هارون الرشيد يحارب تحت راياتعبد الوهاب!

ما إن اقتاد أبو محمد البطال الأميرة ذات الهمة والأمير عبد الوهاب ليطلعهما على محتويات السفن الثلاث التي استولى عليها داخل مدن ومعسكرات ومراكز قيادات الأروام الجديدة الخفية، حتى وصل بها الاندهاش إلى أقصى مداه.

وأبدت إعجابها بقدرة البطال على جمع ذلك الحشد الهائل من المعلومات والوثائق، التي عانى الأروام الأمرين في إخفائها لئلا يحصل عليها العرب.

وأثبت هذا حرص البطال وأتباعه على مراقبة تحركات الأعداء خلال فترة تغيب ذات الهمة وعبد الوهاب في عاصمة الخلافة، ثم سفرهما إلى الأراضي الحجازية، وحدث زواج الأمير عبد الوهاب بوادي الحجاز.

فكان كلما وقع بصر ذات الهمة على محتويات سفينة تضاعف إعجابها بقدرات أبي محمد ومهاراته، لما وصلت إليه يده الخفيفة التي تسلب حقًّا من العين كحلها، هو وأتباعه من العيارين والبصاصين والمقاتلين الشباب، الذين أحسن تدريبهم بحسب توجيهات ذات الهمة، ورجاحة فكر الأمير عبد الوهاب.

وكلما أبدت ذات الهمة رغبتها في الاطلاع على وثيقة أو خريطة أو خطة هجوم سرية وضعها الأروام ضد العرب، أغرقها أبو محمد البطال بفيض لا ينتهي من المعلومات الدقيقة التي كان يسوقها على طريقته الساخرة المرحة، البعيدة عن كل تعالٍ، دافعًا ذات الهمة إلى كتم ضحكاتها دون جدوى.

أما تعليقات البطال الساخرة، فكانت منصبة في عمومها على مدى غباء الأعداء وغفلتهم، برغم الحصار الصارم الذي فرضه الملك لاوون — أو ليون الأيزوري — بنفسه هو وقادته على تضليل البطال وأتباعه بمختلف الطرق والوسائل، التي كانت تبدو في نظر البطال ومن جانبه غاية في السذاجة والغباء.

وكانت ذات الهمة تبذل أقصى جهدها للسيطرة على نفسها لئلا تنقاد بسهولة لنكاته التي تضحك الحجر قبل البشر، ولو من أجل التركيز على ما اقتنصه البطال هو وديوانه الملحق من معلومات وخطط حربية، بالإضافة إلى محتويات نفيسة من الذهب والفضة، وعروش وتيجان، وأختام دول، وأسرى من كبار الأمراء والأميرات الأروام، وبطارقة بأزيائهم ولحاهم المرسلة، وأسلحة متطورة ومخترعيها وخبرائها، ووحدات مصانعها، وتصميماتها المجسدة الجليلة، وكيفية تركيبها وتشغيلها وهكذا.

كل هذا والبطال لا يكف عن إعادة سرد وتمثيل ظروف كل عنصر من الآلاف المؤلفة التي اقتنصها وتوصل إليها، وعن معابثة أسراره وسباياه بلغاتهم، حتى بدا الأمر لذات الهمة والأمير عبد الوهاب كما لو أن الأسرى ذاتهم في أغلالهم ومذلتهم يضحكون من البطال وقفشاتهم، وكما لو أنهم يستعذبون نكاته وقفشاته وسخريته منهم، إلى حدٍّ أنساهم أسرهم وما أصبحوا فيه من سوء حال وبعد عن أوطانهم وأسرهم.

فكان البطال يضاحكهم ويمازحهم بلغاتهم، سواء أكانت يونانية قديمة، أو قبرصية أناضولية، أو فرنسية دارجة، أو رومانية لاتينية، أو جرمانية، فيغرقون في الضحك والمباسطة، بل كانوا يتبارون في المساعدة لفك أسرار وطلاسم الخطط الحربية المجهزة ضد العرب، وكذلك الإسراع بتقديم ما يلزم من معلومات تيسر الإسراع بفك مختلف الأسلحة المعقدة وتركيباتها.

وكان البطال من جانبه يُحسن معاملتهم، ولا يرد لهم طلبًا، فيما عدا إطلاق السراح — بالطبع — والعودة إلى أوطانهم، لدرجة أن بعضهم فضَّل — من جانبه مستسلمًا — العمل بورش الأسلحة العربية، مقدمًا خبراته عن رضا، حتى إن ذات الهمة غالبها الضحك ذات مرة من أساليب البطال الناعمة في ترويضهم واستئناسهم إلى هذا الحد، فهمست في أذنه: ما الخبر يا أبا محمد … هل أنت جنَّدتهم؟

فأجابها البطال: ما تفرق معهم … هنا … هناك، المهم العمل للحصول على الرزق حتى في الحرب.

وقفز من فوره مخرجًا زجاجة من عب أحدهم، وكان مخترعًا وله لحية حمراء جليلة: المهم هذا.

فضحك الرومي الأحمر الشعر واللحية مختطفًا الزجاجة في حذر من يد البطال قائلًا: هذا ماء.

وأضاف أبو محمد البطال: ماء … أو مسكر … المهم أن تعمل هنا.

ثم دفع به إلى مواصلة عمله: المهم ما تصل إليه أيدينا منهم … أحسن من بلاويهم وكوارثهم.

وضاحكه الأمير عبد الوهاب: المهم أنك جنَّدته يا أبا محمد.

– تسعة آلاف من هذه العينة السيئة.

ثم اندفع مشيرًا إلى معسكراتهم: المهم أنهم فرحون هنا، وجميعهم يحبون الشرب أكثر من أي شيء آخر.

وضحكت ذات الهمة مستبشرة بما اقتنصه البطال من وافر الأسرى والأسلحة والأسرار، من دون كلل، خلال رحلتها هي وعبد الوهاب إلى الحجاز وبغداد.

بل إن ما أوصل ذات الهمة إلى أقصى درجات اندهاشها من فعل أبي محمد البطال توصله إلى ما أحدثه الأروام من تغيير لأماكن لقاءات وفودهم وقادتهم داخل أوطان لم تسمع بها أصلًا، وكاتدرائيات ودوقيات متناهية السرية، ليزرع داخلها جواسيسه وأسماعه من عيارين وبصاصين، والذين تعرض الكثيرون منهم للاستشهاد والأسر وأقسى أنواع التعذيب داخل سجونهم وآلات تعذيبهم، التي لا تعرف معنى الرحمة أو الشفقة.

وكان البطال يضرب بهؤلاء الشهداء وظروف موتهم المثل الحي على الشجاعة والجلد، مُحييًا ذكراهم العطرة دفاعًا عن حرمات المسلمين.

بل إن ذات الهمة لم تتوان للحظة عن ذكر أولئك الشهداء العرب، ورعاية أسرهم والوصاية بكل عطاء لهم … فهم — أي الشهداء — أحباب الله كما كانت تكرر دائمًا.

وقد لاحظت الأميرة ذات الهمة منذ الصبا المبكر في ابنها الأمير عبد الوهاب مدى حرصه ورعايته لأبناء القتلى والشهداء، لدرجة أنه أخذ على عاتقه المشاركة في مواساة أهاليهم خلال طقوس الدفن والجنازات والعزاء، سواء في الإنابة عن ذات الهمة، أو بدافع شخصي منه.

في البداية أعجبت ذات الهمة بمدى تعاطف عبد الوهاب مع المصابين من كوارث الحرب والجهاد، مما دفعها إلى مباحثة أمير الحملة في ضرورة إنشاء ديوان خاص لرعاية الشهداء وأسرهم، يخضع لقوانين محددة يُتفق عليها، ونما الاقتراح إلى حد استخراج حصة ثابتة من مخزون الغنائم يجري صرفها على الجرحى والمصابين وأهالي الشهداء.

حتى إذا ما شب الأمير عبد الوهاب ووصل إلى مطلع شبابه أوكلت ذات الهمة هذه الإدارة أو «الديوانية» إليه، نتيجة حرصه وإحساسه المبكر بواجب الرعاية للشهداء والمصابين والجرحى وأسرهم.

ولم تطل فرحة ذات الهمة بما استحوذت عليه من أسلحة وأسرى ومعلومات وخطط حربية استحدثها الأعداء خلال فترة غيابهما عن الجبهة، ذلك أنها ما إن عادت أدراجها يرافقها الأمير عبد الوهاب إلى مضاربها فرحة مستبشرة، حتى هالها تواجد أمير الحملة عبد الله بن سليم وابنه عمرو، وعشرين أميرًا من كبار القواد للأقوام والكيانات العربية، ما بين حجازيين ونجديين وسوريين وبلاد السرو وعباد — التي هي الأردن اليوم — وسودانيين ومصريين وأكراد وأعجام وعرب المغرب والأندلس، وكانوا جميعهم بدروعهم ولباس حربهم وعدتهم بكاملها.

وأعلمها على الفور الأمير عبد الله بوصول جيوش الأروام إلى بعد فراسخ من مالطة، ووصول بعضها إلى رودس وعمورية، ومحاصرة جند المسلمين وأسرهم بالآلاف.

كما أخبرها الأمير عبد الله بوصول إمدادات جيش الخليفة بقيادة شقيق أمير المؤمنين، الشاب هارون العلوي — هارون الرشيد فيما بعد — وبصحبته الشيخ القاضي عقبة، والوزير الأول للخليفة الفضل بن الربيع، وأن الجميع بانتظار مقابلتك والأمير عبد الوهاب للاجتماع وطرح المشورة العاجلة التي أوصى بها أمير المؤمنين أخاه هارون.

واستبشرت الأميرة ذات الهمة بوصول الإمدادات التي تأخرت طويلًا بقيادة شقيق أمير المؤمنين هارون العلوي، التي ما زالت تذكره ذات الهمة طفلًا يفيض حماسًا وتوقدًا، إلى أن أصبح شبلًا مجاهدًا يومًا تحت راياتها.

وما إن التقته لحظة وصوله على رأس خمسين ألفًا من المجاهدين حتى احتضنته، وكذلك عانقه الأمير عبد الوهاب، وتصادقا منذ اللقاء الأول إلى حد إبداء هارون الرشيد الرغبة الصادقة في أن يحارب هو وجيشه تحت رايات الأمير عبد الوهاب.

وتحمس الخليفة الصغير بعد اطلاعه على كافة المعلومات التي أحرزها أبو محمد البطال، متعجلًا الإسراع في الخروج إلى ملاقاة جيش الأروام ومداهمته قبل أن يحدث العكس.

كانت الساعات المثقلة بخطر الهجوم تكتم الأنفاس على الجانبين، حتى علت طبول الحرب مدوية، وارتفعت أصوات المنادين معلنة التأهب، والركوب للجهاد وملاقاة الأعداء.

وما إن اندلعت رحى تلك الحرب القارية الجرارة، وامتد أمدها طويلًا على طول آسيا الصغرى والبسفور ومداخل أوروبا الجنوبية والأندلس حتى تبدت شجاعة هارون العلوي — أو هارون الرشيد فيما بعد — وهو يقاتل تحت رايات وقيادة الأمير عبد الوهاب، الذي فاق الأول في إقدامه وتضحياته، إلى حد تعرضه للموت المحقق في أكثر من واقعة، مما دفع بالرشيد إلى ملازمته واقعة بواقعة، والإشادة بفضائل ترس الرسول التي انطبعت في ذاكرته أبد الدهر.

بل إن هارون الرشيد وقع في الأسر جنبًا إلى جنب مع عبد الوهاب، وعاشا معًا معاناة الأسر والسبي الرومي وتعذيبهما داخل غياهب السجون، لحين إقدام أبي محمد البطال على التوصل إليهما وفك أسرهما، والعودة بهما سالمين، محملًا بالتهكمات والنكات التي أضحكت الجميع، وخاصة ذات الهمة.

وتزايدت منزلة الأمير عبد الوهاب في قلب الخليفة العباسي الخامس هارون، إلى حد أنه أصبح يكاتب أخاه الأكبر الخليفة الهادي مستفيضًا في شرح مناقبه ومآثره في الدفاع عن حرمات العرب والمسلمين.

وكان الخليفة يتذكر من فوره ما أوصاه به الخليفة المهدي وهو على فراش الاحتضار: عينك على عبد الوهاب … لا تغيب.

فلقد وصل عدوان التحالف الرومي وعناده في هذه الحرب المستعرة التي امتدت رحاها على رقعة هائلة من أرض المسلمين وثغورهم، إلى حد وصول طلائع فيالقهم إلى البصرة والكوفة، ونقل المعارك إلى مواقع الخلافة ذاتها، دون أن تهادن جحافلهم الفيالق العربية المتحالفة بقيادة ذات الهمة وعبد الوهاب وهارون الرشيد.

بل إن ما دفع بجيوش المسلمين إلى تلك الحالة غير المطمئنة من التراخي … إلى حد استفحال خطر الأعداء الأروام الطامعين هو تلك الانقسامات العربية التي تفاقمت … سواء على طول جبهات القتال أو داخل أروقة الخليفة الهادي، الذي أسلم قيادَه لوزرائه المُتحالفين مع الأمير ظالم — عم ذات الهمة — الذي رأى في الحرب مغنمًا للنهب والثراء هو وابنه الحارث.

ومن أولئك الوزراء قاضي القضاة عقبة بن مصعب، الذي نجح ظالم في استقدامه إلى جبهة القتال، لمناوئة ذات الهمة وابنها عبد الوهاب، وتقويض انتصاراتهما السابقة واللاحقة.

إلا أن عبد الوهاب نجح في اجتذاب شقيق الخليفة ذاته هارون الرشيد، إلى حد إقامة روابط الدم بينهما بزواج عبد الوهاب من أخت الرشيد.

ومن هنا فرضت تلك الجبهة الشابة لعبد الوهاب وهارون العلوي وذات الهمة والبطال مواصلة القتال والتقدم دون التفاتة إلى الوراء، حتى لاحت تباشير النصر، حين ارتفعت رايات عبد الوهاب خفاقة عالية وهي تطرق أبواب عاصمة الروم البيزنطيين المنيعة … القسطنطينية.

إلا أن تباشير النصر لم تحقق كل غاياتها، فدفع الأمير عبد الوهاب الثمن الفادح من دمه المسفوح على تخوم القسطنطينية، حين جُرِح جرحًا بليغًا قارب أن يفقده حياته، وحزنت أمه ذات الهمة عليه إلى حد الخبل وهي تضمه إلى صدرها داميًا غائبًا أيامًا ثقيلة بحالها عن كل وعي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤