الفصل الخامس

العصر الذهبي الثاني

إن امتلاكَ منزلٍ في حجم تاج محل والإنفاقَ عليه لَأمرٌ مكلِّفٌ، وقد قدَّمَ لي كيري ديلروز — مدير قسم التصميمات الداخلية في شركة جونز فوتر مارجيوتِس وشركاه في جرينتش — شرحًا تفصيليًّا مفيدًا عن تكلفة التزيين اللائق بقَصْرٍ؛ فقال لي: «إن السجاد مكلِّف جدًّا.» مشيرًا إلى سجادة عريضة ثمنها ٧٤ ألف دولار، كان قد طلبها لغرفة نوم أحدِ عملائه، وأضاف: «أمَّا عن الستائر، فالإكسسوارات وحدها — القضبان والتيجان والحوامل والحلقات — قد تكلِّفُكَ عدة آلاف من الدولارات، ويمكنك أن تنفق ١٠ آلاف دولار دون مبالغة في غرفةٍ واحدة على هذه القِطَع وحدها. أما الأقمشة … فمعظم هذه الغرف — الغرفة الكبرى وغرفة العائلة — تحتاج ما بين ١٠٠ و١٥٠ ياردة من القماش، وهذا أمر شائع. وتتراوح أسعار الأقمشة القطنية في المتوسط ما بين ٤٠ و٦٠ دولارًا للياردة، ولكن معظم الأنواع التي نتعامل معها — وهي الأقمشة الحريرية الممتازة — ثمنها ١٠٠ دولارٍ للياردة.»

حتى الآن، وصلَتْ تكلفة ستائر غرفة واحدة فقط إلى ما بين ٢٠ ألف و٢٥ ألف دولار.

من مقال «ثروة جرينتش الفاحشة»، مجلة فانيتي فير، يوليو ٢٠٠٦

عام ٢٠٠٦ — قُبَيْل بدء انهيار النظام المالي — كتبَتْ نينا مونك مقالًا لمجلة فانيتي فير عن فورة بناء القصور التي اجتاحَتْ جرينتش بولاية كونيتيكت آنذاك؛ وكما ذَكَرَتْ، فقد كانَتْ جرينتش المكانَ المفضَّل لكبار رجال الأعمال في أوائل القرن العشرين؛ حيث أصبحَتْ مقرًّا شيَّدَ فيه بُناةُ الثروات الصناعية أو وَرَثَتُها قصورًا «تُنافِس البنايات الإيطالية والقصور الفرنسية والمنازل الفخمة في أوروبا.» إلا أن الولايات المتحدة في مرحلةِ ما بعد الحرب العالمية لم تكن مكانًا يستطيع فيه الكثيرُ من الناس أن يتحمَّلوا تكلفةَ الإنفاق على قصرٍ مكوَّنٍ من خمس وعشرين غرفة؛ وشيئًا فشيئًا فُكِّكَت العقاراتُ المهيبة وبِيعَتْ.

ثم بدأ مديرو صناديق التحوُّط ينتقلون إلى تلك المنطقة.

يتركَّز جزءٌ كبيرٌ من القطاع المالي في وول ستريت طبعًا (وكذلك في مدينة لندن، التي تلعب دورًا مماثِلًا)، إلا أن صناديق التحوُّط — التي يتلخَّص عملُها بالأساس في المضاربة بالنقود المقتَرَضة، واجتذاب المستثمرين الذين يأملون في تحلِّي مديري تلك الصناديق بالبصيرة الفريدة اللازمة لكسب ثروات طائلة — اجتمعَتْ في جرينتش، التي تبعد عن مانهاتن حوالي أربعين دقيقة بالقطار. يجني مديرو تلك الصناديق دخلًا يماثِل دخْلَ بارونات اللصوص في الماضي أو يزيد عنه، وذلك حتى بعد تعديله وفقًا للتضخُّم. ففي عام ٢٠٠٦، حقَّقَ الخمسة والعشرون مديرًا الأعلى أجرًا بين مديري صناديق التحوُّط دخلًا قدره ١٤ مليار دولار؛ أيْ ثلاثة أمثال رواتب معلِّمي المدارس في مدينة نيويورك مجتمعين، البالغ عددهم ثمانين ألف معلم.

عندما قرَّرَ هؤلاء الرجال شراءَ منازل في جرينتش، لم يَعْنِهِم سعرها؛ فقد اشتروا راضين القصورَ القديمة الباقية من العصر الذهبي الغابر، وفي كثيرٍ من الأحيان، كانوا يهدمون تلك القصور لبناء قصورٍ أكبر مكانها. أكبر إلى أي حدٍّ؟ وفقًا لمونك، كان متوسِّط مساحة المنزل الجديد الذي يبتاعه مديرُ صندوق التحوُّط يصل إلى حوالي ١٥ ألف قدمًا مربعًا؛ وقد اشترى لاري فاينبيرج — مدير صندوق التحوُّط المتخصِّص في الرعاية الصحية، أوراكل وشركاه — منزلًا قيمته ٢٠ مليون دولار ليهدمه، وطلَبَ في تصميمات البناء التي قدَّمَها إلى البلدية بناءَ فيلا مساحتها نحو ٣٠٧٧١ قدمًا مربعًا؛ وكما أوضحَتْ مونك في تعليقها المفيد، فإن هذا أصغرُ قليلًا من مساحة تاج محل.

ولكنْ ما الذي يَعْنِينا في ذلك؟ هل هو محض اهتمام شهواني؟ حسنًا، لا أستطيع أن أنكِرَ أنَّ ثمةَ سحرًا ما في القراءة عن أساليب حياة الأغنياء والسخفاء، ولكنَّ هذا الموضوع ينطوي على مسألةٍ أهمَّ أيضًا.

أشرتُ في نهاية الفصل الرابع إلى أنه حتى قبل وقوع أزمة عام ٢٠٠٨، كان من الصعب أن نرى سببَ اعتبارِ التحرير المالي سياسةً ناجحةً؛ فقد قدَّمَتْ أزمةُ المدخرات والقروض مثالًا باهِظَ التكلفة على احتمال جموح المصرفيين عند إطلاق يدهم؛ كما كان ثمة كوارث وشيكة أفلَتْنا منها بصعوبةٍ تنبَّأَتْ بالأزمة المقبِلة، والنموُّ الاقتصادي انخفَضَ معدلُه في عصرِ التحرُّر عمَّا كان عليه في عصر الضوابط التنظيمية الصارمة، إلا أنه كان (ولا يزال) ثمة وهمٌ غريبٌ سائدٌ في أوساط بعض المعلِّقين — معظمهم من المنتمين لليمين السياسي، وإنْ لم يكن جميعهم — مفاده أن عصر التحرُّر مثَّلَ انتصارًا اقتصاديًّا. ذكرتُ في الفصل السابق أن يوجين فاما — مختص التنظير المالي الشهير في جامعة شيكاجو — أعلَنَ أن العصر الذي بدأ برفع القيود المالية كان أحدَ عصور «النمو الاستثنائي»، بينما هو لم يكن في الواقع يشبه أيَّ شيءٍ من هذا القبيل.

ما الذي قد يدفع فاما للاعتقاد بأننا كنَّا نشهد نموًّا استثنائيًّا؟ حسنًا، ربما كان السبب هو كوْنِ «بعض» الناس — من قَبيل رُعاة مؤتمرات النظرية المالية مثلًا — قد شهدوا بالفعل نموًّا استثنائيًّا في دخلهم.

سأستعرض معكم فيما يلي رسمَين بيانيَّيْن. يُظهِر الرسمُ العلويُّ قياسَيْن لدخل الأسرة في الولايات المتحدة الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، كلاهما بعد تعديل قيمة الدولار وفق معدلات التضخُّم؛ المقياس الأول هو متوسط دخل الأسرة، وهو إجمالي الدخل مقسومًا على عدد الأسر. حتى هذا المقياس لا يُظهِر أيَّ لمحةِ «نموٍّ استثنائيٍّ» بعد التحرير المالي؛ في الواقع، كان معدل النمو قبل عام ١٩٨٠ أسرعَ من معدله بعد ذلك العام. ويُظهِر المقياس الثاني دخْلَ الأسرة «المتوسطة»، وهو دخْلُ الأسرة العادية التي يزيد دخْلُها عن دخل نصف السكان، ويقلُّ عن النصف الآخَر. وكما ترون، فقد كان معدل نمو دخل الأسرة العادية بعد عام ١٩٨٠ أقلَّ كثيرًا عن معدله قبله. لمَ؟ لأن جزءًا كبيرًا من ثمار النمو الاقتصادي ذهَبَ إلى بضعةِ أفراد متربِّعين على القمة.

figure
حتى متوسط الدخل — وهو متوسط دخل الأسرة — لم يرتفع في عصر التحرُّر من القيود، في حين أن معدل نمو دخل الأسرة المتوسطة — وهو دخل الأسر الواقعة في منتصف توزيع الدخل — تباطَأَ حتى وصَلَ إلى حدِّ الحَبْوِ …
figure
… إلا أن متوسط دخل اﻟ ١٪ من السكان الأعلى دخلًا بلغ عنان السماء (المصدر: التعداد الأمريكي، توماس بيكيتي وإيمانويل سايز، «تفاوت الدخل في الولايات المتحدة الأمريكية: ١٩١٣–١٩٩٨»، كوارترلي جورنال أوف إكونوميكس، فبراير ٢٠٠٣ (مراجعة ٢٠١٠)).

أما الرسم السفلي فيُظهر مدى تحسُّن حال الفئة المتربِّعة على القمة، وهم في هذه الحالة فئة «أعلى واحد في المائة» التي ذاع صيتها من خلال حركة «احتلوا وول ستريت». كان معدل النمو استثنائيًّا فعلًا بالنسبة إليهم منذ التحرير المالي، وعلى الرغم من تذبذُب دخولهم التي عُدِّلَت بما يتناسب مع التضخُّم مع صعودِ وهبوطِ سوق الأسهم، فإنها تضاعفَتْ أربع مرات تقريبًا منذ ١٩٨٠. إذَنْ، لقَدْ كان وضع النخبة جيدًا جدًّا في ظلِّ التحرير المالي، في حين كان وضْعُ النخبة العليا وصفوةِ النخبة العليا — وهم نسبة ٠٫١٪ العليا، ونسبة ٠٫٠١٪ العليا — أفضلَ؛ حيث وصَلَ ربْحُ الطبقة الأغنى التي يمثِّل أعضاؤها واحدًا من كلِّ ١٠ آلاف أمريكي إلى ٦٦٠ في المائة؛ وهذا هو السبب وراء انتشار القصور المشابِهَة لتاج محل في ولاية كونيتيكت.

تطرح ظاهرةُ الصعود الملحوظ للأشخاص الشديدي الثراء — حتى في ظلِّ النمو الاقتصادي الهزيل، والمكاسِب المتواضِعة جدًّا للطبقة الوسطى — سؤالين أساسيين؛ السؤال الأول هو: لماذا حدث هذا؟ وهو موضوع سأتناوله باختصارٍ؛ لأنه ليس الموضوع الرئيسي لهذا الكتاب. أما السؤال الآخَر فيتناول علاقة هذا الأمر بالكساد الذي نجد أنفسَنا في مواجهته، وهو موضوع شائك، ولكنه مهم.

إذَنْ، فالموضوع الأول هو: ما سبب ارتفاع الدخل بين عِلْيَة القوم؟

لماذا أصبح الأغنياءُ فاحِشِي الثراء؟

حتى يومنا هذا، كثير من المناقشات التي تعالِج تزايُدَ حدة التفاوت تجعل الأمرَ يبدو وكأنه يتعلَّق بتزايدِ الجزاء تماشيًا مع المهارة؛ فيُقال إن التكنولوجيا الحديثة تخلق طلبًا متزايدًا على العاملين الحاصلين على تعليمٍ عالٍ، بينما تقلِّل الحاجةُ إلى العمل الروتيني أو البدني أو كلَيْهما؛ ومن ثَمَّ، تتفوَّق الأقليةُ الحسنةُ التعليمِ على الأغلبية الأقل تعليمًا. على سبيل المثال: في عام ٢٠٠٦ ألقَى بن برنانكي — رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي — خطابًا عن تزايد التفاوت، أشار فيه إلى أن لبَّ الموضوع هو أن الشريحة العليا من العمَّال الحَسَنِي التعليمِ البالغة ٢٠ في المائة كانت آخذة في الابتعاد عن الشريحة الأدنى من العمال الأقل تعليمًا البالغة ٨٠ في المائة.

أَصْدُقُكُم القولَ؛ إنه ثمة جانب من الحقيقة في هذه القصة؛ فخلال السنوات الثلاثين الماضية بوجهٍ عامٍّ، كلما ارتفع مستوى التعليم الذي يحصل عليه المرءُ، حسَّنَ ذلك فُرَصَه وفُرَصَ أقرانه. وقد شهدتْ أجور الأمريكيين الحاصلين على تعليم جامعي ارتفاعًا مقارَنةً بنظرائهم ممَّنْ لم يتجاوزوا مرحلةَ التعليم الثانوي، وارتفعَتْ أجورُ الأمريكيين الحاصلين على دراسات عليا، مقارَنةً بالأمريكيين الذين اكتفَوا بالحصول على درجة البكالوريوس.

غير أن التركيز على التفاوت في الأجور القائم على التعليم فحسب لا يُفقِدنا جزءًا من القصة، وإنما يُفقِدنا معظمَها؛ فالمكاسب الهائلة حقًّا لم تكن من نصيب عمَّال من خريجي الجامعات بوجهٍ عامٍّ، بل اقتصرَتْ على حفنةٍ من الأشخاص البالغي الثراء؛ فعادةً ما يكون معلِّمو المدارس الثانوية حاصلين على تعليمٍ جامعيٍّ بالإضافة إلى الدراسات العليا، ولكنهم — إنْ جازَتِ المقارنةُ — لم يشهدوا زياداتٍ في معدلاتِ دخْلِهم مثل التي حصل عليها مديرو صناديق التحوُّط. وَلْنتذكَّرْ مجدَّدًا كيف استطاع خمسةٌ وعشرون مديرًا من مديري تلك الصناديق أن يحقِّقوا دخْلًا يزيد ثلاثَ مرات عن مجموع دخول الثمانين ألف معلِّمٍ الذين يدرِّسون في مدارس نيويورك.

لقد اتَّحَدَ أعضاءُ حركة «احتلوا وول ستريت» على شعار «نحن فئة اﻟ ٩٩ في المائة»، وهو الشعار الذي استطاعَ أن يقترِبَ من الحقيقة أكثرَ من الأحاديث المعتادة عن التعليم والفروق في المهارات؛ ولم يكن ذلك قول الراديكاليين فقط؛ ففي الخريف الماضي أصدَرَ مكتبُ الميزانية بالكونجرس الأمريكي — ذلك الكيانُ البالغ الوقار، الحريص أشد الحرص على البقاء على الحياد — تقريرًا مفصلًا عن تزايُد التفاوت بين عامَيْ ١٩٧٩ و٢٠٠٧، وجاء في التقرير أن الأمريكيين الواقعين بين نسبة ٨٠ إلى ٩٩ بالمائة — أيْ فئة اﻟ ٢٠ في المائة العليا كما يصفهم برنانكي مطروحًا منها فئة اﻟ ١٪ التي تحدَّثَتْ عنها حركةُ «احتلوا وول ستريت» — ارتفَعَ دخلهم بنسبة ٦٥ في المائة خلال تلك الفترة. هذه النسبة جيدة جدًّا، لا سيما بالمقارَنةِ مع الأُسَر الواقعة ضمن مستوياتٍ أدنى؛ فالأُسَر القريبة من المنتصف حصلَتْ بالكاد على نصف هذه النسبة، بينما زاد دخْلُ أدنى ٢٠ في المائة بنسبة ١٨ في المائة فحسب. أما أعلى ١ في المائة، فقد ارتفَعَ دخلها بنسبة ٢٧٧٫٥ في المائة، وكما رأينا سابقًا، حصلَتْ فئتا أعلى ٠٫١ في المائة وأعلى ٠٫٠١ في المائة على مكاسب أكبر.

والدخول المتزايدة التي حصَلَ عليها الأشخاصُ الفاحشو الثراء ليسَتْ ثانويةً بأي حال من الأحوال عندما نتساءَلَ أين ذهبَتْ مكاسِبُ النمو الاقتصادي. فوفقًا لمكتب الميزانية بالكونجرس، ارتفعَتْ حصةُ الدخل — بعد خصم الضرائب — التي تحصل عليها أعلى ١ في المائة من ٧٫٧ في المائة إلى ١٧٫١ في المائة من إجمالي الدخل؛ أيْ ما يمثِّل انخفاض قرابة ١٠ في المائة في مقدار الدخل المتبقِّي لكلِّ النسبة الباقية من السكان، إذا ما تساوَتْ كلُّ العوامل الأخرى. عوضًا عن ذلك، يمكننا أن نسأل عن نسبة الارتفاع العام في معدلات التفاوت التي تُعزَى إلى تفوُّق أعلى ١ في المائة على الجميع. ووفقًا لمقياسٍ شائعٍ للتفاوت (مؤشر جيني)، ستكون الإجابةُ هي أن التحوُّلَ في الدخل باتجاهِ أعلى ١ في المائة مسئولٌ عن قرابة نصف الارتفاع في معدلات التفاوت.

إذَنْ لماذا استطاعت فئةُ أعلى ١ في المائة — وبدرجةٍ أكبر منها فئةُ أعلى ٠٫١ في المائة — أن تكون أفضل حالًا بكثيرٍ من الآخَرين جميعًا؟

لم تُحسَم تلك المسألة بأيِّ حالٍ من الأحوال فيما بين الاقتصاديين، وأسبابُ هذا الغموض لها دلالة في حدِّ ذاتها؛ أولًا: حتى وقتٍ قريبٍ جدًّا كان العديدُ من الاقتصاديين يشعرون أنَّ دخْلَ الأشخاص البالغي الثراء ليس موضوعًا مناسِبًا للدراسة، وأن هذه القضية مقرُّها الصحف الشعبية المهووسة بالمشاهير وليس صفحات المجلات الاقتصادية الرصينة. فقط في وقت متأخر جدًّا أدرَكَ الاقتصاديون أن دخْلَ الأغنياء أبعَدُ ما يكون عن القضايا التافهة، وأنه مربط الفرس فيما كان يحدث لاقتصاد الولايات المتحدة ومجتمعها.

وحتى عندما بدأ الاقتصاديون يأخذون فئتَيْ أعلى ١ في المائة وأعلى ٠٫١ في المائة على محمل الجد، وجدوا المسألةَ شائكةً على صعيدين؛ أولًا: إن مجرد إثارة هذه القضية سيمثِّل دخولًا في ساحة حرب سياسية؛ فقضية توزيع الدخل بين عِلْيَة القوم هي إحدى المناطق التي بمجرد أن يطَأَها المرءُ بقدمَيْه، يواجه هجماتٍ شرسةً تصل إلى درجة استئجار أشخاص لحماية مصالح الأثرياء. فعلى سبيل المثال: قبل بضع سنوات، وجَدَ توماس بيكيتي وإيمانويل سايز — اللذان كان لهما دورٌ حاسِمٌ في تتبُّع التقلُّبات في معدل التفاوت على المدى الطويل — أنفسَهما في مواجهة نيران آلان رينولدز من معهد كاتو، الذي أمضى عقودًا يؤكِّد أنه لم تحدُثْ زيادةٌ حقيقية في التفاوت؛ وكلما كُشِف زيف إحدى حججه بما لا يَدَعُ مجالًا للشك، أخرَجَ من جعبته حجةً جديدة.

علاوةً على ذلك، فإننا إذا نحَّيْنا السياسةَ جانبًا، فسنجد أن موضوعَ دخولِ الفئات العليا ليس ملائمًا للأدوات التي يعتمد عليها الاقتصاديون في المعتاد؛ فمهنتي قائمة بالأساس على العرض والطلب، صحيح أن آفاق علم الاقتصاد أوسعُ من ذلك بكثيرٍ، ولكن هذه هي أداة التحليل الأولى والأساسية في هذا المجال، وأصحاب الدخول المرتفعة لا يعيشون في دنيا قائمة على العرض والطلب.

تقدِّمُ لنا الأبحاثُ الأخيرة لخبراء الاقتصاد؛ جون باكيا وآدم كول وبرادلي هايم، فكرةً لا بأس بها عن المقصودِين بفئة أعلى ٠٫١ في المائة؛ الإجابة باختصار هي أنهم بالأساس المسئولون التنفيذيون للشركات أو محتالو سوق المال. يذهب ما يقارِب نصفَ الدخل في فئة أعلى ٠٫١ بالمائة إلى المديرين التنفيذيين والمديرين في الشركات غير المالية؛ بينما يذهب خُمْس الدخلِ إلى العاملين في القطاع المالي؛ وبإضافة المحامين والعاملين في سوق العقارات، يصل المجموع إلى حوالي ثلاثة أرباع الدخل الإجمالي.

تقول كتب الاقتصاد إنه في الأسواق التنافسية، يحصل كلُّ عاملٍ على أجره مقابِلَ «الناتج الحدي»، وهو النصيب الذي يضيفه العاملُ إلى إجمالي الإنتاج؛ ولكن ما هو الناتج الحدي لمديرٍ تنفيذيٍّ لإحدى الشركات أو مديرِ صندوقِ تحوُّط، أو حتى محامِيِ الشركات؟ لا أحدَ يعرف بالضبط، وإذا ما نظرتم إلى الكيفية التي يُحدَّد بها فعليًّا دخْلُ الأشخاص المنتمين لهذه الفئات، فستجدون عملياتٍ لا صلةَ لها تقريبًا بمساهمتهم الاقتصادية.

في هذه المرحلة، من المرجَّح أن نجدَ مَن يسأل: «ولكن ماذا عن ستيف جوبز أو مارك زوكربيرج؟ ألَمْ يصبحَا ثريَّيْن بفضل اختراعهما منتَجاتٍ قيِّمةً؟» والإجابة هنا هي: نعم، ولكنَّ عددًا قليلًا جدًّا من فئة أعلى ١ في المائة — أو حتى أعلى ٠٫٠١ في المائة — حصلوا على ثروتهم بهذه الطريقة؛ فمعظمهم مديرون تنفيذيون لشركاتٍ لم يؤسِّسوها بأنفسهم. قد يمتلكون الكثيرَ من الأوراق المالية، أو يحظون بخيارات أسهم متنوِّعة في شركاتهم، لكنهم حصلوا على تلك الأصول بوصفها جزءًا من حُزَم أجورهم، وليس من خلال تأسيس الشركة بأنفسهم. ومَن الذي يقرِّر عنصرَ حُزَم الأجور؟ مِن المعروف أن مَن يحدِّدُ رواتِبَ كبارِ المديرين التنفيذيين هو لجان الرواتب التي يعيِّنها … المديرون التنفيذيون موضع التقييم أنفسهم.

الفئات الأعلى دَخْلًا في القطاع المالي تعمل في ظلِّ بيئةٍ أكثر تنافُسيةً، ولكنَّ ثمة أسبابًا وجيهة للاعتقاد بأن أرباحهم غالبًا ما تكون متضخِّمةً مقارَنةً بإنجازاتهم الفعلية؛ فمديرو صناديق التحوُّط — على سبيل المثال — يتقاضون رسومًا نظيرَ عملهم في إدارة نقود الآخَرين، إضافةً إلى نسبةٍ من الأرباح؛ فيعطيهم ذلك حافِزًا قويًّا لتشغيل النقود في استثماراتٍ محفوفةٍ بالمخاطر، وعاليةِ الاستدانة؛ فإذا سارَتِ الأمورُ على ما يرام، حصلوا على مكافأةٍ كبيرةٍ، أما إذا سارَتِ الأمورُ على غير ما يُرام، فلا يكون عليهم إعادةُ مكاسبهم السابقة؛ والنتيجة هي أنه في المتوسط — أخْذًا في الاعتبار حقيقةَ أن العديد من صناديق التحوُّط تنهار، وأن المستثمرين لا يعرفون مقدَّمًا أيُّ الصناديق سينضمُّ في نهاية المطاف إلى قائمة الخسائر — لا يحقِّق المستثمرون في صناديق التحوُّط مكاسِبَ كبيرةً. والحقيقة أنه — وفقًا لأحدِ الكتب الصادرة مؤخَّرًا تحت عنوان «سراب صناديق التحوُّط»، بقلم سايمون لاك — خلال العقد الماضي ربما كان المستثمرون في صناديق التحوُّط سيحقِّقون أرباحًا أكبر بصفةٍ عامةٍ لو كانوا استثمروا نقودَهم في أذون الخزانة، حتى لو لم يَجْنُوا أيَّ أموال على الإطلاق.

قد تظنُّ أن المستثمرين سيصيرون واعين لهذه المحفزات الملتوية، وأنهم بوجه أشمل سيَعُون ما يرِدُ في كلِّ نشرةِ اكتتابٍ، من أن: «الأداء السابق ليس ضمانًا للنتائج المستقبلية»؛ أيْ إن مديرَ الصندوق الذي أفلَحَ مع مستثمري العام الماضي قد يكون حالَفَه الحظُّ آنذاك فحسب؛ إلا أن الأدلة تشير إلى أن العديد من المستثمرين — وليس فقط الشباب السُّذَّج — لا يزال خداعُهم سَهلًا؛ إذ يضعون ثقتَهم في عبقرية الشركات المالية بالرغم من وفرة الأدلة على أن هذه الصفقة عادةً ما تكون خاسرةً.

ثمة نقطة أخرى: فحتى عندما يتمكَّن محتالو سوق المال من إدرارِ ربحٍ للمستثمرين، فإنهم في الحالات الجديرة باهتمامنا لم يحقِّقوا ذلك بخَلْق قيمةٍ للمجتمع ككلٍّ، وإنما من خلال الاستيلاء على هذه القيمة من مضارِبين آخَرين.

ويبدو هذا أكثر وضوحًا في حالة بنوك الأصول الرديئة؛ ففي ثمانينيات القرن العشرين، استطاع أصحاب المدَّخَرات والقروض أن يحقِّقوا أرباحًا كبيرةً عن طريق المخاطرات الكبيرة، ثم يلقوا تبعاتها على كاهِل دافعي الضرائب. وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أعادَ المصرفيون الكَرَّةَ؛ حيث جمعوا ثرواتٍ هائلةً من خلال تقديم قروضٍ عقاريةٍ معدومة، ثم التصرُّف فيها إما ببيعها لمستثمرين جاهلين بحقيقةِ الوضع، وإما عن طريق تلقِّي حُزَم إنقاذٍ من الحكومة عندما تضربهم الأزمةُ.

ولكن هذا ينطبق كذلك على العديدِ من شركات الأسهم الخاصة، وهي تجارة شراءِ الشركات وإعادةِ هيكلتها ثم بَيْعِها من جديدٍ (كان جوردون جيكو في فيلم «وول ستريت» مضارِبًا في سوق الأسهم الخاصة؛ بينما اضطلع ميت رومني بذلك الدورِ في عالَمِ الواقع). ولنكونَ منصفين، فلقد أدَّتْ بعضُ شركات الأسهم الخاصة خدماتٍ قيِّمةً من خلال تمويل الشركات المبتدئة، في مجال التكنولوجيا وغيرها من المجالات، إلا أنه في العديد من الحالات الأخرى، جاءَتِ الأرباحُ ممَّا أطلق عليه لاري سامرز — نعم، لاري سامرز نفسه — «خيانةَ الأمانة»، وذلك في ورقةٍ بحثيةٍ مهمة تحمل العنوانَ نفسه، بمعنى نقض العقود والاتفاقات ببساطة. فَلْننظر — على سبيل المثال — إلى حالة سيمونز بِدينج؛ وهي شركة عريقة تأسَّسَتْ عام ١٨٧٠، وأعلنَتْ إفلاسها عام ٢٠٠٩؛ مما تسبَّبَ في فقْدِ العديد من العمَّال وظائفَهم، وكذلك فقَدَ المقرِضون جزءًا كبيرًا من أسهمهم؛ وفيما يلي سنرى كيف وصفَتْ صحيفةُ نيويورك تايمز الفترةَ السابقة على الإفلاس:

بالنسبة إلى الكثير من المستثمرين في الشركة، سيمثِّل البيعُ كارثةً؛ فسيخسر حمَلَةُ السندات وحدهم ما يربو على ٥٧٥ مليون دولار، كما دمَّرَ سقوطُ الشركة كذلك موظفين مثل نوبل روجرز، الذي عمل في سيمونز ٢٢ عامًا قضى معظمها في مصنعٍ خارجَ حدودِ مدينة أتلانتا، وهو واحد من ألف موظف — أيْ ما يساوي أكثرَ من رُبع قوة العمل — تمَّ تسريحُهم في العام الماضي.

إلا أن شركة توماس إتش لي وشركاه في بوسطن لم تَنْجُ فحسب، بل حقَّقَتْ أرباحًا أيضًا؛ فقد حقَّقَتْ تلك الشركة الاستثمارية التي اشترَتْ شركةَ سيمونز في عام ٢٠٠٣ نحو ٧٧ مليون دولار من الأرباح، بالرغم من تراجُعِ ثروة الشركة؛ إذ جمعَتْ توماس إتش لي وشركاه مئاتِ الملايين من الدولارات من الشركة في شكل أرباح خاصة، كما أنها تقاضَتْ ملايين أخرى في صورة رسوم، نظير شراء الشركة أولًا، ثم للمساعدة في إدارتها.

إذَنْ فدخول الطبقة العليا ليسَتْ مثلَ دخولِ الطبقات الدنيا؛ فصلة الأولى سواء بالأسس الاقتصادية أم بالمساهمات في الاقتصاد ككلٍّ أقلُّ وضوحًا بكثير. ولكنْ لِمَ ارتفعَتْ تلك الدخول ذلك الارتفاعَ الصاروخي منذ عام ١٩٨٠ تقريبًا؟

يكمن جزءٌ من التفسير بالتأكيد في التحرير المالي الذي ناقشْتُه في الفصل الرابع؛ فالأسواق المالية المحكَمَة التنظيمِ التي اتَّسَمَتْ بها الولاياتُ المتحدة بين ثلاثينيات القرن العشرين وسبعينياته، لم تُتِحْ فُرَصَ الإثراء الذاتي التي ازدهَرَتْ بعدَ عام ١٩٨٠، كما كان للدخل المرتفع في قطاع النقود ما يمكن أن نطلِقَ عليه تأثيرَ «العدوى» على رواتب المسئولين التنفيذيين على نطاق أوسع. ولنا أن نذكر من بين أشياء أخرى أن الرواتب الهائلة في وول ستريت قد سهَّلَتْ بالتأكيد على لجان وضْعِ المرتبات تبريرَ الرواتب الكبيرة خارج القطاع المالي.

ويرى توماس بيكيتي وإيمانويل سايز — اللذان سبَقَ أن تحدَّثْتُ عن عملهما بالفعل — أنَّ دخْلَ الطبقات العليا يتأثَّر بقوةٍ بالمعايير الاجتماعية؛ ويشاركهما وجهةَ نظرهما عددٌ من الباحثين مثل لوشيان بيبتشاك بكلية الحقوق في جامعة هارفرد، الذي يزعم أن القيد الرئيسي على أجر الرئيس التنفيذي هو «قيد السخط». وتشير مثل هذه الآراء إلى أن التغيُّرات في المناخ السياسي بعد عام ١٩٨٠ ربما تكون مهَّدَتِ الطريقَ لما يصل إلى الممارسة الصريحة للنفوذ في المطالَبةِ بدخلٍ مرتفعٍ، على نحوٍ لم يكن مُمكِنًا في وقتٍ سابقٍ. ولا شك أنه من الجدير بالذكر أن نشير هنا إلى الانخفاض الحادِّ في معدل تكوين النقابات خلال ثمانينيات القرن العشرين؛ وهو ما أدَّى إلى تنحيةِ لاعبٍ رئيسيٍّ عن الساحة، كان من الممكن أن يحتجَّ على الرواتب الضخمة التي يتقاضَاها المديرون التنفيذيون.

وقد أضافَ بيكيتي وسايز مؤخَّرًا نقطةً جديدةً لنقاشهما؛ إذ يريَان أن التخفيضات الحادة في الضرائب على الدخول المرتفعة، أدَّتْ في الواقع إلى تشجيع المديرين التنفيذيين على التمادي أكثر في «التماس المنفعة الشخصية» على حساب بقية القوى العاملة. لماذا؟ لأن المردود الشخصي لارتفاع الدخْلِ قبل خصم الضرائب يزيد؛ مما يجعل المديرين التنفيذيين أكثرَ استعدادًا للمخاطرة بالتعرُّض للإدانة أو الإضرار بالروح المعنوية أو كلَيْهما من خلال السعي وراء تحقيق مكاسب شخصية. وكما لاحَظَ بيكيتي وسايز، ثمة علاقةٌ سلبيةٌ وثيقةٌ إلى حدٍّ كبيرٍ بين أعلى معدلات الضرائب وحصة فئة أعلى ١ في المائة من الدَّخْل، عبر مختلف الأزمان والبلدان.

ما أستخلِصُه من كلِّ ما سبق هو أنه علينا أن نفكِّرَ في أن الارتفاع السريع لدخول الفئة العليا يعكس العواملَ الاجتماعية والسياسية نفسها التي روَّجَتْ لإرخاء الضوابط التنظيمية المالية. وكما رأينا بالفعل، فإن إرخاء الضوابطِ التنظيمية المالية أمرٌ محوريٌّ في فهم كيفية وصولنا إلى هذه الأزمة؛ ولكن هل كان للتفاوت في حدِّ ذاته دورٌ مهمٌّ أيضًا؟

التفاوت والأزمات

قبل أن تضرِبَنا الأزمةُ المالية عام ٢٠٠٨، كنتُ كثيرًا ما ألقي خُطَبًا على جماهيرَ مِن غير المتخصِّصين بشأن تفاوت الدخل، أُشِير فيها إلى أن حصة الدخل بين الطبقات الأعلى قد ارتفعَتْ إلى مستويات لم نشهدها منذ عام ١٩٢٩؛ ودائمًا ما كانت ثمة تساؤلات حول ما إذا كان ذلك يعني أننا على وشك التعرُّضِ لموجة جديدة من الكساد الكبير، فكنتُ أعلِنُ أن هذا لن يحدث بالضرورة؛ حيث إنه لا يوجد سببٌ يدفع التفاوُتَ الشديدَ إلى التسبُّبِ في وقوع كارثة اقتصادية بالضرورة.

ولكن مَن كان يعلم؟

ليست العلاقة الارتباطية مساوية للعلاقة السببية، ويمكن أن تكون مجرد مصادَفةٍ أنَّ العودةَ إلى مستوياتِ ما قبل الكساد من التفاوُت تَبِعَتْها عودةٌ إلى اقتصاديات الكساد، أو ربما تعكس أن الظاهرتين مسبِّباتُهما واحدة. فما الذي نعرفه حقًّا هنا، وما الذي يمكن أن نتوقَّعَه؟

من المؤكَّد أن اشتراكهما في المسبِّبات جزءٌ من المسألة؛ فقد حدَثَ تحوُّلٌ سياسي كبير نحو اليمين في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة، وإلى حدٍّ ما في بعض البلدان الأخرى، نحو عام ١٩٨٠؛ وقد أدَّى هذا التحوُّلُ نحو اليمين إلى تغيُّراتٍ في السياسة — لا سيما التخفيضات الكبيرة في معدلات ضرائب الطبقة العليا — وإلى تغيُّرٍ في القواعد الاجتماعية — إرخاء «قيْدِ السخط» — ممَّا كان له دورٌ مهمٌّ في التزايُدِ المفاجِئ في دخول الفئات العليا. كما تسبَّبَ هذا التحوُّلُ في التحرير المالي والامتناع عن وضع ضوابط للأشكال الجديدة من الأنشطة المصرفية، وهو ما ساهَمَ بدرجةٍ كبيرةٍ في التمهيد للأزمة، كما رأينا في الفصل الرابع.

ولكنْ هل ثمة علاقةٌ سببيةٌ أيضًا بين التفاوت في الدخل والأزمة المالية؟ ربما، ولكن من الصعب تقديم برهان على ذلك.

على سبيل المثال: إحدى القصص الشائعة عن التفاوت والأزمة المالية — تحكي أن تزايُدَ حصةِ الأغنياء من الدخل خفَّضَ معدلاتِ الطلب الكلي بسبب تقلُّصِ القوة الشرائية للطبقة المتوسطة — لا يمكن أن تبدو مقنِعةً عند الرجوع إلى البيانات؛ فقصص «قصور الاستهلاك» تعتمد على فكرةٍ مفادها أنه عند تركيز الدخل بين أيدي القلة يتأخَّر الإنفاقُ الاستهلاكي، وتتزايَدُ معدلاتُ الادِّخَار بمعدلٍ أسرعَ من تزايُدِ الفرص الاستثمارية. إلا أنه في الواقع، ظَلَّ الإنفاقُ الاستهلاكي في الولايات المتحدة الأمريكية قويًّا على الرغم من التفاوت المتزايد، وعلى النقيض من مزاعم تزايُد الادِّخَار؛ فقد شهد معدلُ الادِّخار الشخصي هبوطًا طويلَ الأجل خلال فترة التحرير المالي والتفاوت المتزايد.

ويمكن تقديم حجةٍ أفضل للفرضية العكسية — وهي أن زيادة التفاوت أدَّتْ إلى زيادةٍ كبيرةٍ في الاستهلاك وليس إلى انخفاضه — وتحديدًا، أن الفجوات المتزايِدة الاتساع في الدخل تسبَّبَتْ في وقوعِ المتخلِّفين عن الرَّكْب في هوَّةِ الديون. ويرى روبرت فرانك من جامعة كورنيل أن ارتفاعَ الدخل في الطبقات العليا أفضَى إلى «تسلسُلِ الإنفاق»، الذي يؤدِّي في نهاية المطاف إلى انخفاضِ الادِّخَار وزيادةِ الدَّيْن:

يُنفِق الأغنياءُ أكثرَ لأنهم ببساطة يمتلكون الكثيرَ من النقود الزائدة عن حاجتهم، ويُحدِث إنفاقُهم تحُّولًا في الإطار المرجعي الذي يشكِّل مطالِبَ الطبقة الأدنى منهم مباشَرةً، التي يتحرَّك أعضاؤها في دوائر اجتماعية متداخلة؛ ومن ثَمَّ، يزيد إنفاقُ المجموعة الثانية هي الأخرى؛ ممَّا يؤدِّي إلى حدوث تحوُّلٍ في الإطار المرجعي الذي يشكِّل مطالِبَ الطبقة الأدنى منها، وهكذا دواليك، وصولًا إلى قاع سُلَّمِ الدخْلِ. وقد تسبَّبَ هذا التسلسُلُ في حدوثِ زيادةٍ كبيرةٍ في تكلفة تحقيق الأهداف المالية الأساسية لعائلات الطبقة المتوسطة.

ينطوي العملُ الذي قدَّمَتْه إليزابيث وارِن وأميليا تياجي على رسالة مماثِلة؛ حيث يتتبَّع كتابُهما «فخُّ الدخل الثنائي المصدر» المدَّ المتصاعِدَ من حالات الإفلاس على مستوى الأفراد، الذي بدأ قبل الأزمة المالية الشاملة بفترةٍ، وكان ينبغي اعتبارُه إشارةً تحذيريةً. (وارين — أستاذة الحقوق بجامعة هارفرد — أصبحَتْ من كبار مناصِرِي الإصلاح المالي؛ وقد أنشأَتِ المكتبَ الجديدَ للحماية المالية للمستهلِك، كما أنها حاليًّا مرشَّحة لعضويةِ مجلس الشيوخ.) وقد أثبتَتِ الباحثتان أن عاملًا كبيرًا من العوامل المؤثِّرة في حالات الإفلاس تلك كان تزايُدَ التفاوت في التعليم العام، الذي عكَسَ بدوره التفاوُتَ المتزايِدَ في الدخل؛ فقد أجهدَتْ أُسَرُ الطبقة المتوسطة نفسَها من أجل شراء منازل في مناطق المدارس الجيدة؛ ومن ثَمَّ ازدادَتْ أعباؤهم من الديون؛ ممَّا جعلهم عرضةً للخطر في حالة فقدان الوظيفة أو المرض.

يحمل هذا النقاشُ في طيَّاته قدرًا كبيرًا من الخطورة والأهمية، ولكنَّ تخميني — ولا يمكن أن يكونَ أكثرَ من ذلك؛ نظرًا لقلة ما نفهمه عن بعض قنوات التأثير تلك — هو أن أكبرَ مساهَمةٍ أسهَمَ فيها تزايُدُ التفاوُتِ في الكساد الذي نعاني منه الآن كانت ولم تَزَلْ مساهَمةً سياسيةً؛ فعندما نتساءل لِمَ يبدو صنَّاع السياسة غافلين تمامًا عن مخاطِرِ التحرير المالي — وعن سبب غفلتهم التامة منذ عام ٢٠٠٨ عن الاستجابة غير الكافية للركود الاقتصادي — فإنه من الصعب ألَّا نتذكَّر جملةَ أبتون سنكلير الشهيرة: «من الصعب أن تجعل الرجلَ يفهم شيئًا، عندما يعتمد راتِبُه على عدمِ فهم هذا الشيء.» فالمال يشتري النفوذَ، والكثيرُ من النقود يشتري الكثيرَ من النفوذ، والسياساتُ التي أوصلَتْنا إلى ما نحن فيه، في حين أنها لم تحقِّقْ نفعًا يُذكَر لمعظم الناس، كانَتْ — على الأقل لفترةٍ من الزمن — نافعةً جدًّا لعددٍ قليلٍ من الناس في أعلى الهرم.

النخبة والاقتصاد السياسي للسياسات السيئة

عام ١٩٩٨ — وكما ذكرتُ في الفصل الرابع — اندمجَتْ سيتي كورب، الشركةُ القابضة لمصرف سيتي بنك، مع مجموعةِ ترافلرز، لتكوِّنَا معًا ما نعرفه الآن باسم سيتي جروب. جاءت الصفقةُ تتويجًا لإنجازات ساندي وايل، الذي أصبَحَ المديرَ التنفيذي لذلك العملاق المالي الجديد. ولكن كانَتْ ثمة مشكلةٌ صغيرة؛ فقد كان الاندماج غير قانوني. كانت شركة ترافلرز شركةَ تأمين استحوذَتْ أيضًا على بنكَيْن استثماريَّيْن، هما سميث بارني وشيرسون ليمان، ووفقًا لقانون جلاس-ستيجال، لم يكن مسموحًا للبنوك التجارية مثل سيتي بالمشارَكَةِ في أنشطة التأمين أو البنوك الاستثمارية.

ولذلك، وبفضل ما أصبحت الولايات المتحدة الحديثة عليه، بدَأَ وايل يحاوِلُ تغييرَ القانون، بمساعدة السيناتور فيل جرام، نائِبِ ولاية تكساس ورئيس لجنة المصارف والإسكان والشئون الحضرية في مجلس الشيوخ. ومن منصبه هذا، قادَ جرام عددًا من التدابير التحريرية، إلا أن جوهرةَ التاج كانَتْ قانون جرام-ليتش-بلايلي لعام ١٩٩٩، الذي ألغَى قانون جلاس-ستيجال فعليًّا، مضفيًا بذلك صبغةً قانونيةً على اندماجِ مجموعتَيْ سيتي وترافلرز بأثرٍ رجعيٍّ.

لِمَ أبدى جرام هذا القدرَ من التجاوب؟ لا شكَّ أنه اقتنَعَ صدقًا بفضائل التحرير، ولكن بالإضافة إلى ذلك فقد كانت ثمة إغراءاتٌ كبيرةٌ عزَّزَتْ هذه القناعة؛ فبينما كان لا يزال في منصبه، تلقَّى جرام تبرعاتٍ كبيرةً لحملته الانتخابية من القطاع المالي، الذي كان أكبر داعم له؛ وعندما ترك منصبه، انضمَّ إلى مجلس إدارة شركة يو بي إس، إحدى عمالقة المال. لكن دعونا لا نحوِّل الأمرَ إلى مسألةٍ حزبيةٍ؛ فقد أيَّدَ الديمقراطيون أيضًا إلغاءَ قانون جلاس-ستيجال والتحرير المالي بوجه عام، وكانت الشخصيةُ الأبرز في اتخاذ قرارِ دعم مبادرة جرام هي روبرت روبين، الذي كان يشغل منصبَ وزير الخزانة في ذلك الوقت، وقبل عمل روبين بالحكومة كان رئيسًا مشارِكًا لشركة جولدمان ساكس، وبعد تركه العمل الحكومي، أصبَحَ نائبَ رئيس … سيتي جروب.

لقد قابلتُ روبين عدةَ مرات، وأشكُّ في أنه باعَ ذمته، لأسبابٍ أقلُّها أنه كان بالفعل ثريًّا جدًّا إلى حدٍّ يجعله في غِنًى عن الوظيفة التي تبعتْ ترْكَه منصبَه الحكومي، إلا أنه قبِلَ الوظيفة. أما بالنسبة إلى جرام، فهو — على حدِّ علمي — آمَنَ بصدقٍ ولا يزال مؤمنًا بكلِّ موقفٍ اتخَذَه. ومع ذلك، فإن حقيقةَ أن اتِّخَاذَ تلك المواقف قد ملأ خزائنَ حملته الانتخابية عندما كان في مجلس الشيوخ، وملأ حسابَه المصرفي الشخصي بعد ذلك، لا بد أنها — لِنَقُلْ — يسَّرَتِ اعتناقَه تلك السياسات.

وبوجهٍ عام، علينا أن نفكِّر في الدور الذي يلعبه المال في تشكيل السياسة بوصفه حدَثًا متعدِّدَ المستويات؛ فثمة الكثير من الفساد الخام؛ في صورة ساسة يبيعون ذممَهم ببساطةٍ؛ إما عن طريق حملات التبرعات، وإما من خلال المكافآت الشخصية. ولكن في كثيرٍ من الحالات — وربما في معظمها — يكون الفسادُ أخفَّ حِدةً وأقلَّ وضوحًا؛ حيث يُكافَأ الساسةُ على اتخاذ مواقف بعينها؛ ما يجعلهم يزدادون تمسُّكًا بها، حتى يَقِرَّ في أذهانهم أنهم حقًّا لا يبيعون ذمتَهم، ولكن ظاهريًّا يصبح من الصعب معرفة الفرق بين ما يؤمنون به «حقًّا» وما يؤمنون به نظير مقابل.

وعلى مستوًى أقلَّ وضوحًا، تُيسِّر الثروةُ الوصولَ إلى مراكز السُّلطة، التي يأتي الوصولُ إليها بالنفوذ الشخصي؛ فيمكن لكبار المصرفيين أن يصلوا إلى البيت الأبيض أو إلى مكاتب أعضاء مجلس الشيوخ، خلافًا لرجل الشارع العادي. وحالما يصبحون داخلَ تلك المكاتب، يمكنهم أن يكونوا مقنِعين، ليس فقط بسبب الهدايا التي يقدِّمونها، ولكن بسبب وضعهم؛ فالأغنياء يختلفون عني وعنك، ليس فقط لأن ثيابهم أرقى، بل لأنهم يتحلَّوْن بالثقة وتلوح عليهم أماراتُ الخبرة والدراية اللتين تصحبان النجاحَ المادي، وأسلوبُ حياتهم مُغْرٍ، حتى لو لم تكن لَدَيك أيُّ نيةٍ لعملِ ما يَلزم للحصول على أسلوبِ حياةٍ مماثِلٍ لنفسك. وفي حالة نوعية الأشخاص الذين تجدهم في وول ستريت فهم أذكياء حقًّا؛ ومن ثم يتَّسِمون بفصاحة اللسان.

منذ زمن بعيد، قدَّمَ إتش إل مينكين مُوجَزًا وافيًا لنوع النفوذ الذي يمكن أن يمارِسَه الأغنياءُ حتى على السياسي النزيه، في وصفه الآتي لتراجُعِ آل سميث، الذي تحوَّلَ من مناصِرٍ عتيدٍ للإصلاح إلى خصمٍ مريرٍ للصفقة الجديدة: «لم يَعُدْ آل الجديدُ رجلَ سياسةٍ من الدرجة الأولى، فاختلاطُه بالأغنياء على ما يبدو قد هزَّه وغيَّرَه، وقد صار يلعب الجولف …»

كان كلُّ هذا صحيحًا على مرِّ التاريخ، غير أن قوةَ الجاذبية السياسية للأغنياء تصبح أقوى عندما يزداد الأغنياء ثراءً؛ فَلْننظر — على سبيل المثال — إلى الباب الدوَّار الذي يدخل منه الساسةُ والمسئولونَ في نهاية المطاف للعمل في القطاع الذي يُفترَض بهم مراقبته؛ هذا الباب موجود منذ زمنٍ، ولكنَّ الراتبَ الذي يُمْكنك الحصول عليه إذا كنتَ محبوبًا في ذلك القطاع أصبَحَ أعلى بكثيرٍ ممَّا كان عليه في الماضي؛ ممَّا يجعل الرغبةَ في التجاوُبِ مع الأشخاص الموجودين على الجانِب الآخَر من هذا الباب — واتِّخَاذ مواقف من شأنها أن تجعلك موظَّفًا جذَّابًا في حياتك المهنية التالية على مرحلةِ صُنْعِ السياسات — أقوى كثيرًا بالتأكيد ممَّا كانت عليه قبل ثلاثين عامًا.

لا تنطبِقُ هذه الجاذبية على السياسات والأحداث داخل الولايات المتحدة الأمريكية فحسب؛ فقد قدَّمَ ماثيو إجلاسيوس من مجلة «سليت» — في إطار تأمُّلِه الاستعدادَ المدهِشَ الذي أبداه القادةُ السياسيون في أوروبا للموافَقةِ على تدابير التقشُّف القاسية — تخمينًا يستنِد إلى المصالح الشخصية، جاء فيه الآتي:

في الظروف العادية قد يظنُّ المرءُ أن الخيارَ الأفضلَ لرئيسِ وزراء الدولة هو محاولة القيام بالأمور التي من المحتمل أن تؤدِّي إلى إعادة انتخابه؛ فمهما كانَتِ التوقُّعاتُ قاتمةً، فستكون تلك هي الاستراتيجية السائدة. ولكن في عصر العولمة ومحاولات فرْضِ طابعِ الاتحاد الأوروبي على الدول الأعضاء فيه، أعتقِدُ أن وضْعَ قادةِ الدول الصغيرة اختلَفَ بعض الشيء في الواقع؛ فإذا تركْتَ منصِبَكَ متمتِّعًا باحترامِ المنتدى الاقتصادي العالمي، فقد تجِدُ نفسَكَ مؤهَّلًا للعمل بعددٍ من الكيانات التابعة للمفوضية الأوروبية أو صندوق النقد الدولي أو ما شابَهَ، حتى لو كنتَ محلَّ ازدراءٍ تامٍّ من مواطنيك؛ بل قد يكون الازدراءُ التامُّ في بعض الأحيان ميزةً إضافيةً لك؛ فأقصى مظاهِرِ الوحدة مع «المجتمع الدولي» هو أن تفعل ما يريدُه المجتمعُ الدولي، حتى إن كان هذا في مواجَهةِ معارَضةٍ هائلةٍ على صعيد السياسية المحلية.

وأظنُّ أنه حتى لو تبيَّنَ أن براين كوين قد دمَّرَ حزبَ فيانا فيل إلى الأبد — وهو الذي كان متحكِّمًا في مقاليد الأمور في يومٍ من الأيام — فأمامه مستقبلٌ واعِدٌ في الساحةِ الدوليةِ يتحدَّث فيه عن ضرورةِ «الخيارات الصعبة».

وثمة أمر آخَر؛ ففي حين أن نفوذَ القطاع المالي كان قويًّا على كلا الحزبين في الولايات المتحدة، فقد كان تأثيرُ المؤسسات المالية الكبرى على السياسة أقوى على الجمهوريين؛ لكونهم أكثرَ ميلًا من الناحية الأيديولوجية لدعم مصالح نسبة أعلى ١ في المائة أو أعلى ٠٫١ في المائة على أي حال. وربما يفسِّر هذا الاهتمامُ المتبايِنُ الاكتشافَ المذهل الذي توصَّلَ إليه عالِمَا السياسة كيث بول وهوارد روزنتال، اللذان استخدَمَا نتائجَ التصويت في الكونجرس لقياس الاستقطاب السياسي — أيِ الفجوة بين الحزبين — على مدى القرن الماضي تقريبًا؛ وقد اكتشَفَا وجودَ علاقةٍ قويةٍ بين حصة أعلى ١ في المائة من إجمالي الدخل ودرجة الاستقطاب داخل الكونجرس؛ فالسنوات الثلاثون الأولى التالية للحرب العالمية الثانية، التي اتَّسَمَتْ بتوزيعٍ متساوٍ نسبيًّا للدخل، تميَّزَتْ أيضًا بتعاونٍ فعليٍّ بين الحزبين؛ حيث اتخذت مجموعةٌ كبيرةٌ من الساسة الوسطيين القراراتِ بشبه توافُقٍ في الآراء. إلا أنه منذ عام ١٩٨٠ تحرَّكَ الحزبُ الجمهوري نحو اليمين تزامُنًا مع ارتفاع دخْلِ النخبة، وأصبَحَ الوصولُ إلى اتفاقٍ سياسيٍّ شبهَ مستحيلٍ.

يُعِيدُني ذلك إلى العلاقة بين التفاوت والكساد الجديد.

تمخَّضَ تَنامِي نفوذِ الأثرياء عن خياراتٍ سياسيةٍ كثيرة لا تروق لِلِّيبراليين أمثالي؛ مثل خفضِ تصاعديةِ الضرائب، وقلةِ الاهتمامِ بمعونات الفقراء، وتراجُعِ التعليم العام، وما إلى ذلك. أما الأكثر ارتباطًا بموضوع هذا الكتاب فهو إنعامُ النظام السياسي في رفْعِ القيود وإلغائها، على الرغم من علاماتِ التحذير المتعدِّدة التي أشارَتْ إلى أن النظام المالي المحرَّر هو السبيلُ الأكيد إلى المتاعب.

الفكرة هي أن هذا الإنعام يبدو أقلَّ إثارةً للحيرة إذا أخذنا في الاعتبار التأثيرَ المتزايِدَ للأشخاص البالغي الثراء؛ فمن ناحيةٍ، حصَلَ عددٌ غيرُ قليلٍ من هؤلاء الأغنياء على نقودهم عن طريقِ التحرير المالي؛ لذلك فمن مصلحتهم المباشِرة أن تستمرَّ الإجراءاتُ المضادة للضوابط التنظيمية. ومن ناحية أخرى، فأيًّا كانت التساؤلات التي أُثِيرت حول الأداء الاقتصادي العامِّ بعد عام ١٩٨٠، فقد كان الاقتصادُ يعمل بنجاحٍ فائقٍ بالنسبة إلى الفئة المتربِّعة على القمة.

إذَنْ رغم أنه من المستبعَد أن تكونَ زيادةُ التفاوت السببَ الرئيسي المباشِر للأزمة، فقد هيَّأَتْ بيئةً سياسيةً غيرَ مواتيةٍ بالمرة لملاحظة العلامات التحذيرية أو اتخاذ أيِّ إجراء إزاءها. وكما سنرى في الفصلين التاليين، فقد هيَّأَتْ أيضًا بيئةً فكريةً وسياسية أعاقَتْ قدرتنا على الاستجابة الفعَّالة عندما ضربَتْنا الأزمةُ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤