الفصل الرابع والثلاثون

ثعلبـة

أَما ثعلبة فدبر ما دبره وهو على ثقة من رضاء هند بهِ ولو قسرًا ثم علم بضياع عبد الله وترجح لديهِ مقتل حماد مما نقلهُ إليهِ جواسيسهُ الذين أنفذهم في اثر عبد الله عند خروجه من بيت المقدس وذلك ما كان يتمناه فهمدت غيرتهُ على هند لأنهُ إنما طلب الاقتران بها ليمنعها من حماد فلما علم بمقتلهِ ود الرجوع عن طلبهِ لتبقى منغصة العيش فتخسر الاثنين معًا فاخذ يترقب فرصه يؤجل بها الاقتران ثم يسعى في سبيل ينتقم بهِ من هند وكانت تحدثهُ نفسهُ أنها إذا قبلت هي بهِ أجابها بالتأجيل والوعود حتى تموت كمدًا إلَّا إذا علم بعد ذلك أن حمادًا لم يقتل فيعود إلى طلبها.

ولم يكن والده يعلم بحقيقة مراده فكان يستعجل جبلة في أمر الاقتران ظنًا منهُ أن ذلك يسر ابنهُ ويجعل عيشهُ سعيدًا فلما سمع بمجيء الحجازيين إلى عمان سار بنفسهِ إلى جبلة وألح عليهِ بأمر الاقتران قبل انتشاب الحرب كما تقدم ثم تواردت عليهم الأخبار بإقلاع أولئك العرب من عمان وشخوصهم إلى البلقاء وبلغ ذلك ثعلبة فجاءَ إلى والده وتداولا في إعداد المعدات وتحصين الحصون في حدود البلقاء فجرَّهم الحديث إلى هند والاقتران بها فاخبره والده انهُ استعجل جبلة في استجواب هند بشأن الاقتران وإنهُ لا يشك بقبولها وأوعز إليه أن يستعد للاقتران على ابسط الطرق بلا احتفال إلى ما بعد انتصارهم فيكون الفرح مزدوجًا.

فصمت ثعلبة برهة كمن يفكر في أمر همهُ ثم قال: «أن حالنا الحاضرة يا أبتاه لا تؤذن لنا بالاحتفال كما قدمت فلا أرى أن نستعجل بالاقتران ولا بأس من تأجيلهِ حتى تنقضي الحرب.» فعجب والده لجوابهِ بعد ما آنسهُ من الحاجة قبلًا ولكنهُ حمل ذلك منهُ على رغبتهِ في الحرب فاستحسنهُ وقال لهُ: «أراك تفضل الاشتغال بدفع الأعداء على نيل ما طالما كنت تتمناه وهي شهامة غسَّانية نذكرها لك.»

وكان الحارث يفضل التأجيل أيضًا ولكنهُ كان يلح على جبلة رغبة في إرضاء ابنهِ على انهُ خاف أن يكون في ذلك ما يسئ جبلة أو يكدر العلائق بينهما فقال: «وماذا نجيب عَّمك لو أجابنا بالقبول.»

قال: «نجيبهُ إننا في حال حرب لا تؤذن بالاقتران.»

قال: «ولكننا كنَّا في مثل هذه الحال يوم جئتهُ وألححت عليهِ بطلب الفتاة وقد اعتذر إليَّ بحال الحرب فأجبتهُ إننا نود الفراغ من الاقتران قبل انتشابها فكيف نعود إليهِ بهذا العذر ألا تظن في ذلك ما يحملهُ على إساءَة الظن.»

قال: «لا يهمنا ساءَه هذا الأمر أو سره فإننا نريد التأجيل.»

فعجب الحارث لطيش ابنهِ وتغافلهِ عن حقيقة العلائق بينهُ وبين عمهِ فقال لهُ: «ألا تعلم يا ولدي أن مثل هذه الظنون تسوق إلى حرب بيننا وبينهُ فإذا كنت غافلًا عن ذلك فما أنا بغافل وعلى كل فان المسأَله دقيقة تحتاج إلى دقة نظر وحسن أسلوب.»

فلبث ثعلبة برهة يفكر وقد انتبه لحرج المقام وكانت الغيرة والانتقام قد غشيا بصره فقال لوالده: «ولكن حال اليوم غير ما كانت عليهِ يوم استعجلت جبلة في الاقتران فقد كان الأعداء إذ ذاك في عمان وهم قد اقلعوا الآن من هناك وتحركوا نحو البلقاء فاجعل ذلك سببًا للتأجيل.»

فرأَى الحارث في كلام ثعلبة بعض العذر فعوَّل على الالتجاء إليهِ في مخاطبة جبلة.

وفيما هما في ذلك جاءَهما رسول من جبلة يستقدم الحارث للمداولة بشأن الحرب.

فقال الحارث: «ها إني ذاهب إلى البلقاء لنرى ما تمَّ من رأى جبلة بشأن الحرب وإذا خاطبني في أمر هند عمدنا إلى التأجيل كما قدمنا فاشتغل أنت بتدبير الجند واكتب إلى الأمراء أن يجمع كل منهم رجالهُ تحت رايتهِ ويتهيأوا للحرب عند الحاجة وإذا رأَيت فيهم تقاعدًا استحثهم واستنهض هممهم وادفع إليهم ما يحتاجون إليهِ من المال واستشر في ذلك البطريق رومانوس فانهُ قد أوعز لي أن اجمع عشائر غسَّان التابعين للوائنا ولا بد من انهُ قد كتب إلى جبلة بمثل ذلك أيضًا فكن على استعداد وان تكن حالنا مع أولئك الحجازيين لا تستدعي كبير اهتمام.»

فقال ثعلبة: «أني عامل على ما تريد ولكنني أرجو أن تتمم ما تكلمنا فيهِ من تأجيل الاقتران.» فوعده بذلك وركب وركبت حوله رجال حاشيتهِ وسار قاصدًا البلقاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤