الفصل الحادي والخمسون

اللقاء

فباتوا تلك الليلة في منزل حسان وأصبحوا جميعًا قاصدين المدينة وحسان يطرفهم في أثناء الطريق بلطائف منظوماتهِ في مدح ملوك الحرية وملوك غسان وحماد يستزيده مما نظمهُ في جبلة بن الايهم ويطرب كل بيت يسمعهُ ولم يكن ذلك إلاَّ ليزيد أشجانه ويذكره بخطيبتهِ هند ثم تذكر ثعلبة وأباه الحارث بن أبي شمر فقال: «وكيف رأيت الحارث بن أبي شمر؟»

قال: «رأيتهُ كريمًا محبًا للشعراء ولكنهُ كان حاسدًا لجبلة فكنت إذا مدحت جبلة في حضرتهِ كان الحسد يظهر على وجههِ مع ما كان يحاول إخفاءه من عواطفهِ».

فتحقق حماد أن ثعلبة إنما ورث ذلك الخلف عن والده وزاد عليهِ اللؤم والخساسة ولما تذكر ذلك غلب عليهِ الانقباض وأوجس خيفة على هند من غدرهِ أثناء غيابهِ وخصوصًا إذا عاد خالي الوطاب فاستولى عليهِ السكوت فأدرك سلمان منهُ ذلك فأراد إخفاء الأمر عن حسان فقال: «وكيف رأيت جبلة».

قال: «رأيتهُ شهمًا عزيز النفس كريم الخلق كثيرًا ما عرضت بحسد الحارث أمامهُ وهو لا يبالي بل كان يلتمس لهُ عذرًا ويغالطني متجاهلًا فكنت لا أزداد إلاَّ إعجابًا بهِ».

فقال سلمان: «وأي الملكين أشد بطشًا الآن؟»

قال: «إن جبلة أرفع مقامًا وأعز جانبًا ولكن بعض القادمين علينا من البلقاء أنبأنا بوفاة الحارث».

فبغت سلمان وانتبه حماد من هواجسهِ فقال سلمان: «وهل تحققتم وفاتهُ».

قال: «نعم وقد نقلهُ إلينا بعض الذين أرسلناهم لتجسس أحوال الروم بعد واقعة مؤْتة».

فالتفت سلمان إلى حماد فرآه يبتسم ولكن البغتة ما زالت ظاهرة على وجههِ يتخللها بعض الانقباض فأشار إليه بملامح وجههِ إشارة فهم حماد منها أنهُ يهنئهُ بانكسار شوكة ثعلبة لكنه تحوَّل حالًا إلى حسان وقال لهُ: «وما ظنك بمن يرث الإمارة بعده».

قال: «لا أظن أحدًا من أهلهِ أهلًا لهذه الإمارة والغالب أن تجتمع كلمة قبائل غسان تحت لواء جبلة بن الايهم».

فانشرح صدر حماد ولكن أمر القرطين ما زال حاجزًا بينهُ وبين كلْ سرور.

وساروا حتى أتوا المدينة فوصلوها صباحًا فوجدوا أهْلها في فرحِّ وعز لما أوتوه من النصر بفتح مكة المشرفة ورأَوا الناس عكوفًا على الصلاة وما زالوا سائرين حتى أناخوا جمالهم أمام منزل حسان فهمَّ الخدم بحمل الأمتعة إلى المنزل وأخذوا الجمال إلى العلف ونزل سلمان وحماد وقد أعجبوا بما آنسوه من عكوف المسلمين على الصلاة وما رأوا من خشوعهم وتدينهم فضلًا عما شاهدوه من بسالتهم في فتحهمْ مكة.

أما حسان فلم يكد يصل منزلهُ حتى طلب الراحة من وعثاء السفر لشيخوختهِ وعجزه ودعا ضيفيهِ إليه فجلسا متأدبين فقال لهما: «تذكرت أمرًا أظنهُ يهمكما كثيرًا وقد فاتني ذكره لكما قبل الآن».

قال سلمان: «وماذا عسى أن يكون ذلك».

قال: «ذكرت لكم واقعة مؤتة وأظنكم لم تفهموا ما هي».

قال سلمان: «كلَّا يا سيدى لم نفهم المراد جيدًا».

قال: «كان رسول الله أرسل جندًا من المسلمين لحرب الغسانيين في العام الماضي فسار الجند وحاربهم في مكان يقال لهُ مؤْتة بالقرب من بصرى وستسمعون خبر هذه الواقعة الآن ولكنني أردت أن أوجه التفاتكم إلى رجل أسره جندنا في أثناء تلك الحملة وقد حملوه إلينا فلما رأيتهُ معهم عرفت أنهُ أُسر ظلمًا ولما سالتهُ عن خبره علمت أنهُ ليس من أهل البلقاء بل هو عراقي ومن أهل الحيرة ذكر أنهُ كان يراني أثناء وفودي على الملك النعمان منذ نيف وعشرين عامًا وبما أنكم من أهل العراق فربما استأْنستم بالرجل والوطن أحسن جامعة بين الناس» قال ذلك ونادى رجلًا واقفًا بالباب فحضر فقال لهُ: «أدعُ ضيفنا العراقي».

قال: «لبيك» وخرج ثم عاد يتبعهُ رجل كهل ملتف بعباءة مقطب الوجه وكان حماد وسلمان لا يزالان مخمرين خمار السفر فحالما وقع نظر سلمان على ذلك الرجل أحس بخفقان قلبهِ كأنهُ آنس فيهِ مشابهة لسيده عبد الله ولكنهُ رأَى في سحنتهُ ملامح تخالف ما لعبد الله أَهمها أن عبد الله كان طويل الشاربين مستدقهما ومسترسل شعر اللحية مع خفية أما هذا فهو قصير الشاربين واللحية على أن سلمان ما زال ينظر إليه ويتأملهُ حتى دنا منهُ فوقف لهُ وهمَّ بمصافحتهِ فلم يكد يفوه بأَول كلمة حتى تحقق سلمان أنهُ هو سيده بعينهِ فهمَّ بهِ وقبلهُ وناداه باسمهِ.

وكان حماد في شاغل من هواجسهِ في هند والقرطين ووالده فلم ينتبه إلاَّ وسلمان ينادي بأَعلى صوتهِ سيدي الأمير أهلًا سيدي الأمير فالتفت حماد فإذا هو والده عبد الله فنهض ونهض سلمان فهمَّ عبد الله بحماد وضمهُ وجعل يقبلهُ ودموع الفرح تتساقط على وجههِ وسلمان يقبل يد عبد الله ويهنيهما بعضهما ببعض فانبسطت وجوه الجميع وزالت منهما العبوسة وجلسوا وعبد الله بجانب حماد قابضًا على يده بين يديهِ وحسان جالس إلى جانب وقد عجب لما رآه وسمعهُ فسألهم عن أمرهم فأحكى لهُ عبد الله عما تمّ من الاتفاق الغريب وإن حمادًا ووالده وسلمان جاؤُوا معهُ ففرح حسَّان لما تمَّ على يده من الخير. ثم جلسوا يتحادثون.

فقال سلمان: «لقد رأيت في وجه سيدي تغييرًا كاد يحول بيني وبين معرفتهِ فأني أعهد شعر وجههِ طويلًا مسترسلًا فما لي أراه قصيرًا».

فضحك عبد الله وقال: «إن لهذا التغيير حديثًا غريبًا سأَقصهُ عليك بعد أن أسمع حديثكم وما كان من أمر الأسد وضياع الفرس».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤