عبد الوهاب يعود إلى الحجاز ومكة

عندما هبت ذات الهمة من نومها مندفعة جالسة في منتصف فراشها، عقب إغفاءة ولادتها المتعثرة لابنها عبد الوهاب، كمن قررت أمرًا خاطفًا أصرت عليه، هزَّت من فورها جرسًا معلقًا بالفراش بالقرب من رأسها، لاستدعاء جاريتها: رباب … رباب.

فُتِح الباب في حذر، وأطلت منه الجواري والوصيفات المستطلعة لما بها، فأشارت لهن بالابتعاد: اتركنني وحدي.

اندفعت الرباب داخلة محتضنة عبد الوهاب بكلتا ذراعيها، بعد أن غسلته وألبسته، متقدمة في حبور من فراش ذات الهمة، التي فتحت ذراعيها لتتلقفه متأملة: يا ربي … أسمر اللون.

وكانت تلك هي اللحظة الأولى التي صفا فيها بالها لتتأمل غلامها في حنو، وهو إحساس لم تكن لتعرفه أبدًا ذات الهمة التي ولدت على الحرب والسبي وحياة الكر والفر والغزو.

هزَّت رأسها مُوافِقةً جاريتها الرباب على أن الخيرة فيما اختاره الله حقًّا: أبيض أو أسود.

كان وجه الغلام عذبًا يفيض سماحة وهو يفتح عينيه في ثباتٍ متأملًا وجه أمه وكأنه يقرأ عن يقين ما يعتمل في أعماقها بفراسته المبكرة.

قبلته ذات الهمة وأرقدته إلى جانبها في حرص، ونزلت عن فراشها متجهة إلى حمامها الملحق بمخدعها وهي تئن قليلًا في إعياء كظيم.

وحين عادت أمرت الرباب بصرف جميع الفتيات حازمة أمرها على الانفراد وإعمال التفكير المضني؛ بحثًا عن أقرب الحلول وأسلمها وأبلغها بالنسبة إلى الوليد عبد الوهاب.

ولم يكن أمامها سوى مسلكين، فإما أن تواجه الجميع متحدية، معلنة وضعها لوليدها عبد الوهاب من الحارث بعلها وابن عمها، وفي مثل هذه الحالة عليها أن تتقبله كزوج ورجل، حتى بعدما اقترفت يداه من عمل خسيس متلصص لا يليق أبدًا برجل وفارس، وإما أن تواصل طريق معاداته على ما اقترف، وترصد لحظة الانتقام منه وما أيسرها في حالة ذات الهمة ويدها الطولى، التي لا بد وأن تصل إليه أينما كان، وتحت أي سماء، لتشفي غليلها منه، بل ومن أبيه عمها ظالم ذاته.

وفي الحالة الثانية، عليها تقبُّل نزع عبد الوهاب ابنها لتدفع به إلى المرضعات ليُربَّى في الخفاء بعيدًا عن كل العيون حتى عينيها هي أمه.

وحين استراحت قليلًا إلى تلك الفكرة التي أعياها البحث عنها طويلًا، تنفست شهيق الراحة بعد طول عناء، ذاكرة لنفسها أن عليها تقبل الرضاء بما حدث، فما الذي ينبغي فعله وقد وقع المكتوب بالأسلوب العاتي المشحون بكل روائح الغدر والجبن والخيانة من جانب ذلك المأزق؛ ابن عمها الحارث: ماذا أفعل؟

لا مهرب لذات الهمة سوى تقبُّل ما حلَّ عليها من مصابٍ، ليضاعف ما بها من أعباء جسامٍ تهدُّ أعتى الجبال هدًّا؛ أن تجد نفسها يومًا — ووسط أجيج تلك الحرب المستعرة الجرارة الضاربة — طريحة الفراش حاملًا تعاني من ذلك آلام ولادتها على مدى تسعة شهور، كمثل تسعة قرون بتمامها، وحتى عندما يُقدَّر لها وضع مولودها الأول عبد الوهاب مثل كل النساء لا تقدر على إشهاره وحمايته بين صدرها وجوارحها ككل الأمهات.

ومن هنا، فلا مهرب ومرفأ آمنًا سوى تقبل هذا الحل الأقرب، وهو أن يُنزع طفلها الأول من بين ذراعيها وصدرها ليُربَّى في الخفاء كمثل اليتيم.

وربما كان ذلك الخفاء البعيد هو سهول الحجاز أو نجد أو فلسطين، ودون أن يُقدَّر لها رؤيته ومشاهدة نموه حين يحبو وحين ينطق أولى كلماته ورغباته: ماما.

وحين ألقت ذات الهمة نظرة حانية عابرة على وجه الغلام، عادت فتنفست زافرة عن راحة، متذكرة ما عانته أمهات مثلها قبل.

تذكرت أم النبي موسى حين ألقت وحيدها في أعماق اليم، وتذكرت أم النبي محمد آمنة بنت وهب حين دفعت بوليدها إلى مرضعته حليمة، وتذكرت أم عنترة العبسي، وأم الهلالي أبي زيد، وأم إبراهيم الخليل وغيرهن.

وحين أشارت ذات الهمة إلى مربيتها الرباب اقتربت منها على استحياء، وجاهدت في الحديث إليها همسًا وصوتها لا يخلو من مرارة، وهي التي لم تعتد الهمس أبدًا من قبل، وخصوصًا مع جاريتها ومربيتها الرباب: ماذا أفعل؟

إن كلا المسلكين يُدْميانها إلى حد المرارة التي أصبحت تتجرعها في فمها الجاف كعود الخشب في الأشهر الأخيرة.

وكانت الرباب أقدر النساء على تفهم شخصية ذات الهمة أو «فطوطة» كما كانت تدللها منذ المهد.

تمتمت الرباب: لك ما ترينه يا فاطمة … ولا داعي للعجلة.

لكم ترددت الدلهمة طويلًا أمام معضلة الاختيار في مواجهة أعدائها وتوقيت منازلتهم، ما بين رومان وجرمان وساكسون وكلت وغاليين وبلغار وإسبان وقبارصة، وكل ملل الأرض، إلى حين تحين القرار الصائب واتخاذه في النهاية.

لكنها — وعلى هذا الفراش — تعجز عن اتخاذ قرارها، الذي على ضوئه وهداه تواصل مسيرتها التي انقطعت عنها، إلى حد أن أصبح الوضع على الجبهة ينذر بكل الأخطار.

وها هي تقارير ومحصلة ما توصل إليه البصاصون والعيارون، وبعثوا به إليها من داخل أسوار القسطنطينية، وبقية عواصم الروم من إسبانيا والبندقية وروما وأثينا وصقلية وقرطاج وفرنسا وبلاد الغال.

ها هي المحصلة التي لم تعد تقوى على إعادة تلقي حقائقها الصادمة العسيرة، وهي المسئولة في الأول والآخر عن أمن وأرواح ملايين العرب المسلمين في كل بقاع وكيانات الشرق.

ها هي محصلة تقارير البصاصين التي تنذر بكل الأخطار، التي تراوح ما بين حشود بحرية رابضة عبر البحر الغامض المحاصر، وحشود برية على الأطراف الجنوبية لبلاد الغال، وما بين أسلحة جديدة أصبحت تدفع بها ترساناتهم ليعاد تصويبها إلى الصدور العربية دون أدنى رحمة.

كل هذا والقائد المحارب ذات الهمة طريحة آلام المخاض … ومضت تنهش خصلات شعرها محتدة: ماذا أفعل؟

صرخت هذه المرة وهي تشد خصلات شعرها بكل عنف؛ مما دفع بالغلام إلى مواصلة الصراخ.

وحين طرقت إحدى الجاريات الباب استئذانًا بتقديم الرسائل العاجلة إلى ذات الهمة، لم يُسمح لها بالدخول، وهي التي كانت تتعجل رسائل الجبهة واقفة على قدميها، ولو كانت في سابع أطوار نومها: رسائل الجبهة … أية جبهة؟

قالت متندمة وهي تزم رأسها بشال، ثم تابعت تقول: أية جبهة؟ الجبهة هنا، فرضت عليَّ هنا قسرًا ودون سابق إنذار.

عانت ذات الهمة طويلًا، الشهور إثر الأيام إلى أن نما جنين قرارها بتكتم أخبار حدث وضعها، وآثرت تربية عبد الوهاب مودعةً إيَّاه لدى إحدى القابلات، وكانت المرأة تحضره لها ما بين أسبوع إلى آخر لتراه وتضاحكه كأم، لتعود به آخر الليل إلى مضاربها.

واستراحت ذات الهمة كمن وجد أخيرًا صديقًا حميمًا تستأنس إليه، وكانت كلما جيء به إليها عكفت تهدهده وتحنو عليه وتقبل أطرافه.

وبدا عبد الوهاب كمن يدرك أبعاد ما بها إلى درجة كانت تُرْبكُها وتثير العجب في نفسها.

وكانت كلما استعانت بالرباب لتفهم لغز عبد الوهاب، وهي مربيتها وأمها في الرضاعة، مشيرة إلى طفولتها هي قائلة: إنه ابنك يا فاطمة.

– إلى هذا الحد يا رباب؟

– وأكثر … غدًا ترين.

وصبرت ذات الهمة على تربية الغلام بعيدًا عن دفء صدرها، إلى أن اشتد ساعده وأصبح قادرًا على الخطو والنطق، وأمره ما زال مختفيًا عن كل عين حتى عن أبيها مظلوم نفسه، الذي فوجئت به عقب عودتهم إلى مالطة يفاتحها عن الغلام متسللًا حذرًا طيعًا كعادته.

وبدا لها أنه على دراية بتفاصيل قصة إنجابها، بل واسم الغلام: «عبد الوهاب».

وزاد من فداحة الأمر الذي ألهب مشاعر ذات الهمة ما أخبرها به والدها، من أن ابن عمها ظالم يطالب بأحقيته في رؤية الغلام وتأمله؛ لكي تقر له عين.

وكأن انقلابًا كونيًّا قد حدث للعالم، كأن تشرق شمس الصباح حين ينبغي أن تغرب، ذلك أن ذات الهمة انقلبت فجأة كنمر كاسر في وجه أبيها، ممتشقة حسامها معلنة الحرب التي ستسيل الدم الواحد أنهارًا في تلك الغربة التي يبدو أنها لن تقصر بحال في يوم من الأيام.

وهنا قام إليها الأب محتضنًا، مهدئًا، واعدًا بإصلاح الوضع برمته بين أخيه وابنته.

وعلى هذا النحو الدامي وجد والدها الأمير مظلوم نفسه نهبًا للطرفين المتخاصمين، ابنته وأخيه في الصراع حول عبد الوهاب الذي وجد له مكانًا حانيًا في قلبه، منذ أن وقعت عيناه عليه في ثباته ويقظته، ورؤية ذلك الذكاء المتوقد المُشعِّ من عينيه السوداوين المُفْصِحتين، فبدأ يصحبه على جواده الأشهب واضعًا اللجام في قبضتيه الصغيرتين.

بل إن الأب الطيب مظلومًا رأى في الغلام الحصيف رابطة دم جديدة تضاف بينه وبين أخيه، وليس العكس، وكان كثيرًا ما يمسك عن الإفاضة لأخيه بمآثر عبد الوهاب التي صاحبت مولده وصباه المبكر.

أما ظالم فكان يجد في صفاء قلب أخيه منفذًا، مُؤَكِّدًا على أن رغبته في رؤية الغلام ما هي إلا رغبة جد تجاه حفيده، فهو أرفع وأعز الولد.

بل إن الأمير ظالمًا تمكن بنعومة حديثه والإعراب دومًا عن رغبته في رؤية حفيده من استمالة قلوب الجميع وعطفهم، حتى أمير الحملة ذاتها المعين من قبل أمير المؤمنين عبد الله بن سليم، الذي له دالة كبيرة ومنزلة عميقة لدى ذات الهمة، فوعد بالتدخل لجمع الشمل، خاصة وقد أوشكت الهدنة على الانتهاء بين العرب وبين التحالف الرومي، الذي بدأت فلوله تتسرب وتواصل تحرشها وتقدمها باتجاه مواقع المسلمين.

وهذا هو الأمر الذي نبهت له مرارًا ذات الهمة بمبادرة الهجوم والجهاد كأفضل وسيلة للدفاع.

ولكن كيف الطريق إلى التفاف الجميع حول هذا الرأي والخلاف يدب بين الأشقاء، منذرًا بحرب داخلية بين أعضاء الجسد الواحد؟

وحين حاول الأمير عبد الله بن سليم إيضاح الأمر لذات الهمة، ولو من مدخل ما هم مقبلون عليه من أخطار وهجوم لرد الأعداء، واصلت رفضها بحدة لم يشهدها قبلُ، وهو الذي زارها محملًا بالهدايا النفيسة لعبد الوهاب، بالإضافة إلى ما وصله من هدايا أمير المؤمنين الخليفة المهدي والأمراء.

إلا أن ذات الهمة لم تجد حجة تسوقها في طرح قضية عبد الوهاب على حكماء عرب الحجاز ومكة، والاستشهاد بصائب مشورتهم في التحكيم بينها وبين عمها ظالم وابنه الحارث.

لكنها نجحت في تأجيل المهمة إلى حين الانتهاء من الاستعداد والخروج لصد الأعداء.

وحينئذ سيجد الجميع متسعًا لطرح القضية من مجمل جوانبها وزواياها، بدءًا بالزواج الذي فُرِض عليها وغيَّر مجرى حياتها بكامله كمحاربة تتصدى لقيادة رجال، وهي المرأة التي انشغلت بالجهاد والدفاع عن ثغور المسلمين، وانتهاء بخديعة الحارث واستهتاره في ظروف حرب كبيرة مندلعة حتى مولد عبد الوهاب.

بل إن الأميرة ذات الهمة وجدت الفرصة سانحة لتعريف الممثل الشخصي لأمير المؤمنين، عبد الله بن سليم، على مدى الأضرار الجسيمة التي لحقت بالصفوف العربية في مواجهة الأعداء الأروام نتيجة لفعلة ابن عمها.

لذا آثرت ذات الهمة الاجتماع السري الانفرادي بأمير الحملة في قصرها، فتقبل عبد الله بن سليم دعوتها شاكرًا، وهو الذي يذكر لها مدى الدهر إنقاذها لابنه الوحيد، حين وقع وكتيبته بكاملها أسرى في أيدي الأعداء لحين تمكنت ذات الهمة من فك أسره والانتقام له.

وفي اليوم المحدد لاجتماعهما الثنائي السري، أحضرت ذات الهمة في حوزتها محصلة التقارير والوثائق التي جمعها بصاصوها وعياروها من داخل عواصم القسطنطينية، والمتصلة بالشائعات والتقولات التي وصلت مسامع الأعداء وعيونهم، فاتخذوها وسيلة للنيل منها ومن شرفها.

بل إن الأكثر مرارة هو مدى استفادة الأعداء من ذلك التمزق والتصدع الذي اعترى الجبهة العربية، وتعرضها مراتٍ ثلاثًا للاغتيال داخل حصنها، مرة بالسم الزعاف، وأخرى بالسيوف والخناجر، وثالثة بإيعاز كاذب من أمير المؤمنين؛ مما جعل أمير الحملة عبد الله بن سليم يستبشع الأمر، إلى حد إعادة قراءة التقرير الخاص بتلك الفاجعة الأخيرة بضع مرات متسائلًا: إلى هذا الحد!

غمغمت ذات الهمة في أسى: وأكثر من هذا يا أمير.

قال عبد الله بن سليم: إلى هذا الحد الدنيء تسمم جميع الآبار؟

زفرت ذات الهمة: إنهم يسممون حتى الهواء الطائر الذي نتنفسه.

وعادت فأردفت: وكما ترى يا أمير، نحن الذين نهبهم بخلافاتنا أسلحة التسمم، وزرع بذور الغدر بين الأشقاء.

هنا قاربها الأمير عبد الله بن سليم مثبتًا عينيه الصغيرتين في عينيها، موقنًا مما تعنيه، إلا أن ذات الهمة آثرت عدم الإفصاح عن الدور المدمر الذي أصبح يلعبه عمها ظالم وابنه الحارث.

ولم يتمالك أمير الحملة نفسه وهو يسترجع معلوماته عن مدى تعاظم قوة عمها الأمير ظالم وابنه وفيالقهما وتحالفهما مع وزير أمير المؤمنين المقرب «عقبة»، والنظر إلى الحرب والجهاد باعتبارهما مصدرًا للنفوذ والاستحواذ على الأسلاب، من عروش وغالي الجوهر والثراء، ودون أدنى اعتبار للأخطار المحيطة التي ستؤدي إلى هزيمة وإذلال العرب والمسلمين.

ورغم معرفة عبد الله بن سليم بتفاصيل تلك المخازي وقنواتها المستشرية كمثل سوس ضارب ينخر في أعماق خشب الزان، إلا أنه آثر بحكمته إعادة جمع الشمل مُهدِّئًا من روع ذات الهمة وأحزانها الآسية الدفينة.

وحين اجتمع الأمير عبد الله بن سليم بعمها ظالم لإبلاغه بما اتفق عليه مع ذات الهمة، وافق على مضض على تقديم أولويات الحرب والجهاد، إلى أن يحين موعد إعادة مناقشة قضية عبد الوهاب، مع ضرورة العودة به إلى مقر الخلافة وعرب الحجاز ونجد، وزيارة قبر رسول الله .

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤