الصحصاح ينازل ملك الروم

ذاع صيت الأمير العربي الفلسطيني «جندبة» بن الحارث، حتى أصبح حديث القبائل تتناقل مأثوراته وأخبار مروءاته وفودُ الشعراء والحكواتية والمدَّاحين على طول ربوع الشام والجزيرة العربية بأسرها.

كان جندبة دائم التفكير في الأخطار المحدقة المحيطة بالعرب والمسلمين، أخطار تقلقه وتقض مضاجعه.

فعبر البحر قاتم الزرقة تُنسَج المؤامرات وتُحاك الخطط للهجوم على الخلافة الإسلامية الوليدة، وكم بعث الأمير الهرم جندبة برسله إلى خلفاء بني أمية ليطلعهم على ما يحمله هواء البحر من أخطار أقوام الروم البيزنطيين وحشودهم، وعيونهم غير الغافلة عن تلك الصحارى والوهاد، التي لا بد يومًا وأن تطأها جحافلهم الهمجية.

كان جندبة قد استقر رأيه في الأيام الأخيرة على ضرورة شد الرحال إلى الأراضي الحجازية؛ لطرح الأمر وأخذ المشورة.

هب جندبة من غفوته متخذًا طريقه عبر ردهات قصره إلى مخدع زوجته «الرباب»، مستهديًا طريقه بنصحها، ورجاحة عقلها، وبصيرتها الصائبة.

وحين تحسست أذن الرباب حفيف أطراف عباءته صرفت من فورها جارياتها، بعدما أمرتهن بإعداد القهوة والفاكهة وحليب المساء.

ومن فورها عاجلته بما يعتمل في خاطره ذلك المساء: هل آن أوان الرحيل للحجاز؟

– نعم يا رباب … فرأس المشورة وتاجها الراجح بالحجاز وأم القرى.

ضحكت الرباب وهي تأخذه بيده ليحط إلى جوارها على أريكتها: أنا جاهزة.

ضاحكها قائلًا: أنتِ دائمًا جاهزة يا رباب … رغم …

لم يكمل جملته، فقد التفت من فوره محيطًا بيديه الاثنتين خصرها في حرص شديد: ليتني يا رباب يمتد بي العمر … حتى أشهد وليدنا …

اندفعت الرباب معلنة: الصحصاح.

قبل جندبة بطنها: أجل، هو الصحصاح.

كان فكر الرباب منشغلًا بالقرار المفاجئ الذي اتخذه زوجها «جندبة» بالرحيل إلى الحجاز، وهي على هذه الحال من الإعياء حامل في شهرها السابع تعاني آلام حملها الثقيل.

ورغم أن هذا الفصل من السنة كان أشقها على جميع خلق الله، قيظًا وسهلًا، فإنها لم تعط بالًا لآلامها ومعاناة حملها.

بل هي كانت مشغولة البال، غائبة عن وعيها لا تجد لها ناصحًا أو معينًا؛ فزوجها «جندبة» مريض يعاني الليل بطوله حتى تغمض جفونه، فيستسلم بين أحضانها للسهاد.

صحيح أنه لم يجهر لها بشكواه مما يعانيه من آلام المرض الذي ألمَّ به كاسرًا باطشًا على هيئة حُمَّى في البداية، إلى أن حملت الرباب خبر مرضه إلى شيوخ القبيلة وحكمائها، دون أن تجرؤ على استقدام حكيم يطببه ويحقق له الشفاء.

كان جندبة يكره الحكماء والمطببين، لا يثق أبدًا في وصفاتهم وما يشيرون به، وكان حين تُفاتحه في الأمر يطرق مومئًا: يا رباب … الشافي هو الله.

•••

كانت «الرباب» تدرك أن الطريق إلى الأراضي المكرمة محفوف بالمخاطر، والقيظ يطبق على الأنفاس، وهي لم يسبق لها أبدًا معارضة رغبة أو قرار لزوجها، الذي أصبح مثقلًا بهموم المسلمين مهما كانت بساطة ذلك القرار وتلك الرغبة، فما العمل والرغبة هذه المرة هي الرحيل وهدم المضارب؟

تسندت الرباب على كتف إحدى جواريها المقربات بعدما أفضت لها بهواجسها، واندفعت من فورها متخلية عنها، مشيرة إلى نسائها وجواريها بجمع حاجيات زوجها أولًا، والحرص على ملابسه وخصوصياته وعتاده وكتبه التي أوصاها أول ما أوصاها بالحفاظ عليها، خاصة خزانة الخرائط التي لم تكن الرباب تفهم منها شيئًا بأوراقها الصفراء وجلودها الملونة، والتي كان جندبة يفرد بعضها متدارسًا مع بعض فرسانه ليلًا في أيام الشباب الخوالي.

تنهدت الرباب: رباه.

فالله وحده يعلم ما بها من آلام الحمل والخوف من مخاطر الطريق وشروره، لكن ما باليد حيلة إزاء رغبة زوجها المتلهف للرحيل إلى مكة، ودون أدنى اعتبار لما وصل إليه من وهن وضعف نتيجةً لما خاضه وقاساه من معارك، وما لحقه ودفع بدمه إلى النزيف مدرارًا.

كيف العمل وآلام حملها هي أصبحت لا تترك لها لحظة صفاء، وكأن وليدها — الذي وافقها زوجها جندبة على تسميته بالصحصاح — يعاني هو الآخر في أحشائها معركة ضارية في سبيل تحقيق تواجده وبقائه.

وحين تذكرت الرباب وليدها القادم الصحصاح انفرجت أساريرها فرحة مستبشرة، وهبت من فورها في حماس مفاجئ، مُعطيةً أوامرها بالإسراع بالرحيل.

•••

بل إن الغريب في الأمر أن «جندبة» كلما خاض معركة في حرب أو منازلة فروسية وألَمَّ به جرح كبير أو بسيط، يدفع به إلى ملازمة فراشه، نهبًا للآلام القاسية التي يعانيها، لم يكن يسمح للرباب بإحضار حكيم أو طبيب مداوٍ. وما أكثرهم على طول مضارب القبائل!

فكانت في كل مرة تقارب فراشه سائلة: لا حل لجرحك وما تعانيه يا جندبة سوى الإسراع باستحضار الطبيب، إلا أن جندبة ظل على الدوام، وكما لو كان بينه وبينهم عداء، لا أمل من التئامه يومًا.

لكم تذكر الرباب جراحه التي ألمت به على طول ما خاضه من معارك ومنازلات على طول الثغور والموانئ، التي كان جندبة يعاني الأمرين في أهمية تأمينها ضد كل غاصب.

هي تذكر جراحه في الأناضول، وتذكرها في الحمراء وغرناطة، وكريت … وآمد … وعمورية.

لكم عانت الأمرين وزوجها وابن عمها مستلقٍ طريح فراشه، يتألم في صمته وفي وحدته دون حتى أن يسمح لزواره من شيوخ القبائل ورسل الخليفة أمير المؤمنين في دمشق بزيارته وهو في أقصى حالات آلامه، مطلقًا العنان لأفكاره وهواجسه المصاحبة لمسير المعارك واتجاه الحرب الطاحنة الدائرة، التي لم تكن لتغيب عنه وعن مخيلته أحداثها وأطوارها لحظة بلحظة.

إلا أن الرباب لن تنسى ما حَيَتْ لحظات عودة جندبة المنتصر مجللًا بأقواس النصر، ودماؤه تنزف على جسده وساعديه كمثل أرجوان أحمر دامٍ.

•••

نزل الأمير جندبة وزوجته الفاتنة «الرباب» بوادٍ مزهر بأرض الحجاز، ونصب جنده وحرسه المضارب على قمة ذلك الوادي الفسيح، المخضب بروائح المسك ونبات الريحان والورود البرية، تخالطها روائح الذبائح المشوية، وأقيمت الاحتفالات الليلية التي كانت توليها «الرباب» عناية خاصة لإدخال السرور على قلب الأمير المثقل بعذابات العرب على طول صحاريهم ووهادهم؛ لما يحيطهم من أخطار لم تخفت نيرانها يومًا، أو حتى لحقبة أو لومضة.

ارتفعت أصوات الموسيقى وإيقاع رقصات الدبكة يخالطه إيقاع المجرودات والمعلقات العربية، وجاء صوت الشاعر مشحونًا معبرًا وهو يصف الغدر المكين لحَرْبة «جساس بن مرة» تخترق ظهر الجد الأكبر، عمود السرايا، «كليب» ملك العرب:

ضربه بها وتمكنت في حشاه
نفد الخشب قرطين من سرته.

يا لها من لحظة غادرة دائمًا ما يكرهها «جندبة»، وتسيل لها دموعه مدرارًا على وجنتيه!

وفي تلك الليلة القمرية اشتدت شجون «جندبة» لزوجته وابنه الذي أسمياه قبل ولادته ﺑ «الصحصاح»، فانتقل إليها وتمدد في إعياء داخل خبائها، وأفاض في الحديث عن ولده، وأهمية إرضاعه منذ المهد كُرْه الأعداء مع لبن الأم.

ومات «جندبة» قبل أن يكمل مشواره، وشقت عليه البنات والأمهات الصدور، وبكته النائحات، ودفن بوادي الصفا والمروة.

•••

وحين وُلِد «الصحصاح» متخليًا عن بطن أمه الرباب، وُلِد في العراء … بريًّا كوحوش الصحراء.

وُلِد يتيمًا مغتربًا محاطًا بحنان الأم الكسيرة، التي أرضعته عبر شواطئ البحار القاتمة البعيدة.

ومنذ نعومة أظفاره تربى «الصحصاح» وشبَّ على ظهور الخيول العربية التي أحسن اختيارها ومعاشرتها، تربَّى على عتاد الحرب والجهاد انتظارًا لليوم المشهود الذي تنبأ به الأب الراحل يومًا عبر وهاد الحجاز.

وهي النبوءة التي أطلت برأسها يومًا باتجاه التحقق على رمال الصحراء.

تلحف «الصحصاح» اليافع بالعراء، وغفا ثم تيقظ على شبح شيخ مُسِنٍّ بيده مقبض جواد شهير عالي الهامة بين العرب يُدعى «اللاحق»، وهو من أمهر خيول «بني مرة»، هامسًا في أذنه: ما خابت التربية فيك يا «صحصاح» يا ابن «جندبة».

وأغدق ذلك الشيخ المحسن العطايا «للصحصاح» من خيول وجمال بأحمالها، وخيول ورءوس أغنام ورعاة وجند وسيوف عواقل.

ومنذ شبابه المبكر، تبدت فروسية الصحصاح بين القبائل حين تصدى لملوك حضرموت في عشرين ألف فارس، وحين حالفه التوفيق فأنقذ ابنه الخليفة «مروان بن عبد الملك» وامتطى فرسته الشهباء، فكافأه الخليفة بالمجيء إلى عاصمة الأمويين.

ودخل أبواب دمشق محاطًا بجنده من أبناء الأمراء وهم يرشونه بالملح والجوهر والبلخشن، إلى أن دخل قصر الخلافة، فاحتضنه الخليفة سائلًا عن حاله، فأنشد:

إن كنت من أرض الشام مناظري
نحو الحجاز مخيم لا يطرف
ليلي بليلى طال حتى إنه
في كل جارحة فؤادي يزحف

وأغدق عليه الخليفة الهدايا والعطاء، وعقد عزمه على جنده، ورافقه في رحلات صيده وقنصه، وهو يعده عاقدًا العزم على أن هذا الفارس الفتي «الصحصاح» هو المنوط به منازلة تحالف الأروام المتربصين، وملكهم المتآمر «برجيس».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤