الفصل الثاني والعشرون

عوامل الغيرة

تركنا ثعلبة بعد ذهاب عبد الله في بصرى وفي نفسهِ غلٌّ على هند لا يهدأَ لهُ بال إلَّا بالإيقاع بحماد فبثَّ رجالهُ في ضواحي المدينة للبحث عنهُ فلم يقف لهُ على خبر فأنفذ نفرًا من خاصتهِ سرًّا يتجسسون حال عبد الله بعد ذهابهِ إلى هرقل فأنبأوه بما كان من عفو الإمبراطور عنهُ ومسيره مع أبى سفيان ولكنهم لم يعرفوا عنهُ شيئًا بعد ذلك لأنهم لم يتجرأوا على مرافقة القافلة خوفًا من انكشاف أمرهم.

أما ثعلبة فإنهُ اندفع بعوامل الغيرة على الإنتقام من حماد وإيقاع الأذى بهند وشعر بانعطاف إليها لا حبًا بها بل رغبة منهُ في أن يحرمها من حبيبها وقد تكون تلك الغيرة سببًا للحب الحقيقي على ما نراه عادة في الناس فقد يعاشر الشاب فتاة أعوامًا لا يهمهُ من أمرها شيئًا ولا يخطر لهُ الاقتران بها وربما كان في نفسهِ ترفع عنها وقد يزعم أنها لو عرضت عليهِ لا يرضاها فإذا آنس منها ميلًا إلى غيره أو رأى غيره ميالًا إليها وخصوصًا إذا كان الحب متبادلًا بينهما فإن عوامل الغيرة تثور في قلبهِ ويتحول حبهُ الفاتر إلى شغف شديد ولا يرتاح لهُ بال إلَّا بنيلها ولا يقتصر ذلك على هذا النوع من الحب ولكنهُ يتناول سائر أنواعهِ فقد ترى عقارًا أو متاعًا معروضًا للبيع ولا يهمك إبتياعهُ فإذا رأيت الناس يقبلون عليهِ آنست في نفسك ميلًا إلى شرائهِ والظاهر أن ذلك غريزي في الناس على إختلاف أدوار حياتهم فإذا أردت أن تطعم الطفل شيئًا لا يحبهُ نفر منهُ فإذا تظاهرت بإعطاء ذلك الشيء إلى سواه رأَيتهُ يطلبهُ بلجاجة ويتناولهُ بلذة.

فثعلبة لم يكن يهمهُ أمر الزواج بهند ولا هو أحبها حب الزواج إلَّا بعد ما آنس من ميلها إلى حماد فدفعتهُ عوامل الغيرة إلى الإقتران بها ولكن خبث فطرتهِ جعل ذلك الميل مقرونًا بالإنتقام ولما لم يجد سبيلًا إلى ذلك بالقوة عمد إلى الحيلة فحدثتهُ نفسهُ أن يشكوها إلى والديها ويكشف لهما ما كان من إنفرادها بحماد في الدير ولكنهُ خاف أن تكون تلك الوشاية سببًا لغضب عمهِ حتى ينقلب عليهِ لعلمهِ بمنزلة هند عنده فربما صدقها وكذبهُ ورغب في حماد عنهُ. فلم يرَ سبيلًا إلى شفاء غلهِ إلَّا بخطبتها من أبيها وهو يعلم أن والدها لا يردهُ فلما عاد أبوه من بيت المقدس بسط لهُ عزمهُ على الإقتران بها لما بينهما من رابطة القرابة فسرَّ أبوه بذلك ووعده أن يخاطب جبلة في الأمر.

فركب ذات يوم إلى البلقاء في موكبهِ وحاشيتهِ فاستقبلهُ جبلة بالتجلة والإكرام وإن يكن في نفسهِ منهُ غيرة لإحرازه الوجاهة عليهِ لدى هرقل فلما إلتقيا ودار الحديث بينهما ذكر الحارث رغبتهُ بمصاهرتهِ فأبدى لهُ ارتياحًا ووعده بتمام الأمر قريبًا وهو غافل عما تضمره هند من البغض لثعلبة والاشتغال بحب حماد.

فلما رجع الحارث إلى بصرى خلا جبلة بإمرأَتهِ تلك الليلة وذكر لها حديث الحارث فلم يسمع منها إيجابًا ولا سلبًا لعلمها بما في نفس ابنتها من الاحتقار لثعلبة ولكنها استمهلتهُ ريثما تطارح الفتاة وتطلع على رأيها وإن تكن عوائدهم لا تبيح للبنات حق الإختيار في مثل هذا الشأن ولكن هندًا كانت متغلبة على عواطف والدها حائزة على نفوذ يؤذن بمراجعتها واستشاراتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤