الفصل التاسع والأربعون

المناجاة

تركنا حمادًا وسلمان في مكة وقد غلب عليهما اليأس بعد أن تكبدا مشاق الأسفار ولم يظفرا بشيء مما أملاه وخصوصًا حماد فأنهُ أصبح يئسًا تتقاذفهُ عوامل الحب من جهة وعوامل الشهامة من جهة أخرى وهو بين ذلك لا يرجو لقاء والده ولا يأْمل الظفر بحبيبتهِ فكان كلما تصوَّر ذلك ثارت الحمية في رأسهِ وعظم عليهِ العود إلى البلقاء فحدثتهُ نفسهُ أن يبتعد عن الناس ويأْوي إلى مكان لا يعرفهُ فيهِ أحدًا وأن يقيم في دير أو نحوه لأن الحياة أصبحت لديهِ شرًا من الموت.

أَما سلمان فأنهُ أدرك حال سيده وعلم ما هو فيهِ من اليأس فثارت في نفسهِ عاطفة الشهامة وعوَّل على أن يبذل نفسهُ في سبيل تعزيتهِ فخرج من الغرفة ذات صباح متظاهرًا بحاجة يفتش عنها وترك حمادًا وحده فلما خلا حماد بنفسهِ خرج من الغرفة وصعد إلى سطح الخان وقد ضاق صدره وصغرت نفسهُ والسطح تظللهُ خيمة من ورق الشجر فجلس على وسادة وأخذ ينظر إلى مكة وما يحيط بها فإذا هي عبارة عن أرض منبسطة في واد تحف بهِ الجبال فلم تشغلهُ تلك المناظر إلاَّ هنيهة ثم عاد إلى هواجسهِ فتذكر حبيبتهُ ووالده وتصوَّر مقدار ما تراكم عليهِ من الهموم مما ألمّ بهِ من الفشل وقد قطع البراري والقفار حتى جاءَ الكعبة للبحث عن قرطي مارية مهرًا لخطيبتهِ هند ومرضاة لوالديها فعلم من حرب الخزاعي أن القرطين لا يمكن العثور عليهما هناك وبعد أن كان على أمل من لقاءِ والده مع أبي سفيان في مكة تحقق ضياعهُ ويئس من حياتهِ فتصوَّر نفسهُ مغلول اليدين مقصوص الجناحين فعظم الأمر عليهِ كثيرًا واشتد بهِ اليأس حتى تناثرت الدموع من عينيهِ ثم تذكر أنهُ في غربة لا يجدر بهِ الاستسلام للعواطف فأمسك نفسهُ ولكن اليأْس غلب عليهِ فانقبضت نفسهُ واشتد بهِ الهيام فأخذ يناجي هندً قائلًا: «آه منك يا هند بل آه من هذا القلب الذي عصاني وأطاعك ونعمَّ ما فعل فإنك والله جديرة بحبهِ ولكن والدك آه من والدك فأنهُ إنما أراد مستحيلًا فطلب مني مهرًا العنقاءُ أقرب منالًا منهُ وكأَني بهِ لا يرضاني لهُ صهرًا وعذره مقبول طالما كان نسبي مجهولًا … فالقرطان لم يوجدا فهند بعيدة المنال مني آه يا هند أَأعود إليك بصفقة المغبون وإذا عدت كذلك ما يكون رأيك … لا ريب عندي أن ذينك القرطين لا يهمك أمرهما ولا رضيت أن أشقى في سبيل التفتيش عنهما إلاَّ مجاراة لوالديك … ولكن ما هذا يا حماد كيف تعود إلى هند صفر اليدين وكيف تقابل جبله وماذا تقول لهُ لا لا لا لن أعود إلى البلقاءِ على هذه الحال وقد فقدت والدي في بلاد لا أعرف فيها أليفًا ومن يدريني أين هو وأين النذر ووفاء النذر يا ليتهُ قص شعري قبل ضياعه فقد كنت على موعد منهُ أنهُ متى وفى النذر وقص الشعر يطلعني على أمور تهمني وقد يكون لها علاقة بأمر زواجي فأين والدي الآن آه يا أبتاه أين أنت أَلعلك لا تزال في قيد الحياة من يعلمني أين مقرَّك فأطير إليك مسرعًا أَما إذا يئست منك ومن هند فلا يعود لي في الحياة مأرب فإما أن الجأ إلى دير أو صومعة أَقضي بقية الحياة منفردًا لا أرى أنيسًا أو أن ألقي نفسي في تهلكة … ولكن لا لا أن قتل النفس ضعف ومذلة وكيف أفعل ذلك ونفسي رهينة أمر هند وهند لا تريد قتلها إذن لأصبرنَ صبر الرجال وأعيد الكرة في البحث عن القرطين فإذا تيقنت فقدانهما عمدت إلى هند وبسطت لها أمري وأطلعتها على كنه ضميري فإذا رأَيتها تؤَثر مرضاة والديها وحفظ تقاليد عائلتها على رضاي قلت على الدنيا ومن فيها السلام وإلاَّ فإني أرضى من الدنيا برضاها فنتعاقد ونتراضى على أمر يكون لنا فيهِ منجاة من والديها … وأما والدي آه أين أنت يا أبتاه إن ضياعك عرقل مساعيَّ وغل يديَّ ولا ريب أنك لو شاركتني في هذا الأمر لسهلت كل صعب وهديتني صراطًا مستقيمًا … ولكن الأقدار أبت إلاَّ معاندتي فصبرًا جميلًا …»

مرَّت كل هذه الخيالات في ذهن حماد وهو متكئ على الوسادة تارة يبكي وطورًا يحرّق أسنانه وآونة يصبر نفسهُ وكان لم ينم في الليل الماضى إلاَّ قليلًا فغلب عليهِ التعب والملل والضجر فجاءَه النعاس فغمضت جفناه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤