الفصل الرابع والمائة

المناجاة

فتحقق حماد أنها عباءة هند فخاف أن يكون لوجودها هناك سبب محزن فخفق قلبهُ وتشاءم وحدثتهُ نفسهُ أن يتتبع الشاطئ لعلهُ يقف على أثر آخر ثم تردد مخافة أن يتوه عن الطريق والوقت ليل فحاول الانتظار إلى الصباح ولكنهُ نظر إلى السماء وتأمل مواضع الأبراج فعلم أنهُ في نصف الليل فاستبعد الأجل. وكان القمر قد طلع حتى تكبد السماء فأنار البحيرة وشاطئها وأبنية الحيرة. وفي أوَّل تلك الأبنية قصر الخورنق الشهير. فعول على مغافلة الراعي والمسير على الشاطئ فتظاهر بالضجر والقلق وقال لهُ: «أراني لا أستطيع رقادًا الآن فاحتفظ بالفرس ريثما أتمشى على هذا الشاطئ برهة لعل النعاس أن يأتيني وأعطني العباءة التحفها فتقيني من البردة».

فقال: «افعل ما بدا لك».

فتناول حماد العباءة وتزمل بها وسيفهُ إلى جنبهِ فرفعهُ وعلقهُ بمنطقتهِ لئلاَّ يطرق الأرض فيحدث صوتًا يعترض مجاري تصوراتهِ وسار الهوينا محاذيًا للشاطئ وقد سكن الهواء وأوت الطيور إلى أوكارها. فبعد أن مشى برهة وقف والتفت وراءه فإذا بالزريبة قد توارت عنه فنظر إلى ما حولهُ فعلم أنهُ على مقربة من الحيرة وبينهُ وبينها المغارس والكروم وأمامهُ البحيرة وقد هدأ ماؤها ونور القمر ينعكس على سطحها فيتلألأ كالزجاج والطبيعة هادئة ساكنة لا يتخلل سكونها إلاَّ نقيق الضفادع. فجلس على صخر هناك وأطلق لتصوره العنان ففكر في ما هو فيهِ من الهواجس وتصور هندًا وعباءتها وما الذي أوصل ذلك الكلب إليها. فاعترضهُ فكر اقشعر منهُ بدنه وخيل لهُ أن هندًا لما يئست من لقائهِ ألقت بنفسها في ذلك الماء فبقيت العباءة على الشاطئ حتى حملها الكلب إلى الزريبة ولما تصور ذلك انقبضت نفسهُ وأحس كأنك صببت عليهِ ماءً باردًا وهم بالعباءة يقبلها ويتنسم رائحة هند منها فغلب عليهِ الوجد فأخذ في البكاء وجعل يخاطب العباءة وهو يبكي ويتنهد ويقول: «أخبريني يا عباءة هند أين تركت هند هل أنت خلعتها أم هي خلعتك وقد غرقت في هذا الماء وتركتك نذيرًا بمصيرها آه من طوارئ الحدثان آه من تقلبات الزمان أين هند الآن ألعلها لا تزال في قيد الحياة أم هي غارقة في هذا الماء وقد أكلت لحمها الأسماك … كيف تموت هند وحماد حي يرزق..» وسكت برهة ثم قال: «ألعلي قصرت في البحث عنك حتى يئستِ من لقائي من يخبرني أين أنت.. هند هند … أين أنت أالبستني درعًا لتقيني وتقتلي نفسك قبح الله رأي والدك وضعف عزيمته لقد جر علينا الشقاء سامحه الله إذا كان لا يزال بين الأحياء. من يخبرنى أن هندًا حية أو ميتة فإذا تحققت موتها استودعت الدنيا ولحقت بها لعلنا نلتقى في ظلمة الأبدية …» ثم سكت برهة ومسح دموعه ونظر إلى ما حولهُ فإذا هو منفرد ليس من يسمعهُ أو يراه فأطلق لنفسهِ عنان البكاء وعاد إلى العباءة فلف بها وجههُ وجعل يشمها ويقبلها ويشهق في البكاء حتى كاد يغمى عليهِ.

ثم رفع العباءة عن وجههِ ووقف بغتة والتفت نحو الحيرة فإذا ببيوتها ساكنة هادئة فقال: «… هؤلاء أهل الحيرة نيام لا يزعجهم طيف ولا يقلقهم خيال. هل يعلمون أن على شاطئ بحيرتهم ملكًا يبكي كالطفل هل يعلمون أن ابن ملكهم النعمان صب هائم يبحث عن حبيبتهِ في أكنافهم هبوا أيها الراقدون أخبروني أين هي هند أين أنت يا هند أين قامتك أين عيناك أين أنت أجيبيني فأخبرك إن دولة الفرس قد سقطت وانتقمت لوالدي تعالي نجتمع وننسى الأحزان والأتعاب لقد آن زمن الراحة …

ولكن آه أين الراحة من فتى مات والده قبل أن يولد هو وانقضت زهرة عمره وهو لا يعرف نسبهُ حتى إذا عرفهُ وآن لهُ أن يستريح نكبهُ الزمان بضياع حبيبتهِ آه — يا ليتني لم أعرف ذلك النسب فإن معرفتهُ جرت علي كل هذا البلاء — ما أحلى الحب وما أسعد الحبيبين إذا التقيا ولو عاشا في كوخ مثل كوخ هذا الراعي» وأوغل في البكاء وهو يقلب العباءة بين يديهِ ويقبلها ويشم رائحتها حتى بلها وقد تعب وخارت عزيمته فاتكأ على الصخر فعقره الدرع فتوسد الثرى وألقى رأسهُ على حجر فغلب عليهِ التعب والنعاس فغمضت أجفانهُ وهو بين اليقظة والمنام.

ثم استيقظ مذعورًا كأنهُ سمع صوتًا يناديهِ فنظر إلى ما حولهُ فلم ير أحدًا فعلم أنها أحلام اقتضتها هواجسهُ وشكوكهُ. ولكن ذلك الصوت ما زال يرن في أذنيهِ وقد اضطربت حواسهُ وخيل لهُ لهدوء المكان وسكون الطبيعة أنهُ في عالم الأرواح وإن ذلك الصوت خارج من القبور فاقشعر جسمهُ.

وكان البرد قد قرصهُ والتعب أنهكهُ على أثر ما قاساه من الركوب نهارهُ كلهُ مع ما ألم بهِ من التهيج والكدر في ذلك الليل فالتف بالعباءة جيدًا ونهض ومشى بالشاطئ وهو يحاذر أن تسمع خطواتهِ كأنهُ يخاف أحدًا ثم رأى النجوم تتوارى رويدًا رويدًا حتى لم يبق منها إلاَّ القليل وقد تضاءل ضوءها فعلم أن الفجر قريب. ثم بدا الشفق من وراء الأفق يطارد أشعة القمر وهو سابح في الفضاء كأنهُ يودع الليل على موعد. ورأى الأطيار خارجة من أوكارها بين مغرد ومرنم ومصفق ومرفرف ومحلق فمشى حماد والعمامة على رأسهِ وقد فسد هندامها لما قاستهُ من صدمات العباءة. أما العباءة فجعلها على كتفيهِ وشدها على صدرهِ يتقي البرد بها ولم تمض برهة حتى سمع دق الأجراس من كنائس الحيرة وأديرتها فأخذ يتفرس في الشاطئ لعلهُ يقف على أثر آخر من آثار هند ثم خاف أن ينزل أحد من أهل الحيرة ليغتسل أو يستقي فيراه في تلك الحال فهم بالرجوع وفيما هو يتحوّل سمع وقع حوافر فأجفل والتفت فرأى فارسًا خارجًا من سور الحيرة كأنهُ يطلب البحيرة ولم يقع نظره على الفرس حتى خفق قلبهُ لأنهُ يشبهُ فرس هند ولكنهُ لم ير فوقهُ سرجًا وقد ركبهُ غلام يشبه أن يكون خادمًا فوقف حتى دنا الفرس منهُ فتأملهُ فإذا هو فرس هند بعينهِ فبغت واستبشر وصاح في الغلام فوقف.

فقال لهُ: «إليَّ يا غلام».

فحالما رأى الغلام العمامة الحجازية خاف وأسرع نحوه.

فقال لهُ: «لمن هذا الفرس؟»

قال: «هو للأمير فلان».

قال: «ومتى اقتناه».

قال: «أول البارحة».

قال: «وممن اشتراه».

قال: «من بعض الرهبان عرضهُ للبيع في سوق الأربعاء».

قال: «وأنى للرهبان مثل هذا الفرس وهو من خيول الشام».

قال: «لقد تعودنا مشاهدة مثل هذه الخيول يا سيدي منذ قامت الحرب فكل قتيل لم يكن لهُ وارث وهبت أمتعتهُ وأسلابهُ للأديرة تنفقها في سبيل البر فكم من فارس قتل وظل فرسهُ تائهًا فاستولت عليهِ الديور وباعتهُ».

فلما سمع حماد ذلك أيقن بموت هند غرقًا في تلك البحيرة وتحول عن الغلام خشية أن يرى بكاءه وأطلق لدموعهِ العنان والشمس لم تشرق بعد. أما الغلام فلم يصدق أنهُ نجا من ذلك الحجازى فحوّل عنان الفرس وكان قادمًا ليسقيهِ فعاد ولم يسقهِ.

فلما خلا حماد بنفسهِ وقف عند الماء والعباءة تظللهُ ونظر إلى السماء وتنهد وقال: «أأطمع بعد ذلك بالبقاء … لمن أحيا وقد فقدت حياتي أأشرب الماء وقد غرقت فيهِ حبيبتي … ما الذي حملك على الانتحار يا هند أيأسك من لقائي ففضلت اللحاق بي إلى دار الأبدية وقد ظننت إني سبقتك إليها. فنحن على كل حال لا حق أثر سابق ولكن ويلاه أنفترق أعوامًا ونحن في جهاد وشقاء فإذا آن اللقاء وزالت العراقيل امتنعت علينا الحياة …» ثم سكت ونظر نحو الشمس فإذا هي لم تطل بعد فقال: «أأنتظر شروقك لعلك تأتيني ببشارة أم أنت لا تحملين إلاَّ البلاء والشقاء. دعيني أتوسد الماء قبل أن أرى وجهك». ونظر إلى الماء أمامهُ فإذا هو رقيق لا يغرقه فتحول إلى صخر رآه ناتئا فوق الماء على مقربة منهُ وقال: «الأولى بي أن ألقي نفسي من فوق ذلك الصخر» فمشى نحوه وفيما هو ذاهب شعر بجاذب في نفسهِ يمسكهُ عن الانتحار فاعتبر ذلك من قبيل الضعف الذي يتولى الإنسان إذا تحقق دنو الأجل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤