الفصل الثامن والخمسون

جبلة

وفيما هم في مثل هذه الأحاديث آنسوا في أهل القصر حركة واهتمامًا ثم جاءهم مخبر ينبئهم بمن جاءَ يبشر بقدوم الملك جبلة إلى الصرح فبغت الجميع لقدومهِ على غير انتظار ونهضوا يطلبون القصر ينتظرون قدوم الملك.

فمشوا صامتين كل منهم يفكر في أمر وكان حماد أكثرهم بغتة واهتمامًا لأنها أول مرة سيقابل بها جبلة بعد عودتهِ فخاف أن يكون فشلهُ في البحث عن القرطين سببًا في فتور محبتهِ لهُ وأما هند فكانت تتوقع من والدها حنوًا إلى حماد بناءَ على ما سمعتهُ من والدتها وأما سعدى فلم تستغرب قدومهِ لأنها هي التي أنفذت إليه رسولًا بالأمس يخبره بمجيء حماد وأنهُ سيزورهم في ذلك النهار فإذا استطاع المجيء فعل.

فوصلوا القصر ودخلوا قاعة الجلوس وما استقرَّ بهم المقام حتى نودي في القصر بمجيء الملك فخرج أهلهُ لاستقبالهُ وخرج حماد وهند ووالدتها إلى الحديقة.

وكانت الفرسان قد وصلت فتحول جبلة عن جواده وعليهِ لباس السفر من العباءَة والكوفية وقد تقلد الحسام ومشي يلتفت ذات اليمين وذات الشمال يبحث عن حماد حتى إذا وقع نظره عليهِ دنا منهُ فتقدم حماد وهو يقدم قدمًا ويؤَخر أخرى ليرى ما يبدو منهُ. أما جبلةُ فأسرع إليه وسلم عليهِ مصافحة وقبلهُ قبلة الوالد لولده والناس ينظرون. وكانت هند تراقب حركات والدها فلما رأت منهُ ذلك رقص قلبها طربًا وتناثرت دموع الفرح من عينيها وكذلك والدتها أما حماد فأنهُ قبل يدي عمهُ وقد تحقق رضاءهُ عنهُ. فقال لهُ جبلة: «أهلًا بولدي وعزيزي نحمد الله على عودتك سالمًا».

فأجابهُ حماد (وملامح الامتنان ظاهرة على وجههُ): «لهُ الحمد على كل حال ولكنني أحمده لنعمهِ عليَّ برضا ملك غسان فأنها نعم لا أقدر على تقديرها يا عَّماه».

ثم تحوَّل جبلة نحو هند فقبلت يده وقبلها وحماد ينظر فتحركت فيهِ عاطفة الغيرة عليها حتى من والدها ثم حيَّا سعدى ومشى الجميع نحو القاعة وعينا حماد على هند كأنهُ يريد أن يلتقفها بنظرة وقد شق عليهِ مفارقتها بعد أن تقرر لهُ الحصول عليها.

وكان سلمان في جملة أهل القصر الوقوف في انتظار جبلة ولم يشأ دخول الحديقة على حماد عند أول مجيئهِ مراعاة لما قد يدور بين الحبيبين من عبارات العتاب مما لا يهون التفوه بهِ أمام أحد.

ودخل جبلة وسعدى وهند وحماد القاعة فسأَل حماد عن سلمان فجاءَ فدعاه للجلوس هناك فتوقف توقيرًا للجلسة فنهض حماد وأمسكهُ بيده وقدمهُ إلى الملك قائلًا: «أقدم لكم يا عماه رفيقي وصديقي سلمان فأنهُ كان معتمدي في أسفاري وهو محب غيور للملك جبلة وسائر آل منزلهِ».

فرحب بهِ جبلة وأمره بالجلوس فجلس والجميع جلوس ثم التفت جبلة إلى حماد وسأَلهُ عن والده فقال: «إني تركتهُ في دير بحيراء على أن يحظى بمقابلة مولاي في فرصة أخرى».

قال: «لقد سررت كثيرًا باجتماعكما بعد طول التشتت بسبب ذلك الغلام الغرّ (يريد ثعلبة) وقد كنت في غفلة عن أمره إلى ما بعد وفاة والده فتبعثر أصدقاؤُه فأخبرني بعضهم بما ارتكبهُ هذا الخائن في سبيل الفتك بك على أثر ما أظهرتهُ من الشهامة وكرم الأخلاق ويكفي أنك عفوت عن قتلهِ في حلبة السباق بعد ما عاينت من غدره وسوء قصده ولكن ذلك الخائن قد نال جزاء ما جنتهُ يداه وكان الناس إنما يرمقونه ببعض الاحترام مراعاة لمنصب والده فما كاد يتوفى الحارث حتى نُبذ نبذ النواة وصار مضغة في الأفواه ومن أثقل المصائب عليهِ أن يعلم بمجيئك ونيل مرامك ولا أظنهُ يسمع باقترانك حتى يقع ميتًا لشدة لؤمهِ وحسده قبحهُ الله». وكان جبلة يتكلم ولحيتهُ تهتز وعيناه تتقدان غضبًا مع محاولتهِ إخفاءَ ما في نفسهِ وتخفيف ما بهِ فلما أتمَّ كلامهُ أخذ يتلاهى بتمشيط لحيتهِ بأصابعهِ ويشاغل نظره بالالتفات إلى خيلِ مربوطة خارج القصر كانت تتزاحم وتتضارب.

أما الحضور فأنهم لبثوا بعد إتمام حديثهِ سكوتًا تهيبًا من غضبهِ ولكن قلوبهم كادت تطفح سرورًا بما قالهُ عن ثعلبة. ثم وجه جبلة خطابهُ إلى سعدى قائلًا: «اسقينا شيئًا نرطب بهِ أجوافنا ونشربهُ نخب اجتماعنا فرحًا بقدوم صهرنا سالمًا». فقالت: «إلاَّ ترى أن نجلس إلى المائدةَ فتناول الطعام والمدام معًا».

قال: «حسنًا تفعلين».

فصفقت فجاءَ غلام. فقالت: «هل تمت معدات الطعام؟»

قال: «نعم يا مولاتي».

فنهض جبلة ومشي فتبعهُ الجميع حتى دخلوا غرفة مدت فيها الأسمطة وعليها الأطباق والمواعين وكلها من الذهب أو الفضة فجلسوا يأكلون ويشربون والفرح شامل لهم.

فلما فرغوا من الطعام وقاموا عن المائدة تقدم جبلة إلى حماد وأشار إليه أن اتبعني فتبعهُ حتى خرجا من القصر وجعلا يتمشيان في بعض طرق الحديقة فلما خلوا قال جبلة: «اعلم يا حماد انك الآن بمنزلة ولدي وقد قسم الله أن تكون صهرًا لي وهذا أمرا حسبهِ من حظ هند لأنك شهم يفتخر بشهامتهِ وشجاعتهِ ما يربو على الافتخار بالحسب والنسب. وقد تركت إليك تعيين زمن الاقتران ولكنني أوجه التفاتك إلى أمر واحد وهو أن هندًا كما تعلم وحيدة ليس لنا ولد سواها فيشق علينا فراقها فاشترط عليك إذا تمَّ الاقتران أن تقيم عندنا أنت ووالدك ومن تريده من ذويك فتنزلون على الرحب والسعة فان البلاد تحتاج إلى من يتولاها وليس لي ولد ذكر فإذا أحسنت السياسة مع القبائل اجتمعوا بعدي تحت لوائك وكنت ملكًا عليهم».

فلم يعد يعرف حماد كيف يشكر نعمه ولكنهُ وقف وكانا ماشيين فوقف جبلة فقال حماد: «إن هذه النعم وهذه الشيم مما يقصر لسان الناس عن أداء الشكر عليها. إن شرطًا اشترطموه يا عماه إن هو إلاَّ نعم أنعَمت بها على جزاك الله عني خيرًا. أما وقت الاقتران فلا يمكننا تحديده الآن لدواع لا أخفيها عنك».

قال: «وما هي؟»

قال: «لعل مولاي رأى طول شعري لما لبست الدرع يوم السباق».

قال: «نعم أذكر ذلك وما سبب طولهُ؟»

قال: «إن والدي نذر أني إذا عشت لا يقصرُّ شعري إلاَّ في السنة الحادية والعشرين من عمري في دير بحيراء وضرب لذلك أجلًا يوم الشعانين فآن ذلك اليوم منذ عام وبضعة أشهر فجئنا البلقاء فحدث ما حدث من سعي ثعلبة ضدي والقبض على والدي ثم لم نجتمع إلاَّ من أمد قريب في المدينة فيرى والدي أن ننتظر يوم الشعانين القادم ونقص شعرى في الدير وقد أخبرني أن عنده حكاية سيقصها عليَّ في ذلك اليوم وأوعز إليَّ أن لا أقطع بأمر من الأمور المهمة إلاَّ بعد ذلك اليوم فما رأي مولاي».

فعجب جبلة لذلك السر وقال: «لا أرى مانعًا من تأجيل الاقتران إلى ما بعد الشعانين فنجعلهُ في يوم القيامة ولكنني استغربت هذا السرَّ ألا تعلم ما موضوعهُ؟»

قال: «كلاَّ يا عماه لا أعرف عنهُ شيئًا ولا يعلم بهِ أحد سوى والدي وقد أخبرني أنهُ لما وقع في الخطر مرة وخاف الموت لم يأسف على شيء أكثر من أسفهِ على ضياع ذلك السر».

قال جبلة: «فلننتظر يوم الشعانين وكل آت قريب».

ثم تحوَّلا نحو القصر وكانت هند ووالدتها وسلمان جالسين في القاعة فدخل جبلة وحماد وقضوا بقية ذلك اليوم في الأحاديث المتنوعة.

فلما كان العصر التمس حماد العود إلى الدير لئلاَّ يستبطئهُ والدهُ فيشغل بالهُ عليهِ.

فقال لهُ جبلة: «افعل ما بدا لك ولكن اعلم يا ولدي أن صرح الغدير وسائر قصور البلقاء مفتوحة لاستقبالك متى أردت القدوم». فهمَّ حماد بيد عمه فقبلها وكذلك فعل سلمان وودع هندًا وسعدى وكان قد أمر فاسرجت الخيل وأراد الإسراع في الشخوص إلى دير بحيراء ليخبر والده بما لاقاه من الاحتفاء وما عرضهُ عليهِ جبلة من الأنعام لعلهُ يرغب في القدوم على جبلة.

فركبا وسارا وهند تشيعهما بنظرها خلسة حتى تواريا فعاد أهل الصرح فأحكى جبلة لسعدى ما دار بينهُ وبين حماد ولما عاد هو إلى البلقاء أحكت ذلك إلى هند فكادت تطير من الفرح.

أما حماد فأنهُ وصل الدير في مساء ذلك اليوم وكان والده في انتظاره فاستقبلهُ ودخلا الغرفة فأحكى لهُ حماد ما لاقاه من الإكرام والاحتفاء وما دار بينهُ وبين جبلة مما لم يكن يرجوه. وكان حماد يتوقع أن يرى من والده بعد هذا الحديث إعجابًا أو انبساطا فلم ير وجههُ يزداد إلاَّ انقباضًا ولم يجب بكلمة فلبث حماد ينتظر يوم الشعانين بفارغ الصبر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤