الفصل السابع والثمانون

الاستطلاع

قال القسيس: «سمعًا وطاعة» وخرج بهِما من بعض أبواب الكنيسة إلى زقاق ضيق لكنهُ مرصف بحجارة عظيمة شأن أرفة دمشق على اختلاف عرضها واستطرقوا من الزقاق إلى منزل لا يظهر من بابهُ وسوره أنهُ يليق بسكنى الملوك على أنهم ما لبثوا أن دخلوا داره حتى تبينت لهم منزلتهُ من الإتقان والزخرفة ولكنهم لم يسمعوا غير خرير الماء في بركة تدلت فوقها أغصان الصفصاف وفاحت رائحة الأزهار لما أحاطوا بهِ جوانب المكان من أغراس الرياحين فوقف حماد وهو يتوقع أن يرى أحدًا أو يسمع صوتًا فلم يؤانس غير السكوت فمشى إلى باب رآه في صدر الدار ففتحهُ وصعد في سلم ومعهُ عبد الله فانتهى إلى رواق مشى فيهِ فأطل من نافذة مفتوحة تطل على غرفة مقفلة الأبواب فتطاول بعنقهِ يستطلع ما فيها فرأى شبحًا منزويًا في بعض جوانبها عليهِ لباس النساء فناداها فصاحت وصوتها يرتجف قائلة: «ليس في هذا المكان أحد من الرجال فإذا كنتم تريدون النهب فأشفقوا على النساء».

فاختلج قلب حماد لما سمع ذلك الصوت وتنسم منهُ شخصًا يعرفهُ فقال: «لا تخافي يا خالة فما نحن من الأعداء ولا نريد بك شرًا وإنما نحن نسأل عن أهل ملك غسان».

فلما سمعت المرأة صوت حماد دنت من النافذة وتفرست فيهِ فعرف أنها خادمة هند التي حملت إليه الكتاب في دير بحيراء وأما هي فحالما عرفتهُ قالت: «ألعلك سيدي حماد فقد كدت ألقي حتفي في انتظارك».

فقال: «افتحي الباب ولا تخافي وأخبريني خبرك».

ففتحت الباب وهمت بيده فقبلتها وقالت والبغتة لا تزال ظاهرة على وجهها وقد امتقع لونها: «لقد خرج أهل الملك من دمشق منذ أسابيع وتركوني هنا في انتظار قدومك لأطلعك على خبرهم فطال غيابك حتى يئست من لقياك ثم حوصرت المدينة ووقع ما وقع فيها من القتل والنهب. ولما سمعت وقع أقدامكم الآن حسبتكم من العرب الفاتحين فخفت واختبأت في هذه الغرفة فنشكر الله على ما حصل».

فقال حماد: «أخبريني يا خالة أين سيدتك هند؟»

قالت: «لقد خرجت من دمشق مع والدتها وسائر الخدم بأمر والدها قبل الحصار».

قال: «وأين هي الآن؟»

قالت: «أظنها في بيت المقدس لأن سيدي الملك بعد أن أنفذ إليها أن تتأهب للاقتران بالأمير ثعلبة عاد فكتب إلى سيدتي سعدى أن تأتي سريعًا إلى بيت المقدس لأنها أبعد عن الخطر من دمشق والظاهر أنهُ سمع بعزم العرب على حصارها. فشق ذلك على سيدتي وخافت أن تأتي أنت ولا تعلم بمصيرنا فاستبقتني هنا لأقص عليك الخبر».

فنظر حماد إلى عبد الله وقال: «ما الرأي يا أمير».

فقال: «لا حيلة في الواقع يا مولاي فان مقامنا في دمشق لا يجدينا نفعًا وأرى أن نغتنم أول فرصة للخروج إلى بيت المقدس».

فالتفت حماد إلى المرأة وقال لها: «وأنت ماذا تفعلين؟»

قالت: «إذا بقيت حية سأذهب إلى بيت المقدس».

قال: «إن الحرب قد انقضت وتم الصلح فلا بأس عليك ولكنني لا أظنك تستطيعين الذهاب وحدك وأنت امرأة».

قالت: «إنما أستطيع ذلك لأني امرأة لأن هؤلاء العرب شديدو المحافظة على الأعراض فإذا لقيني أحد منهم كان لي عونا في ايصالي إلى حيث أريد».

فقال: «أوصيك إذا أتيت بيت المقدس وكانت هند لا تزال هناك أن تقريها مني السلام وتخبريها إني قادم إليها على عجل إن شاء الله».

قال ذلك وتحوَّل مسرعًا وعبد الله معهُ ثم قال: «علينا بالإسراع إلى بيت المقدس».

قال عبد الله: «علينا قبل الذهاب أن نحمل أمتعتنا فأنها في معسكر أبي عبيدة».

قال: «لابد لنا من الانتظار ريثما يهدأ البال وتسكن الأحوال فنودع أبا عبيدة ونشكره على حسن وفادته وننصرف ولعلهُ يصحبنا بمن يدفع عنا خطر الطريق».

فخرجا من المنزل فلقيا القسيس فودعاه وخرجا إلى الشارع وكان الناس قد استأمنوا وهدأت الأحوال فسارا توًا إلى قصر الحاكم فرأيا المسلمين قد تخللوه ووضعوا أيديهم على ما فيهِ وأهل توما يحملون الأحمال ويخرجون مهرولين وفيهم النساء والرجال فأسفا لما انتهت إليه حال هؤلاء وتذكر حماد أنفة توما يوم لقيه في ذلك القصر فاعتبر وتأمل.

وقضيا بقية ذلك اليوم والناس في هرج بين مهاجر ومستسلم ولم يستطيعا مقابلة أبي عبيدة ليخاطباه بشأن الذهاب.

وفي اليوم التالي دخلا عليهِ فإذا هو قد ازداد رفعة بعز النصر وكان جالسًا يملي على كاتبهِ وهو يكتب إلى الإمام عمر بخبر الفتح فتنحيا حتى انتهى من الكتاب فدخلا عليهِ فرحب بهما وبش لهما وخاطب حمادًا قائلًا: «انك خدمت هذه المدينة خدمة تستوجب الثناء عليها لأنك كنت الواسطة في حجب الدماء».

فخجل حماد لذلك الإطراء وقال: «إني لم أفعل شيئًا أستوجب عليهِ ثناء وإن ما حصل من الصلح إنما كان من رغبة الأمير في السلام». ثم هم حماد أن يذكر لهُ عزمهُ على الخروج إلى بيت المقدس ولكنهُ لم ير سبيلًا إلى ذلك فصمت فأدرك عبد الله ذلك فيهِ فخاطب أبا عبيدة قائلًا: لقد أتينا يا مولاي نهنئك بالفتح الذي تم على يدك ونستأذنك بالانصراف.

فقال أبو عبيدة: «وإلى أين تنصرفون».

قال: «إن لنا في بيت المقدس أهلًا نريد النزوع إليهم».

ففكر أبو عبيدة مدة ثم قال: «لم يأن زمن الانصراف بعد فالبثوا في ضيافتنا أيامًا نحسن وفادتكم بعدما عانيتم معنا في زمن الحرب ثم تنصرفون ومعكم رجال منا حتى تبلغوا مأمنكم».

فلم يتجرأ عبد الله على مراجعة أبي عبيدة ولبث صامتًا على نية العود إلى الاستئذان في فرصة أخرى ولكنهُ استأذنهُ في الخروج إلى المعسكر ليستولي على الأمتعة.

فقال أبو عبيدة: «إن أمتعكم وخيولكم في مأمن مع أمتعتنا في المعسكر ونحن خارجون إليها لأننا لا نحب الإقامة في القصور خوفًا من الانغماس في الترف».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤