الفصل العاشر

النجاة

أما حماد وهند فساقا جواديهما نحو صرح الغدير ولكنهما سارا في طريق غير الذي ظنَّا الخادمة تعود منهُ لئلاَّ تلتقي بهما فيكشف أمرهما فلما خلوَا في الصحراء وأمنا من العيون قال حماد: «تبًّا لذلك الخائن والله لوددت أن تكون تلك الطعنة في صدره فنتخلص من شره.»

فقالت: «يا ليتها كانت كذلك ولكن هذا الخائن سينال جزاء فعلتهِ هذه على أننى أخشى أن يكون قد كمن لنا في بعض الطريق.»

فقال حماد: «طيبي نفسًا يا حبيبتي فإن جنود غسَّان كلها وجنود قيصر وكسرى لا تستطيع أن تمس شعرة منك ما دمت حياَّ مقيمًا إلى جانبك ولقد شهدتُ منكِ اليوم شجاعة حقرتني في عيني نفسي فسبحان من جمع فيك شجاعة الرجال ورقة النساء وأراني ساعة وقنتِ وذلك الحسام بيدك حسبت الجنود تفر من أمامك وشعرت بقوة فوق العادة ولو اجتمعت حولي جيوش مجيشة ما حسبت لها حسابًا.»

قالت: «تلك دوافع المحبة قد تذهب برشد صاحبها فيقتحم الأهوال ولا يبالي بحياتهِ ولعلي أتيت بما أواخذ عليهِ ولكنني فعلت ذلك مدفوعة بحب حماد.»

فقال: «لا تكرهوا أمرًا لعله خير لكم فقد شعرت بعد هذه الواقعة أن ربط المحبة بيننا قد زادت متانة ولا أَرى في السماء أو الأرض ما يمكن أن يحول بيني وبينك.»

فأوقفت هند فرسها كأَنها تريد التصريح بأمر ذي بال فأوقف حماد فرسهُ فمدت يدها إليه فمد يده وتصافحا وقالت: «أعاهدك عهدًا مقدسًا أني باقية على حبك إلى آخر نسمة من حياتي ولو حال دون ذلك كل مصاعب بني الإنسان.»

فنسي حماد موقفهُ لعظم غرامهِ بها وسروره بما شاهده من حبها وقال لها: «أن هذا العهد يا هند لينسيني كل أسباب الشقاء ووالله لاقتحمنَّ أعظم الأخطار وأجوب الفيافى والقفار في سبيل حبك يشهد علينا سهيل والميزان وسائر نجوم السماء والله أكبر الشاهدين.»

فأطرقت هند وقد غلب عليها الحياء ولسان حالها يقول: «وأنا أعاهدك بذلك أيضًا.»

فقال لها حماد: «أما وقد تعاهدنا على الحب فلتكن تلك الأساور عربون المحبة وقد قدمتهما لك عن غير قصد وهي تقدمة حقيرة بجانب مقام بنت ملك غسَّان فهل تقبلين بها تذكارًا.»

فنظرت إليه وفرسها يشاغلها بالأقدام والأحجام كأَنهُ شعر بما يتقد فوقهُ من لواعج الغرام وقالت: «ذلك يدلك على أن حبنا مقدر منذ الأزل وقد أراد الله أن تكون هذه الأساور عربونًا لذلك الحب فسأُحافظ عليها ما بقيت ولكن أتعلم ما هو تذكاري عندك.» قال: «كيف لا أعلم وصلصلة تلك الدرع لا تزال ترن في أذني فهي تسقيني غائلات الزمان بإذن الله.»

قالت: «لقد أحسنت فهم المراد حرسك الله ووقاك.»

فلما تبادلا العهد وخزا الفرسين ولم تمض برهة حتى صارا على مقربة من صرح الغدير وقد عرفاه من النيران الموقدة بالقرب منهُ وهي نار القرى كان يوقدها الغسَّانيون لإهداء المارة ممن يريدون طعامًا أو مبيتًا.

فوقف حماد وقال: «هذا قصرك فسيرى إليه فإني عائد إلى منزلي.»

فقالت: «أخاف عليك ذلك الخائن وأخشى أن يكون كامنًا برجالهِ في بعض المكامن والليل بهيم فربما أراد بك سوءًا.»

فهزَّ رأسهُ استخفافًا وقال: «ذريهِ وكل جند أبيهِ ولا تخافي عليَّ بأسًا بإذن الله فألَّحت عليهِ أن يدخل القصر بحيلة الضيافة منفردًا.» فقال: «إنك لتزيدينني رغبة في المسير منفردًا وإني لأستحيي من نفسي أن أخاف ابن الحارث ورجالهُ ولو كانوا ألوفًا.» فلما لم تجد سبيلًا إلى إقناعه ودعتهُ فقبض على يدها وضغط عليها وجدَّدا الوعد وعدًا طاهرًا وقالت: «سر بحراسة المولى وكلاءتهِ.» وسارت هي نحو القصر فلبث هو واقفًا حتى تحقق دخولها الحديقة فتحوَّل نحو منزلهِ وهو على مسافة بعيدة عنهُ فوخز جواده وجدَّ في المسير زميلًا وقد ترك قلبهُ في صرح الغدير ونسي نفسهُ فلم يشعر إلا وهو في مكان لم يعرفهُ فأوقف جواده ونظر إلى ما حولهُ فإذا هو في أرض قفر لم يعهدها قبلًا ففكر برهة لعلهُ يفقه أين هو فلم يستطع فنظر إلى النجوم وأبراجها وكان خبيرًا بعلم الفلك فرأَى أنهُ أخطأً الطريق وإن منزلهُ في جهة غير التي كان سائرًا فيها فشكر علم الفلك لأنهُ كان وسيلة في اهدائهِ إلى سواء السبيل وحوَّل عنان جواده نحو الجهة التي ظن أنها تؤَديهِ إلى منزلهِ حتى وصل إلى البساتين والمغارس.

وفيما هو سائر زميلًا بين الأشجار والطريق كثيرة الحصى إذ سمع وقع حوافر جواد مسرع نحوه فأصاخ بسمعهِ وأحدق بعينيهِ لجهة الصوت فإذا بهِ يقترب نحوه فأمسك بعنان جواده حتى مشي خببًا ينظر إلى جهة الصوت والظلام حالك فإذا بالفارس يدنو منهُ ثم سمع صوتًا يناديهِ: «حماد.» فعرف أنهُ صوت أحد خدمتهِ فأجابهُ: «سلمان» وهو اسم ذلك الخادم قال: «نعم يا سيدي قف عندك» فوقف حتى تقابلا فقال حماد: «ما الذي جاءَ بك الآن.»

قال: «أدِر عنان جوادك واتبعنى لأخبرك الخبر.» وأَسرع فتبعهُ وسارا اهجامًا وهما لا يتكلمان وقد انشغل بال حماد لذلك حتى بعدا عن مساكن الناس وانفردا في الصحراء فأمسكا عنانى الفرسين فقال حماد: «قل يا سلمان ما سبب هذا العدو وما الذي جئت من أجلهِ.»

قال: «جئت بأمر من سيدي والدك أن تفرَّ من غسام إلى عَّمان.»

قال: «ولماذا؟» قال: «لأن صاحب بصرى بعث شرذمة من رجالهِ فقبض على سيدي والدك واستولى على كل ما في البيت.»

فبغت حماد وقد علم السبب ولكنهُ تجاهل وقال: «ولماذا فعلوا ذلك.»

قال: «زعموا أنهُ جاسوس من ملك العراق فساقوه مجبورًا إلى بصرى وسمعت الرجال يسأَلون عنك في بادئ الرأي فلما لم يروك قبضوا على سيدي والدك ونهبوا المنزل ولم يغادروا شيئًا فأَسرَّ إليَّ والدك أن أقتفي أثرك وأفرَّ بك إلى عمان ننتظره هناك شهرًا فإن أبطأ علينا بحثنا عنهُ في بصرى.»

قال: «وهل أَصابوه بسوء.»

قال: «كلاَّ يا سيدي ولكنهم أوثقوه وساقوه إلى بصرى ولا بد من أن يقصوا أثرك للقبض عليك وهذا ما حمل سيدي على تحذيرك فنحن ذاهبون إلى جهات عمان نقيم فيها متنكرين شهرًا ثم يقضي الله بما يشاء.»

فانقبضت نفس حماد عند ذلك وكادت تخنقهُ العبرات وعلم أن الذين قبضوا على والده هم ثعلبة ورجالهُ فحدثتهُ نفسهُ أن يثنى عنان جواده إلى بصرى وقد كبر عليهِ الفرار ولكنهُ أطاع والده وسار مع سلمان صامتًا يفكر في حالهِ مع هند وكيف ساقهُ الحب إلى هذه العاقبة فبعد أن مشيا مدة صامتين قال حماد: «أتعرف هذه الطرق يا سلمان.»

قال: «نعم يا سيدي أعرفها جيدًا فقد طرقتها مرارًا مع سيدي والدك منذ بضعة أعوام.» وكان سلمان شابًا في الثلاثين من عمره رافق عبد الله في أكثر أسفاره حتى حنكتهُ التجارب وعلمتهُ الأيام وكان نبيهًا فطنًا يستهلك في خدمة مولاه وكان عبد الله يركن إليه في مهماتهِ ويثق بهِ في معظم أعمالهِ فلما تحقق وقوعه في الأسر عهد إليه العناية بحماد وهو يؤَمل أن يتخلص من أسره فيجتمع بهِ فأَمره أن يسير بهِ إلى عمان وهي مدينة قديمة واقعة على نحو ستين ميلًا من بصرى جنوباُ مع انحراف نحو العرب كانت تسمى في عصر الإسرائيليين (ربان عمون) وكانت عاصمة العمونيين الذين تضافروا هم الموابيون وأخرجوا سكان شرقي البحر الميت والأردن واحتلوا مكانهم ولهذه المدينة ذكر كثير في التوراة وقد تخرَّبت مرارًا حتى بناها بطليموس فيلاذلفوس ملك الإسكندرية في القرن الثالث قبل الميلاد وسماها فيلاذلفيا ثم صارت في أوائل الميلاد أسقفية ذات أهمية كبرى يقيم بها أسقف تحت إدارة أسقف بصرى الأكبر فيها كثير من الأبنية الرومانية كالقلاع والهياكل والكنائس.

وما زال حماد وسلمان يسيران زميلًا حتى انتصف الليل وبعدا عن بصرى كثيرًا فوقفا وقد تعبا وتعب الجوادان وطلع القمر وكان في ربعهِ الأخير فأرسل أشعتهُ على تلك السهول والجبال والأرض خالية لا أثر للآدميين فيها ولكنها مكسوة بالغابات وأكثرها من شجر الزيتون والجوز فسارا حثيثًا وحماد غارق في بحار التأَمل تتقاذفهُ الهواجس وقلبهُ يخفق تارة حنوَّا لهند وطورًا خوفًا على والده فإذا تصوَّر ثعلبة إتقدت نيران الانتقام في جسمهِ وود لو يلقاه ليقطعهُ إربًا إربًا ولكنهُ كظم ما في نفسهِ وعاد إلى الحديث مع سلمان والجوادان يجريان على الرمل لا يسمع لحوافرهما صوت والجوُّ هادئ وضوءُ القمر ضعيف. فقال حماد: «أخبرني يا سلمان كيف فعل هؤلاء الطغام بوالدي وبالمنزل.»

قال: «كنا في غفلة ومولاي في قلق لغيابك من الصباح وهو لا يدري إلى أين سرت فلما غابت الشمس ولم تأت أزداد قلقهُ فهمَّ بالركوب للتفتيش عنك وفيما نحن في ذلك وقد أسرجت جوادي لأرافقهُ إذ سمعنا صهيل الخيول ووقع حوافرها وتقاطر الرجال عشرات فأَحاطوا بالمنزل فسأَلناهم عن الخبر فقالوا: «أين الأمير حماد» وأغلظوا بالمقال فسأَلنا عن أمرهم فلم يجيبونا إلا بالشتم والسباب فأَجبناهم بمثل مقالهم فهموا بسلاحهم وخيلهم وقبضوا على سيدي الأمير بعد أن دافع دفاعًا حسنًا وكان أعزل فأَوثقوه وسقطوا على المنزل فنهبوه فاغتنمت فرصة اشتغالهم بالنهب ودنوت من سيدي فأوصاني أن أقتفي أثرك وأحذرك من المجيء كما أخبرتك ولولا التقادير لقبضوا عليَّ ولكنني بحمد الله تمكنت من الفرار وجئت إليك.»

فقال: «وهل أَخذوا متاعنا وأموالنا.»

قال: «أنت تعلم يا سيدي أن المثمنات من الذهب والفضة مكنوزة في مكان لا يعرفهُ أحد سوانا ولكنهم أخذوا ما عثروا عليهِ من الأثاث.»

فتذكر حماد الدرع فقال: «وهل أخذوا الدرع التي جئت بها الأمس.»

قال: «كلاَّ فإنها في هذا الخرج على فرسي وقد حفظها الله صدفة لوجودها في هذا الخرج.»

فسرَّ حماد لبقاءِ الدرع لأنها تذكار من حبيبتهِ هند.

وفيما هما في الحديث آنسا نارًا عن بعد فقال حماد: «وما هذه النار ألعلنا على مقربة من القرى.»

فوقف سلمان ونظر إلى ما حولهُ وفكَّر قليلًا ثم قال: «إن النور الذي تراه هو في بلدة يسمونها بيت الجمال أو أم الجمال فإذا شئت أن نتحوَّل إليها فعلنا وإلاَّ فإننا سنشرف على جدول فيهِ ماء نشرب منهُ ونسقى جوادينا ونبيت فيهِ بقية ليلتنا.»

قال: «دعنا من البيوت لئلَّا ينكشف أمرنا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤