الرشيد يعتقل ذات الهمة

وساور الشك الأميرة ذات الهمة وهي تستقبل مبعوث الخليفة الجديد هارون الرشيد، وتتسلم رسائله قارئةً — على استعجال وترقُّب — ما جاء فيها، باحثةً من فورها عن الأمير عبد الوهاب لمشاورته فيما يبعثُ به إليهما في مقر قيادتهما بالقسطنطينية أميرُ المؤمنين.

أحاطت بها من جديدٍ الهمومُ وهي تصرف الرسول مُستعدَّة للخروج والتوجه من فورها إلى مضارب الأمير عبد الوهاب، والاجتماع به هو والأمير أبي محمد البطال؛ لبحث الأمر من جميع جوانبه دون عجلة، والوقوع في حبائل فعل أو قرار خاطئ قد يقلب حياتهم رأسًا على عقب.

كانت في السنوات الأخيرة قد آثرت حياة الهدوء منشغلة بتربية أبناء عبد الوهاب الثلاثة: قشعم وضيغم، من زوجته الحجازية، وسيف الموحدين، ابن زوجته علوى «أخت راشد»، وكانت قد رأت سلواها في إعداد أجيال أشبال المحاربين؛ تتولاهم بنفسها بالرعاية وهي تسقيهم — مع لبن الأم — مراحل إعدادهم كفرسان، حتى إذا ما اتسع إدراكهم بدأت في طور إعدادهم كمحاربين وفرسان بتسريب فنون الحرب الحديثة إليهم، وما طرأ عليها من عتاد ومخترعات، مع إعطاء الاعتبار الأهم للفنون البحرية، ومواقع الثغور وطبيعتها، وأهميتها للعرب والمسلمين.

ولم تكن ذات الهمة تضن بشيء على أبناء شهداء المحاربين تحت راياتها وابنها عبد الوهاب، وهم جيل كامل من اليتامى وأبناء قتْلَى الحرب المُستعرة منذ عشرات السنين، بل منذ قرون … منذ جدها الصحصاح الفاتح الأول لهذه العاصمة — مكمن وبؤر الفتن والمؤامرات والعدوان ضد العرب.

اتخذت طريقها على صهوة جوادها، يتبعها حرسها، وتسبقها كلابها إلى مضارب ولدها عبد الوهاب، حتى إذا ما وصلته لم تترجل عن جوادها، بعد أن علمت من الحراس والحجاب تغيُّب الأمير عبد الوهاب بصحبة الأمير البطال منذ ضحى اليوم في مهمة سرية للغاية لم يُبْلِغاها بها، كما هي العادة سابقًا في مفاتحتها في كل صغيرة وكبيرة.

ترددت الأميرة ذات الهمة قليلًا ثم غمغمت لنفسها: لا بأس.

فهي التي آثرت ورغبت هذا الوضع باختيار حياة طابعها الركون إلى الهدوء الأقرب إلى الاسترخاء، ولو من أجل منطلق إعادة تضميد جراحاتها الغائرة من هول الحرب المديدة وأخطارها طيلة سنوات نزفت فيها من دمها القاني مدرارًا، وهي التي دأبت على إخفاء جراحها عن كل أعين، مثلها في هذا مثل جدها جندبة بن الحارث، الذي عادى الأطباء والحكماء إلى أن وافته المنية.

صحيح أنها — وعقب فتح القسطنطينية وتشتيت فلول جيش الإفرنج — أصبحت بموجب مرسوم أمير المؤمنين، الخليفة المهدي، أول إمبراطورة عربية تعتلي عرش ملوك الأروام، لكنها تقبلت هذا الأمر إرضاء لخليفة المسلمين ليس غير، وذلك بعد أن رفضه بإباءٍ وحزمٍ ابنُها عبد الوهاب مترفعًا زاهدًا كعادته.

ثلاث مرات وعبد الوهاب يرد صكَّ الخليفة، ووفَد رُسُله إلى بغداد بالرفض الحازم في اعتلاء عرش أباطرة الأروام.

هنا تقبلت الأمر أمُّه ذات الهمة، لكن دون أن يستهويها وتجتذبها مباهجه وتسلطه، كل ما هنالك هو مجرد القبول بالوضع الجديد اسمًا بأكثر منه فعلًا وتجبرًا على خلق الله.

وإن بقي الفعل وشئون ما يجري بيد ابنها الأمير عبد الوهاب ومقربيه، أو من اجتذبتهم قدراته وصائب بصيرته ومعرفته فتجمعوا من كل صوب إلى حيث مأواه ومضاربه، حتى أصبحوا كمثل جماعة متناهية التناسق والتنظيم في كل شئون الجهاد والحرب التي ذروتها الشهادة، وأيضًا فيما يتصل بتصريف ومسار شئون الدولة الجديدة المترامية الأذرع والأقوام من الإفرنج.

وكذلك فيما يتصل بالتقوى وتحمل الشدائد، والتمسك بأزهى قيم الحياة العربية المتسامية عن كل إغراءات الجشع والاستحواذ والتسلط.

وهو ما رأت فيه ذات الهمة … حصادها الذي أينع مثمرًا من فكرها الذي بدأ معها منذ تكون شبابها في فلسطين ووادي الحجاز. ها هو حصاد سنين الأسر ومشاقِّ رعي الإبل والخيل الوحشي، وخوض رحى المعارك الضارية، والتلفع بالدم المراق قانيًا أنهارًا ليل نهار.

ومن هنا كانت مآثرها الركون إلى الحياة اليومية، والعودة إلى منابعها في تربية رضيع فطيم، ورعاية طفل مراهق إلى أن يصبح شبلًا ومحاربًا، لكن دون إغفال العين عما يجري، ويستدعي اليقظة وإعادة امتشاق السيوف والدروع وخوذات الحرب.

صحيح أن قناعتها برجاحة عقل عبد الوهاب لم يراودها الشك للحظة فيها، إلا أنها ليست بالغافلة، بل هي في نهاية الأمر محط كل قرار مصيري في مواجهة عدو لا يعرف للرحمة معنًى، بل وحتى فيما يتصل بشئون الرعية وتصريف الأمور؛ فإن لذات الهمة الرأي الفصل فيها.

•••

تساءلت وهي تتحسس مكتوب أمير المؤمنين: أين ذهبا؟

ومن فورها واصلت مسيرتها إلى مضارب الأمير «أبو محمد البطال» دون حاجة للإبطاء، فالأمر لم يعد يحتمل التأجيل والتراخي.

تحسست رسالة أمير المؤمنين في جعبتها من جديد، مدركة أنها الرسالة الثالثة التي تصلها من الخليفة وتحمل ذات المعنى الآمر الناهي: ماذا جرى؟

في المرتين السابقتين نجح البطال في إثنائها عن رأيها، ووافقه الأمير عبد الوهاب مقتنعًا بحجج البطال وبصيرته الثاقبة في مثل هذه الأمور المصيرية، خاصة وعاصمة الخلافة مضطربة بالفتن والمؤامرات التي تنذر بالكثير.

كانت الأخبار تصلها من عاصمة الخلافة في الشهور الأخيرة — تباعًا ودون انقطاع — عما يحدث ويجري داخل أروقة الخلافة، فيزيدها الأمر أسفًا يصل إلى حد الحنق والغضب، فيما اعترى الخليفة الخامس هارون الرشيد من تحولات؛ نتيجة لسعي وزراء بلاطه المقربين ذوي العقلية القبلية الضيقة التي لا ترى بأبعد من مواطئ القدمين.

فذات الهمة تعرف قبل غيرها أهداف أولئك الوزراء في الاستحواذ على الثراء ومصادر القوة، وإعلاء شئون قبائلهم وعشائرهم وأوطانهم وكياناتهم، دون إعطاء أدنى اعتبار لظروف الحرب التي خفتت نيرانها جهارًا، وهو ما لا يمكن أن يحدث في الخفاء من جانب تحالف الأروام الحبالى بالانتقام إن لم يكن اليوم فغدًا.

حتى إذا ما عبرت ذات الهمة ساحات مقر قيادة قصر الأمير أبي محمد البطال، تطلعت طويلًا في قلاعه وضياعه وتعزيزاته التي لم تشهد لها مثيلًا قبلُ الدلهمةُ: كُلُّ هذا؟!

كان البطال قد وصل إلى أقصى درجات السطوة ومصادر القوة حتى أصبح مضرب الأمثال مشرقًا ومغربًا ثراءً ونفوذًا وقوة.

بل إن الخليفة ذاته أصبح يضمر له العداء الدفين المتزايد كلما وصلته سطوته وثروته، التي أحرزها بذكائه المتوقد قبل الأظافر والنواجذ.

وكانت ذات الهمة لا تحسده على ما ارتقى إليه، فالبطال الذي بدأ من قاع صفوف البدو الفلسطينيين معدمًا، وقدم هذه البلاد طفلًا رضيعًا بصحبة أبيه، كان على الدوام موضع الإعجاب الفائق من ذات الهمة والأمير عبد الوهاب منذ أن انخرط في صفوفهما مجرد عيار بسيط.

وأخرج ذات الهمة من هواجسها ضحكات البطال وحلو تعليقاته في الترحيب بها وبحاشيتها، بل وحتى جوادها ذاته وكلابها، التي كانت مثار حفاوة وتعليقات البطال ونكاته ومأثوراته التي لا تنتهي.

وما إن اجتمع الشمل وحاولت ذات الهمة فض رسائل أمير المؤمنين لها قبل تناول العشاء، عاجلها البطال بمحتويات رسائلها، وتفاصيل ما بها ودلالاتها، وكما لو كان هو بذاته — البطال — كاتبها حرفًا بحرف، معلنًا: هذا كمين ليس غير؛ عذرًا … أنا لن أذهب.

•••

وهكذا استقر رأي ذات الهمة والأمير عبد الوهاب إلى الرحيل العاجل إلى عاصمة الخلافة؛ استجابة لمطلب أمير المؤمنين بأهمية حضور ثلاثتهم العاجل لمقابلته والاجتماع به؛ لبحث الكثير من الأمور التي تستوجب المشورة دون إبطاء.

ولم يتخلف منهم سوى الأمير البطال، الذي أوعز للأمير عبد الوهاب وهو يُودِّعهما على سفينته الخاصة إلى عرض البحر، مشيرًا بما يعني: مَن يدري؟ فقد تتحقق وجهة نظره وتحدث لهما المتاعب التي تستدعي نجدته في الوقت الملائم.

ورمقه الأمير عبد الوهاب مُهوِّنًا إلى أن الأمر لن يصل إلى هذا الحد من الظلم، إلا أن ذات الهمة كتمت ما يعتمل داخلها توقيرًا لمطلب أمير المؤمنين، مُودِّعة البطال مُستبشِرةً بالبحر الفسيح الهادر، الذي كثيرًا ما كانت تحن إليه مفكرة فيما يعترضها من أمور عضال … فتَهَبُها أمواجُه كلَّ مرفأ آمن.

لكن ما إن وطئت قدماها عاصمة الخلافة — وقد دخلوها سرًّا ليلًا حسب مطلب الرشيد — حتى حاوطتها الهواجس، ودوت في أذنيها كلمات أبي محمد البطال وتحذيراته، حتى إذا ما حان موعد لقاء الخليفة، وتلاقت عيونهم، عادت فتبادلت النظرات مع ابنها عبد الوهاب: أبو محمد معه كل الحق.

إلا أن هذا الجو المشحون الذي أثارته مؤامرات ودسائس وزراء الرشيد، بدءًا من رأس بني سليم والفضل بن الربيع، مرورًا بالقاضي ضيق الأفق والمروءة عقبة بن مصعب، ومع غياب الوزير الأول جعفر بن يحيى البرمكي الذي أصبح في السنوات القريبة في موضع المغضوب عليه.

وكل هذا لم يثن ذات الهمة عن إقدامها في مواجهة الخليفة، ومعارضته الرأي في كثير مما طرح بحثه ونقاشه، حتى إذا ما تطرق الأمر حول مروق وعصيان أبي محمد البطال، دافعت ذات الهمة بكل قواها عن الأدوار الهائلة التي لن تُنسى، والتي أسداها البطال لجيش الخليفة، والتي لولاها لما تحقق نصر.

إلا أن الخليفة استشاط غضبًا من دفاع ذات الهمة وعبد الوهاب، ومِن تغيُّب البطال وكسْر أمره بالمجيء ثلاث مرات، قائمًا محتدمًا؛ مما دفع بذات الهمة إلى محاولة الانسحاب احتجاجًا من حضرة الخليفة، ليرجعها الحُجَّاب عند الباب مهولين مما يحدث في حضرة أمير المؤمنين.

أما عبد الوهاب فرفض أمرًا صريحًا للخليفة بتعيينه حاكمًا رسميًّا على القسطنطينية، في حالة تخلِّيه عن أبي محمد البطال، وتسليمه وجيشه، الذي اعتبره الخليفة مارقًا منشقًّا عنه.

ولما لم يجد هارون الرشيد منفذًا أو تقبُّلًا لما استدعاهما من أجله هب في ثورة غضبه، مشيرًا إلى حراسه باعتقال الأميرة ذات الهمة والأمير عبد الوهاب على مرأى من جمعٍ شمل وزراءه المتربصين والحاقدين، والمنتظرين على أحرِّ من الجمر لمثل هذه اللحظة المرتقبة، التي يشهدون فيها ذات الهمة وابنها عبد الوهاب وهما يساقان إلى سجن الخليفة هارون الرشيد، بعد أن جردهما الحراس والسيَّافون من سيوفهما ودروعهما بلا أدنى اختشاء أو رحمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤