لا نجد طريقًا للعودة إلى حالة التوظيف الكامل للعمالة إلا من خلال استعادةِ ثقة قطاع الأعمال بطريقة أو بأخرى، فإن جماعات الضغط التجارية سيكون لها فعليًّا حقُّ الفيتو على إجراءات الحكومة؛ فإنِ اقتُرِحَ أيُّ إجراءٍ لا يروق لهم — مثل رفع الضرائب أو تعزيز القوة التفاوضية للعمال — فسيُصدِرون تحذيراتٍ بأن هذا سوف يقلِّل الثقةَ ويُغرِقُ الأمةَ في الكساد. وعلى الجانب الآخَر، إذا ما استُخدِمَتِ السياسةُ النقدية والسياسةُ المالية لمحارَبةِ البطالة، فستنخفض ضرورة ثقة قطاع الأعمال فجأةً، وتقلُّ الحاجةُ للاهتمام بمخاوف الرأسماليين إلى حدٍّ كبيرٍ.

اسمحوا لي أن أضيف سطرًا آخَر للتفسير؛ إذا نظرتم إلى ما يريده أنصارُ التقشُّف — أي سياسة مالية تركِّز على العجز بدلًا من فُرَصِ العمل، وسياسة نقدية تحارِبُ بضراوةٍ أدنى بادرةِ تضخُّمٍ وترفع أسعارَ الفائدة حتى في مواجَهةِ البطالة الجماعية — فستجدون أن كلَّ ذلك في الواقع يخدم مصالحَ الدائنين؛ أيْ إنه يحافِظُ على مصالح المقرضين في مقابل مصالح المقترضين، أو مَن يعملون لكسب عيشهم. فالمقرضون يريدون من الحكومات أن تُولِي سدادَ ديونها الأولويةَ القصوى، ويعارِضون أيَّ إجراءٍ نقدي من شأنه أن يَحْرم البنوكَ من العائدات عن طريق الحفاظ على أسعار الفائدة منخفضةً، أو يؤدِّي إلى تآكُل قيمة الاستحقاقات من خلال التضخُّم.

وأخيرًا، ثمة رغبة دائمة في تحويل الأزمة الاقتصادية إلى مسرحية أخلاقية، أو رواية يكون فيها الكسادُ النتيجةَ الحتميةَ للخطايا السابقة؛ ومن ثَمَّ لا ينبغي تخفيفه. ويبدو الإنفاقُ بالاستدانة وخفضُ أسعار الفائدة المنخفضة «خطأً» لا ريبَ فيه من وجهةِ نظرِ العديد من الأشخاص، خاصةً مسئولي البنوك المركزية وغيرهم من المسئولين الماليين، الذين يرتبط شعورُهم بقيمتهم الذاتية بفكرةِ كوْنهم البالغين الذين يحجِّمون الصِّغار المُسرِفين.

المشكلة هنا هي أنه في الوضع الحالي، لا يكون الإصرارُ على استمرار المعاناة هو التصرُّف البالغ الناضج، وإنما هو سلوكٌ صبيانيٌّ (إذا حكمنا على السياسة بما تبدو عليه وليس بما تفعله) وكذلك مدمِّر.

إذَنْ، ما الذي يجدر بنا فعله تحديدًا؟ وكيف يمكن أن نغيِّرَ المسارَ؟ سيكون هذا موضوعَ ما تبقَّى من هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤