هروب الحارث من انتقام ذات الهمة

لم يجد الأمير ظالم له مهربًا مما أقدم عليه ولده الحارث من إجبار ابنة عمه ذات الهمة، وإخضاعها له دون إرادتها.

وكان الأمير ظالم غائبًا وقتها في صحبة أخيه إلى مقر الخلافة؛ لتقديم السبايا والغنائم واستشارة أمير المؤمنين في شئون ومسار الحرب.

تردد طويلًا خلال الطريق في كيفية مفاتحة شقيقه مظلوم فيما حدث خلال تغيبهما.

صحيح أن ما حدث اعتبره الحارث في حدود الشرع المتعارف عليه بين زوجين معقود كتابهما بشهادة أمير المؤمنين، إلا أن الأسلوب المقتحم المخادع الذي أقدم عليه ولده الحارث أفقده كل حق وشرعية، بالإضافة طبعًا لظروف ذات الهمة، وحالة الحرب الضاربة التي تخوضها من موقع القائدة الذي فرضته على الجميع بإقدامها ومهارتها في وضع الخطط، وإيقاع الهزائم تلو الهزائم في صفوف الأعداء.

وهو ما يختلف فيه الأب مع ابنه، الذي تحول حبه لابنة عمه إلى حقد أصفر، ليس مكانه بحال جبهة الحرب والجهاد في مواجهة عدو يبدع كل يوم في الخداع والتربص بالعرب والمسلمين، يضاف إلى هذا، التوصل إلى مختلف أسلحة الإبادة والفتك التي أصبحت هذه الحرب الطويلة مرتعًا سجالًا لتجريبها على أيدي الرومان البيزنطيين.

وهي جميعها أسلحة أفسدتها بصيرة «الداهية»، واقتنصتها عنوة من بين أيديهم، وبكل ما تتيحه الحرب من قدرات على الإقدام والمنازلة والفروسية، وما تتيحه أيضًا على الوجه الآخر من قدرات على الخداع والمراوغة والتلصص والتجسس والتنصت والاقتناص والاختفاء، من أجل الفوز بالنصر الذي افتقده العرب طويلًا قبل وصول ذات الهمة إلى هذا الموقع.

لكم اختطفت ذات الهمة عوامل النصر، وخاصة السلاح، من أيدي أعدائها وأعداء جيش المسلمين؛ ليصبح مصدر قوة في أيدي العرب.

ولعل الأمير ظالمًا شارك بنفسه في اختطاف ذلك الأسير السوري، الذي سبق الجميع في التوصل إلى اختراع القنابل النفطية، التي توقع بالهلع في قلوب الكتائب والفيالقة المحاربة، فيصيبها الذعر من هول النيران المتفجرة التي لم تسمع بها، ولم تر مثيلًا لها من قبل، فتلقي بأسلحتها من سيوف ومقاليع وخناجر ورماح ودروع، بعد أن تناقص أثرها؛ لتجري ذعرًا مولية الأدبار.

كيف شارك ظالم بنفسه في اختطاف ذلك الأسير السوري من داخل أغوار حصون القسطنطينية، وعاد به مع بقية العيارين والبصاصين سالمًا معافًى إلى حيث مضارب ذات الهمة، وبحسب ما أشارت وأمرت!

وكيف أدى اختراع ذلك الأسير السوري إلى ترجيح كفة جيوش أمير المؤمنين، وحسم بأسلحته الجديدة فرص النصر على الجانب العربي.

لقد كانت مهمة عسيرة شاقة تلك التي اضطلع بها ظالم حول إعادة أسير سبق أن اختطفه الأعداء، وأثاروا حوله ضجة هائلة.

وكثف الأعداء كل عيونهم وحراساتهم حول ذلك المخترع، عندما أصبح بين أيديهم، يواصل تجاربه على تطوير كل أسلحة الفتك الموجهة إلى صدور بني جلدته من العرب والمسلمين لصالح الأروام.

بل إن ظالم حين أفلح في استرداد ذلك الأسير السوري من أعماق معسكرات الأعداء داخل القسطنطينية، وعاد به سالمًا، بحسب ما أشارت به ابنة أخيه ذات الهمة، أصبح موضع التكريم المتواصل، سواء من جانبها أو من جانب أمير الحملة … أو أمير المؤمنين ذاته، الذي وصل إليه الخبر في عاصمة الخلافة، فبعث برسالة خطية خاصة له يكيل له الثناء.

فلم يعد السلاح الحاسم في هذه الحرب قاصرًا على السيف والمقلاع، بل داخلتها أساليب نارية، وغازات مسمومة توقع الجمال والخيول العربية قبل الرجال صرعى.

وهو التفوق الذي عقده الجميع على هيئة أكاليل على رأس ذات الهمة، تلهج به الشفاه، وتحقَّقه ظالم بنفسه في عيون الآلاف المؤلفة من المؤمنين، والذين أصبحوا اليوم ينامون ويصحون، على الإنشاد والدعاء لذات الهمة، ويتحاكون سِيَرها التي فاقت سِيَر القدماء.

ليت الحارث كان معه في بغداد والحجاز ليتحقق بنفسه مما أوصلتهم إليه ابنة عمه، حينئذ كان قد تروَّى وفكَّر كثيرًا قبل الإقدام على فعلته التي أغضبتها، هناك في مخاطر الجبهة وعلى مرأى من الجميع، حتى بصاصين الأعداء وجواسيسهم لن يغيب عنهم ما حدث.

ناهيك عن انكسارها، وعما سيجد من حمْل وتغيُّب عن المهام العسيرة التي تتحملها ذات الهمة، وتنام وتصحو عليها، من إعداد للجند، وتطبيب للجرحى، وبحث في كتبها القديمة على عادة جدها الصحصاح، لاستشفاف الطرق والمنافذ والثغرات، سواء في جبهة المسلمين أو أعدائهم.

كيف يطرح الأمر على مسامع أخيه الأصغر مظلوم؟ وكيف السبيل إلى إقناعه بإعادة جمع الشمل، وإقناع ابنته التي أصبح يخشاها ظالم إلى حد عدم القدرة على مواجهتها فيما بعد؟

وتصور ظالم وهو يدوس مضارب أخيه برفقته حرسه وعياريه وكلابه، أن من الأفضل التراخي في العودة إلى مقر ذات الهمة في «مالطة»، فالأيام والليالي هي الوحيدة الكفيلة بإخماد نيران الانتقام والغضب.

ويا له من غضب سيعاني منه هو وابنه طويلًا … طويلًا!

•••

وحين خرج مظلوم لاستقبال أخيه مرحبًا في عبوس لا يخلو من أحزان دفينة، وهو يطرق كفًّا بكف أسفًا، عرف ظالمٌ ما به.

ذلك أن حارس ذات الهمة مرزوقًا كان قد رافق والد ذات الهمة إلى مضاربه، وحكى له مرتعدًا تفاصيل ما حدث من الحارث وذات الهمة في غيبتهما، بعد أن أقنعه الحارث بشرعية اجتماعه بابنة عمه وزوجته، لحين فراره بصحبة الحارث إلى هنا؛ هربًا من غضب وثورة ذات الهمة أخته التي تربى معها منذ المهد.

وبكى مرزوق مهيلًا رمل الصحراء على رأسه ولحيته، حتى رقَّ قلبُ الأمير مظلوم لما أصبح يعانيه الخادم حسن النية والمقصد.

واختصارًا للوقت والجهد، أفهم الأب أخاه بمعرفته بتفاصيل ما حدث، وأن الخير فيما اختاره الله، ووافقه على أهمية تأخير سبل الرحيل إلى مالطة؛ أملًا في إخماد غضب ذات الهمة، وحتى لا يأكل الأخ لحم أخيه تحت سمع وبصر أعدائهم الطامعين.

وعرض مظلوم على أخيه أهمية مكاشفة أمير الحملة عبد الله بن سليم على ما حدث، والكيفية التي يراها لمداواة الجرح الأليم الغائر الذي أصاب الجميع في غير وقته.

خاصة وأمير الحملة يتمتع بمنزلة خاصة لا تعلوها منزلة في أعماق فاطمة.

وتحرج ظالم في البداية بعض الشيء في قبول هذا الأمر بإيصال ما حدث إلى أمير الحملة، مدركًا مدى حب وتقدير الأمير لشمائل ومزايا ذات الهمة، لكنه لم يجد بدًّا من الموافقة والتعجيل بالانتقال معًا إلى مضاربه، وخاصة وأن ما حدث لن يبعد كثيرًا عن أسماعه وحنكته في الإلمام بكل صغيرة وكبيرة هنا.

وهكذا اتخذ الشقيقان طريقهما إلى مضارب أمير الحملة، التي لا تبعد سوى مسيرة ساعات منهما، طالما أن الخير في المشورة حقنًا لدماء الأشقاء قبل استفحال الأمر.

•••

وما إن حط ركبهم المهموم على غير العادة داخل مضارب أمير الحملة ورأس قبائل بني سليم، حتى تبادلت الخيول وكلاب الحراسة الصهيل والنباح؛ مما أفزع الأمير فهبَّ من إغفاءته مستطلعًا الأمر، إلى حد تصوره لأخطار من جانب العدو حلَّت بالجميع ودون سابق مقدمات.

تبادل معهما تحية المساء، متفرسًا في وجهيهما، سائلًا من فوره مظلوم: خير؟

– يفعل الله كل خير.

وحين دخلا ديوان الأمير عبد الله بن سليم ودارت أقداح القهوة العربية، أشار مظلوم لرجاله بإدخال حارس الأميرة ذات الهمة الخاص مرزوق، وكان قد اصطحبه معه ضمن رجاله دون أن يلحظ أخوه الأكبر ظالم ذلك.

وما إن أشار عليه بإعادة حكاية الواقعة، حتى جثا الخادم السوداني المرتعد تهيبًا من أمير الحملة الذي طمأنه بنفسه؛ تعطشًا لمعرفة ما جرى في غيابهم.

وما إن أفاض مرزوق في إعادة حكاية ما حدث لحين توصله إلى خطة الاغتصاب، حتى هبَّ الأمير عبد الله من مجلسه فزعًا، مستغفرًا، طالبًا من فوره الإسراع ببعث رسول للاطمئنان على صحة ذات الهمة قبل كل شيء، بل تمادى في غضبه إلى حد السب والإنقاص من الحارث على مشهد من أبيه الذي أطرق منزويًا لا يعرف له مسلكًا.

بل إن الأمير اندفع خارجًا مصفقًا بيديه، طالبًا من بعض جنده وطبيبه الخاص بالتوجه ليلًا إلى مقر الأميرة ذات الهمة وملازمتها والإسراع برعايتها، وإبلاغه معجلًا بتفاصيل صحتها وحالة جند المسلمين في الجزيرة البعيدة.

وحين عاد إليهم عقب إصداره لأوامره العاجلة، أعاد الاطمئنان إلى ضيفيه، مشيرًا إلى ضرورة وأهمية جمع الشمل العربي بين قبائل المسلمين وأقوامها المتناحرة؛ «فما بالنا بالقبيلة الواحدة؟!»

وأخذ الأمير عبد الله على عاتقه أمر ترضية ذات الهمة وتطييب خاطرها، حتى ولو اضطر إلى السفر العاجل بمفرده والوصول إليها قبل الجميع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤