الفصل الثالث عشر

هرقل

وكان هرقل إذ ذاك في حمص جاءَها على أثر انتصاره على الفرس انتصارًا لم يكن يتوقعهُ فنذر أن يسير إلى بيت المقدس ماشيًا فوصل عبد الله إلى حمص وقد خرج هرقل منها على قدميهِ وفاءَ لنذرهِ والحارث بن أبى شمر الغسَّاني قد جاءَ حمص ليتولى تدبير ما يلزم لذلك المسير فكان هرقل يسير ماشيا والبطاركة والأساقفة بين يديهِ وقد لبس التاج وتوكأَ على الصولجان متزملًا بوشاح ارجواني مزركش وأمامهُ الحارث ورجالهُ يفرشون لهُ البسط في الطرق ليمشى عليها فسار عبد الله مخفورًا وراء الموكب من حمص إلى بيت المقدس ورأى الجند يحف بالموكب وكلهم مشاة يتقدم كل فرقة منهم علم في أعلاه نسر من الفضة أو صليب إلا سرية صليبها من الذهب مرصع بالياقوت والألماس كانت تحيط بالموكب عن قرب. وكان الناس في أثناء الطريق يخرجون من القرى والمدن لمشاهدة الإمبراطور ماشيًا وحاشيتهُ حولهُ يسيرون جميعًا على البسط والسجاد والناس يلقون الأزهار على الطرق وبعضهم ينثرها على الإمبراطور ورجالهِ وآخرون يرشون الطرق والمارة بالأرواح العطرية على أنواعها حتى وصلوا بيت المقدس وقد زَّينها أهلها وخرج البطريرك والأساقفة بالصلبان والمباخر يحرقون فيها البخور والند والعنبر ويسيرون بالمشاعل أمامهم فاستقبلوا الإمبراطور على مسافة خارج المدينة وعادوا بهِ بالتراتيل والأناشيد والصلوات والناس يزاحم بعضهم بعضًا يتسابقون لمشاهدة الإمبراطور وكانت شوارع بيت المقدس تعج عجيجًا بالمارة فضلًا عن المطلين من النوافذ والشرفات والأسطحة حتى وصل الموكب إلى كنيسة القيامة والنواقيس تدق والقسس يرتلون ويسبحون ثم أقيمت الصلاة شكرًا لله على ما أولاهم من النصر على أعدائهم الفرس.

كل ذلك وعبد الله وحراسهُ يرافقون الجماهير فلاحظ عند إشرافهم على أسوار المدينة أنها متهدمة وآثار منجنيق الفرس والروم لا تزال ظاهرة فيها حتى لحق معظمها بالأرض وما زالوا سائرين حتى أتوا دار الحكومة فساقوا عبد الله إلى السجن فلما أصبحوا ساروا إلى الحارث بن أبى شمر فبلغوه الرسالة وسلموا إليه عبد الله وحكوا لهُ حكايتهُ ودفعوا إليه الخاتم فحفظه حتى يعرضهُ على هرقل فبقي عبد الله في محبسهِ شهرًا لم يتمكنوا في أثنائهِ من تقديمهِ إلى هرقل لتزاحم الوفود من سائر الأنحاء يهنئون الإمبراطور بما أوتيهِ من النصر.

فلما تمت مهمة الحارث وهمَّ بالرجوع إلى بصرى تذكر عبد الله فاستأذن هرقل أن يدخل بهِ عليهِ فأذن لهُ فساقوه مخفورا إلى قاعة كبيرة بالقرب من الكنيسة أعدت لجلوس الإمبراطور ورجال دولتهِ قد أحدق بها الخفر بأسلحتهم وملابسهم الرسمية وقوفًا إجلالًا للإمبراطور فدخل أولًا الحارث ثم استدعى عبد الله فدخل القاعة وقد هالهُ ما فيها من مظاهر الأبهة والعظمة فشاهد الإمبراطور جالسًا في صدر القاعة على سرير من الذهب الخالص يكاد لمعانهُ يبهر الناظرين وعلى رأسهِ تاج مرصع يتلألأ كالمصابيح وعلى منكبيهِ وشاح من الخز سماوي اللون مزركش بالذهب وفى يده صولجان الملك وهي عصا طويلة من الذهب المرصع في أعلاها رسم النسر الروماني مرصع بالحجارة الكريمة. وكان هرقل كبير الجثة عظيم الهيبة زاد المشهد وقارًا وإلى يمينهِ بطريرك أورشليم بملابسهِ الرسمية وعصاه وإلى يساره سرجيوس بطريرك القسطنطينية وإلى كل من الجانبين القواد والأساقفة وسائر رجال الدولة على كراسٍ من الذهب وكانت أرض القاعة مكسوَّةَ بالسجاد المزركش والأبسطة الثمينة.

ورأى بين الأساقفة أسقفًا شاهده مرة في الحيرة وهو كيروس أسقف فاسيس في بلاد الأكراد وكان يسمع بسعة علمهِ ودهائهِ فعجب لوجوده هناك وازداد عجبًا لما رآه جالسًا بجانب البطريرك الأورشليمى في منزلة البطاركة ورأى بجانب البطريرك القسطنطيني بطريركًا لم يعرفهُ.

فلما دخل عبد الله هالهُ الموقف ولكنهُ تجلد وقد علمتهُ الأيام أن ما يراه من مظاهر الأبهة ليس إلا أعراضًا زائلة وأن الحق سلطان يعلو ولا يعلى عليهِ. ولم يكن من شأن الإمبراطور النظر في مثل هذه الدعوى الجزئية لولا ما همهُ من أمر الخاتم فأحب استطلاع أمره بنفسهِ فلما مثل عبد الله بين يديهِ خاطبهُ والحارث يترجم بينهما فتناول الإمبراطور الخاتم بيده وقال لعبد الله: «من أين أتيت بهذا الخاتم.»

فأجابهُ عبد الله مطرقًا: «قد جاءَني بطريق العرض يا مولاي فاشتريتهُ بالثمن.»

قال: «لا يعقل أن مثل هذا الخاتم يباع بالأسواق أو يلقى على الطرق وهب أنك وجدتهُ على قارعة الطريق ألم يكن الأجدر بك تسليمهُ إلى صاحبهِ.»

فقال عبد الله: «مولاي يعلم أن صاحب هذا الخاتم إذا صح أنهُ النعمان بن المنذر عامل كسرى على الحيرة فهو في عداد الأموات منذ نيف وعشرين سنة.»

قال الإمبراطور: «أليس من أبنائهِ أحد حيًا تسلمهُ إليه.»

فسكت عبد الله.

فقال الإمبراطور: «ما بالك لا تجيب أجب ولا تخف وهب أنك جاسوس أو شبه جاسوس فنحن لا نخاف الجاسوسية بعد أن منحتنا العناية الصمدانية أكاليل النصر على أكاسرتكم.»

فقال عبد الله: «لقد نطق مولاي ببراءتى من الجاسوسية من تلقاء نفسهِ والحمد لله إذا لم يبق ثم حاجة إليها والصلح قد عقد بين جلالتهِ وكسرى ملك الفرس بعد أن كان ما كان من ظهوره عليهِ.»

قال هرقل: «نعلم ذلك ولكننا شديدو الرغبة في معرفة كيفية وصول هذا الخاتم إليك وسبب إقامتك بجوار بصرى كل هذه المدة متنكرًا على ما علمت من عاملنا هناك.»

فظلَّ عبد الله مطرقًا ولم يجب.

فقال الإمبراطور: «قل يا رجل قل فإن هرقل امبراطور الروم يخاطبك.»

فجثا عبد الله عند قدمي الإمبراطور كأنهُ يحاول تقبيلهما وقال: «أنا أعلم ذلك يا سيدي ولكنني لا أستطيع التصريح بأكثر مما فهتُ بهِ بين يديك.»

قال: «إذن أنت تكتم أمرًا تحاذر أن تبوح بهِ.»

قال: «أَجل لقد صدق مولاي.»

قال: «أتكتم ذلك عن إمبراطور الرومانيين أَلا تخاف بطشهُ أو تخشى الحكم عليك بالإعدام.»

قال: «لا أَظن أحدًا يخاف الموت ولكنني أفضلهُ على التصريح بهذا السر وها أني بين يديك فأمر بما تشاء.»

فعجب هرقل لهذا الإصرار وقال: «يا للعجب أتقول ذلك ولا تخاف.»

قال: «أني على يقين يا مولاي بأن موتى وحياتى بين شفتيك ولكنني لا أستطيع غير ذلك.»

فإلتفت هرقل إلى من حولهُ من البطاركة والأساقفة والقواد وقال: «ما قولكم بهذه الجسارة فإني أراني أزداد ميلًا لمعرفة سرّ هذا الخاتم.» فإلتفت البطريرك الأورشليمى إلى عبد الله وحرضهُ على الإقرار عبثًا وفعل مثل ذلك أيضًا البطريرك الأنطاكى وغيرهما بلا جدوى.

فأراد هرقل تهديده فأمر بالجلاد فجاءَ والسيف بيمينهِ فقال لهُ: «ائتني برأس هذا الرجل» فقاده إلى باحة الكنيسة وعبد الله يسرع أمامهُ لا يتردد لحظة فربط عينيهِ وأركعهُ على نطع ودار حولهُ دورة والإمبراطور يراه من داخل فلما دار الدورة الثانية استقدمهُ هرقل وأمر بحل رباط عينيهِ وقال لهُ: «ألا تزال مصرًا على الكتمان.»

فقال عبد الله: «أقسم برأس مولانا الإمبراطور وسر التثليث المقدس أن ليس في أمر هذا الخاتم ما يمس جلالتكم بوجه من الوجوه ولكن كتمانهُ فرض عليَّ واجب لا أستطيع التحوُّل عنهُ.»

فازداد الإمبراطور استغرابًا وقال لمن حولهُ: «وكيف العمل إذًا.»

فقال عبد الله: «إذا أذن مولاي في أمر يكون فيهِ راحة لخاطره فعلتهُ.»

قال: «وما هو.»

قال: «إننا معشر النصارى نحترم سرّ الاعتراف فإذا شئتم أن أبوح بسر هذا لغبطة البطريرك الأورشليمى على شرط أن يشير إلى جلالتكم في علاقة هذا السرَّ بكم أو عدمها بغير أن يصرح بتفاصيل قصتى فإذا قال لكم أن لا علاقة لها بكم تحققتم صدق قولي وعذرتمونى على كتمانهِ.»

قال: «لا بأس من ذلك.» وأشار إلى البطريرك فخلا بعبد الله في الكنيسة ساعة أطلعهُ فيها على سرّ ذلك الخاتم.

ولما همَّا بالرجوع إلى القاعة قال عبد الله: «أرجو من مولاي البطريرك أن يخبرنى عن البطريرك الجالس بجانب البطريرك سرجيوس من هو.»

قال: «هو اثناسيوس بطريرك اليعاقبة ومقامهُ في الأسكندرية وقد جاءَ لمقابلة الإمبراطور ولعلهُ يغتنم الفرصة للمداولة معهُ بما هو جار من الاختلاف المذهبى بين الملكية واليعاقبة في القطر المصري.»

فقال: «وهل ذلك الاختلاف لا يزال متمكنًا فقد بلغنا أنهُ كاد يزول.»

فتنهد البطريرك وقال: «ظنناه كاد يزول ولكنهُ لم يزل فإن مولانا الإمبراطور رجل حازم ذو رأى سديد وقد علم بعاقبة هذا الانقسام فلاح لهُ أن يختلق وسيلة للتوفيق بين القائلين بالطبيعتين والمشيئتين والطبيعة والمشيئة فاستعان بالبطريرك سرجيوس القسطنطينى فاستنبط منذ بضع سنوات عقيدة متوسطة وهي الاعتراف بطبيعتين في المسيح لهما مشيئة واحدة وفعل واحد وعرض عقيدتهُ هذه على البطاركة والأساقفة فقبلها أكثرهم. وفى عزمهِ أن ينقل البطريرك اثناسيوس إلى كرسي أنطاكية ويرسل الأسقف كيرلس إلى الأسكندرية فيجعلهُ بطريركًا ووليًا عليها ولعلهُ يقصد بذلك التوفيق بين الكرسيين الأنطاكي والاسكندري ولكنني لا أظنهما يتفقان فإن التعصب متمكن من الجانبين وليست هذه الاختلافات في اعتقادى إلا مماحكات لفظية يتمسك بها بطاركتنا إلتماسًا للسلطة الدنيوية ولكن هذه إرادة الله فما أجمل المملكة المسيحية إن تكون مذهبًا واحدًا نقول قولًا واحدًا تأييدًا لدولة الروم العظمى فقد كفانا ما نجم عن هذه الاختلافات من الأحن والمصائب ولا نزال نتوقع ما هو فوق ذلك فنطلب إلى الله أن يلطف بعباده.»

فعجب عبد الله لهذه الاختلافات وأعجب برغبة هرقل في جمع كلمة رعيتهِ وتحقق ما سمعهُ عن تأنيهِ وحزمهِ ولكنهُ لم يكن يرجو لهُ الفوز ببغيتهِ لما يعلمهُ من تمكن الشحناء بين الأحزاب ثم قبلَّ يد البطريرك وخرجا.

وفيما هما عائدان نحو القاعة شاهد الحرس في هرج وبينهم رجل غريب بلباس أهل البادية ليس عليهِ غير الشملة والعمامة تقلد حسامًا أعقف وحمل رمحًا وحربة وقد علاه الغبار ولوحتهُ الشمس وظهرت على وجههِ آثار الأسفار وكان عبد الله خبيرًا بقبائل العرب لكثرة اختلاطهِ بهم فلاح لهُ أن الرجل من أهل الحجاز فعجب لمجيئهِ وليس في بيت المقدس كلهِ أحد في مثل لباسهِ وشكلهِ ولولا اشتغالهُ بأمر نفسهِ لخلا بهِ وسألهُ عن حالهِ ولكنهُ اضطر لمرافقة البطريرك إلى قاعة الإمبراطور فدخلا وجلس البطريرك في مجلسهِ ووقف عبد الله في موقفهِ.

فقال هرقل للبطريرك: «كيف رأيت الرجل؟» قال: «رأيتهُ صادقًا وفى لهجتهِ وهو معذور في كتمان أمره وأمر هذا الخاتم وقد أطلعنى على خلاصة حكايتهِ فإذا هي مستقلة عن جلالتكم ولا علاقة لها بالروم قاطبة ولكنه سر مقدس أقسم على كتمانهِ فلا يستطيع التصريح بهِ إلا في حينهِ.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤