العصر الذهبي لهارون الرشيد

واستتب الأمر لأم المجاهدين — كما لقَّبها الخليفة — في حكم القسطنطينية وتخومها من بلدان الأروام حتى الأندلس، بعد أن اقتحم العرب أسوارها التي اضطلع بها البطال والأمير عبد الوهاب، الذي أقيمت أفراح زواجه من الأميرة «علوى»، أخت هارون الرشيد، بعد النصر الذي بهر الجميع لمدة سبعة أيام متصلة، ثم ما نشب من صراعات بين عبد الوهاب وبين زوجته الأولى — أخت الأمير راشد الكلبي المدعوة ﺑ «أخت راشد» — نتيجة لزواجه السياسي الثاني، وهي التي رُزِق منها بأميرين أسماهما: قشعمًا وضيغمًا.

والأخير — أي الأمير ضيغم — ولدته أخت راشد، لكنها ماتت من فورها حزنًا وغيرة من زوجته الثانية، فحزن عليها عبد الوهاب حزنًا شديدًا، ولبس عليها السواد شهورًا، بل هو فضَّل دفنها بموطنها الحجاز حسب وصيتها، وعاد مصطحبًا ولديه إلى القسطنطينية عبر رحلة بحرية طويلة شاقة، تعرض فيها هو وولداه قشعم وضيغم لبضع مؤامرات وكمائن من جانب قراصنة الأروام وفلول جيشهم المندحر، إلا أن النجدات سريعًا ما كانت تصله في كمائنه، أو تلحق به من أمراء الحجاز وعيونهم، أو من أعين الأمير البطال، التي أصبحت لا تبعد عنه لحظة، خاصة بعد كمين محاولة اغتياله من جانب الملك مانويل، وبمساعدة بصاصيه وجواسيسه؛ إذ تم رصد أرفع الجوائز مقابل رأسه.

واجتاز الأمير عبد الوهاب — وبصحبته ولديه — سلسلة المؤامرات والكمائن التي نصبت له على طول البحر الأبيض المتوسط، منذ عودته من الحجاز وإشرافه على القسطنطينية، وتمكنه من اجتياز أسوارها ودخولها.

ووصل الاندهاش مداه بالأمير عبد الوهاب من ذلك التغير السريع الذي اعترى عاصمة الأروام البيزنطيين، نتيجة لما أحدثه العرب فيها من مبانٍ ومنشآت، ومساجد ودور علم وأسواق ودواوين عامة خلال فترة تغيُّبه عنها بالحجاز.

وضاعف من ابتهاج عبد الوهاب حين وصل بولديه إلى قصر والدته الأميرة ذات الهمة متلهفًا للقائها، ففاجأته ذات الهمة بأن دفعت إلى أحضانه بابنه قائلة: ابنك محمد … سيف الإسلام.

كانت زوجته الثانية الأميرة «علوى» — أخت الخليفة الخامس هارون الرشيد — قد أنجبت له ابنه الأول منها، الذي استبشرت به ذات الهمة وأسمته بمحمد. وكان عبد الوهاب قد تركها حاملًا في شهرها الرابع حين عودته بولديه إلى موطنه الحجاز لزيارة الأهل والقبيلة، وتعريف ولديه بمنبتهما؛ لدفن زوجته الحجازية أخت راشد، التي أرقه طويلًا الحزن على موتها المفاجئ، وهي التي أمضى معها أعذب الأيام والليالي، وتشاركه أحلامه وآماله في النصر وتحقيق أمن المسلمين، ولم ينس ذروة حنوها عليه الذي أحاطته به عقب مرضه، نتيجة لجراحه التي ألزمته الفراش بضعة شهور بينما المعارك حول القسطنطينية في أوجها.

ومنذ ولادة سيف الإسلام تبنته جدته الأميرة ذات الهمة، بحيث حرصت على تربيته، وإرضاعه كل أفكارها الكبرى في الجهاد وتأمين ثغور وثغرات المسلمين التي منها ينفذ أعداؤها الطامعون.

بل إن ذات الهمة لم تغفل عيناها لومضة عن الخطر المحدق بوصول سفن وبواخر الملك مانويل وجيش الأروام لاسترداد ملكه وعرشه بكل الطرق والمهالك من أيدي العرب؛ فكانت في كل يوم تدخل التحسينات ومختلف التحصينات على خطتها الرباعية، انتظارًا لوصول الأعداء واندلاع الحرب التي لا مهرب منها.

حتى إذا ما حط رجال الملك مانويل وجنده؛ استقبلته ذات الهمة وعبد الوهاب بجيشهما إلى حد أن شتتوا فلولهم عبر التلال والوهاد، ودون أن ينالوا الكثير من فيالق ذات الهمة المتحصنة هذه المرة داخل أسوار القسطنطينية المنيعة.

فلقد عزز من موقع الجيش العربي هذه المرة ما وقع في أيديهم من مؤن وذخائر وأسلحة حديثة، وكافة إمدادات جيش الأروام، ليعاودوا إشهارها في صدورهم بعدما تخلوا من فورهم عن الوصول إلى عاصمة الخلافة، وعادوا أدراجهم مندحرين لاستعادة القسطنطينية من أيدي ذات الهمة والأمير عبد الوهاب، لكن دون جدوى ودون إحراز تقدم يُذكَر.

كما ضاعف من موقع الجيش العربي ذلك الكم الهائل من المعلومات والخطط الحربية، ومشاريع تطوير الأسلحة، وإدخال مختلف التحسينات عليها، فكان أن تسلَّمها أبو محمد البطال وأتباعه، كما هي لم يسبق استعمالها، مازحًا كعادته وهو يُطلع الأمير عبد الوهاب وذات الهمة عليها وعلى أسرارها ومخترعيها وخطط تطويرها: كما هي … لم تُمس ولم تُجرب! نُجرِّبها في أجسادهم — بإذن الله.

وهكذا فشل جيش الأروام بقيادة الملك مانويل في استعادة القسطنطينية؛ نتيجة لترجيح الأسلحة الجديدة والمؤن التي أصبحت في أيدي العرب.

ووصل الغيظ الجنوني بالملك مانويل إلى أقصى مداه؛ نتيجة لتخليه عن التقدم بجيوشه المدججة داخل بلاد الرافدين باتجاه عاصمة الخلافة، وعودته مسرعًا لاسترداد القسطنطينية التي تسربت ضائعة أيضًا من بين يديه.

وهكذا تشتتت فلول جيش الأروام أمام مطاردة عبد الوهاب لهم مشرقًا ومغربًا؛ فانفك تحالف الأروام البيزنطيين ودب الخلاف بينهم لسنوات طويلة، واستقر الأمر لذات الهمة والأمير عبد الوهاب في حكم القسطنطينية طويلًا.

أما هارون الرشيد فعاد من فوره إلى بغداد، التي كانت قد تعاظمت شهرتها، واتسعت أحياؤها، وصخبت بكل أنواع الفنون والثقافات والقطاعات الزراعية والبساتين اليانعة على طول نهر دجلة، وبالأسواق المكدسة بمختلف السلع والبضائع العربية.

واستُقبلت مواكب هارون الرشيد العائدة بالتكبير والغناء والموسيقى، ومنها ألحان إسحاق الموصلي، وموشحات الجارية التي استقدمها الموصلي للخليفة المحتضر من بلدة دمياط المصرية، وهي الجارية حسنة الصوت «خيزران»، التي اشتهرت موشحاتها وترامَى صيتها:

أقول وقد ساقت من الدار نوقها
وجرى السرى من لوم بختي سوقها
ترفق بها يا حادي العيس ساعة
على لمحة لم يبق إلا بروقها
وعد بالمطايا نحو رملة عالج
فالشوق فيها مطلق ويروقها
وبين ضلوعي من فراق أحبتي
جحيم تلظى حرها لا أطيقها
عليكم سلام الله ما دام بارق
وما لمعت في الخافقين بروقها
لم أنس يوم فراقكم ما نالني
وجرى دمعي لفقد من أحببته
لا تطلبوا قلبي فما قلبي معي
القلب عند خيامكم خلفته

وكان أبو موسى الهادي قد أوصى بالخلافة من بعد المهدي للرشيد أخيه الأصغر.

وكان هارون الرشيد يشاركه قصر الخلافة، إلا في أوقات غيابه للجهاد حفاظًا على ثغور المسلمين، لحين عودته محملًا ببهجة النصر الكبير بتأمين الثغور، وفتح القسطنطينية ذاتها، وتنصيب ذات الهمة إمارتها.

فخاف الخليفة المريض إلى حد الاحتضار البطيء سطوة الرشيد، خاصة بعد أن لازمه حلم أو رؤيا؛ حيث رأى المهدي في منامه وكأن الرشيد متربع على قبة الخلافة، وهو واقف في خدمته خارج القبة؛ ومن هنا استبدت به المخاوف فأصبح موسوسًا يحسب له كل حساب.

إلى أن وخزه ذات ليلة شيء في قدمه اليسرى، فحك رجله إلى أن صارت مثل البندقة، وصار مولعًا بحكها حتى تورمت واتسعت، فسقط ميتًا لساعته؛ فأسرع مسرور إلى جاريته المقربة «خيزران» ليخبرها بموت الخليفة المهدي، وأسرعا في طلب الرشيد فبايعاه بالخلافة، ولم تمضِ ساعات حتى أقبل من يبشره بمولد ابنه المأمون من سريته «مراحيل».

وما إن تعالى النهار حتى شاع في بغداد موت المهدي وخلافة الرشيد، الذي دانت له الدنيا مشرقًا ومغربًا، وأطاعه جميع العباد من العرب والترك والعجم والديلم، وعُرِف عصره بالعصر الذهبي للراشدين، حتى قيل: إن بني العباس كالنجوم الساطعة كلما خبا كوكب منهم سطع آخر مكانه.

وهكذا سعى إلى الرشيد جميع ُالملوك والأمراء وحكام الثغور، فاستقروا في مجده وعزه، وغنت باسمه من ألحان إسحاق الموصلي «خيزران» آخر أغنياتها:

الدهر يومانِ ذا مَنٌّ وذا قَدَر
والعيش عيشانِ ذا صفوٌ وذا كَدَر
القول للذي بصروف الدهر عايرني
هل عاند الدهر إلا مَن له قَدْر؟
أما ترى البحر تعلو فوقه جيف
وتستقر بأعلى قاعه الدُّرر؟
وكم على الأرض من خضراء مورقة
وليس يُرْجم إلا مَن له ثمر؟
كذلك الريح إذا هبت عواصفها
فليس تقصف إلا عالي الشجر
وفي السماء نجوم لا عداد لها
وليس يخسف إلا الشمس والقمر
لا تأمنن إلى الدنيا وزينتها
فعند صفو الليالي يحدث الكدر

وكما هو متبع، ما إن خمدت نيران الحرب والجهاد حتى اندلعت من فورها نيران مؤامرات القصور والسراديب المظلمة، التي تلهبها الصراعات الداخلية والفتن، والمصالح القبلية، والعصبيات الضيقة.

ففي الجبهة العريضة، ومركزها القسطنطينية والثغور، اندلعت من جديد الصراعات ضد ذات الهمة والأمير عبد الوهاب وأبي محمد البطال، الذي كان قد أنعم عليه الخليفة المهدي تقديرًا لإقدامه وبطولاته واتساع نفوذه بالإمارة.

وهي الفتن والمؤامرات التي أعاد تأجيج نيرانها الخابية عمُّها ظالم وابنه الحارث، إلى حد دفَع بالأمير عبد الوهاب إلى محاربتهما وقتل جدِّه ظالمٍ في شعاب الجبال، كذلك ألهب نيران تلك الفتن كبار وزراء البلاط لدى الخليفة الجديد، الذي حارب منذ مطلع شبابه تحت رايات الأمير عبد الوهاب باسم هارون العلوي.

وكان أكثر أولئك الوزراء تآمرًا في معاداة ذات الهمة والأميرين عبد الوهاب والبطال، قاضي القضاة عقبة بن مصعب، والفضل بن الربيع، الوزير المقرب من الرشيد.

إلا أن ذات الهمة وابنها رأيا في جعفر بن يحيى البرمكي والبيت البرمكي عامة كلَّ تفهم واستجابة لفكرهما ودورهما في تأمين حدود خلافة المسلمين.

وكان قد تعاظم دور البيت البرمكي داخل بلاط هارون الرشيد إلى حد فجَّر كل الأحقاد الدفينة ضد الوزير الأول، جعفر بن يحيى البرمكي، عند الرشيد؛ بسبب هيمنته على أهم القرارات وأخطرها، المتصلة بقضايا الحرب والسلم، خاصة في مساندة جبهة ذات الهمة والأمير عبد الوهاب والأمير أبي محمد البطال، ضد مناوئيهم في أمور الجبهة، ووضع خططها من قصيرة عاجلة إلى طويلة الأمد مضنية.

وكذلك بسبب اتساع ثراء البرامكة وتعاظم نفوذهم، وما أصبحوا يرفلون فيه من جاهٍ ونعيم أصبحا مصدرًا ملهمًا للشعراء والمنشدين وكل لسان ينطق، حتى إن هارون الرشيد قال ذات مرة: والله لقد أفقرنا بنو هاشم وأسعدنا البرامكة.

حتى إن الرشيد بدأ يُضمر لهم الحقد الدفين بينه وبين ولديه الأمين والمأمون وأخص خواصه، ومنهم القاضي المقرب من الطرفين «يحيى»، الذي اقترح ذات مرة على جعفر البرمكي أن يهب ما أعطاه الله للرشيد وبنيه، فأجابه جعفر البرمكي: «بالله عليك، هل سمعت من الرشيد أنه مد عينيه إلى أملاكي وهي وقف على الفقراء والمساكين وأرباب الديوان؟ طالما أن بني العباس أصبحوا يتطلعون إلى ما في أيدي غلمانهم؛ فما لنا حاجة إلى خدمتهم، ولم نعد نعاشر سوى العوام.»

فلقد تفاقمت الأحقاد بين الرشيد والبرامكة إلى حدٍّ دفع به إلى تسريب جواسيسه وعيونه وبصاصيه للتجسس عليهم وعلى أعوانهم، حتى داخل إيوان وغرف نوم الوزير الأول جعفر، ووالده الشيخ يحيى البرمكي، وأخيه الأصغر الفضل.

وهكذا تجمعت الوساوس والدسائس باتجاه نكبة البرامكة وحلفائهم؛ وهم هنا: ذات الهمة، وابنها الأمير الفاتح عبد الوهاب، والأمير أبو محمد البطال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤