الفصل التاسع والثلاثون

الوداع

وفي الصباح التالي أصبحت هند كئيبة حزينة وأحست بلهفة وجزع لم تشعر بهما قبلًا فكانت كلما نظرت إلى حماد خيل لها أن أحدًا يحاول اختطافهُ من بين ذراعيها فيضطرب قلبها وتسودُّ الدنيا في عينيها فحدثتها نفسها لأول وهلة أن يتواطأ على رفض أمر القرطين ولكن الأنفة وعزة النفس اعترضتاها فصبرت نفسها متعللة بالآمال.

فلما أشرقت الشمس كانت الخيول قد أعدت لركوب حماد وسلمان إلى البلقاء مع بعض الفرسان من أهل القصر فنهض حماد لوداع هند ووالدتها وكانتا تنتظرانهِ في غرفة الضيافة فدخل وهو في لباس السفر فوقفت لهُ هند وركبتاها ترتجفان فمد يده إليها فمدت يدها فأمسكها فأحسَّ بها باردة كالثلج ونظر إلى وجهها فإذا بهِ قد امتقع لونهُ فلما خاطبها خطاب الوداع تناثر الدمع من عينيها بغتة وجذبت يدها من بين أناملهِ بلطف وأطرقت ولم تجب فعلم أنها إنما فعلت ذلك خوفًا عليهِ من هذا السفر الخطر.

فإلتفت إليها مبتسمًا وقال: «ما بالي أرى هندًا خائفة وعهدي بها تنافس أشجع الرجال وتسابق أفرس الفرسان.»

فنظرت إليه بطرف عينيها وتنهدت تنهدًا عميقًا ولبثت صامتة ولسان حالها يقول: «أن مسابقة الفرسان شيء ومفارقة الأحباب شيءٌ آخر.»

فأدرك حماد مرادها ولكنهُ خاف إذا طال وقوفهُ أن يخرجه الغرام عما يليق بهِ في ذلك الموقف فتحوَّل لوداع سعدى ثم عاد إلى هند فودعها وتبسم لها فتبسمت مجاراة لهُ ولكن قلبها لم يفرح فقال لها: «ادعي لنا بسلامة العود فإذا عدنا كما أردنا كان حماد أهل لهند فلا تخشى هي أن تذكره ولا تخجل إذا ذكره سواها وأما إذا لم ….»

فقطعت هند كلامهُ على عجل وقالت وهي تتلجلج بكلامها: «لا تقل (إذا) فإنك ستعود إلينا سالمًا بإذن الله.» ثم غلب عليها الضعف فتناثرت الدموع من عينيها وهي تحاول إخفاء عواطفها أمام والدتها.

أَما سعدى فرأَت من الحكمة أن لا تطيل الوقوف على هذه الصورة فقالت: «سر يا ولدي بحراسة الله وهو ينيلك بغيتك على أهون سبيل فتعود إلينا سالمًا وقد التقيت بوالدك.»

فأثنى على لطفها وودعها وقبل يدها وخرج إلى الحديقة وكان سلمان في انتظاره هناك وقد هيأ الموكب فلما خرج مولاه وسعدى وهند تتبعانهِ تقدم إليهما وودعهما وهو على غير ما آنساه منهُ صباح الأمس من انبساط النفس والمجونْ ولكنهُ تظاهر بالامتنان والانبساط وأركب حمادًا ثم ركب هو وباقي الموكب وخرجوا قاصدين البقاء وهند وسعدى واقفتان تنظران إليهم أما هند فلم يكد حماد يدير عنان جواده حتى غلب عليها اليأس وشعرت بما دبره والدها فتحوَّلت إلى غرفتها وأخذت في البكاء وجعلت تندب سوءَ حظها وحظ حماد فتبعتها والدتها وهي تخفف عنها وتصبرها بالوعود.

فقالت: «دعيني يا أماه ها قد نفذ السهم وقضي الأمر أن حمادًا قد سار إلى مكان لا نرجو عودة منهُ وقد كان الأجدر بكم أن ترفضوا طلبهُ بدلًا من ارسالهِ في هذه المهمة.»

قالت ذلك وهي تبكي.

فقالت سعدى: «خلي عنك الأوهام أن حمادًا شجاع باسل وخادمهُ سلمان خبير بكل شيء فلا يعسر عليهما العود بالقرطين وفي ذلك فخر لك ولنا ومنجاة من أثقال ثعلبة وأبيهِ على الأقل.»

فلما سمعت اسم ثعلبة تذكرت ما قاستهُ من مساعيهِ فهان عليها ما يقاسيهِ حماد في سبيل إنقاذها منهُ فسكتت والهواجس تتقاذفها.

أَما حماد فما زال حتى أتى البلقاءَ وسلمان صامت لا يفوه بكلمة وكان حماد يبالغ في إظهار ارتياحه إلى تلك السفرة وآمالهِ في عواقبها.

وكانت البشائر قد سبقتهما إلى جبلة تنبئهُ بمجيء حماد والناس يحسبونهُ أميرًا جاءَ لغرض يتعلق بالحرب لأن الروم كانوا قد خابروا كل القبائل المجاورة يلتمسون نجدتهم في حرب الحجازيين.

أما جبلة فعلم أنهُ جاءَ لأمر يتعلق بخطبتهِ فأذن بدخولهِ عليهِ في خلوة فلما التقيا بهِ همَّ حماد بتقبيل يدي جبلة فانحنى جبلة لتقبيلهِ ثم جلسا وجبلة يرحب بهِ فقال حماد: «قد جئت يا عماه أشكرك على ما تكرَّمت بهِ عليَّ من الرضا وألتمس دعاءَك في ذهابي إلى مكة فإني شاخص إليها على عجل.»

فقال جبلة: «رافقتك السلامة في المسير والإقامة وجعل الله مسيرك سعيدًا ولا حرمك مما تريد ولكنني أوصيك يا ولدي أن تبقي ما دار بشأن هند مكتومًا حتى تعود لئلاَّ يسبب لنا ذلك مشقة وربما حال دون ما نحن ساعون فيهِ.»

فأدرك حماد مراده فودعه بالكتمان ثم قال: «معي خادم بل هو رفيق يود تقبيل يديك قبل السفر لأنهُ سيرافقني ويكون عونًا لي فهل يأذن مولاي بمثولهِ بين يديهِ.»

قال: «ليدخل.»

فخرج حماد ثم عاد وسلمان معهُ فتقدم سلمان إلى جبلة وقبل يده ولبثوا هنيهة يتحدثون في ما لم يخرج عن الموضوع من تشجيع وتحبيب الأمر إليهِ ثم نهض حماد وسلمان وودعا جبلة وخرجا يريدان خيمتهما عند الشيخ النبطي وكل منهما في هاجس.

أما سلمان فلم يكن راضيًا بما رآه وسمعهُ ولكنهُ رأى حمادًا راضيًا بهِ مصممًا على تنفيذه فلم يشأ تثبيط عزائمهِ وعوَّل في باطن سره على أن يبذل جهده في مساعدتهِ إلى آخر نسمة من حياتهِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤