الفصل التسعون

سلمان

وكان حماد في أثناء مسيره إلى الدير تائهًا في بحار الهواجس يفكر تارة في هند وطورًا في سلمان وآونة في عبد الله حتى عظم عليهِ الأمر وخيل لهُ أن المسالك سدت دونه فضلًا عما كان يعترض سبيلهُ من أحوال الحرب وقد أصبح أهل الشام في هرج على أثر سقوط دمشق وأخذوا في المهاجرة زرافات ووحدانًا إلى مصر أو بلاد الروم أو غيرهما.

فوصل الدير وهو لا يدري أنهُ وصل حتى إذا كان على مقربة من غرفته رأى عند بابها رجلًا كان جالسًا ثم هم مسرعًا لملاقاته وحالما وقع نظره عليهِ علم أنهُ سلمان فناداه باسمه فترامى سلمان على يده يقبلها ويشكر الله على لقياه فقال حماد: «أهلا بك أيها الصديق لقد أطلت الغياب علينا فأذقتنا من الوحشة ما لم يبق لنا صبرًا عليهِ».

فخجل سلمان لذلك الإطراء وقال: «لقد غمرتني أيها الملك بفضلك فدعوتني صديقًا لك وما أنا إلا من بعض خدمك».

فلما سمع حماد لفظ الملك تبدلت لهُ حالته وتذكر حكاية النذر والانتقام وما شغلهُ عن ذلك من شواغل الغرام وما انتهت إليه حالهُ من اليأس حتى كأن الأيام قد كتبت عليهِ الشقاء فلا يكاد يقترب من نصيبه حتى يفاجئهُ عارض يحول دون مرامه وأفضت بهِ الحوادث إلى ضياع كل آمالهُ بفرار جبلة وأهلهُ إلى حيث لا يدرى أحد. ولكن ظلمات تلك المخاوف كان يتخللها بعض النور مما يتوقعهُ من مساعدة سلمان ومشورته فزاد استئناسهُ بهِ ولما رآه ينكر عليهِ ذلك الإطراء مال إليه وصافحهُ وقال لهُ: «لا بل انك صديق وأعز من الصديق وما نحن في معرض الأنساب وإنما يفضل أحدنا الآخر بما طمع عليهِ من مكارم الأخلاق والشهامة وصدق المودة ولقد رأيت فيك من ذلك ما يعز مثالهُ».

فأطرق سلمان خجلًا ومشيا حتى دخلا الحجرة وكل منهما يتوقع سماع حديث الآخر فلما استتب بهما المقام قال حماد: «أين كان مقامك كل هذه المدة وما الذي جاء بك إلى هنا حتى التقينا على هذه الصورة».

قال سلمان: «إن لقاءنا يا سيدي لم يكن على سبيل الصدفة ولكنني قطعت القفار وأطلت البحث حتى علمت بمقرك وجئت على ما ترى. وقبل سرد حديثي الطويل أبشرك بموت ثعلبة».

فتنهد حماد وقال: «لقد عرفت ذلك يا سلمان ولكنهُ جاءنا متأخرًا وقد كادت تنقطع منا الآمال».

فقال سلمان: «وكيف ذلك؟»

قال: «لأني سمعت بمقتل ثعلبة وفرار جبلة في وقت واحد في هذا اليوم».

قال سلمان: «وأي فرار؟»

قال: «لقد تحققت فرار الأمير جبلة من بيت المقدس بأهله إلى حيث لا يعلم أحد» وقص عليهِ مختصر الحديث من يوم مجيئهُ إلى دمشق وسقوطها وسماعه بمقام هند في بيت المقدس وما سمعهُ من قيم الدير.

وكان سلمان شاخصًا ببصره مصيخًا بسمعه حتى أتى على آخر الحديث فامتقع لونهُ وظهرت عليهِ مظاهر الأسف والفشل ولبث صامتًا كأنهُ أصيب بصدمة وكاد الدمع يتناثر من عينيهِ ثم تنهد وقال: «ألم تعلم إلى أين سافر جبلة يا سيدي».

قال: «كلا ولولا ذلك لهان الأمر».

قال سلمان: «لا تيأس يا مولاي إني غير تارك وسيلة لا أستخدمها في سبيل البحث عنهُ ويكفينا الآن أننا تخلصنا من ثعلبة».

فقال حماد: «وكيف عرفت بمقتله ومن هداك إلى مكاني؟»

قال: «ستعلم ذلك من سياق حديثي عن سبب تغيبي عنك».

قال: «أقصص علينا خبرك».

قال: «تركتكم في بصرى وجئت اليرموك فشهدت حربها وكان الأمير جبلة في جملة المحاربين فلما عقد لواء النصر للمسلمين وقد علمت أن هندًا في دمشق هممت بالمسير إليكم ثم حدثتني نفسي أن أستطلع مقاصد جبلة وكان قد فر إلى حمص برجاله وفيهم ثعلبة فما التقيت بهم حتى أمروا بالمسير لملاقاة المسلمين في اجنادين فسرت إليها وشهدت موقعة هائلة وقعت بين الروم والعرب هناك تشيب لهولها الولدان وفي تلك الواقعة قتل ثعلبة وفشل جند الروم وفر الغساسنة. وكنت قد سمعت بحصار دمشق فآن لي أن أسير إليكم بالخبر فأسرعت إلى بصرى فلم أجد أحدًا منكم فظننت الراهب الشيخ ينبئني بخبركم فسرت إليه فإذا هو قد مات فأسفت لوفاته لعلمي أنهُ لو كان حيًا لهداني إلى مقركم فمكثت في بصرى مدة أبحث عنكم وأسأل كل من عرفتهُ فلم يرشدني مرشد فظننت أنكم في دمشق ولكنني استبعدت ذلك لما علمت من حصارها ثم ما لبثت أن سمعت بسقوطها فهممت بالمسير إليها لعلي أرى أحدًا أستطلع منهُ خبركم وفيما أنا أهتم بذلك رأيت جندًا من المسلمين قادمًا إلى بصرى فقلت لعلي أتنسم منهُ خبرًا فلقيت أميرهُ مالك بن الحارث بن هشام وقد وجهه أبو عبيدة أميرًا على حوران بعد سقوط دمشق وكان الحارث بن هشام والد الأمير مالك قد جاء مع أبي عبيدة أميرًا في بنى مخزوم لحصار دمشق فقتل في بعض الوقائع فلما سقطت دمشق تعين ابنهُ مالك أميرًا على حوران لينجد الجند الذي يقوم من الحجاز مددًا لأبي عبيدة في حروبهِ بالشام.

فلما وصل هذا الجند إلى بصرى تمكنت بطرق مختلفة من الاجتماع بالأمير مالك فأخبرني عما كان من نزولكم على أبي عبيدة في الجابية والمهمة التي أنفذك بها هذا الأمير إلى حاكم دمشق إلى أن أنبأني بخروجك إلى بيت المقدس وخروج الأمير عبد الله إلى العراق فهرولت حتى أتيت هذه المدينة وما زلت أبحث عن مقرك حتى علمت اليوم أنك مقيم في هذا الدير وانك خرجت منذ الصباح فأقمت هنا في انتظارك حتى أتيت فأحمد الله على سلامتك وأرجو أن نلتقي بسيدي الأمير عبد الله قريبًا».

فقال حماد: «لقد نفد الصبر يا سلمان واحتملت من غدر الزمان ما تعلم وأراني قد مللت هذه الحياة المحفوفة بالمكارة الممزوجة بالمشاق ويخال لي أن الله لم يكتب لي نصيبًا بهِند مع ما تعلمه من تعاقد قلبينا». قال ذلك وترقرقت الدموع في عينيه. فثارت الحمية في رأس سلمان حتى كاد يتقد غيرة ونظر إلى حماد وقال: «دع ذلك إليَّ يا مولاي واتكل على الله وإذا كانت لك على أبي عبيدة دالة فلنذهب إليه لعلنا نستطلع منهُ خبرًا».

فقال حماد: «إن لي عليهِ دالة عظمى ولقد أصبح بعد ما تم على يدي من صلح الشام كثير الوثوق بى حتى أشار يوم قدومي إلى بيت المقدس إلى أنهُ ربما يحتاج إليَّ فيها مثل حاجته في دمشق فلا أظنني إذا استعنته في البحث عن جبلة إلاَّ فاعلًا ما أريد».

قال سلمان: «وأين هو الآن؟»

قال: «تركته في دمشق يبعث البعوث لفتح ما بقي من بلاد الشام».

قال: «إذا أذنت أن نذهب إليه غدًا فعلنا».

قال: «حسنًا».

فقال سلمان والاهتمام ظاهر على وجهه: «أتقدم إليك يا مولاي في أمر أرجو أن تطيعني فيهِ».

قال: «وما هو».

قال: «أرجو إذا نحن ظفرنا بجبلة هذه المرة ورأينا منهُ ترددًا أو سمعنا منهُ وعودًا أن لا نضيع الوقت في الانتظار والمماطلة عبثًا».

قال حماد: «وما معنى ذلك».

قال: «معنى ذلك يا سيدي أن تأخذ هندًا من بين يديه أراد هو أو لم يرد».

فضحك حماد وكان قد قضى زمنًا لا يضحك وقال: «سنرى في ذلك يا سلمان».

وقضيا بقية ذلك اليوم في الأحاديث المتنوعة وباتا على نية الاهتمام في الركوب إلى دمشق في الصباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤