الفصل الثاني

اقتصاديات الكساد

أدرك العالَم متأخرًا أننا نعيش هذا العامَ عواقب واحدة من أعظم الكوارث الاقتصادية في التاريخ الحديث. ولكن بعد أن أصبح رجلُ الشارع مُدرِكًا لِمَا يحدث، ونظرًا لعدم معرفته السببَ أو العلة، صارت تتملَّكه مخاوفُ مفرطةٌ بنفس قدر افتقاره للقلق المبرَّر في وقت سابق، عندما بدأَت المتاعب. لقد بدأ رجلُ الشارع العادي يتشكَّك في المستقبل؛ هل استفاق الآن من حلم جميل ليواجِهَ ظلمةَ الحقائق؟ أم هل غفَا لِيَدخل في كابوسٍ هو في النهاية إلى زوال؟

لا داعيَ للشك؛ فالوضع السابق «لم» يكن حلمًا، أما هذا فكابوس بالفعل، وسوف ينتهي مع حلول الصباح؛ فموارد الطبيعة وأدوات الإنسان ما زالت خصبة ومنتِجة كما كانت دائمًا، كما أن معدل تقدُّمنا نحو حلِّ المشكلات المادية للحياة ليس أقل سرعةً، وما زلنا قادرين على أن نكفل لكلِّ شخص مستوَى معيشةٍ مرتفعًا — أعني أنه مرتفع نسبةً إلى مستوى المعيشة منذ عشرين عامًا على سبيل المثال — وسوف نتعلَّم عمَّا قريب أن نَكْفل مستوَى معيشة أعلى من ذلك. لم نكن مخدوعين فيما مضى، ولكننا وقعنا اليوم في فوضى هائلة؛ إذ أسأنا التحكُّم في أداة دقيقة لا نفهم طبيعة عملها، والنتيجة هي أن فُرَصَنا في الثروة قد تَضيع لفترةٍ؛ ربما تكون طويلة.

جون مينارد كينز
«الكساد الكبير لعام ١٩٣٠»

كُتبَت الكلمات أعلاه منذ أكثر من ثمانين عامًا، فيما كان العالَم ينزلق إلى ما أُطلِق عليه لاحقًا «الكساد الكبير»، إلا أنها — إذا نحَّيْنا جانبًا بعضَ الأساليب المهجورة في الكتابة — يمكن أن نظنَّها قد كُتِبت اليومَ. فنحن الآن — كما كنَّا آنذاك — نعيش كارثةً اقتصاديةً، ونحن الآن — كما كنَّا آنذاك — أصبحنا فجأةً أكثر فقرًا؛ إلا أن مواردنا ومعرفتنا لم يلحق بها الضرر، فمن أين أتى هذا الفقر المفاجئ؟ ويبدو أننا الآن — كما حدث آنذاك — سنفقد فُرَصَ الثروة لفترة طويلة من الزمان.

كيف يمكن لهذا أن يحدث؟ في الواقع، هذا ليس لغزًا؛ فنحن نفهم — أو «ينبغي» أن نفهم، لو لم يرفض الكثيرون الاستماعَ إلى صوت الحقيقة — كيف تَحْدث مثل هذه الأشياء؛ فقد قدَّمَ كينز جزءًا كبيرًا من الإطار التحليلي اللازم لفهم الكساد، ويمكن للاقتصاد الحديث أن يستند كذلك إلى رؤى معاصِري كينز، جون هيكس وإرفينج فيشر، تلك الرؤى التي عمل عدد من خبراء الاقتصاد الحديث على توسيع نطاقها وتطويرها.

الرسالة المحورية لهذا العمل بأَسْره هي أنه «ليس من المحتَّم أن يحدث هذا»؛ فقد أعلن كينز في المقال نفسه أن الاقتصاد كان يعاني «خللًا في المغنيط»؛ وهو مصطلح قديم يُطلَق على الخلل في النظام الكهربائي للسيارة، أما القياس الأكثر حداثةً، ويمكن القول إنه أكثر دقةً، فهو أننا تعرَّضْنا لعطلٍ برمجيٍّ. في كلتا الحالتين، تبقى النقطة الأساسية هي أن المشكلة ليسَتْ في المحرك الاقتصادي — الذي ما زال قويًّا كسابق عهده — وإنما نحن نتحدَّث عن مشكلةٍ فنيةٍ في الأساس؛ مشكلة في التنظيم والتنسيق، أو «فوضى هائلة» على حدِّ تعبير كينز؛ وإذا حللنا هذه المشكلة الفنية فسيعود محرِّك الاقتصاد إلى العمل مجدَّدًا.

قد يجد الكثيرُ من الناس أن هذه الرسالة غير قابلة للتصديق من الأساس، بل ربما يرونها مسيئة أيضًا؛ حيث يبدو طبيعيًّا أن نفترض أن المشكلات الكبيرة لها أسباب كبيرة، وأن البطالة الجماعية يجب أن تكون نتيجة شيء أعمق من مجرد الفوضى. هذا هو السبب في استخدام كينز لتشبيه خلل المغنيط؛ فنحن نعلم جميعًا أنه في بعض الأحيان يكون استبدال بطارية ثمنها ١٠٠ دولار هو كل ما يلزم لإعادة تشغيل سيارة معطَّلة تساوي ٣٠ ألف دولار، وقد كان كينز يأمل في إقناع القرَّاء بأنه من الممكن أن ينطبق مثل هذا المثال لعدم التناسُبِ بين السبب والنتيجة، على مسألة الكساد الاقتصادي، إلا أن هذه النقطة كانت — وما زالت — صعبةَ التصديق على كثير من الناس، بما فيهم أولئك الذين يَعتبرون أنفسهم من المثقَّفين.

يعود السبب وراء ذلك جزئيًّا إلى الشعور بأنه من الخطأ أن نعزو هذا الدمارَ لخلل طفيف نسبيًّا، بالإضافة إلى أنه ثمة رغبة قوية في رؤية الاقتصاد من منظور المسرحية الأخلاقية؛ حيث تكون الأوقات العصيبة عقابًا حتميًّا للإسراف الماضي. في عام ٢٠١٠، سنحَتْ لي ولزوجتي فرصةُ الاستماع لخطابٍ حول السياسة الاقتصادية ألقاه فولفجانج شويبله — وزير المالية الألماني — وفي منتصف الخطاب مالَتْ عليَّ زوجتي وهمسَتْ قائلةً: «عندما نغادر القاعة، سوف يعطوننا سياطًا نَجلد بها أنفسنا.» شويبله — باعتراف الجميع — أكثر المسئولين الماليين ميلًا للتهديد والوعيد، إلا أنه ثمة الكثير ممَّن يشاركونه ميوله، وهؤلاء الناس — الذين يعلنون بوقارٍ أن مشكلاتنا لها جذور عميقة ومستعصية على الحل، وأنه علينا جميعًا أن نتكيَّف مع مستقبلٍ أكثر تقشُّفًا — يَبدون حكماء وواقعيين على الرغم من أنهم مخطئون تمامًا.

ما آمُل أن أحقِّقه في هذا الفصل هو إقناعكم بأننا بالفعل نعاني من خلل في المغنيط. فمصادر معاناتنا تافهة نسبيًّا في سياق الأمور، ويمكن إصلاحها بسرعة وبسهولة كبيرة إذا ما تَفَهَّم الحقائقَ عددٌ كافٍ من أرباب السلطة؛ وعلاوةً على ذلك، ففيما يتعلَّق بالسواد الأعظم من الناس، «لن» تكون عملية إصلاح الاقتصاد مؤلمةً، ولن تنطوي على تضحياتٍ؛ بل على العكس؛ فإيقاف هذا الكسادِ سيكون تجربةً طيبةً للجميع تقريبًا، عدا أولئك المتمسكين سياسيًّا وعاطفيًّا ومهنيًّا بعقائد اقتصادية متحجِّرة.

وللتوضيح، فإنني عندما أقول إن أسبابَ الكارثة الاقتصادية التي ألمَّتْ بنا تافهةٌ نسبيًّا، فأنا لا أقول إنها ظهرَتْ عشوائيًّا أو نشأت من العدم، ولا إنه من السهولة بمكانٍ — من الناحية «السياسية» — أن نخرج من هذه الورطة؛ فقد استغرَقَ وصولنا إلى هذا الكساد عقودًا من السياسات والأفكار الخاطئة؛ تلك السياسات والأفكار التي ازدهرَتْ بسبب نجاحها الباهر لفترة طويلة، ليس للأمة بأسرها ولكن لحفنة من الأشخاص بالِغي الثراء والنفوذ، كما سنرى في الفصل الرابع. تلك السياسات والأفكار الخاطئة أحكمَتْ قبضتها على ثقافتنا السياسية؛ ما يجعل تغييرَ المسار أمرًا بالغَ الصعوبة، حتى ونحن في مواجهة كارثة اقتصادية؛ إلا أنه من الناحية الاقتصادية البحتة، لن يكون حلُّ الأزمة على هذا القدر من الصعوبة، ويمكننا أن نحظى بتعافٍ سريعٍ وقويٍّ لو أننا فقط استطعنا أن نتحلَّى بوضوح الفكر والإرادة السياسية اللازمَين للعمل.

فكِّروا في الأمر كالآتي: لنفترِضْ أن رب أسرةٍ ما قد رفض — لأيِّ سبب كان — إجراءَ الصيانة اللازمة للنظام الكهربائي لسيارة الأسرة لسنوات، والآن السيارةُ لا تعمل، ولكنه يرفض مجردَ التفكير في استبدال البطارية، ويعود ذلك جزئيًّا إلى أن استبدالها يعني الاعترافَ بأنه كان مُخطِئًا من قبلُ، وعوضًا عن ذلك يصرُّ على أن الأسرة يجب أن تتعلَّم التنقُّل سيرًا على الأقدام وبالحافلات. من الواضح أن هناك مشكلةً، وقد تكون مشكلةً غير قابلة للحلِّ، ولكن المشكلة متعلقة برب الأسرة وليس بسيارة العائلة، التي يمكن — بل ينبغي — إصلاحها بسهولة.

حسنًا، كفانا استعارات مجازية، وَلْنتحدَّثْ عمَّا أصاب الاقتصادَ العالمي.

السر يكمن في الطلب

لماذا ارتفع معدل البطالة وانخفض الناتج الاقتصادي إلى هذا الحدِّ؟ لأننا — وأعني هنا المستهلكين والشركات والحكومات مجتمعين — لا ننفق بما فيه الكفاية؛ فقد انخفَضَ الإنفاقُ على السلع الاستهلاكية وبناء المنازل عندما انفجرَتْ فقاعَتَا الإسكان المتشابهتان في الولايات المتحدة وأوروبا، وسرعان ما تبع ذلك انخفاضُ الاستثمار في الأعمال التجارية؛ وذلك لأنه لا معنى لتوسيع القدرات في حين أن المبيعات آخِذة في الانكماش. وقد صاحب ذلك انخفاضٌ في الإنفاق الحكومي حين وجدَتْ حكوماتُ المحليات والولايات وبعض الدول نفسَها متعطِّشةً للإيرادات. وانخفاضُ الإنفاق يستتبع — بدوره — انخفاض فرص العمل؛ لأن الشركات لن تُنتج ما لا يمكِنها بيعه، ولن توظِّف عمَّالًا ما لم تكن تحتاجهم للإنتاج؛ فنحن نعاني من نقص حادٍّ في الطلب إجمالًا.

ثمة تبايُنٌ كبير في الآراء حيال ما قلتُه للتوِّ؛ فبعض المعلِّقين يرونه أمرًا واضحًا وضوح الشمس بما لا يَدَعُ مجالًا للنقاش، إلا أن البعض الآخَر يراه محض هراء؛ فثمة أطراف في المشهد السياسي — أطراف مهمة تتمتَّع بنفوذ حقيقي — لا يعتقدون أنه من الممكن أن يعاني الاقتصاد ككلٍّ من عدم كفاية الطلب، ويقولون إنه من الممكن أن يحدث نقصٌ في الطلب على بعض السلع، ولكن لا يمكن أن يكون الطلبُ شحيحًا في العموم. لِمَ؟ لأن الناس — كما يزعم أصحابُ ذلك الرأي — لا بد أن ينفقوا دخلهم على «شيءٍ ما».

وهذه هي المغالطة التي يُطلِق عليها كينز اسمَ «قانون ساي»، وتُسمَّى في بعض الأحيان «رؤيةَ وزارة المالية»؛ ليس في إشارةٍ لوزارة المالية في بلادنا، ولكن لوزارة المالية البريطانية التابِعة لجلالة الملك في ثلاثينيات القرن العشرين، وهي المؤسسة التي أصَرَّتْ على أنَّ أيَّ إنفاقٍ حكوميٍّ من شأنه أن يحلَّ محلَّ مبلغٍ مساوٍ من الإنفاق الخاص. ولكي تتأكَّدوا من أنني لا أصِفُ شيئًا وهميًّا، إليكم ما ورَدَ عن براين ريدل من مؤسسة هيريتيج (وهي مركز أبحاث يميني) في مقابلةٍ أجرَتْها معه مجلةُ ناشونال ريفيو في أوائل عام ٢٠٠٩:

تذهب الأسطورة الكينزية العظيمة إلى أنك تستطيع أن تنفِقَ النقودَ، ومن ثم تزيد الطلبَ، وهذه خرافة؛ لأن الكونجرس لا يملك قَبْوًا مليئًا بالنقود لتوزيعها في الاقتصاد؛ فكلُّ دولارٍ يضخُّه الكونجرس في الاقتصاد ينبغي أن يُجبَى أولًا في صورة ضرائب أو يُقتَرَض «من» الاقتصاد؛ فأنت لا تخلق طلبًا جديدًا، وإنما تعمل على نقله من فئةٍ إلى أخرى فحسب.

وحتى نَفِيَ ريدل حقَّه، نقول إنه خلافًا لكثيرٍ من المحافظين، يقرُّ بأن حجته تنطبِق على أيِّ مَصْدر إنفاق جديد؛ أيْ إنه يقرُّ بأن حجته المتعلِّقة بعدم إمكانية رفع معدلات التوظيف من خلال برنامجٍ للإنفاق الحكومي، تنطبِق أيضًا على أيِّ طفرة في الاستثمار في قطاع الأعمال التجارية مثلًا؛ حيث إنها هي الأخرى لا يمكن أن تفضي إلى زيادة فرص العمل، وينبغي أن تنطبق على خفض الإنفاق كما تنطبق على زيادته؛ على سبيل المثال، إذا قرَّرَ المستهلكون المثقَلون بالديون خفْضَ الإنفاق بمبلغ قدره ٥٠٠ مليار دولار أمريكي، فإن هذه النقود — وفقًا لما يراه الأشخاص من نوعية ريدل — تُودَع في البنوك حتمًا، التي تقوم بدورها بإقراضها، بحيث يزيد إنفاق الشركات أو مستهلِكين آخَرين ٥٠٠ مليار دولار؛ وإذا ما اتَّجَهَتِ الشركات المتخوِّفة من الاشتراكيين المسيطرين على البيت الأبيض إلى تقليص إنفاقها الاستثماري، فإن ما تصرفه من نقودٍ لا بد أن تنفقه شركاتٌ أو مستهلكون أقلُّ تخوُّفًا. فوفقًا لمنطق ريدل، لا يمكن لنقص عامٍّ في الطلب أن يضير الاقتصادَ؛ لأنه لا يمكن أن يحدث من الأساس.

لا داعيَ لأن أقول إنني لا أُومِنُ بهذا، ويشاركني في ذلك العقلاءُ عامةً؛ لكن كيف نُثبِت خطأه؟ كيف يمكنك إقناع الناس بأنه خطأ؟ حسنًا، يمكنك أن تحاوِل التعامُلَ مع ذلك المنطق بالمناقشة اللفظية، ولكن من واقع تجربتي، وجدتُ أنك عندما تحاوِلُ إقامةَ هذا النوع من المناقشات مع أحد معارِضي الكينزية المتعصبين، سينتهي بك الأمر عالقًا في مباريات كلامية، ولن يقتنع أحدٌ. يمكنك وضع نموذجٍ رياضيٍّ بسيط لتوضيح القضايا، لكن هذا لا يُجدِي نفعًا إلا مع الاقتصاديين، وليس مع الأشخاص العاديين (بل إنه غير مُجْدٍ مع بعض الاقتصاديين).

أو يمكنك رواية قصة حقيقية؛ وهو ما يقودني إلى قصتي الاقتصادية المفضَّلة: الجمعية التعاونية لمجالَسة الأطفال.

رُوِيت هذه القصة للمرة الأولى في مقالٍ نُشِر عام ١٩٧٧ في مجلة جورنال أوف موني، كريديت آند بانكِنج، من تأليف جوان وريتشارد سويني — اللذين عاصَرَا التجربةَ — وتحت عنوان «النظرية النقدية وأزمة جمعية كابيتول هيل التعاونية لمجالَسة الأطفال». كان الزوجان سويني عضوَيْن في جمعية تعاونية لمجالَسة الأطفال، وهي جمعية ضمَّتْ نحو ١٥٠ عضوًا من الأزواج الشباب — معظمهم من العاملين في الكونجرس — الذين عمدوا إلى توفير أجور جليسات الأطفال عن طريق رعاية بعضهم أطفالَ بعض.

مثَّلَ الحجمُ الكبير نسبيًّا للتعاونية ميزةً كبيرةً؛ حيث تزايدَتِ احتمالاتُ العثورِ على شخصٍ قادِرٍ على مجالَسة الأطفال إذا أردتَ الخروجَ في أي ليلةٍ. ولكن كانت ثمة مشكلة؛ كيف يمكن لمؤسِّسي التعاونية أن يتأكَّدوا من تولِّي كلِّ زوجين نصيبَهما العادل من مهامِّ مجالَسة الأطفال؟

وكان الحلُّ الذي قدَّمَتْه التعاونية هو نظام القسائم، والذي يُصدَر بمقتضاه لكلِّ زوجين ينضمَّان إلى التعاونية عشرين قسيمةً، كلٌّ منها يقابلها نصف ساعة من مجالَسة الأطفال. (عند مغادَرة التعاونية، كان يُتوقَّع منهما أن يردَّا العددَ نفسَه من القسائم.) فكان مَن يتلقَّى خدمةَ مجالَسةِ الأطفال يقدِّم للجليس العددَ الملائِمَ من القسائم في كلِّ مرةٍ، ما يكفل أنه بمرور الوقت سيكون كلُّ زوجين قد قدَّمَا الخدمةَ بنفس قدرِ تلقِّيهما لها؛ حيث إنه لا بد من استعادةِ القسائم التي دفَعَاها مقابِلَ تلقِّي الخدمة.

إلا أنه بمرور الوقت، وقعَتِ التعاونية في ورطةٍ كبيرةٍ؛ ففي المتوسط، كان الأزواجُ يحاولون إبقاءَ احتياطي من قسائم مجالَسة الأطفال في أدراجِ مكاتبهم على سبيل الاحتياط، في حالة إذا ما احتاجوا إلى الخروج عدة مرات متتالية، ولكن لأسبابٍ لا داعيَ للخوض فيها، جاءَتْ مرحلةٌ أصبَحَ فيها عددُ قسائم مجالَسةِ الأطفال المتداولة أقلَّ بكثيرٍ من الاحتياطي الذي يرغب الزوجان في الاحتفاظ به في المتوسط.

إذَنْ، ما الذي حدث؟ صارَ الأزواج — الذين أصابهم القلقُ من جرَّاء انخفاضِ احتياطي قسائم مجالسة الأطفال لديهم — يُحجِمون عن الخروج حتى يزيدوا مدَّخراتهم من خلال مجالَسة أطفال الأزواج الآخَرين، ولكن إحجام الكثير من الأزواج عن الخروج تسبَّبَ في حدِّ ذاته في أن أصبحَتْ فُرَصُ الحصول على القسائم من خلال مجالَسةِ الأطفال شحيحةً؛ مما تسبَّبَ في زيادة إحجام الأزواج الذين يفتقرون إلى القسائم عن الخروج، وحدث انخفاضٌ حادٌّ في كَمِّ مجالَسةِ الأطفال داخل الجمعية التعاونية.

باختصارٍ، وقعَتِ الجمعية التعاونية لمجالَسة الأطفال في هوَّةِ الكساد، الذي استمَرَّ حتى استطاعَ اقتصاديُّو المجموعةِ إقناعَ المجلس بزيادة المعروض من القسائم.

ماذا نتعلَّمُ من هذه القصة؟ إذا قلتَ «لا شيء»، لأنها تبدو على قدرٍ كبيرٍ من الخفة والتفاهة، فعارٌ عليك؛ فقد كانت جمعية كابيتول هيل التعاونية لمجالَسة الأطفال نموذجًا حقيقيًّا — وإنْ كانَ مُصَغَّرًا — للاقتصاد النقدي. يفتقر هذا المثالُ إلى الكثيرِ من سمات المنظومة الشاسعة التي نطلق عليها اسمَ الاقتصاد العالمي، ولكنه يحمل سمةً واحدةً محوريةً في فهم الخطأ الذي أصابَ هذا الاقتصاد العالمي؛ وهي السمة التي تبدو — مرة بعد أخرى — أكبرَ من قدرةِ الساسةِ وصنَّاعِ السياسة على الفهم.

وما هي تلك السمة؟ تتمثَّل هذه السمة في واقع أن «إنفاقَكَ هو دخلي، وإنفاقي هو دخلك».

أليس هذا بديهيًّا؟ ليس بالنسبة إلى كثيرٍ من أصحاب النفوذ.

على سبيل المثال، من الجليِّ أن هذا لم يكن واضحًا بالنسبة إلى جون بينر — رئيس مجلس النوَّاب الأمريكي — الذي عارَضَ الخططَ الاقتصادية للرئيس أوباما، بحجةِ أنه حيث إن الأمريكيين يعانون، فقد حان وقتُ تقليصِ حكومةِ الولايات المتحدة نفقاتها أيضًا. (وما أثارَ بالِغَ استياءِ الاقتصاديين الليبراليين أن أوباما انتهَى به الأمرُ إلى ترديدِ هذه الجملة في خُطَبه هو شخصيًّا.) وكان السؤال الذي لم يطرحه بينر على نفسه هو: إذا قلَّصَ المواطنون العاديون إنفاقَهم، وكذلك فعلَتِ الحكومة، فمَن سيشتري المنتجاتِ الأمريكيةَ؟

وبالمِثل، من الواضح أن فكرة كَوْن دخْلِ كلِّ فردٍ — وكذلك دخْل كلِّ بلدٍ — هو إنفاق شخصٍ آخَر، ليست بديهية في نظر كثيرٍ من المسئولين الألمان، الذين يشيرون إلى التحوُّلِ الذي شهدَتْه بلادهم في الفترة ما بين أواخر تسعينيات القرن العشرين وحتى اليوم، باعتباره نموذجًا يُحتذَى به. كان العامل الرئيسي في هذا التحوُّل هو انتقال ألمانيا من العجز التجاري إلى الفائض التجاري؛ أي التحوُّل من الشراء من الخارج أكثر مما تبيع، إلى الوضع العكسي، إلا أن هذا لم يُتمكَّن من تحقيقه إلا لأن بلدانًا أخرى (معظمها في جنوب أوروبا) انغمسَتْ بالتوازي معها في العجز التجاري. الآن نحن جميعًا عالقون في ورطة، ولكن لا يمكننا جميعًا أن نبيع أكثرَ مما نشتري. لكن لا يبدو أن الألمان يفهمون ذلك؛ ربما لأنهم لا يرغبون في فهمه.

ولأن الجمعية التعاونية لمجالَسة الأطفال — على بساطتها وضيق نطاقها — كانَتْ تحمل هذه السمةَ البالغة الأهمية — وإن كانَتْ غيرَ واضحةٍ — التي تنطبق على الاقتصاد العالمي أيضًا، يمكن لخبراتها أن تكون بمنزلة «إثبات المفهوم» لبعض الأفكار الاقتصادية المهمة. وفي هذه الحالة، سنتعلم ثلاثةَ دروس مهمة على الأقل.

أولًا: نتعلَّم أن عدم كفاية الطلب الإجمالي احتمالٌ حقيقيٌّ فعلًا؛ فعندما قرَّرَ أعضاءُ الجمعية التعاونية لمجالَسةِ الأطفال الذين تناقَصَتْ لديهم القسائمُ، أن يتوقَّفوا عن إنفاق القسائم على قضاء أمسياتهم في الخارج؛ لم يؤدِّ هذا القرارُ إلى أيِّ زيادةٍ تعويضيةٍ تلقائيةٍ في الإنفاق من جانب غيرهم من أعضاء الجمعية التعاونية، بل على العكس، تسبَّبَ انخفاضُ توفُّرِ فُرَصِ مجالَسةِ الأطفال في دفْعِ الجميع إلى تقليل الإنفاق. إن أمثال براين ريدل على حقٍّ في أن الإنفاق يجب أن يساوي الدخْلَ دائمًا؛ فعددُ قسائم مجالسة الأطفال المحصَّلة في أسبوعٍ معيَّنٍ دائمًا ما تساوي عددَ القسائم المستهلَكة، ولكن هذا لا يعني أن الناس سوف تنفق دائمًا ما يكفي لتحقيق الاستفادة الكاملة من القدرة الإنتاجية للاقتصاد، بل يمكن أن يعني أن جزءًا من القدرة الإنتاجية يبقى معطَّلًا بما يكفي «لخفْضِ» الدخْلِ حتى يصل إلى مستوى الإنفاق.

ثانيًا: يمكن للاقتصاد أن يصل حقًّا للكساد بسبب خللٍ في المغنيط؛ أي بسببِ الإخفاق في التنسيقِ وليس لعدم وجود قدرة إنتاجية؛ فالجمعية التعاونية لم تقع في المتاعب لأن أعضاءها كان أداؤهم سيِّئًا في مجالَسةِ الأطفال، أو لأن ارتفاعَ الضرائب أو سخاءَ المِنَح الحكومية جَعَلهم غير راغبين في العمل في وظائف مجالَسةِ الأطفال، أو لأنهم كانوا يدفعون الثمنَ المحتم للإسراف في الماضي؛ لقد وقعَتِ المتاعبُ لسببٍ يبدو تافهًا، وهو أن المعروض من القسائم كان منخفِضًا جدًّا، وهذا ما تسبَّبَ في حدوثِ ما أطلَقَ عليه كينز «فوضى هائلة»، حاوَلَ فيها أعضاءُ الجمعية التعاونية فُرادَى فعْلَ شيءٍ — زيادة مدخراتهم من القسائم — لم يكن باستطاعتهم فعله جماعةً.

هذه فكرة محورية؛ فعلى الرغم من جميع الاختلافات على مستوى النطاق، تتشابَهُ الأزمةُ الحالية في الاقتصاد العالمي — الذي يعادِل حجمُه حجْمَ تلك الجمعية التعاونية ما يقرب من ٤٠ مليون مرة — في طبيعتها مع مشكلات الجمعية التعاونية؛ حيث يحاوِلُ سكَّانُ العالم إجمالًا أن يشتروا أقلَّ من قدرتهم على الإنتاج، وينفقوا أقلَّ ممَّا يكسبون. وهذا أمر ممكن على مستوى الفرد، ولكن ليس بالنسبة إلى العالم ككلٍّ، ونتيجة هذا هي الدمار المنتشر في كل مكانٍ حولنا.

دعوني أسهِب قليلًا في الحديث عن هذه القضية، وأقدِّم معاينةً موجزةً ومبسَّطةً لما سيلي من تفسير مطول؛ إذا نظرنا إلى حال العالم قبل الأزمة مباشرة — وَلْيكن فيما بين ٢٠٠٥ و٢٠٠٧ — فسنرى صورةَ بعض الناس وهُمْ يُقرضون الكثيرَ من النقود لآخَرين بسرور، فيما ينفق الآخَرون تلك النقود بحبورٍ. كانت الشركاتُ الأمريكية تُقرض ما يفيض عندها من نقودٍ للبنوك الاستثمارية، التي بدورها تستخدم هذه النقودَ لتمويل القروض العقارية، والبنوك الألمانية تقرض فائضَ النقود للبنوك الإسبانية، التي تستخدم هذه النقود لتمويل القروض العقارية، وهكذا دواليك. واستُخدِمتْ بعض تلك القروض في شراء منازل جديدة، بحيث انتهى الأمر بهذه النقود إلى الإنفاق على البناء، فيما استُخدِمت بعض القروض للحصول على النقود من الأسهم العقارية، التي كانت تُستخدَم لشراء السلع الاستهلاكية، وحيث إن إنفاقَكَ هو دَخْلِي، فقد ارتفعَتِ المبيعاتُ، وأصبَحَ الحصولُ على عمل أمرًا سهلًا نسبيًّا.

ثم توقَّفَ كلُّ شيءٍ، وأصبح المقرِضون أكثرَ حذرًا حيال تقديمِ قروض جديدة، واضطرَّ المقترضون لخفض معدلات إنفاقهم بنِسَب كبيرة؛ وهنا تكمن المشكلة: فلم يكن ثمة أحدٌ على استعدادٍ لزيادة الإنفاق بدلًا منهم. وفجأةً، تراجَعَ الإنفاق الكلي للاقتصاد العالمي، ولأن إنفاقي هو دخْلُكَ، وإنفاقَكَ هو دَخْلِي، فقد شهدَتْ معدلاتُ الدخل وفرصُ العمل انخفاضًا مماثِلًا.

إذَنْ، هل ثمة ما يمكننا القيام به؟ هنا يأتي الدرس الثالث من دروس تعاونية مجالَسةِ الأطفال؛ إذ يمكن أن يتمثَّل حلُّ المشكلات الاقتصادية الكبيرة — في بعض الأحيان — في حلولٍ بسيطةٍ وسهلةٍ؛ فقد استطاعت التعاونية الخروجَ من ورطتها ببساطةٍ عن طريق طباعة المزيدِ من القسائم.

وهنا يُطرَح السؤال الرئيسي: هل يمكننا معالجة الركود العالمي بنفس الطريقة؟ هل يمكن لطباعة المزيد من قسائم مجالسة الأطفال — أي زيادة المعروض من النقود — أن تكون كلَّ ما يلزم لإعادة الأمريكيين إلى العمل؟

الحقيقة هي أن طباعة المزيد من قسائم مجالسة الأطفال هي فعلًا الوسيلة التي نخرج بها من الكساد عادةً؛ فعلى مدى السنوات الخمسين الماضية، كان إنهاءُ فترات الركود وظيفةَ بنكِ الاحتياطي الفيدرالي في الأساس، الذي يتحكَّم (تقريبًا) في كمية النقود المتداولة في الاقتصاد؛ فعندما يتراجَعُ الاقتصاد، يَشْرع بنك الاحتياطي الفيدرالي في طباعة النقود. حتى الآن كانَتْ هذه الطريقة ناجحةً دائمًا؛ فقد حقَّقَتْ نجاحًا مذهِلًا في أعقاب ركود ١٩٨١-١٩٨٢ الحادِّ، الذي تمكَّنَ الاحتياطيُّ الفيدرالي من تحويله إلى تعافٍ اقتصاديٍّ سريعٍ في غضون بضعة أشهر، أو ما عُرِف باسم «طلوع النهار على الولايات المتحدة»، ونجحَتْ هذه الطريقة كذلك — بقدرٍ أقلَّ من السرعة والحسم — في أعقاب موجتَيْ كساد ١٩٩٠-١٩٩١ و٢٠٠١.

غير أنها لم تنجح هذه المرة. قلتُ للتوِّ إن بنك الاحتياطي الفيدرالي يتحكَّم «تقريبًا» في المعروض من النقود؛ أمَّا ما يتحكَّم به فعليًّا فهو «القاعدة النقدية»، وهي مجموع العملة المتداولة واحتياطيات النقد التي في حيازة البنوك. لقد ضاعَفَ بنكُ الاحتياطي الفيدرالي حجمَ القاعدة النقدية منذ عام ٢٠٠٨ ثلاث مرات، إلا أن الكساد ما زال مسيطرًا على الاقتصاد؛ فهل يعني هذا عدم صحة قَوْلِي إننا نعاني عدمَ كفاية الطلب؟

لا، هذا ليس صحيحًا. في الواقع، كان من الممكن توقُّعُ إخفاقِ السياسة النقدية في حلِّ هذه الأزمة، بل ثمة مَن توقَّعه بالفعل؛ لقد كتبتُ الطبعة الأولى من كتابي «عودة اقتصاديات الكساد» عام ١٩٩٩، وكان هدفي في الأساس هو تحذير الأمريكيين من أن اليابان وجدَتْ نفسَها في وَضْعٍ لا يمكن فيه لطباعة النقود أن تُنعِش اقتصادَها الواقع في هوَّةِ الكساد، وأن الأمرَ عينه يمكن أن يحدث لنا. في ذلك الوقت، شارَكَني عددٌ من الاقتصاديين مخاوفي، وكان أحدهم بن برنانكي نفسه، رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي حاليًّا.

إذَنْ، ما الذي حدَثَ لنا بالفعل؟ لقد أصبحنا في الوضع التعِس المعروف باسم «فخِّ السيولة».

فخ السيولة

في منتصف العقد الماضي، كان اقتصاد الولايات المتحدة قائمًا على عاملين رئيسيين؛ هما: أعمال إنشاء إسكانية كثيرة، وإنفاق استهلاكي قوي. وكان كلٌّ منهما بدوره مدفوعًا بأسعار المساكن المرتفعة والمتزايدة؛ ما أدَّى إلى طفرةٍ في البناء وزيادةِ الإنفاق من جانب المستهلكين الذين شعروا بالثراء، ولكن تبيَّنَ أن ارتفاعَ أسعار المساكن كان فقاعةً، استندَتْ إلى توقُّعاتٍ غير واقعيةٍ، وعندما انفجرَتِ الفقاعةُ، اصطحبَتْ معها كلًّا من الإنشاءات والإنفاق الاستهلاكي. وفي عام ٢٠٠٦ — حين بلغَتِ الفقاعةُ ذروتها — حفَرَ عمَّال البناء الأرضَ لبناء ١٫٨ مليون وحدة سكنية، أما في عام ٢٠١٠ فقد حفروا ما يكفي لبناء ٥٨٥ ألفَ وحدة فحسب؛ وفي عام ٢٠٠٦، ابتاع المستهلكون الأمريكيون ١٦٫٥ مليونَ سيارة وشاحنة خفيفة، أما في عام ٢٠١٠ فلم يشتروا سوى ١١٫٦ مليونًا فحسب. وطوال عام تقريبًا بعدَ انفجار فقاعة الإسكان، أنقَذَ الاقتصادُ الأمريكي نفسَه من الانهيار بزيادةِ الصادرات، ولكن بحلول نهاية عام ٢٠٠٧ كان قد بدَأَ في التراجُعِ، ولم يتحقَّقْ له تعافٍ حقيقيٌّ بعد ذلك قطُّ.

وكما ذكرتُ آنفًا، استجابَ بنكُ الاحتياطي الفيدرالي عن طريق زيادةِ القاعدة النقدية سريعًا. إن البنك الاحتياطي الفيدرالي — خلافًا للجمعية التعاونية لمجالَسة الأطفال — لا يوزِّعُ القسائمَ على الأُسَر؛ فعندما يرغب في زيادة المعروض من النقود، يعمد إلى إقراض البنوك، على أمل أن تقرض البنوكُ تلك النقودَ بدورها. (وعادةً ما يلجأ المجلسُ إلى شراء السندات من البنوك عوضًا عن تقديم قروضٍ مباشرة، إلا أن الأمرين سيَّان.)

يبدو هذا مختلفًا تمامًا عمَّا فعلَتْه الجمعية التعاونية، إلا أن الفرْقَ في الواقع ليس كبيرًا جدًّا؛ فكما نتذكَّر، ينصُّ قانونُ الجمعية التعاونية على أنه عند تركها، عليك إعادة نفس عدد القسائم التي استلمْتَها عندما انضممْتَ إليها. إذَنْ لقد كانَتْ تلك القسائم نوعًا من القرض من الإدارة؛ ومن ثم فإن زيادة المعروض من القسائم لم تجعل الأزواج أكثر ثراءً؛ فقد ظلَّ عليهم تقديمُ خدمةِ مجالسةِ الأطفال بالقدر نفسه الذي يتلقَّونه من هذه الخدمة. في المقابل كان ما حقَّقَتْه زيادةُ المعروض من القسائم هو زيادة «السيولة» لدى الأزواج، وزيادة قدرتهم على الإنفاق عند الحاجة، دون القلق من نفاد أرصدتهم.

في العالم الخارجي بعيدًا عن مجالَسة الأطفال، يستطيع الأفرادُ ومؤسَّسات الأعمال دائمًا زيادةَ ما يمتلكونه من سيولة، ولكن بمقابِلٍ؛ حيث يمكنهم أن يقترضوا النقودَ، ولكن يبقى عليهم أن يدفعوا فائدةً على النقود المقترضة؛ فما يستطيع بنكُ الاحتياطي الفيدرالي أن يحقِّقَه من خلال الدفع بالمزيد من النقود إلى البنوك، هو خفض أسعار الفائدة، وهي ثمن السيولة، وكذلك — بطبيعة الحال — ثمن الاقتراض من أجل تمويل الاستثمار أو غيره من أوجه الإنفاق. إذَنْ، ففي الاقتصاد الحقيقي — بعيدًا عن مجالَسة الأطفال — تكمن قدرةُ بنك الاحتياطي الفيدرالي على دفْعِ الاقتصاد، في قدرته على تحريك أسعار الفائدة.

والنقطة المفصلية هنا هي أن بنك الاحتياطي الفيدرالي لا يمكن أن يدفع أسعارَ الفائدة للهبوط أكثر من ذلك؛ وعلى وجه التحديد، لا يمكنه دفْعُها إلى أقلَّ من الصفر؛ لأنه عندما تقترب أسعار الفائدة من الصفر، سيصبح خيارُ الاحتفاظ بالنقود دون استغلالها أفضلَ من إقراض النقود للآخَرين. وأثناء الركود الحالي، لم يستغرق بنكُ الاحتياطي الفيدرالي وقتًا طويلًا ليصل إلى «حدِّ الصفر الأدنى»؛ فقد بدأ خفْضَ أسعار الفائدة في أواخر عام ٢٠٠٧ حتى وصلَتْ إلى الصفر بحلول أواخر ٢٠٠٨؛ وللأسف، وجدنا أن نسبةَ الصفر لم تكن منخفضةً بما فيه الكفاية؛ وذلك لأن انفجارَ فقاعة الإسكان خلَّفَ ضررًا كبيرًا. وظلَّ الإنفاقُ الاستهلاكي ضعيفًا، واستمرَّ انهيارُ قطاع الإسكان، وانخفَضَ الاستثمارُ التجاري؛ وذلك لأنه لا يوجد ما يدعو للتوسُّع ما لم تكن المبيعات قويةً. وبقيَتْ معدلاتُ البطالة مرتفعةً إلى حدٍّ كارثيٍّ.

وهذا هو فخُّ السيولة؛ هذا ما يحدث عندما لا يصبح مستوى الصفر منخفضًا بما فيه الكفاية، عندما يُشبِع بنكُ الاحتياطي الفيدرالي الاقتصادَ بالسيولة حتى لا تعود ثمة تكلفةٌ للاحتفاظ بالمزيد من النقود، ومع ذلك يبقى الطلب الكلي منخفضًا جدًّا.

اسمحوا لي أن أعود إلى مثال الجمعية التعاونية لمجالَسة الأطفال للمرة الأخيرة، لتقديم ما آمُل أن يكون تشبيهًا مفيدًا. لنفترِضْ أن جميعَ أعضاء الجمعية التعاونية أو أكثرهم قرَّرُوا لسببٍ ما أنهم يريدون تحقيقَ فائض هذا العام، وقضوا وقتًا أطولَ في مجالَسة أطفال الآخَرين من وقتِ مجالَسة الآخَرين لأطفالهم، حتى يمْكنهم أن يقوموا بالعكس في العام التالي؛ في هذه الحالة، تقع الجمعيةُ التعاونية في ورطةٍ بصرفِ النظر عن عدد القسائم التي يُصدِرها المجلس؛ فكلُّ زوجين يمكنهما على حِدَةٍ أن يركما القسائمَ ويحتفظا بها للعام القادم، ولكن هذا لن يصلح بالنسبة إلى الجمعية التعاونية ككلٍّ؛ حيث لا يمكن تخزينُ وقت مجالَسة الأطفال؛ فحينها سيحدث تناقُضٌ جوهريٌّ بين ما يحاول الأزواجُ القيامَ به منفردِين، وما كان من الممكن القيام به على النطاق الأشمل للجمعية التعاونية؛ فلم يكن من الممكن لأعضاء الجمعية التعاونية في مجموعهم أن ينفقوا أقلَّ من دخلهم. مرة أخرى يُرجِعنا هذا إلى النقطة الأساسية، وهي أن إنفاقي هو دَخْلُك وإنفاقَكَ هو دَخْلِي. ستكون نتيجة محاولة بعض الأزواج أن يفعلوا بمفردهم ما لم يمْكنهم فعله جماعةً، أن يصيب الجمعيةَ التعاونية الكسادُ (وربما الفشل) مهما بلغ تحرُّر سياسة القسائم.

هذا هو تقريبًا ما حدث للولايات المتحدة والاقتصاد العالمي بأَسْره؛ فعندما قرَّرَ الجميعُ فجأةً أن مستويات المديونية صارَتْ أعلى من اللازم، اضطُرَّ المدينون لخفض إنفاقهم، فيما لم يكن الدائنون على استعدادٍ لزيادة إنفاقهم، وكانت النتيجة هي الكساد؛ ليس الكساد الكبير، ولكنه كسادٌ على أي حال.

ولكن لا بد من وجود سُبُلٍ للإصلاح؛ فلا يُعقَل أن تظل هذه القدرة الإنتاجية الكبيرة للعالم مُعَطَّلة، ويبقى هذا العدد الكبير من العمَّال المستعدِّين للعمل عاجزًا عن العثور على وظيفة؛ وبالفعل ثمة سُبُلٌ للخروج من هذا المأزق، ولكن قبل أن نصل إلى هذه النقطة، دعونا نتحدَّث بإيجازٍ عن آراءِ أولئك الذين لا يؤمنون بأيٍّ ممَّا عرضتُه للتوِّ.

هل المشكلة هيكلية؟

أعتقد أن المعروض لدَيْنا حاليًّا من عمالة يفتقر إلى التدريبِ والقدرةِ على التكيُّف بدرجةٍ مذهِلةٍ، ولا يمكنه أن يستجيبَ للفُرَصِ التي قد تقدِّمُها الصناعةُ؛ ويعني هذا حالة من التفاوُت الهائل، تتمثَّل في توظيف كامل، وساعات إضافية كثيرة، وأجور مرتفعة ورخاء عظيم لبعض الفئات المُحظَاة، مقابل أجورٍ منخفضةٍ وساعاتِ عملٍ قليلة وبطالةٍ، وربما العَوَز لفئات أخرى.

إيوان كليج

هذا الاقتباس مأخوذ من مقالٍ نُشِر في مجلة جورنال أوف ذي أمريكان ستاتيستيكال أسوسييشن. ويعرِضُ المقالُ وجهةَ نظرٍ نسمعها من جهاتٍ عدةٍ هذه الأيامَ؛ وهي: أن المشكلات الأساسية لدَيْنا جذورُها أعمقُ من مجرد قلة الطلب، وأنَّ عددًا كبيرًا جدًّا من العاملين لدَيْنا يفتقرون إلى المهارات التي يتطلبها اقتصادُ القرن الحادي والعشرين، أو أن الكثيرَ منهم لا يزالون عالقين في الوظيفة الخطأ أو القطاع الخطأ.

ولكنني قد خدعتُكَ للتوِّ؛ فقد نُشِرَ المقال المذكور عام ١٩٣٥، وكان المؤلف يدَّعِي أنه حتى إذا حدَثَ ما يؤدِّي إلى زيادةٍ كبيرةٍ في الطلب على العمَّال الأمريكيين، فستبقى معدلاتُ البطالة مرتفعةً؛ لأن هؤلاء العمَّال ليسوا أهلًا للعمل. غير أنه كان مخطئًا تمامًا؛ فعندما جاءَتْ تلك الزيادة في معدلات الطلب أخيرًا — بفضلِ الحشد العسكري الذي سبَقَ دخولَ الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية — أثبتَتْ تلك الملايين من العمَّال العاطلين عن العمل قدرتَهَا على استئنافِ دورِها المنتِج.

إلا أنه الآن، كآنذاك، كان ثمة رغبةٌ مُلِحَّة — لا تقتصر على جانبٍ واحدٍ من الاتجاهات السياسية — في اعتبار مشكلتِنا «هيكليةً» لا يمكن حلُّها بسهولةٍ عن طريق زيادة الطلب. وإذا ما استخدَمْنا تشبيهَ «خلل المغنيط»، فإنَّ ما يدَّعيه الكثير من أصحاب النفوذ هو أن استبدالَ البطارية لن يُصلح الوضع؛ لأنه لا بد أن تكون ثمة مشكلات كبيرة في المحرك ومنظومة الحركة أيضًا.

في بعض الأحيان، تُعرَض هذه الحجة من منطلق نقْصِ المهارات بصفة عامة؛ على سبيل المثال، قال الرئيس السابق بيل كلينتون (كما قلتُ آنفًا، لم يكن هذا الاتجاه مقصورًا على اتجاهٍ سياسيٍّ واحدٍ) في البرنامج التليفزيوني «٦٠ دقيقة» إن البطالة لا تزال مرتفعةً «لأن الناس لا يملكون المهاراتِ الوظيفيةَ المناسبةَ للوظائف المتاحة.» في بعض الأحيان، تُصاغ الحجةُ في سياق الحديث عن التكنولوجيا التي انتفَتْ معها الحاجةُ إلى العمَّال ببساطةٍ، وهو ما يبدو أن الرئيس أوباما كان يقصده في الحديث التالي على برنامج «برنامج اليوم»:

ثمة بعض القضايا الهيكلية في اقتصادنا «تعلَّمَتْ فيها شركاتٌ كثيرةٌ أن تعمل بكفاءةٍ أعلى باستخدام عددٍ أقلَّ من العمَّال. يمكنك أن تلاحِظَ هذا عندما تذهب إلى البنك وتستخدم أجهزةَ الصرافِ الآلي، فأنت لا تتوجَّهُ إلى صرَّاف البنك.» أو يمكنك أن تراه عندما تذهب إلى المطار وتستخدم الكشكَ الإلكتروني عوضًا عن تسجيلِ الدخول عند البوابة [أقواس التوكيد من المؤلف].

أمَّا الأكثر شيوعًا فهو التأكيد على أننا لا يمكن أن نتوقَّع العودةَ إلى حالة التوظيف الكامل عمَّا قريب؛ لأننا في حاجةٍ لنقل العمَّال من قطاع الإسكان المتضخِّم وإعادة تدريبهم على وظائف أخرى. وفيما يلي قولٌ لتشارلز بلوسر، رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي بريتشموند، وأحد أهم الأصوات المعارضة لسياسات زيادة الطلب:

«ليس من السهل أن تحوِّلَ النجارَ إلى ممرِّض، ولا من اليسير أن تحوِّلَ سمسارَ الرهن العقاري إلى خبير كمبيوتر في مصنع.» في نهاية المطاف، سوف تُحَلُّ تلك الأمور من تلقاء ذاتها، وسيُعاد تدريب الأشخاص وسيجدون فُرَصَ عمل في قطاعات أخرى، «ولكن لا يمكن للسياسة النقدية أن تعيد تدريبَ المواطنين.» لا يمكن للسياسة النقدية أن تَحلَّ هذه المشكلاتِ [أقواس التوكيد من المؤلف].

حسنًا، كيف لنا أن نعرف أن كلَّ هذا خطأ؟

جزء من الإجابة يتمثَّل في أن الصورة الضمنية التي يقدِّمها بلوسر عن العاطلين — وهي أن المثال النمطي للعامل العاطل عن العمل هو شخص كان يعمل في قطاعِ البناء، ولم يتكيَّف مع العالَمِ بعد انفجارِ فقاعةِ الإسكان — تنطوي على خطأ واضح؛ فمن بين ١٣ مليون عامل عاطل في الولايات المتحدة في أكتوبر ٢٠١١، ١٫١ مليون عامل فقط (٨ في المائة لا أكثر) سبق أن عملوا في مجال البناء.

وعلى نطاق أشمل، إذا كانت المشكلة هي أن العديد من العمَّال مهاراتهم غير مناسبة، أو يعملون في المكان غير المناسب، فيُفتَرَض أن يكون العمال ذوو المهارات المناسبة ممَّن يعملون في المكان المناسب أفضلَ حالًا، ويُفتَرَض أن ينعموا بتشغيل كامل وأجور متصاعدة؛ فأين هؤلاء؟

لنكون منصفين، نقول إن هناك توظيفًا كاملًا — بل نقصًا في الأيدي العاملة أيضًا — في السهول العليا؛ فنِسَب البطالة في نبراسكا وداكوتا الشمالية وداكوتا الجنوبية منخفضةٌ وفقًا للمقاييس التاريخية، وذلك بفضل طفرة التنقيب عن الغاز، ولكنَّ تعدادَ سكَّان هذه الولايات الثلاث مجتمعةً أكبرُ قليلًا من تعداد سكان بروكلين، ومعدل البطالة مرتفع في كلِّ مكان عدا هذه الولايات.

وليس ثمة مِهَن رئيسية أو فئات من المهارات تُبلي بلاءً حسنًا؛ ففيما بين عامَيْ ٢٠٠٧ و٢٠١٠، تضاعفَتِ البطالةُ في الفئات كلها تقريبًا؛ الموظفين والعمال، والقطاعات الصناعية والخدمية، وغير المتعلمين وأصحاب المؤهلات العليا؛ لم يَعُدْ أحد يحصل على زياداتٍ كبيرةٍ في الأجور، بل في واقع الأمر — كما رأينا في الفصل الأول — انخفضَتْ أجور أصحاب المؤهلات العليا انخفاضًا كبيرًا إلى حدٍّ غير معتاد؛ لأنهم أُجبِروا على القبول بأعمال لا تُوظِّف تعليمهم.

خلاصة القول هي أنه إذا كان لدَيْنا بطالة جماعية لأن عددًا كبيرًا جدًّا من العمَّال يفتقرون للمقوِّمات المناسبة، إذَنْ ينبغي أن نجدَ أعدادًا لا بأسَ بها من العمَّال الذين يمتلكون تلك المقومات تعيش في رخاء، وهو ما لا نجده؛ ما نراه بدلًا من ذلك هو الفقر في كل مكان، وهو ما يحدث عندما يعاني الاقتصادُ عدمَ كفاية الطلب.

إذَنْ، فالاقتصاد يعاني من الشلل بسبب قلة الطلب؛ إذ يحاول القطاعُ الخاص ككلٍّ أن ينفق أقلَّ ممَّا يكسب؛ ما أدَّى إلى انخفاض الدخل. إلا أننا وقعنا في فخِّ السيولة؛ فبنك الاحتياطي الفيدرالي لا يستطيع إقناعَ القطاع الخاص بزيادة الإنفاق بمجرد زيادة كمية النقود المتداولة، فما الحل؟ الإجابة واضحة، إلا أن المشكلةَ هي رفْض الكثيرين رؤيةَ هذه الإجابة الواضحة.

الإنفاق سبيلًا للرخاء

في منتصف عام ١٩٣٩، كان الاقتصاد الأمريكي قد تجاوَزَ أسوأ مراحل الكساد الكبير، إلا أن الكساد لم يكن قد انتهى بأي حال من الأحوال. لم تكن الحكومة في ذلك الوقت تجمع بياناتٍ شاملةً عن العمالة والبطالة، ولكن يمكننا أن نقول إن معدل البطالة — كما نعرِّفه الآن — كان أكثر من ١١ بالمائة على أفضل الفروض، وقد بَدَا ذلك الوضع دائمًا لكثيرٍ من الناس؛ كان التفاؤل الذي شهدتْه السنوات الأولى من «الصفقة الجديدة» قد تلقَّى ضربةً قاسيةً عام ١٩٣٧، عندما تعرَّضَ الاقتصادُ لدورةٍ ثانيةٍ من الركود الحاد.

ولكن في غضون عامين، عاد الاقتصاد للازدهار وانحسرَتِ البطالةُ؛ فماذا حدث؟

الإجابة هي أنه أخيرًا بدَأَ شخصٌ ما ينفق ما يكفي لإدارة عجلة الاقتصاد من جديد، وكان هذا «الشخص» — بطبيعة الحال — هو الحكومة.

كان هدف هذا الإنفاق في الأساس هو التدميرَ وليس البناء؛ فعلى حدِّ تعبير الاقتصاديَّين روبرت جوردون وروبرت كرين: في صيف ١٩٤٠، دخَلَ اقتصادُ الولايات المتحدة ساحةَ الحرب. فقبْل بيرل هاربور بوقت طويل، حدثَتْ قفزةٌ في الإنفاق العسكري؛ إذ سارعَتِ الولايات المتحدة لتعويض السفن وغيرها من العتاد الذي أرسلَتْه إلى بريطانيا كجزءٍ من برنامج الإعارة والتأجير، وأقيمَتْ معسكرات للجيش بسرعةٍ لإيواء ملايين المجنَّدين المستَجَدِّين الذين جلبهم ذلك القانون. وإذ خلق الإنفاقُ العسكري فرصَ عمل وارتفَعَ دخْلُ الأُسَرِ، زادَ الإنفاق الاستهلاكي كذلك (قُيِّد هذا الإنفاق بنظام الحصص، ولكن هذا في وقت لاحق). وحينما رأَتِ الشركات نموًّا في مبيعاتها، استجابَتْ هي الأخرى بزيادة الإنفاق.

وبهذه البساطة، كان الكساد قد انتهى، وعاد أولئك العمَّال «الذين يفتقرون للتدريب والقدرة على التكيُّف» مرةً أخرى إلى أعمالهم.

هل مثَّلَ كوْنُ الإنفاق موجَّهًا للدفاع وليس للبرامج المحلية أيَّ أهميةٍ؟ من الناحية الاقتصادية، لا يهمُّ هذا إطلاقًا؛ فالإنفاق يؤدِّي إلى زيادة الطلب، أيًّا كان الغرض منه. أما من الناحية السياسية، فوجهة الإنفاق بالغةُ الأهمية قطعًا؛ فطوال فترة الكساد، حذَّرَ أصحابُ النفوذ من مخاطر الإفراط في الإنفاق الحكومي؛ ونتيجةً لذلك كانت برامجُ خلْقِ فُرَصِ العمل في «الصفقة جديدة» دائمًا ضئيلةً جدًّا، بالنسبة إلى عمق الركود. أما ما فعله تهديد الحرب، فكان أنه أسكَتَ أخيرًا الأصواتَ المالية المحافظة، وأفسَحَ بذلك المجالَ أمام التعافي؛ الأمر الذي دفعني في صيف عام ٢٠١١ لأنْ أقولَ مازحًا إنَّ ما نحتاجه حقًّا في الوقت الراهن هو تهديدٌ وهميٌّ بغزو فضائي؛ ما يستتبع إنفاقًا هائلًا على وسائل الدفاع المقاوِمة للكائنات الفضائية.

ولكن النقطة الأساسية هي أن ما نحتاجه للخروج من الكساد الحالي هو دفعة أخرى من الإنفاق الحكومي.

هل الأمر حقًّا بهذه البساطة؟ هل سيكون بهذه السهولة فعلًا؟ الإجابة باختصار هي: نعم. طبعًا لا بد لنا من الحديث عن دور السياسة النقدية، والتبعات التي ستقع على الدَّين الحكومي، وما يجب القيام به لضمان عدم انزلاق الاقتصاد إلى هوَّةِ الكساد من جديدٍ عند توقُّفِ الإنفاق الحكومي، كما يتوجَّبُ علينا مناقَشةُ سُبُلِ الحدِّ من استفحالِ الديون الخاصة التي يمكن القول بأنها أصل هذا الركود، وعلينا كذلك مناقشة الأبعاد الدولية، وخاصةً المصيَدة الغريبة التي صنعَتْها أوروبا لنفسها، وسأغطي كلَّ هذه النقاط لاحقًا في هذا الكتاب؛ ولكن لا مساسَ بالفكرة المحورية، وهي أن ما يحتاجه العالَمُ الآن هو زيادة الحكوماتِ إنفاقَها لإخراجنا من هذا الكساد؛ فإنهاء هذا الكساد ينبغي — ويمكن — أن يكون سهلًا إلى حدٍّ لا يُصدَّق.

لماذا إذَنْ لا نُنهِيه؟ للإجابة على هذا السؤال، علينا أولًا أن نستعرِضَ بعض أحداث التاريخ الاقتصادي، والأكثر أهميةً من ذلك: التاريخ السياسي. ولكن دعونا في البداية نتحدَّث ببعضِ الاستفاضة عن أزمة ٢٠٠٨، التي ألقَتْ بنا في هذا الكساد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤