الفصل الثاني عشر

ماذا نفعل؟

من العيوب البارزة للمجتمع الاقتصادي الذي نحيا فيه فشَلُه في تحقيقِ التوظيف الكامل، وتوزيعه العشوائي وغير العادل للثروة والدخل.

جون مينارد كينز، النظرية العامة للتوظيف والفائدة والمال

يماثِلُ الوضْعُ اليومَ ما كان عليه في عام ١٩٣٦؛ فحاليًّا — مثلما كان وقتئذٍ — يعاني مجتمعُنا مأساةَ البطالة الجماعية، وحاليًّا — مثلما كان وقتئذٍ — يعبِّر انعدامُ فُرَصِ العمل عن فشلِ نظامٍ اتَّسَمَ بالتفاوت والظلم بدرجةٍ هائلةٍ حتى في «أوقات الرخاء».

هل يجب أن تكون حقيقةُ مرورِنا بكلِّ هذا سابقًا مصدرًا لليأس أم الأمل؟ أعتقِدُ أنها مَدعاةٌ للأمل؛ فنحن في نهاية المطاف قد عالَجْنا المشكلاتِ التي تسبَّبَتْ في حدوث الكساد الكبير، كما بَنَيْنا مجتمعًا أكثر مساواةً بكثيرٍ. قد يكون عدمُ بقاء ذلك العلاج إلى الأبد مدعاةً للرثاء، إلا أن هذه هي سُنَّةُ الحياة، فلا شيء يبقى للأبد (باستثناء بقعةِ النبيذ الأحمر على الأريكة البيضاء). والحقيقة هي أننا شهدنا جيلَيْن تقريبًا من فُرَصِ العمل الكافية إلى حدٍّ كبيرٍ، والمستوياتِ المقبولة من التفاوُتِ بعد الحرب العالمية الثانية؛ ويمكننا أن نحقِّقَ ذلك مرةً أخرى.

لا ريب أنَّ تضييقَ الفجوة بين الدخول ستكون مهمةً صعبةً، وستكون على الأرجح مشروعًا طويلَ الأجل. صحيحٌ أنه في المرة السابقة خُفِّضَتْ نِسَبُ التفاوت في الدخل بسرعةٍ كبيرةٍ، في الفترة التي سُمِّيت «التقلُّص الكبير» لسنواتِ الحرب، ولكن بما أننا لسنا على مشارف اقتصادِ الحرب بما يصحبه من ضوابط — أو هذا ما آمله على الأقل — فربما يكون من غير الواقعي أن نتوقَّعَ حلًّا سريعًا.

إلا أن مشكلة البطالة ليسَتْ بالمشكلة المستعصية من الناحية الاقتصادية البحتة، كما أن علاجها لا يستلزم زمنًا طويلًا؛ ففيما بين عامَيْ ١٩٣٩ و١٩٤١ — أيْ قبل الهجوم على بيرل هاربور ودخول الولايات المتحدة في الحرب فعليًّا — تسبَّبَتْ موجةٌ من الإنفاق الفيدرالي في ارتفاعٍ يصل إلى ٧ في المائة في إجمالي عدد الوظائف المتاحة في الولايات المتحدة؛ أيْ ما يعادل إضافةَ أكثر من عشرة ملايين وظيفة في الوقت الحالي. قد تقولون إن هذا الزمن مختلِفٌ، لكنَّ إحدى الرسائل الرئيسية لهذا الكتاب هي أنه ليس مختلِفًا، وأنه لا يوجد سببٌ وجيهٌ يمنعنا من تكرار هذا الإنجاز فقط لو أننا توافَرَ لنا الوضوحُ الفكري والإرادةُ السياسية اللازمان؛ فكلما سمعتَ أحدًا يتحدَّثُ على أحدِ البرامج التليفزيونية مُعلِنًا أننا لدَيْنا مشكلةٌ طويلةُ الأمد لا يمكن حلُّها بإصلاحاتٍ على المدى القصير، يجب أن تعرف أنه على الرغم من أن القائل قد يظنُّ أنه يبدو حكيمًا، فإنه في الواقع قاسٍ وأحمق. هذا الكساد يمكن — ويجب — أن ينتهي بسرعةٍ كبيرةٍ.

بحلول هذا الوقت — إذا كنتَ قد قرأتَ هذا الكتاب من أوله — ينبغي أن تكون قد تكوَّنَتْ لديك فكرةٌ معقولةٌ عمَّا ينبغي أن تشتمل عليه استراتيجية إنهاء الكساد. في هذا الفصل، سأوضِّح هذه الاستراتيجيةَ بصراحةٍ أكبرَ، إلا أنني قبل أن أصل إلى هذه النقطة، اسمحوا لي أن أتوقَّفَ لحظةً للتعامُلِ مع الادِّعاءات القائلة إن الاقتصاد يعالج نفسَه بالفعل.

الأمور «ليسَتْ» على ما يرام

أكتبُ هذه الكلمات في فبراير ٢٠١٢، بعد مرور وقتٍ ليس بالطويل على إصدار تقريرٍ عن الوظائف جاءَ أفضلَ ممَّا كان متوقَّعًا. في الواقع، على مدار الأشهر القليلة الماضية، بلغَتْنا بعض الأنباء المشجِّعة فيما يتعلَّق بالوظائف؛ ففُرَصُ العمل تتزايَدُ بثباتٍ، ومعدَّلات البطالة المسجَّلة في انخفاضٍ، والطلباتُ الجديدة للتأمين ضد البطالة قليلةٌ، والتفاؤل في ازدياد.

وقد تكون قوى التعافي الطبيعية للاقتصاد قد بدأَتْ في العمل، حتى جون مينارد كينز نفسُه رأى أنَّ قُوَى التعافي تلك موجودة، وأنه بمرور الوقت يبدأ «الاستعمال والبِلَى والإهلاك» في استنفادِ المخزون القائم من المباني والآلات، مُفضِيًا في نهاية المطاف إلى «ندرةِ» رأس المال؛ ما يدفع الشركاتِ إلى البدء في الاستثمار؛ ومن ثم تبدأ عمليةُ التعافي. يمكننا أن نضيف أن عبءَ مديونية قطاع الأُسَر آخِذٌ في الانخفاض أيضًا، مع تمكُّن بعض الأُسَر من سداد ديونها، وإسقاط ديونٍ أخرى تلقائيًّا. إذَنْ، هل انتهت الحاجةُ إلى التحرُّك؟

لا، لم تنتَهِ.

فمن ناحيةٍ، هذه هي المرة «الثالثة» التي يعلن فيها أشخاصٌ كُثُرٌ أن كلَّ شيء أصبح على ما يرام فيما يتعلَّقُ بالاقتصاد؛ بعد «البراعم الخضراء» التي أشار إليها برنانكي في عام ٢٠٠٩، و«صيف التعافي» الذي شهدَتْه إدارةُ أوباما في عام ٢٠١٠، صار يَلزمنا بالتأكيد أكثر من مجرد بضعة أشهر من البيانات المبشِّرة قبل أن نستطيع إعلانَ النصر.

أما ما علينا حقًّا أن نفهمه، فهو مدى عُمْق الحفرة التي سقطْنا فيها، ومدى ضآلة الصعود الذي حقَّقْناه مؤخَّرًا. اسمحوا لي أن أقدِّمَ مقياسًا واحدًا لموضعنا حاليًّا؛ وهو نسبة العاملين من البالغين في أوج سن العمل، الموضَّحة في الشكل التالي. باستخدام هذا القياس، لا أقصد أنَّ توافُرَ فُرَصِ العمل للأمريكيين الأكبر والأصغر من ذلك العُمْر غيرُ مهمٍّ؛ فكلُّ ما في الأمر أنني اخترتُ مؤشرًا من مؤشرات سوق العمل لا يتأثَّرُ بالاتجاهات المتغيِّرة مثل شيخوخة السكان، حتى يكون ثابتًا على مرِّ الزمن. يدل هذا المؤشِّر على حدوث بعض التحسُّن خلال الأشهر القليلة الماضية، ولكنه لا يكاد يَبين مقارَنةً بالانهيار الذي وقَعَ في عامَيْ ٢٠٠٨ و٢٠٠٩.

figure
لاحَتْ بوادِرُ لتحسُّنِ وضْعِ العمالة مؤخَّرًا، غير أننا ما زلنا واقعين في أعماق الهوَّةِ (المصدر: مكتب إحصاءات العمل).

وحتى إذا استمرَّتِ الأخبارُ الأخيرة السارَّة على ذلك المنوال، فكَمْ من الوقت ستستغرق استعادةُ حالةِ التوظيف الكامل للعمالة؟ ستستغرق وقتًا طويلًا جدًّا. لم أرَ أيَّ تقديرٍ معقولٍ تَوقَّعَ استعادةَ التوظيف الكامل للعمالة في غضون أقل من خمس سنوات، وعلى الأرجح سيكون سبعُ سنوات هو الرقمَ الأَدَق.

هذا احتمال مخيف؛ فكلَّ شهر يمضي مع استمرار هذا الكساد يَلحق ضررٌ مستمرٌّ وتراكميٌّ بمجتمعنا؛ ضررٌ لا يُقاس بمعاناةٍ في الوقت الحاضر فحسب، ولكن بمستقبل مضمحِلٍّ أيضًا؛ فإذا كان ثمة ما يمكن أن نفعلَه لتسريع وتيرة التعافي — وهو أمر متاح — فعلينا أن نفعله.

ولكنكم ستقولون لي: وماذا عن العقبات السياسية؟ إنها حقيقية بالطبع، ولكنَّ تخطِّيها ليس مستحيلًا كما يتصوَّر الكثيرون. في هذا الفصل أريدُ أن أُنَحِّي السياسةَ جانبًا، وأتناوَلُ بالحديث المجالاتِ الرئيسيةَ الثلاثةَ التي يمكن للسياسات أن تُحدِث فيها فرقًا كبيرًا، بدءًا بالإنفاق الحكومي.

أَنفِقِ الآنَ وسدِّدْ لاحقًا

ما زال وضْعُ الاقتصاد الأمريكي بصفةٍ عامةٍ كما هو منذ عام ٢٠٠٨؛ فالقطاع الخاص غير مستعِدٍّ لإنفاقِ ما يكفي للاستفادة من كامل قدرتنا الإنتاجية؛ ومن ثَمَّ توظيف الملايين من الأمريكيين الذين يرغبون في العمل ولكنهم لا يستطيعون أن يعثروا على وظائف. الطريق المباشِر لسدِّ هذه الفجوة هو إنفاقُ الحكومة حيث لا يرغب القطاعُ الخاصُّ في الإنفاق.

ثمة ثلاثة اعتراضات شائعة على أيِّ اقتراحٍ من هذا القبيل:
  • (١)

    أثبتَتِ التجربةُ أن التدابير التنشيطية المالية لا تُجدِي نفعًا.

  • (٢)

    زيادةُ العجز من شأنها أن تقوِّضَ الثقةَ.

  • (٣)

    لا توجد مشروعاتٌ كافيةٌ جديرةٌ بالإنفاق عليها.

لقد تناولْتُ أولَ اعتراضين سابقًا في هذا الكتاب، فاسمحوا لي أن ألخِّصَ من جديدٍ الحججَ التي سُقْتُها، قبل أن أنتقِلَ إلى الاعتراض الثالث.

كما شرحتُ في الفصل السابع، فإن تدابيرَ التنشيط المالي التي اتَّخَذَها أوباما لم تفشل، وإنما هي ببساطةٍ لم تَرْقَ إلى المستوى المطلوب لتعويض الانسحاب الضخم للقطاع الخاص الذي كان قد بدأ بالفعل قبل دخول التدابير التنشيطية حيِّزَ التنفيذ. ولم يكن تواصُلُ ارتفاعِ معدلات البطالة موضعَ تنبُّؤٍ فحسب، بل كان متوقَّعًا فعلًا.

الدليل الحقيقي الذي يجب أن ننظر إليه هنا هو التنامي السريع في متن الأبحاث الاقتصادية التي تتناول آثارَ تغيُّر الإنفاق الحكومي على الناتج والعمالة، وهي الأبحاث التي تعتمِدُ على كلٍّ من «التجارب الطبيعية» — مثل الحروب والتعزيزات الدفاعية — وكذلك على الدراسة المتأنِّيةِ للسوابق التاريخية؛ بغيةَ التعرُّفِ على التغييرات الكبرى في مجال السياسة المالية. يلخِّص تذييلُ هذا الكتاب بعضَ الإسهامات الرئيسية لهذا الميدان البحثي؛ فما تشير إليه هذه الأبحاثُ — في وضوحٍ وإجماعٍ — هو أن التغييرات في الإنفاق الحكومي تحرِّك الناتجَ والعمالةَ في نفس الاتجاه؛ فكلما زاد الإنفاق، ارتفَعَ كلٌّ من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي ومعدل العمالة؛ وكلما قلَّ الإنفاق، انخفَضَ كلٌّ من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي ومعدل العمالة.

ماذا عن الثقة؟ كما شرحتُ في الفصل الثامن، ليس ثمة سببٌ للاعتقاد بأنه يمكن للتنشيط المالي — حتى إنْ كان كبيرًا — أن يقوِّضَ استعدادَ المستثمرين لشراء السندات الأمريكية؛ في الواقع، قد ترتفِعُ الثقةُ في سوق السندات عند توقُّعِ تسارُعِ وتيرةِ النمو. وفي الوقت نفسه، الواقعُ أن ثقةَ المستهلكين والشركات سوف تزيد إنْ حدَثَ تحوُّلٌ في السياسات نحو تنشيط الاقتصاد الحقيقي.

أما الاعتراض الأخير حول ما يمكن توجيه الإنفاق إليه، فأكثر وجاهةً. كان الافتقار الملحوظ للمشاريع الجيدة «الجاهزة للعمل» مصدرَ قلقٍ حقيقيٍّ عندما كانَتْ خططُ التدابير التنشيطية الأولى لأوباما في طور الإعداد، إلا أنني أودُّ أن أؤكِّدَ أنه حتى في ذلك الحين لم تكن القيودُ المفروضة على الإنفاق قويةً كما تخيَّلَ العديدُ من المسئولين، وعند هذه النقطة يكون من السهل نسبيًّا تحقيقُ زيادة كبيرة مؤقتة في الإنفاق. لماذا؟ لأننا كنَّا نستطيع أن نعطي الاقتصادَ دفعةً كبيرةً بمجرد إلغاء التدابير التقشُّفية المدمِّرة التي كانَتْ حكوماتُ الولايات والحكوماتُ المحلية قد فرضَتْها بالفعل.

لقد ذكرتُ هذا التقشُّفَ من قبلُ، ولكنه يصبح مهمًّا جدًّا عندما نفكِّرُ فيما يمكننا القيام به على المدى القصير لمساعدة اقتصادنا؛ فعلى عكس الحكومة الفيدرالية، يتوجَّبُ على حكوماتِ الولايات والحكوماتِ المحلية موازنةُ ميزانياتها سنويًّا؛ ما يعني أنه يتوجَّبُ عليها خفضُ الإنفاق أو زيادةُ الضرائب — أو كلاهما — عندما يصيبها الركود. وقد تضمَّنَتْ تدابيرُ أوباما التنشيطيةُ قدرًا كبيرًا من المعونات للولايات بهدفِ المساعدة على تجنُّبِ مثل هذه الإجراءات المسبِّبة للكساد، إلا أن المبالِغَ المُخَصَّصة لم تكن كافيةً حتى لتغطية السنة الأولى، ونفدَتْ سريعًا؛ وكانت نتيجة ذلك حدوث تراجُعٍ كبيرٍ، يوضِّحه الشكلُ السابق، الذي يوضِّح معدلاتِ العمالة في حكومات الولايات والحكومات المحلية. في هذه المرحلة، تراجَعَ عددُ العمال في تلك الحكومات بأعدادٍ تزيد عن نصف مليون نسمة، وتركَّزَتِ الغالبيةُ العظمى من الوظائف المفقودة في قطاع التعليم.

figure
شهدَتْ معدلاتُ العمالة في المستويات الحكومية الدنيا تراجُعًا حادًّا، في وقتٍ كان ينبغي فيه أن تنمو بالتوازي مع النموِّ السكاني؛ ما أفضى إلى عجزٍ يُقدَّر بأكثر من مليون عامل، كثيرٌ منهم من معلِّمي المدارس (المصدر: مكتب إحصاءات العمل).

لنسأل الآن، ماذا كان سيحدث لو لم تُجبَر حكوماتُ الولايات والحكومات المحلية على اللجوء إلى التقشُّف؟ من الواضح أنها لم تكن لتسرِّح كلَّ هؤلاء المعلمين. في الواقع، كانتْ قوَّتها العاملة ستستمر في النمو، لا لشيءٍ سوى خدمة العدد المتزايد من السكان. يشير الخطُّ المتقطِّع إلى ما كان سيحدث لمعدلات العمالة في حكومات الولايات والحكومات المحلية إذا ما كانَتِ استمرَّتْ في النمو بالتوازي مع نمو السكان؛ أيْ ما يقرب من ١ في المائة سنويًّا. تشير هذه الحساباتُ التقريبية إلى أنه لو كانَتِ الحكومةُ الفيدرالية قدَّمَتْ تلك المعونات، ربما كانت تلك المستويات الحكومية الدنيا توظِّف نحو ١٫٣ مليون عامِلٍ زيادةً على مَن توظِّفهم فعليًّا. كما يشير تحليلٌ مماثِلٌ لجانب الإنفاق إلى أنه لولا القيودُ الشديدة التي فُرِضَت على الميزانية، لَكانَتْ حكوماتُ الولايات والحكوماتُ المحلية تنفق حوالي ٣٠٠ مليار دولار سنويًّا أكثر مما تنفقه فعليًّا.

فهكذا يمكن توفير تنشيطٍ ماليٍّ قدره ٣٠٠ مليار دولار سنويًّا عن طريق تقديم المساعدات الكافية لحكومات الولايات والحكومات المحلية ببساطةٍ؛ ما يسمح لها بإلغاء آثار تخفيضات الميزانية التي قامَتْ بها في الآونة الأخيرة؛ ما من شأنه أن يخلق أكثرَ من مليون فرصةِ عملٍ مباشرة، وحوالي ثلاثة ملايين فرصة أخرى إذا أخذنا في الاعتبار الآثارَ غير المباشرة. ويمكن لذلك أن يتمَّ بسرعةٍ؛ لأننا نتحدَّثُ عن إلغاءِ الاستقطاعات لا عن بدْءِ مشروعات جديدة.

ومع ذلك، ينبغي البدءُ في مشروعاتٍ جديدةٍ أيضًا؛ ولا يتحتَّمُ أن تكون تلك المشروعاتُ خياليةً مثل إنشاء قطاراتٍ فائقةِ السرعة، بل يمكن أن تكون استثماراتٍ عاديةً بالأساس في الطرق وتطوير السكك الحديدية وشبكات المياه وما إلى ذلك. كان أحدَ آثارِ التقشُّفِ القسري على مستوى الولايات والحكومات المحلية الانخفاضُ الحاد في الإنفاق على البنية التحتية، الذي تمثَّلَ في صورةِ تأجيلِ بعض المشروعات أو إلغائها، وتأجيل عمليات الصيانة، وما شابه ذلك؛ ومن ثَمَّ، يُفترَض أن يصير بالإمكان إحداث زيادة كبيرة في الإنفاق بمجرد إعادة تشغيل جميع المشروعات التي كانت قد أُجِّلَت أو أُلغِيَت خلال السنوات القليلة الماضية.

ولكن ماذا لو احتاجَتْ بعضُ هذه المشروعات بعضَ الوقت للتحرُّك في النهاية، وكان الاقتصادُ قد تعافى بالكامل قبل انتهائها؟ الإجابة المناسبة لهذا هي: وماذا في ذلك؟ لقد بَدَا جليًّا منذ بداية هذا الكساد أن مخاطِرَ اتخاذِ إجراءاتٍ أقلَّ من اللازم أكبرُ بكثيرٍ من مخاطر اتخاذ إجراءات أكثر من اللازم؛ فإذا صار الإنفاقُ الحكومي يهدِّد بإصابة الاقتصاد بنشاط محموم، فتلك مشكلة يسهل على بنك الاحتياطي الفيدرالي احتواؤها عن طريق رفع أسعار الفائدة بسرعةٍ تزيد قليلًا عمَّا كان سيفعله في ظروف أخرى. ما كان يجب أن نخشاه طوالَ الوقت هو ما حدَثَ بالفعل؛ حيث ثبَتَ أن الإنفاقَ الحكومي غير كافٍ لأداء المهمة وتعزيز خلق فُرَصِ العمل، ولم يَعُدْ بنك الاحتياطي الفيدرالي قادرًا على خفض أسعار الفائدة؛ لأنها وصلَتْ بالفعل إلى الصفر.

ومع ذلك، يستطيع بنك الاحتياطي الفيدرالي — ويجب عليه — أن يفعل أكثر من هذا، وسأتناول تلك المسألة خلال لحظات، ولكن اسمحوا لي أولًا أن أضيف أنه ثمة قناة واحدة إضافية على الأقل يمكن للإنفاق الحكومي أن يعطي الاقتصادَ دفعةً سريعةً من خلالها؛ أَلَا وهي زيادة المعونة للأفراد المتعثِّرين، عن طريق زيادةٍ مؤقَّتةٍ في سخاء التأمين ضد البطالة وسائر برامج شبكة الأمان الاجتماعي. كان برنامج التدابير التنشيطية الأصلي يحتوي على ما يشبه ذلك، ولكنه لم يكن كافيًا، كما أنه تلاشى بسرعةٍ كبيرةٍ هو الآخَر؛ فإذا أعطيتَ المتعثرين بعضَ المال، فمن المحتمل جدَّا أن ينفقوه، وهذا بالضبط ما نحتاج إليه.

إذَنْ فالعوائق الفنية التي تقف في طريق برنامج تنشيط مالي جديد — وهو برنامج كبير جديد معنِيٌّ بالإنفاق الحكومي الرامي لتنشيط الاقتصاد — أقلُّ بكثيرٍ ممَّا يتخيَّل الكثيرون. يمكننا أن ننجح، وسنحقِّق نجاحًا أكبر إذا ما أدَّى بنك الاحتياطي الفيدرالي المزيدَ بدوره.

بنك الاحتياطي الفيدرالي

سقطَتِ اليابان فريسةَ ركودٍ طويلٍ في أوائل تسعينيات القرن العشرين، ولم تخرج من هذا الركود بالكامل حتى الآن. مَثَّل ذلك فشلًا كبيرًا للسياسة الاقتصادية، وهو ما لم تتورَّع العناصر الخارجية عن الإشارة إليه. على سبيل المثال: في عام ٢٠٠٠، نشَرَ أحدُ الاقتصاديين البارزين من جامعة برنستون ورقةً ينتقد فيها بقسوةٍ بنكَ اليابان — وهو النظير الياباني لبنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي — لعدم اتخاذه إجراءاتٍ أقوى، وأكَّدَ أن بنك اليابان يعاني من «شلل ذاتي». وإلى جانب اقتراحِ عددٍ من الإجراءات المحدَّدة التي ينبغي لبنك اليابان أن يتَّخِذَها، أشار بوجهٍ عامٍّ إلى ضرورةِ عمل البنك كلَّ ما يلزم لتوليد تعافٍ اقتصاديٍّ قويٍّ.

كان اسم هذا البروفيسور — كما قد يكون بعضُ القرَّاء قد خمَّنوا — هو بن برنانكي، الذي يرأس الآن بنكَ الاحتياطي الفيدرالي، والذي يبدو أنه يعاني الشللَ الذاتي نفسه الذي نَدَّدَ به سابقًا لدى الآخَرين.

فمِثل بنك اليابان في عام ٢٠٠٠، لم يَعُدْ بإمكان بنك الاحتياطي الفيدرالي استخدامُ السياسات النقدية التقليدية اليومَ؛ التي تعمل من خلال إحداثِ تغييراتٍ في أسعار الفائدة القصيرة الأجل لإعطاء الاقتصاد دفعةً إضافيةً؛ لأن تلك الأسعار كانَتْ قد وصلَتْ بالفعل إلى الصفر، ولا يمكن خفضها عن ذلك؛ ولكن في ذلك الوقت، قال البروفيسور برنانكي إنه ثمة إجراءاتٌ أخرى يمكن أن تتَّخِذَها السلطاتُ النقدية، من شأنها أن تأتي بنتيجةٍ حتى مع اقتراب أسعار الفائدة القصيرة الأجل من «حدِّ الصفر الأدنى»، ومن هذه التدابير ما يلي:
  • استخدام النقود المطبوعة حديثًا لشراء أصولٍ «غير تقليدية»، مثل السندات الطويلة الأجل والديون الخاصة.

  • استخدام النقود المطبوعة حديثًا لدفع الاستقطاعات الضريبية المؤقتة.

  • وضْعُ أهدافٍ لأسعار الفائدة الطويلة الأجل؛ على سبيل المثال، التعهُّد بإبقاء سعرِ الفائدة على سندات العشر سنوات أقلَّ من ٢٫٥ في المائة لأربع أو خمس سنوات، حتى إنِ استدعى الأمرُ شراءَ بنك الاحتياطي الفيدرالي هذه السندات.

  • التدخُّل في سوق الصرف الأجنبي لدفْعِ قيمةِ عملة البلاد للانخفاض، وتعزيز قطاع الصادرات.

  • وضْعُ هدفٍ أعلى للتضخُّم — ٣ أو ٤ في المائة على سبيل المثال — للسنوات الخمس أو حتى العشر القادمة.

وأشار برنانكي إلى أنه ثمة مجموعة كبيرة من التحليلات الاقتصادية والدلائل التي تدعم الفرضيةَ التي تشير إلى أن هذه السياسات سيكون لها تأثيرٌ إيجابيٌّ حقيقيٌّ على النمو والوظائف. (جاءَتْ فكرة وضْعِ هدفٍ للتضخُّم في الأساس من ورقةٍ بحثيةٍ نُشِرت لي عام ١٩٩٨.) وأضاف برنانكي أن التفاصيل ربما لا تكون ذات أهمية كبيرة، وأن ما يقتضيه الأمر حقًّا هو «عزم روزفلت»، و«الرغبة في النضال وخوض التجربة؛ باختصارٍ، عمل كل ما يلزم لكي تنهض البلادُ مرةً أخرى.»

للأسف، لم يتَّبِعْ برنانكي رئيسُ مجلس الاحتياطي الفيدرالي نصيحةَ برنانكي البروفيسور، ولكي نكون مُنصِفين، فقد تحرَّكَ بنكُ الاحتياطي الفيدرالي إلى حدٍّ ما نحو تطبيق النقطة الأولى أعلاه؛ فتَحْتَ المسمَّى الشديد الإرباك «التيسير الكمي»، اشترى البنكُ سنداتٍ حكوميةً طويلةَ الأجل وأوراقًا مالية مدعومةً برهون عقارية، ولكن لم يظهر أيُّ أثرٍ لعزم روزفلت لعملِ كلِّ ما يلزم؛ فبدلًا من النضال وخوض التجربة، كان بنك الاحتياطي الفيدرالي يسير بخطوات مرتعشة نحو التيسير الكمي من حينٍ لآخَر عندما يبدو الاقتصادُ شديدَ الضعف، ولكن سرعان ما يوقف جهوده حالما تعود الأمورُ إلى نصابها إلى حدٍّ ما.

لماذا كان بنك الاحتياطي الفيدرالي متردِّدًا إلى هذه الدرجة، مع أن كتاباتِ رئيسِه تشير إلى أنه ينبغي له أن يفعل أكثرَ من ذلك بكثيرٍ؟ قد تكون إحدى الإجابات أن الضغوطَ السياسية أرهَبَتْه؛ فقد جُنَّ جنونُ الجمهوريين في الكونجرس بسبب التيسير الكمي، واتَّهَمُوا برنانكي بأنه «حطَّ من قيمة الدولار». ومن الحوادث الشهيرة التحذيرُ الذي وجَّهَه ريك بيري حاكِمُ تكساس لبرنانكي بأن شيئًا «سيئًا جدًّا» قد يحدث له إنْ زار ولاية تكساس.

ولكن قد لا تكون هذه هي القصة كاملة؛ فقد دَرَسَ لورانس بول من جامعة جونز هوبكنز — وهو نفسه أحد أبرز علماء الاقتصاد الكلي — تطوُّرَ نظريات برنانكي على مدار سنواتٍ كما يَظهر في مَحاضِر اجتماعات مجلس الاحتياطي الفيدرالي، وإذا كان لي أن ألخِّصَ تحليلَ بول، فسوف أقولُ إنه يشير إلى أن برنانكي اجتذبَتْه زمرة بنك الاحتياطي الفيدرالي، وأن ضغوطَ التفكير الجماعي وإغراءَ الزمالة قد دفَعَ برنانكي مع مرور الوقت إلى وضْعٍ أصبحَتْ فيه أولوية الحفاظ على تواضُعِ أهداف الاحتياطي الفيدرالي — ما يجعل الأمورَ أسهلَ على المؤسسة — أعلى من أولوية مساعدة الاقتصاد بأيِّ وسيلة ضرورية. والمفارقة المحزنة هي أن برنانكي انتقَدَ بنك اليابان في عام ٢٠٠٠ لاتخاذه نفسَ الموقف؛ حيث كان غيرَ راغبٍ في «تجربةِ أيِّ شيء ما لم يكن نجاحُه مضمونًا تمامًا.»

أيًّا كانَتِ الأسباب الكامنة وراء سلبية بنك الاحتياطي الفيدرالي، فإنَّ ما أريد أن أشير إليه الآن هو أن جميع الإجراءات الممكنة التي اقترَحَها برنانكي البروفيسورُ لمثلِ هذه الظروف — والتي لم يجرِّبْها عندما أصبَحَ رئيسًا للبنك في الواقع — لا تزال متاحةً. وقد وضَعَ جوزيف جانيون — المسئولُ السابق ببنك الاحتياطي الفيدرالي، الذي يعمل حاليًّا في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي — خطةً محدَّدةً أكثرَ جرأةً للتيسير الكمي، وعلى بنك الاحتياطي الفيدرالي أن يمضي قدمًا في تنفيذ هذه الخطة أو ما يماثِلها على الفور، كما أن عليه أن يلتزِمَ بزيادةٍ متواضِعةٍ في التضخُّم — ٤ في المائة مثلًا على مدى السنوات الخمس القادمة — أو عوضًا عن ذلك، يمكنه أن يستهدِفَ قيمةً دولاريةً للناتج المحلي الإجمالي تنطوي ضمنًا على معدلٍ مماثِلٍ من التضخُّم، وينبغي له كذلك أن يكون على أُهْبَةِ الاستعداد لبذْلِ المزيد من الجهد إذا ثبتَ عدمُ كفايةِ هذه الإجراءات.

هل يمكن أن تُكَلَّلَ مثل هذه التدابير الجريئة من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي بالنجاح؟ ليس بالضرورة، ولكن كما كان برنانكي نفسه يقول: المهم أن نحاوِلَ، ونظلَّ نحاولُ إذا ما ثبتَ عدم كفاية الجولة الأولى. من المرجَّح أن تنجح خطةُ العمل الجريئة لبنك الاحتياطي الفيدرالي، خاصةً إنْ صاحَبَها التنشيطُ المالي الذي وصفْتُه أعلاه، وكذلك إن رافقَتْها إجراءاتٌ قويةٌ في قطاع الإسكان، وهو العمود الثالث لأي استراتيجية تعافٍ.

الإسكان

بما أن جزءًا كبيرًا من مشكلاتنا الاقتصادية يمكن أن يُعزَى إلى الديون التي ركمها مشترو المنازل خلال سنوات الفقاعة، فإحدى الطرق البديهية لتحسين الوضع هي تخفيفُ عبء هذا الدَّيْن. إلا أن محاولاتِ تخفيفِ عبء ملَّاك المنازل قد آلَتْ — بصراحةٍ — إلى فشلٍ ذريعٍ. لماذا؟ يرجع ذلك بالأساس — في رأيي — إلى أن خُطَطَ تخفيفِ أعباء الديون وعملية تنفيذها كان يعوقهما التخوُّفُ من استفادةَ بعض المدينين غير الجديرين بالمساعدة منها؛ وهو ما من شأنه إثارة ردِّ فعلٍ سياسيٍّ عنيفٍ.

سيرًا على مبدأ عزم روزفلت — «إذا لم تنجح في البداية، فاستمِرَّ في المحاولة» — علينا أن نحاوِلَ تخفيفَ عبءِ الديون مرة أخرى، وهذه المرة على أساسِ فهْمِنا أنَّ الاقتصاد في أَمَسِّ حاجةٍ إلى هذه الخطوة، وأنه ينبغي لتلك الحاجة أن تتغلَّبَ على مخاوف وصول بعض فوائدِ عمليةِ تخفيفِ عبءِ الديون إلى أشخاصٍ تصرَّفوا بطريقةٍ غير مسئولة في الماضي.

ولكن، حتى هذه ليسَتِ القصةَ كاملةً؛ فقد أشرتُ آنفًا إلى أن الاستقطاعات العنيفة التي فرضَتْها حكومات الولايات والحكومات المحلية جعلَتْ — على غير المتوقَّع — فكرةَ التنشيط المالي أكثر قبولًا ممَّا كانت عليه في أوائل عام ٢٠٠٩؛ حيث أصبَحَ بإمكاننا الحصولُ على دفعة كبرى بمجرد إبطال هذه الاستقطاعات. وبطريقةٍ مختلفةٍ نوعًا، جعَلَ الركودُ الاقتصادي الطويلُ الأمد إغاثةَ قطاع الإسكان أسهلَ؛ فقد أدَّى الكساد الاقتصادي إلى انخفاضِ أسعار الفائدة، بما في ذلك أسعارُ الفائدة على الرهون العقارية؛ فقد كانت أسعارُ الفائدة على الرهن العقاري التقليدي في ذروةِ الطفرة العقارية تتخطَّى ٦ في المائة في كثيرٍ من الأحيان، ولكن تلك الأسعار انخفضَتِ الآن إلى أقل من ٤ في المائة.

في الظروف الطبيعية عادةً ما يَستغلُّ أصحابُ المنازل هذا الانخفاضَ في أسعار الفائدة لإعادة تمويل القرض؛ بهدفِ الحدِّ من مدفوعات الفائدة وتحريرِ بعض النقود التي يمكنهم أن ينفقوها على أمور أخرى؛ ما من شأنه أن يُفضِي إلى تعزيز الاقتصاد. إلا أن إرثَ فقاعة الإسكان تمثَّلَ في عددٍ كبيرٍ من أصحاب المنازل الذين يمتلكون أصولًا عقاريةً قليلة جدًّا في منازلهم، وفي عددٍ غير قليل من الحالات يكون الأصلُ العقاري لديهم بالسالب؛ حيث تكون قيمةُ الرهن العقاري أكبرَ من القيمة السوقية للمنزل، وبصفةٍ عامة لا يقبل المُقرِضون إعادةَ التمويل إلا عندما يكون لدى المقترِض أصلٌ عقاريٌّ كافٍ، أو أن يكون قادرًا على دفع مقدمٍ إضافيٍّ.

يبدو الحل واضحًا؛ فَلْنجِدْ وسيلةً للتنازُلِ عن هذه القواعد أو على الأقل تخفيفها؛ وقد كان لدى إدارة أوباما في الواقع برنامجٌ موجَّهٌ لذلك الهدف، هو «برنامج إعادة تمويل المنازل بأسعار معقولة»، ولكن مثله مثل سياسات الإسكان السابقة، كان البرنامج حذرًا جدًّا ومقيِّدًا. ما نحتاج إليه هو برنامجٌ لإعادةِ تمويلٍ واسعةِ النطاق؛ وهو ما ينبغي أن يكون أسهلَ لأن كثيرًا من القروض العقارية مستحَقَّةٌ لمؤسَّستَيْ فاني وفريدي، وقد أُمِّمَتَا بالكامل الآن.

إلا أنَّ مثل هذا البرنامج لم يتحقَّق بعدُ، وهو ما يُعزَى جزئيًّا إلى تباطُؤِ رئيس الوكالة الفيدرالية لتمويل الإسكان، التي تُشرِف على مؤسستَيْ فاني وفريدي. (الرئيس هو مَن يعيِّنُ رئيسَ الوكالة، ولكن يبدو أن أوباما متحرِّجٌ من أن يُملِي عليه ما ينبغي أن يفعل، وأن يُقيله إنْ لم يفعله.) ولكن هذا يعني أن الفرصةَ ما زالَتْ متاحةً. وعلاوةً على ذلك — فكما أوضَحَ جوزيف جانيون من معهد بيترسون — يمكن لإعادة التمويل على نطاقٍ واسعٍ أن تكون واضحةَ الفعالية إن صحبَتْها جهودٌ مخلِصةٌ من جانبِ بنك الاحتياطي الفيدرالي لخفْضِ أسعار الفائدة على الرهون العقارية.

لن تُنهِي إعادةُ التمويلِ الحاجةَ إلى اتِّخَاذِ المزيد من تدابير تخفيفِ عبءِ المديونية، كما أن إبطالَ سياسات التقشُّف في حكوماتِ الولايات والحكوماتِ المحلية لن يلغي الحاجةَ إلى زيادة التنشيط المالي. المهم هنا هو أنه في كلتا الحالتين أتاحَتِ التغييراتُ التي طرأَتْ على الوضْعِ الاقتصادي خلال السنوات الثلاث الماضية الفُرصةَ لاتخاذ بعضِ الإجراءات التي تتَّسِم بسهولةِ التنفيذ عمليًّا، وإنْ كانَتْ مهمةً إلى حدٍّ مدهِشٍ، لمنح اقتصادنا دَفعةً.

المزيد

قائمة السياسات المذكورة أعلاه أوردناها على سبيل المثال لا الحصر، وثمة جبهاتٌ أخرى يمكن للسياسات — بل يجب عليها — أن تتحرَّكَ فيها، لا سيما التجارة الخارجية؛ فقد كان ينبغي منذ زمنٍ اتِّخَاذُ موقفٍ أكثر تشدُّدًا تجاه الصين وغيرها من المتلاعبين بالعملة، وفرْضُ عقوباتٍ عليهم إذا لزم الأمر. حتى الضوابط البيئية يمكنها أن تلعب دورًا إيجابيًّا؛ فيمكن للحكومة من خلال إعلانها أهدافًا للقيود التي يلزم فرْضُها على انبعاثات الجسيمات وغازات الدفيئة — مصحوبةً بالقواعد التي سوف تُطَبَّق تدريجيًّا مع مرور الوقت — أن تقدِّمَ حافزًا للشركات للإنفاق على التحسينات البيئية الحالية؛ ما يساعد على تسريع وتيرة التعافي الاقتصادي.

لا شكَّ أن بعض تدابير السياسة العامة التي وصفْتُها لن تؤتي ثمارها — في حالة تجربتها — كما كنَّا نأمل، ولكنَّ بعضَ التدابير الأخرى ستؤتي ثمارًا أفضلَ ممَّا كنَّا نتوقَّع. المهم الآن — بصرفِ النظر عن أيِّ تفاصيل — هو العزم على التحرُّك، وعلى اتِّبَاع سياساتٍ تستهدف خلْقَ فرصِ عمل، والاستمرار في المحاولة حتى يتحقَّقَ هدفُ التوظيف الكامل.

أما بشائرُ الأنباء السارة في البيانات الاقتصادية الأخيرة، فهي تؤيِّدُ فكرةَ الإجراءات الجريئة؛ فيبدو — بالنسبة إليَّ على الأقل — الاقتصادُ الأمريكيُّ وكأنَّه يقف على أعتابِ مرحلةٍ جديدةٍ. فقد يكون المحركُ الاقتصاديُّ على وشكِ الدوران، والنموُّ الذاتيُّ الاستدامةِ على وشكِ التحقُّق — لكن هذا ليس مضمونًا بأي حالٍ من الأحوال — لذلك هذا هو تحديدًا الوقتُ المناسِبُ لزيادة الجرعة المنشِّطة للاقتصاد، لا تقليلها.

السؤال الأهم بالطبع هو عمَّا إذا كان في إمكان أيٍّ من أهل السلطة — أو في نيتهم — اتِّبَاعُ نصيحة المناشِدين بزيادة الإجراءات التنشيطية. ألن تمثِّلَ السياسةُ والخلافات السياسية عقبةً على هذا الطريق؟

بلى، ولكن هذا ليس سببًا يدعونا للاستسلام، وهذا هو موضوع الفصل الأخير من هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤