الفصل السادس والخمسون

البشارة

وأصبحت في اليوم التالي فعاد إليها الاكتئاب فودت أنها لم تستيقظ أو أنها تظل نائمة فلا تفيق إلاَّ على صوت حماد فلبثت في الفراش تلتمس النوم وأخذت تتقلب عبثًا فلما كان الضحى جاءَت والدتها تتفقدها فلما رأتها في الفراش انشغل بالها واستطلعت السبب فشكت لها تكاسلها عن القيام فجلست إلى جانبها تحادثها بما يذهب عنها الهواجس وهند تسمع وأفكارها تائهة حتى كانت الظهيرة فسمعتا صوتًا خارج الصرح ينادي «من نذر نذرًا لنجران المبارك» فخفق قلب هند لذلك الصوت وهبت من فراشها بغتة وبغتت أيضًا والدتها لأنهما تنسمتا منهُ صوت سلمان وتذكرتا قدومه إليهما قبلًا بشأن حماد فهرولتا إلى النافذة فرأتا راهبًا على فرس مثلما رأتا سلمان قبلًا فتحققتا أنهُ هو بعينهِ فخالت هند نفسها في منام لقدومهِ عليهما بغتة على غير انتظار فنادتاه فتحول ودخل فخرجت سعدى لاستقبالهِ وظلت هند في الغرفة جالسة وركبتاها ترتجفان من التأَثر ولم تستطع الوقوف إلاَّ بعد هنيهة وقد سمعت وقع أقدام الرجل مع والدتها داخلين إلى القصر فوقفت لاستقبالهما فوصل الرجل إلى باب غرفتها وحالما وقع نظرها عليهِ عرفتهُ فعلتها البغتة ولم تعد تعلم كيف تكلمهُ فابتدرها هو بالسلام وتبسم وهمَّ بتقبيل يديها فمنعتهُ وصاحت: «ما وراءك يا سلمان» وكانت والدتها قد أغلقت الباب.

قال: «ما ورائي إلاَّ الخير يا سيدتي كيف أنتِ؟»

قالت: «نحن في خير وكيف حماد وأين هو أخبرنا؟»

قال: «هو في خير وقد تركتهُ في دير بحيراء ينتظر أمرك ويدعو لك».

قالت: «هو في خير وعافية».

قال: «نعم يا مولاتى أنهُ في خير وقد التقى بوالده في المدينة».

فخرَّت هند إلى الأرض فقبلتها وقالت: «نحمد الله على سلامتهِ» قالت ذلك وقد انبسط وجهها وأبرقت أسرتها.

فقالت سعدى: «أين هو حماد ولماذا لم يأت معك؟»

قال: «أنهُ بقي في الدير خجلًا من مقابلتكم».

قالت: «وما الذي يخجلهُ إننا لا نريد منه شيئًا غير سلامتهُ».

قال: «والقرطان».

قالت: «لا حاجة بنا إليهما فقد زال السبب الذي دعا إلى طلبهما».

قال: «إن أمر القرطين قد عاد علينا بالفشل فقطعنا الفيافي والقفار حتى أتينا الكعبة فلم نقف لهما على خبر» وقصّ عليهما حكاية سفرهما من يوم خروجهما من صرح الغدير إلى أن عادا وكيف التقيا بعبد الله وما عزما عليهِ من البحث عنهما في العراق.

فقالت هند: «دعنا من الأقراط قد أغنانا الله عنهما».

فعجب لذلك التغير وأراد أن يعلم إذا كان جبلة أيضًا في مثل رأيهما.

فقال: «وهل سيدى الملك جبلة في خير».

قالت سعدى: «نعم هو في خير ينتظر قدوم صهره حماد بفارغ الصبر».

فلما سمع قولها (صهره) زاد اطمئنانًا برضاها عن حماد فقال: «وهل هو أيضًا مغفل أمر القرطين».

قالت: «أنهُ لا يريد شيئًا غير سلامة ولدنا حماد فادعهُ إلينا لنراه».

قال: «أنهُ يود ذلك من صميم قلبهِ فأذنوا لهُ بفرصة آتي بهِ إليكم».

قالت: «فليأت بأقرب وقت ولكننا نود حضوره ووالد هند حاضر ليفرح بعودتهِ وليكن أيضًا والده معهُ ليتم الفرح».

ففرح سلمان بهذه الأخبار ولكن خاطرًا مرَّ بذهنهِ فأسكتهُ بغتة فلمحت هند شيئًا غيره فقالت: «ما بالك يا سلمان ما الذي أسكتك فهل هناك ما يمنع حضوره أخبرنى؟»

قال: «كلاَّ يا مولاتى أنهُ ينتظر هذا الاجتماع انتظار الظمئآن للماء الزلال وهو إنما تحمل الأخطار ومشاق الأسفار طمعًا بذلك ولكنهُ …».

فبغتت هند وسعدى معًا وقالتا ما الذي يدعو إلى ترددك قل يا سلمان لقد شغلت بالنا.

قال: «لا يخفى عليكما أن سيدي حمادًا تشرف بخطبة سيدتي هند ووالده لا يعلم ولما علم بذلك يوم اجتماعنا في المدينة سرَّ كثيرًا ولكنه استمهل حمادًا في إتمام هذا الأمر ريثما يأتى يوم الشعانين».

قالت سعدى: «وما علاقة يوم الشعانين بذلك».

قال: «لا علاقة لهُ بهِ إلاَّ من حيث النذر فقد علمتم أن سيدي حمادًا منذور أن يقص شعره في دير بحيراء من يوم ولادتهِ وأن يكون قصهُ في يوم الشعانين في السنة الحادية والعشرين من عمره فلما كان اليوم المعين منذ عامين حدث ما حدث لما تعلمانهِ وفر ولم يتمكن من وفاء النذر فلما عاد من هذا السفر قال سيدى عبد الله لولدهِ أنهُ سيقص شعره في يوم الشعانين القادم بعد بضعة أشهر وتقدم إليه أن لا يباشر عملًا مهمًا قبل ذلك اليوم لأنهُ سيطلعهُ فيهِ على أمور تهمهُ ولكنني لا أظن لها علاقة بهذا الأمر».

فلما سمعت هند ذلك الكلام تعوذت بالله مما هو مخبأ لها في عالم الغيب وقالت في نفسها (ألعل أمامنا عراقيل أخرى غير التي انقضت).

فقالت سعدى: «لا بأس ولكن ذلك لا يمنع سيدك من الحضور ليلتقي بوالد هند وخصوصًا لأنهُ غريب فقد يستأنس بهِ وبمن يعرفهم على يده في البلقاء أما ذلك الأمر فما نحن في عجل إليه وإنما المراد أن تطمئن قلوبنا ويهدأ بالنا ونرى بعضنا بعضًا وقد تمهدت العقبات بموت الحارث وسقوط نفوذ ثعلبة بين القبائل».

فقال سلمان: «نحمد الله على نعمه ولا أقدر أن أصف لكم مقدار سرور مولاي حماد بهذه الأخبار فعينوا المكان والزمان الذين تريدان الاجتماع بهما لأخبر سيدي».

قالت هند: «فليأت حمادًا أولًا لنراهُ ثم نعين يومًا يجتمع بهِ الوالدان لأننا نخشى إذا انتظرنا اجتماعهما أن يطول الأجل فإن والدي في البلقاء وربما لا يستطيع المجيء إلاَّ بعد بضعة أيام». وأرادت هند بذلك أن تجتمع بحماد قبلًا على انفراد لتستوضح أمر النذر وعلاقته بالاقتران.

فقال سلمان: «ها إني ذاهب لأدعوهُ وأظنهُ يكون هنا في صباح الغد إن شاءَ الله».

فخرج وقد ندم على ما فرط منهُ في حديثهِ عن عبد الله وعلم أنهُ أخطأ فيما ذكره بشأن النذر وخاف أن يشق ذلك على حماد فعوَّل على التخلص من هذه التبعة بالحيلة فأسرع حتى أتى الدير في مساء ذلك اليوم وكان قد سار في هذه المهمة ولم يخبر عبد الله لعلمه أنهُ لا يريد ذلك.

فلما وصل الدير كان حماد في انتظاره فاستقبلهُ وهو ينظر إلى وجههِ لعلهُ يقرأ على ملامحهِ ما يبشره فرآه يبتسم ووجههُ منبسط فرحب بهِ وسألهُ عن الخبر.

فقال: «أبشر يا مولاي إن الله قد محا كل شقاء كُتب علينا وزالت كل الموانع التي كنت تخاف وقوعها بينك وبين هند».

قال: «وكيف هند هل هي مسرورة برجوعي وهل علمت أننا لم نعثر على القرطين وماذا قالت».

فضحك سلمان وقال: «إن القرطين لم يعد لهما دخل في أمر اقترانكما فقد تغير وجه المسأَلة بموت الحارث بن أبي شمر». وقصَ عليهِ الخبر إلى أن قال: «وإذا شئت الاقتران في صباح الغد فهو لك لأن والدة الفتاة ووالدها راضيان بك لا يريدان منك شيئًا وأما هند فأنت تعلم قلبها».

قال: «وهل طلبت مواجهتي؟»

قال: «كيف لا وقد طلبت أيضًا أن يشرف سيدي والدك على أن يكون الملك جبلة موجودًا لتتم المعرفة بينهما واني واثق بإقبال نجم سعدنا لأن اقترانك بهند فضلًا عن أنهُ من أهم أسباب سعادتنا فهو سبيل إلى اكتسابكما نفوذًا لدى ملك غسان».

فقال: «ولكنك تعلم أن والدي لا يرضى الذهاب معي بهذا الشأن».

قال: «أَعلم ذلك وقد ذكرتهُ أمام سيدتي هند».

فبغت حماد وقال: «كيف ذكرتهُ وماذا قلت».

قال: «ذكرتهُ على أسلوب لطيف فقلت أن سيدي عبد الله سرَّ كثيرًا بخطبتكما ولكنهُ يود وفاء النذر قبل عقد القران».

قال حماد: «أخشى أن تكون هند قد فهمت شيئًا يحملها على إساءة الظن».

قال: «لا أظنها فهمت شيئًا من ذلك وعلى كل فإنك ذاهب إليها في صباح الغد وقد أَجلنا اجتماع والديكما إلى فرصة أخرى فإذًا اجتمعتما افهمهما الحكاية كما تريد».

قال: «إذَّا نذهب إلى صرح الغدير في صباح الغد وماذا نفعل بوالدي هل نخبره».

قال: «أَرى أن نخبره بأننا ذاهبون لطمأنة أهل الصرح بعودتنا وإننا لا نتحدث بشأن الخطبة أو الاقتران مطلقًا».

قال: «هذا هو الصواب».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤