ولادة عبد الوهاب

لزمت الأميرة ذات الهمة قصرها وفراشها أيامًا بعد أن حطَّ عليها مرض ثقيل أشاع الخدر في أطرافها، وأحدث لها تحولات بدنية لم تكن تعرفها من قبل حين كانت فتاة، وهي التي لم تذق للراحة طعمًا من قبل، ولم تعتد على حياة الكسل والتراخي، ومع ذلك دأبت على أداء حتى أبسط واجباتها اليومية بكل حرص ونشاط.

إلا إنها كلما استرجعت دقائق وأبعاد ما حدث يحوطها على الفور حزن دفين، يدفع بها إلى حالق الاكتئاب الذي لا قرار له، فتمضي تضرب أخماسًا بأسداس سخطًا على ابن عمها وحارسها المقرب، بل والقصر بأسره، بكل من فيه من كبير وصغير، الذين وصل بهم التهاون إلى حد السماح حتى لأبيها ذاته باقتحام ودخول مخدعها دون علم منها، وهي التي تحرص على أرواح أبسط جنودها، بل وحتى أسرى حروبها، بل وحياة ابن عمها الحارث ذاته، فحين حق لها قتله وإزهاق روحه في ميدان المنازلة على مرأى من شهودهما، اكتفت بإلقائه عند سنابك خيلها؛ حيث وضعه اللائق دون التسبب في قتله.

كانت ذات الهمة حزينة لأن التسيب قد عم، فرغم أن لهيب الحرب المستعرة قد انحسر، إلا أن الهدنة لن تستمر طويلًا ما دام الطامعون ما زالوا يحملون السلاح، ويتحينون الفرص للعدوان والغزو، وما زالت رغباتهم الطموحة تدفع ملوكهم وحكامهم إلى محاولة التسلط والسيطرة على بلاد المسلمين.

وكانت كلما تمادت في أفكارها ازدادت اكفهرارًا ومرضًا، وملازمة للفراش، ورفضًا لتناول الطعام، سوى أقداح العصير التي تعدُّها لها وصيفتها التي هي في موقع أمها الرباب، وتتجرعها ذات الهمة لمجرد ترطيب حلقها الجاف وجوفها، لتغط من جديد في نومها نهبًا للكوابيس الثقيلة المحاصرة، والتي كانت ترى فيها نفسها في كل الحالات مجرد أسيرة محاصرة بالأعداء من كل جانب، حتى وجوه وسحن أقرب مقربيها.

وبدأت مع توالي الأيام تعيد استرجاع ما يدخل أمعاءها.

وهنا عرفت جاريتها الرباب مكنونها وما ألم بها من آلام، من تلك التي عادة ما تُصاحب الحمل في أشهره الأولى.

ورأت المرأة بصائب بصيرتها أن من الأفضل عدم إخبار ذات الهمة بأسباب مرضها وأعراضه، وإلا حطت عليها الهموم، واستبدت بها الهواجس التي قد لا يعلم أحد مداها، خاصة وهي على ما هي فيه من هزال وقنوط، ورفض دائم لتناول وجبات طعامها، وإذا حدَث واشتهت صنفًا أو فاكهة معينة سرعان ما تعيدها من فمها مترنحة لا تدري ما بها.

ورغم ذلك لم تتخل ذات الهمة عن واجباتها في متابعة أخبار الجبهات والتحصينات، والرد على الرسائل، وصرف المؤن، بل والتحامل على امتطاء صهوة جوادها والخروج مُخفيةً في صعوبة بالغة معاناتها على أعين الجند والجميع.

وأفزعها في البداية تحسُّسها نظرات وإيماءات العيون المحيطة بها، هل إن الجميع على دراية بما حدث؟

وبالطبع تجرَّأ على التقدم إليها عشرات المظلومين من تصرفات ابن عمها الحارث، شاكين من الظلم والتجبر، وكانت كلما سمعتها من فم شاكٍ أو مظلوم ازدادت إعياء فوق إعياء.

فكانت تسرع الخُطا إلى ملازمة مضاربها وفراشها وحيدة صامتة اليوم بطوله، وزاد من فداحة الأمر تعرُّفها ذات ليلة على ما بها، فصارحت به في البداية لرباب: ما الذي يحدث يا رباب؟ ماذا دهاني؟

وحاولت الرباب تكتم رغبتها الدفينة في الإفصاح، وتغيير ما تراجع عن ذكره لسانها، وأشارت عليها بأهمية إحضار طبيب مداوٍ أو حكيم؛ لاستطلاعها والتعرف عما بها.

وتمادت في ذكر محاسن «وشطارة» طبيب أمير الحرب المعين من قبل أمير المؤمنين عبد الله بن سليم، الذي وصل إلى هنا خصيصًا بتكليف منه للكشف عليها. وكانت ذات الهمة قد رفضت مجرد استقباله هو ومرافقيه الذين قاموا على عجل محملين بالهدايا، وادعت أنها بخير ولا داعي للحكماء والأطباء الذين لم تعتدهم أصلًا من قبل.

وأعادت الرباب التوسل لاستقبال حكيم الأمير المرسل، فرفضت ذات الهمة رفضًا صارمًا، وكادت أن تطرد الجارية الحنون التي اتخذت منها أمًّا، وصرخت: قلت … لأ.

عاودت الرباب انشغالها بتحضير شرابها العشبي الساخن مبتعدة، حين عاودت ذات الهمة التساؤل عما بها، وكأنها تخفي عن نفسها أسباب ما حط عليها من داء: تراه …

من جديد رمقتها الرباب في إشفاق دون أن تنطق مفصحة عن أعراض ما بها.

قالت: ترينه الحمل.

وتصورت على الفور سلسلة لا متناهية من ومضات ما سيحدث ويحل بها، وما يسببه لها توالي ظروف الحمل وأشهره التسعة إلى حين أوان الطلق والوضع، وما سيستجد من كوارث.

وحين وافقتها جاريتها اعتراها من جديد الغضب والهياج المكتوم الذي لم يُخفتْ لهيبه سوى الاستسلام للنوم المضطرب المتقطع؛ لتصحو آخر الليل وحدها تتحسس بطنها المنتفخة، متصورة وصول ما بها من ضعف وإعياء إلى مسامع الرومان: ذات الهمة القائدة حامل. إنها لكارثة!

•••

وتحققت نبوءة ذات الهمة وهواجسها، فالأمر على هذا الوضع ينذر بالكارثة التي ستحل فوق رءوس الجميع، وذلك حين حملت إليها الأنباء المتدفقة التي تجمعت من أفواه بصاصيها ومكاتباتهم، وأخصهم عيارها القزم صاحب «الملاعيب» «أبو الحصين»، الذي ظل على مقربة منها وعيناه على مدى البحر الشاهق، لا تغيب عن تحركات عاصمة الأروام القسطنطينية وما يجري بها، وآخرها جمع ملك الروم «لاوون» أمراءه وبطارقته استعدادًا لشن الهجوم المفاجئ الساحق على الثغور والموانئ البحرية التي استردها العرب المسلمون، تمهيدًا للوصول إلى قلب الخلافة ذاتها.

كل هذا وذات الهمة طريحة تتحسس بيديها الاثنتين بطنها الذي يعلو منتفخًا يومًا بعد يوم.

كيف التصرف إذن وهي التي حرم عليها مجرد امتطاء صهوة جوادها، وأصبحت تقطع الفراسخ المتباعدة مشيًا كلما عنَّ لها المرور اليومي على معسكرات ومضارب ومراسي سفن المسلمين، تحسبًا لحالة الحرب القائمة على قدم وساق منذرة بالموت والدمار المعجل الذي يحوم على رءوس الجميع.

ووصل الانزعاج بذات الهمة إلى درجة أن الأعداء لا بد وقد أصبحوا يعرفون ما بها؛ ذلك الذي لم يعد خفيًّا على أحد، فما بال الأعداء المتربصين؟

كيف أنها حامل في شهورها الأخيرة تعاني آلام وغثيان الحمل والطلق والولادة، وهي الفارسة المحاربة التي أصبحت الآن حبيسة جلسات النساء، من مولدات وقابلات وجوارٍ يقدمن لها النصح والإرشاد؟

تتحرك خطوات داخل أبهاء قصرها متسندة من الإعياء، فكيف لها الآن بقيادة المعارك في مواجهة جيوش أوروبا المتحالفة تحت شارة الصليب، بجنودها وتحفزها وعتادها، ولو من مدخل الانتقام والتحدي، بسبب التجبر الذي أبدته ذات الهمة منذ توليها قيادة تحالف العرب المسلمين؟

ولم تجد ذات الهمة منفذًا لوضعها على هذا النحو، بعد أن فشلت ولم تفلح جميع الجهود التي بذلت لإنزال وليدها … من بطنها قبل حلول أوانه.

وكأن الوليد بدوره يبذل أقصى طاقات صموده ليخرج إلى الحياة، أو وكأنه يتحدى كل محاولات إزهاقه كروح جديدة حق عليها الحياة.

أرسلت الرسل البحرية إلى الخليفة الهادي في مقره الجديد تُعلِمُه بالوضع الجديد، وتخليها عن قيادة أمانة جيوش المسلمين؛ نظرًا إلى مرضها، كما أرسلت إلى أمير أمراء الحملة عبد الله ووالدها مظلوم، ولكن لا من مجيب.

– ماذا يحدث؟!

بل إن كل من راسلتهم بادر بإرسال طبيبه وحكيمه، ودعاء الاستفسار عن صحتها الشخصية دون إدراك للخطر المحدق.

•••

وجاء الفرج حين تزايدت الآلام، ووضعت ذات الهمة ذات غسق مولودها، وهو غلام أسمر اللون، داعج العينين، مفتول الذراعين، لُقِّب من فوره بعبد الوهاب، ودعته بعض النسوة الصالحات: بترس الرسول.

وحين تفرسته ذات الهمة استدارت إليه محاولة قتله وإزهاق روحه، فاختطفته النسوة من بين ذراعيها، جوارٍ مدعيات موته؛ فتربى في الخفاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤