ذات الهمة أول إمبراطورة عربية على القسطنطينية

هكذا وصل الحنق والهياج الهستيري برأس التحالف البيزنطي، الملك مانويل، خلال اجتماعه بمجلس حربه وكرادلته وملوك أوروبا وحُكَّامها بالعراق الأعلى، حين وصلته أخبار دخول عبد الوهاب وذات الهمة عاصمتهم القسطنطينية، بعدما توغلت جيوشه هو — أي الملك مانويل — داخل بلاد الرافدين، إلى الموصل متقدمة باتجاه عاصمة الخلافة بغداد جنوبًا، وبعدما انقلبت الدنيا على قدم وساق؛ لكثرة المعارك والمواكب والرجال والإمدادات والتلاحم.

وألهبت الخدعة الجديدة التي قام بها المخادع «البطال» نيران غضب الملك مانويل، تلك الخدعة التي أسقط بها العاصمة القسطنطينية وشقَّها كمثل نصل سكين في الزبدة.

ذلك أن البطال عقب تنكره في زي بطرق شهير، وفكِّه أسرى المسلمين، واستيلائه على السبايا من عشرات الآلاف المؤلفة من جنود الأروام وبطارقتهم، أمر بقتلهم والتنكر بأزيائهم، وقاد المتنكرين من العرب وكمن بهم ثلاثة أيام — إلى حين حلول أحد أعيادهم وكرنفالاتهم: «وكان يومًا ليس له مثيل في القسطنطينية» — بأزيائهم، كما أمرهم الأمير عبد الوهاب، وأشرف أبو محمد البطال وعياروه بالآلاف على دقة عمليات التنكر الواسعة، واندفعوا يسوقون أسراهم من بقية العرب على هيئة أسرى يرسفون في السلاسل، والأروام المتنكرون يسومونهم العذاب بجلد ظهورهم العارية إلى حد قتل بعضهم قتلًا حقيقيًّا على مرأى من حراس أبواب القسطنطينية، حتى وصلوا مرج الملكة الفسيح المترامي، غزير المياه، مترامي التعرجات، يموج بالغزلان والحيوانات البرية، وتغطي الورود والرياحين والزعفران سهوله، وهو على بعد خمسة أيام من العاصمة.

وما إن تواترت الأخبار داخلها بوصول البطرق المنتصر بأسرى المسلمين حتى زُيِّنت الأسواق والساحات والمباني والقصور والدواوين العامة، وصدحت الفرق الموسيقية، وعلت أغاني النصر والانتصار على العرب والمسلمين، وتدافع تجار القسطنطينية فدفعوا أموالهم وممتلكاتهم في شراء السبايا والأسرى، والخيول العربية، ومنتجات الشرق، ولم تبق فتاة أو سيدة رومية إلا واعتلت الشرفات والأسوار وسطوح البيوت؛ لتشهد أسرى المسلمين، وتتطلع بالفرح والشماتة إلى حريم الموحدين.

فضربت الطبول والمزامير، وسكبت الخمور أنهارًا، وتوافدت الوفود من بقية المدن والعواصم والأقطار المشاركة بجنودها ووحداتها في تلك الحرب المستعرة، حتى تحولت القسطنطينية وما يتبعها من مدن إلى يوم الحشر ذاته، وذلك من كثرة الخلق من مختلف الأجناس الذين تجمهروا وركبوا كل صعب؛ ليشهدوا بأعينهم الآلاف المؤلفة من الأسرى العرب يرسفون في أصفادهم وقيودهم وسلاسل سبيهم، وهم يتحركون منكسين هاماتهم في خزي وعار، في يوم النصر العظيم ذاك الذي صادف الاحتفال البهيج به أيام أعيادهم وكرنفالاتهم الموسمية. وهي الأعياد الكبيرة الكفيلة وحدها باجتذاب آلاف الوفود من مختلف أقطار أوروبا مشرقًا ومغربًا، ما بين روم وقوط وإسبانيين وبرتغاليين ومجريين وسلاف وقبارصة ويونانيين وبنادقة وغاليين وأصراب، ومختلف الأقوام والأقطار والألسن والأزياء والأقنعة والخمور والزينات.

وتواترت إلى الجميع أخبار الانتصارات التي تحرزها الجيوش الرومية المتحالفة، والتي تضم الأزواج والإخوة والأحباء وأبناء العم، والتي واصلت زحفها وتقدمها إلى عاصمة المسلمين محاصرة بغداد ذاتها.

ثم ها هي البشائر من أسراب الأسرى العرب وسبيهم وأموالهم، وكنوز الشرق الباهرة تزحم عاصمتهم القسطنطينية مع أيام التنكر والكرنفالات السنوية.

على هذا النحو تواترت الأخبار والأقوال، وتقاطرت الوفود، وزينت المدينة بأسرها كمثل عروس لحظة زفافها: يا له من يوم!

وهكذا سرت الخمور لتلهب الحلم السلفي الكبير أنهارًا.

وفتحت أبواب الكنيسة الكبرى الشهيرة بالعاصمة القسطنطينية على مصراعيها، وازدانت بالقناديل الذهبية المرصعة بالجواهر، وبالصلبان المذهبة الحمراء، والآلاف المؤلفة من ستائر الحرير الأخضر، وتدافع القساوسة والشمامسة والرهبان والبطارقة يصدحون بالتراتيل وبأيديهم مباخر الذهب والفضة والجوهر؛ شكرًا للنصر العظيم الذي أحرزوه أخيرًا على عرب الشرق.

ورغم تنكر ذات الهمة على هيئة امرأة بدوية تزحف مولولة في حجلاتها على أربعة مع بقية الأسرى، بينما السياط تلهب ظهرها الضامر، إلا أنها انشغلت من فورها بإعداد خطتها وحركة جيشها المتنكر، فكانت توزع فيالقها وكتائبها عبر الجهات الأربع، فقالت لسعيد بن الفرج: خذ عشرة آلاف فارس واتجه نحو وادي البنت شرقًا، وأقم فيه باتجاه الغرب إلى حين وصول الملك مانويل من العراق، فإذا وقع بيننا وبينهم القتال؛ فاخرج عليهم من اليمين.

ثم زحفت إلى أن قاربت قائد الكتائب السودانية سملق وامرأته: خذ عشرة آلاف فارس من العرب والسودانيين واكمنوا خلف الجبل وشعاب التلال المحيطة، وحين تقع المعارك اخرجوا شمالًا.

وقاربت في أطوار بكائها ونحيبها القائد الفلسطيني بستان بن حوران، ليخرج بعشرة آلاف من بني كليب وتغلب، قائلة: عليكم بضرب الحصى والنشاشيب، وعليكم باليقظة في أموركم، وإذا ما التحمت المعارك احملوا من خلف ظهورهم؛ الفيلق بعد الآخر حسب التتابع المتفق عليه مع حوران.

وواصلت أوامرها في حجلاتها وسلاسلها لحَمَلة قوارير الغاز والقنابل النفطية، ومُشعِلي الحرائق، ومطلقي البخور المركب والغازات السامة وهكذا.

وخلال وضعها لخططها المحكمة، وانتظارًا للحظة المرتقبة، فإنها كانت تتظاهر بالبكاء والنحيب، وإهالة التراب على رأسها زاحفة تحت أقدام جلاديها، وخاصة أبا محمد البطال، الذي تعود المزاح معها وإلهاب ظهرها بسياطه، متخذًا هيئة البطريق؛ القائد المنتصر الذي يلتف حوله الجميع.

كانت ذات الهمة تعاني الكثير وهي تكتم ضحكاتها بسبب تعليقات البطال وإيماءاته وحركاته، وهو يرفع عقيرته عاليًا مشاركًا بطارقة الأروام ابتهالاتهم، والرطن بلغاتهم، وهو يعاود إلهاب ظهرها العاري بسياطه قائلًا: فرصة … فرصة سعيدة.

•••

وكثيرًا ما كانت ذات الهمة الأسيرة تغلبها غرابة أطوار أبي محمد البطال عبر إيماءاته وتبديه وقدرته على التمثيل والتقمُّص والمحاكاة، التي تصل به إلى تقليد الأصوات واللكنات، ورفع العقيرة والإنشاد بصوت غاية في الجمال، وإن لم يخلُ من تهكم دفين كان يصل بذات الهمة إلى حد الاستغراب وهي تزحف كبدوية في سَبْيها عند القدمين حاملة أصفادها الحديدية مع آلاف العرب الباقين.

فكان البطال يصل بالمأزق الحرج الذي هم فيه إلى أقصى درجات الحذر من انكشاف الموقف، إلا أنه سريعًا ما كان يعاود مواصلة الاستمرار في التمثيل وإتيان أفعال شاقة وغريبة عبر ذلك الاحتفال الكرنفالي، الذي تنكر فيه الجميع من غالب ومغلوب وهم في طريق زحفهم على طول ساحات عاصمة الأروام وحصونها وكاتدرائياتها، كمثل مشهد تمثيلي ملحمي يشترك في أدائه ولعب أدواره الآلاف المؤلفة من عتاة الممثلين والممثلات.

ومن عادات الأروام أن نساءهم لا يسترون وجوههن — وقد كحلن أعينهن — فظهرن كأنهن الشموس الطوالع، وكانت جملة البنات والأبكار ثمانين ألفًا من النساء.

وركب أوسطليس بن جرجيس — وكان النائب المعين من قبل الملك مانويل على القسطنطينية — في عشرين ألف بطريق من الفوارس، وخرج ليلقى السبي العربي، حتى إذا ما التقى بالبطريق قائد السبي؛ وهو أبو محمد البطال، احتضنه، واعتلى مقامه، والسبي العربي بالآلاف كالبحر الهادر عند أقدامهما، إلى أن انفلتوا داخلين إلى ساحات القسطنطينية؛ حيث أغلقت في إثرهم أبوابها النحاسية القانية الاحمرار كذهب أندلسي متوهج.

هنا صاح أبو محمد على الرجال؛ فأطبق عليهم الأمير عبد الوهاب وذات الهمة وكتائبهما المتنكرة بأسرع من انطباق الجفن على الجفن، متخلصين من ثيابهم وأصباغهم ولحاهم وصلبانهم، وضربوا رقابهم على مرأى ممن في القسطنطينية من المحتفلين بالكرنفال.

وقال أبو محمد البطال — بعد أن انتهى من إفناء معظم قادة القسطنطينية وجندها وسط الذعر والفزع الذي تحول إليه المهرجان: «إن ألفًا من العوام لا يساوون كف تراب.»

ذكر البطال ذلك بسبب الذعر والفزع الهائلين اللذين سادا المدينة والمهرجان؛ حيث انطلقت الألوف المؤلفة بأصباغها وأقنعتها وملابسها الغريبة مندفعة جارية في كل اتجاه لا تعرف لها مهربًا، بينما المجاهدون العرب يواصلون مطارداتهم وحصارهم، سواء على طول الساحات والميادين العامة، أو داخل أغوار الحدائق والمتنزهات المزدانة، وحتى داخل القصور والمباني دون هوادة.

واضطلع الأمير عبد الوهاب بنفسه يتبعه فيلقه بمطاردة ومنازلة قادة جند محمية المدينة وحكامها، متخلصًا من رقابهم الواحدة بعد الأخرى وهو يُعمل فيهم بحسامه حصدًا داخل أروقة قصر الملك مانويل ذاته، الذي سدت الجثث منافذه وأروقته وسراديبه سدًّا؛ حتى لم يعد هناك من منفذ.

وحين انتهوا من إفناء كل نبض لمقاومة، احتضنت الأميرة ذات الهمة ابنها عبد الوهاب وهي تجفف عنه جروحه، وتمسح بكف يدها الحانية أصباغه التي تنكر بها.

وهنا اندفع أبو محمد البطال مضاحكًا الأميرة ذات الهمة وهو يأخذ بيدها لتعتلي مكان أعلى عروش أوروبا هامة ومقامة، وهو عرش الملك مانويل الثالث، نازعة عنها ثياب الروم والأصباغ والشعر المستعار والقناع، مشيرة إلى الكرنفال الكبير التنكري الذي استحال إلى عيد للذعر مما حدث.

وهكذا دانت لهم القسطنطينية وعواصم وثغور بلاد الأروام الواسعة التي تعيش بالخير الكثير والثراء.

•••

وعلى هذا النحو الصادم الفاجع وصل الخبر القاتل إلى الملك مانويل وقادة جيشه، بعد أن أشعلوا الموصل بالنيران وقاربوا بغداد ذاتها؛ كيف أن الأمير عبد الوهاب بعد أن شُفِي من جراحه الدامية، والبطال ومن معه من الفرسان، تملَّكوا البلاد والثغور طولًا وعرضًا، وفتحوا القسطنطينية ذاتها، وقتلوا من فيها من الحاميات والأجناد.

وكيف أن الأميرة ذات الهمة قد استولت على قصر حكمه، واعتلت عرشه، ووضعت تاج الآباء والجدود على رأسها، فطار صواب الملك مانويل غضبًا، واستبد به الجنون متسائلًا لكل مَن يقع بصره عليه: أترون … أحقًّا ما نسمع ويحدث؟

وهكذا اجتمع قادته من الملوك والكرادلة لبحث الأمر، وهم يترحمون على الملك الذي طاش صوابه، وشُلَّت حركته من هول المفاجأة، وأجمعوا على أهمية إيقاف القتال ومواصلة الزحف في وادي الرافدين، والإسراع بالإقلاع عائدين مندحرين أمام فداحة الكارثة التي أحدثتها ذات الهمة هي وابنها الأمير عبد الوهاب، الذي تصور الكثيرون منهم موته المحقق نتيجة لما نصبوه له من كمائن تكفي لإبادة كتيبة بعتادها.

وهكذا تواترت الأخبار من مقر الخلافة في بغداد بالعودة المفاجئة لجيوش الأروام المتحالفة الجرارة مندحرة إلى مقر هارون الرشيد في مالطة، فتحسب هارون الرشيد من فوره لأهمية عودتهم مرورًا بمالطة؛ لأن جيشه لم يعد قادرًا على مواجهتهم، فقرر العودة إلى مقر الخلافة بعد أن كاتب ذات الهمة والأمير عبد الوهاب بعودة الملك مانويل وجيش الأروام لمحاربتهما، والانتقام الدامي من أبي محمد البطال، واسترداد العاصمة المستباحة.

ورتب من فوره لحماية مالطة وبقية الثغور، ثم عاد أدراجه إلى بغداد المنقلبة رأسًا على عقب لما يحدث من مفاجآت غير متوقعة، سواء بالنسبة إلى تملُّك ذات الهمة وعبد الوهاب القسطنطينية، أو بالنسبة إلى عودة الملك مانويل بجيوشه بعد أن قاربت مشارف بغداد.

وضاعف من هول المفاجآتِ السقمُ المفاجئُ الذي حطَّ على أمير المؤمنين الخليفة الهادي، مما حتم ضرورة عودة هارون العلوي في مثل تلك الظروف المحتدمة؛ ليعتلي من فوره كرسي الخلافة الخامسة للراشدين، ويُعرَف بالخليفة هارون الرشيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤