الفصل الخامس والتسعون

مشورة وذكرى

وكاد حماد يسمع حديث عمر وهو شاخص ببصره يتطاول بعنقهِ وقلبهُ يخفق في انتظار آخر الحكاية فلما أتى عمر على آخر كلامهِ انقبضت نفس حماد وعظم عليهِ الأمر وهم بمخاطبة عمر يستطلعهُ رأيه في مصير جبلة وأهلهِ فأقعدتهُ هيبة المجلس ومقام الخليفة وما صدق أن أرفض الجمع حتى خلا بسلمان ووقفا بالقرب من معسكر أبي عبيدة فقال حماد: «ما رأيك يا سلمان».

قال: «لقد هان الأمر يا مولاي والرأي عندي أن نبحث عن جبلة في الطريق بين المدينة والشام إذ لا أظنهُ إذا فر من الحجاز إلاَّ قادمًا إلى أطراف الشام أو البلقاء أو مكان آخر لم يفتحهُ المسلمون أو لعلهُ يختبئ في بعض الديور ولا بد لهُ في كل حال من المرور بدير بحيرا ولو متنكرًا فلنبحث عنه ونستخبر أهل الدير وإذا أشكل الأمر أكثر من ذلك قصدنا ناسك حوران فإن لهُ معرفة وكرامة».

فتأفف حماد وتذمر ولكنهُ فكر في الأمر فرأى كلام سلمان معقولًا فظل صامتًا برهة وسلمان ينظر إليه ويتأمل حالهُ فرآه غارقًا في بحار الهواجس وقد تولاه الانقباض وغلب عليهِ اليأس فقال لهُ: «ما بال مولاي لم يعتد بكلامي ألعلي مخطئ في ما أقول».

قال: «لا أقول مخطئًا ونعم الرأي رأيك ولكنني أفكر يا سلمان في هند كيف طال هذا الأمد ولم يصلني منها علم ولم أسمع عنها خبرًا مع علمها بذهابي إلى بيت المقدس بعد فتح الشام».

قال: «لا تلمها يا سيدي ألاَّ تعلم أنها فتاة لا تستطيع المجاهرة بأمرها فضلًا عما كانوا فيهِ أثناء فرارهم من الخوف والاهتمام وأقاموا في المدينة غرباء ثم عادوا فارين كما قد رأيت فهل تستطيع هند أمرًا».

فقال حماد: «لا أدري ولكنني أراني مقيد الفكر مغلول اليدين والأمير عبد الله بعيد عنا لا نعلم خبره ولا ما لاقاه في العراق».

قال سلمان: «أما الأمير عبد الله فأنت تعلم أنهُ من الحكمة والتعقل في ما لا نخشى عليهِ معهُ بأسًا ولا يلبث أن يعود إلينا وقد نال حظوة في عيني المسلمين ولكن …» وصمت.

فقال حماد: «ما بالك صمت قل ما في نفسك».

قال سلمان: «ماذا أقول ونحن كما قلت مقيدو الفكر مغلولو الأيدي».

قال: «وماذا تعني؟»

قال: «أعني يا مولاي أننا شغلنا بحروب الشام والتماس ملك غسان عن أمر إنما أتينا هذه البلاد من أجلهِ ولولاه لكان مقامنا في العراق معًا ندافع عن دولة الفرس دفاعنا عن أنفسنا».

فانتبه حماد إلى حكاية النذر وحقيقة نسبهِ وما لهُ من الثأر على الفرس فقال: «لقد صدقت يا سلمان إننا تقاعدنا عن ثأرنا وانشغلنا بمهام أنفسنا عن وصية والدي ووالله لو إني فرغت من مشاغلي المتواترة وخلوت بنفسي يومًا واحدًا لما بقيت في هذه الديار بل كنت أول شاخص إلى العراق أشهد فتح المدائن عاصمة تلك الدولة الظالمة واني لواثق بقرب سقوطها لما نعلمه من بطش العرب وفساد أحوال الفرس وانقسام حكامهم بعضهم على بعض».

فقال سلمان: «إذًا نسير إلى العراق …».

قال حماد: «بصوت مختنق ونفس صغيرة «وهند»» ونظر إلى سلمان فكان لنظرتهِ وقع السهام على قلب سلمان فنظر إليهِ وتبسم ثم همَّ بهِ وضمهُ إلى صدره وقال لهُ: «إن هندًا في المقام الأول يا مولاي ثم الثأر».

فتنهد حماد وقال: «لا بل الانتقام للملك النعمان قبل كل شيء هكذا أوصانا بصوتهِ المنبعث من ظلمات القبر ولكن …» قال ذلك وترقرقت الدموع في عينيهِ.

فابتدره سلمان قائلًا: «إن كلا الأمرين مستدرك فلنبحث أولًا عن مقر هند فإذا التقينا بها وكان السفر إلى العراق مستعجلًا وكان أجل الفرس قريبًا أجلت الاقتران إلى ما بعد الرجوع منها وسقوط دولة الفرس وإلاَّ فانك تتزوج ثم تسير. فقم بنا إلى بيت المقدس وغدًا نستطلع أخبار العراق ثم نسير للبحث عن جبلة وأهلهِ في أطراف الشام وحوران ويفعل الله ما يشاء».

فقال حماد: «حسنًا ترى ولكن ذهابنا إلى بيت المقدس في هذا الليل لا يخلو من المشقة فضلًا عن الخطر وقد دعانا أبو عبيدة للمبيت عنده فلنبت هنا الليلة وغدًا لناظره قريب».

قال: «حسنًا» وتحولا نحو الفسطاط وقبل الوصول إليهِ سمعا أصواتًا عرفا أنها أصوات القراء يتلون القرآن والناس يصلون فتنحيا برهة حتى فرغوا من الصلاة فدخلا على أبي عبيدة فقال لهما: أين ذهبتما وأنا أبحث عنكما منذ خروجنا من مجلس الخليفة.

فقال حماد: «لقد كنا في شأن جبلة وخبره ولم يزدني حديث أمير المؤمنين إلاَّ تلبكًا فلا أدري أين هو هذا الرجل الآن».

فقال أبو عبيدة: «سنبحث عنه في سواحل الشام لعلهُ يقيم في مكان هناك أو إذا كان قد خرج منها إلى بلاد الروم أو مصر أو غيرها عرفنا خبره».

فقال سلمان: «ونحن نرى أن نفتش عنهُ في أطراف الشام وحوران لعلنا نسمع عنهُ شيئًا في بعض الديور». قال أبو عبيدة: «نعم الرأي رأيت وسيكون بحثنا وبحثكم معًا فمن استطلع أمرًا أطلع الآخر عليهِ».

فقال حماد: «وماذا تعلمون من أخبار العراق وفارس فإن والدي لم يكتب إليَّ شيئًا منذ سفره».

فقال أبو عبيدة: «إن ما أتانا بهِ مولانا أمير المؤمنين يسر كل مسلم فإن النصر معقود لواؤه لجنود المسلمين حيثما ولوا وجوههم وقد كان الإمام عمر على موعد من موقعة هائلة بين المسلمين والفرس في القادسية فخرج من المدينة وهو في انتظار البريد بخبرها وقد أبطأ عليهِ فأوعز إلى نائبهِ في المدينة إذا جاء بريد العراق أن ينفذه إليه في بيت المقدس حالًا فنحن ننتظر ورود البريد انتظار الظمآن لموارد الماء. وكلنا على يقين من نصرة رجالنا مهما تكاثرت جنود الفرس وأفيالهم ودوابهم فما هم أشد وطأة من الروم بل نحن أشد وطأة على الفرس منا على الروم لأن هؤلاء أهل كتاب قد أوصينا بهم خيرًا وأما الفرس فأنهم مجوس يعبدون النار فضلًا عن اختلال أحوال مملكتهم وتنازع دعاة الملك على كرسيهم فقد توالى على إيوان كسرى بضعة ملوك في عام واحد بعضهم نساء والبعض الآخر من الرجال وملكهم الآن يزدجرد بن شهريار ابن كسرى انوشروان وهو ضعيف الرأي لا يستطيع القيادة فهل يعقل أن جنده يغلب جند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وعلى كل حال إن موعدنا من أخبار النصر قريب إن شاء الله».

ثم أمر بعض رجالهُ فأعدوا خيمة للضيفين فباتا تلك الليلة وأصبحا وقد قام الإمام للخطابة والصلاة فأذن المؤذنون وصلى المصلون فتنحى حماد وسلمان ومشيا خارج المعسكر يتحدثان في تلك الشؤون فوقع نظرهم على هجين قادم من عرض الأفق بسرعة البرق فقال سلمان: «هذا هو صاحب البريد على ما أظن» فوقفا فإذا بهِ دار حتى أتى معسكر أبي عبيدة وترجل عند فسطاطهُ فأسرعا إلى الفسطاط فرأيا أبا عبيدة خارجًا من خيمتهِ ومعهُ الهجان وهو لا يزال بغباره وقد مشي وهجينه وراءه حتى أتوا فسطاط عمر فدخلوا جميعًا ودخل حماد وسلمان معهم فرحب عمر بهم وخاطب صاحب البريد قائلًا: «ما وراءك يا رجل». فقال: «ما ورائي إلاَّ الخير». ومد يده فاستخرج من بين أثوابهِ صندوقًا فتحهُ واستخرج منهُ ملفًا من جلد ناولهُ إلى الإمام عمر ففضهُ ودفعهُ إلى بعض خاصتهِ وقال: «أتلهِ عليا لنرى ما كان من أمر المسلمين في العراق».

فتناول الرجل الكتاب ووقف وأخذ يقرأ والناس سكوت فإذا فيهِ:

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤