النكبة الدامية للبيت البرمكي

وهبَّت الأميرة ذات الهمة من إغفاءتها فزعة، وكانت قد تمددت مُعانِيَةً من ثقل سلاسلها وأثقالها الحديدية كمن لدغتها حية رقطاء، باحثة بعينيها وكيانها كله، متطلعة إلى جدران سجنها الجلمودية الصماء، وهنا وهناك جثمت آلات التعذيب الوحشية في برود وانتظار مترقب.

بدت وكأنها سمعت قهقهات أبي محمد البطال اللامبالية وهو ينزل سلالم المطمورة، التي سجنت فيها بأمر الخليفة الثائر مع ابنها عبد الوهاب.

حتى إنها استدارت لاكزة الأمير عبد الوهاب غير مصدقة، الذي كان بدوره قد استسلم للإغفاء تعبًا، لكن ما إن فتح عينيه حتى تلاقت مع عيني البطال الفاحصتين وهو لا يصدق ما يحدث، إلى أن جاءهما صوت البطال جادًّا هذه المرة: صدقتوا … جالكم كلامي.

تنهدت ذات الهمة غير مصدقة فعلًا ويد البطال تلامسها في حُنُوِّ أمٍّ، وهو يعمل باستخدام أدواته الغريبة التي عُرفت عنه، ما بين أحجار المغناطيس والشموع المختلفة التأثير، منها ما يُسقط فرائسه من فورها في أقصى حالات النوم والغطيط المعجل، ومنها ما يذهب بالعقل، فتبدو الفريسة — سواء أكانت سجانًا أم حارسًا — وكأنها مهيضة معدومة الإرادة، ومنها ما يدفع إلى الضحك إلى حد وجع البطن، بل والبدن بكامله.

وما إن انتهى البطال في لمح البصر من فك وثاق ذات الهمة، حتى هبَّت من فورها مستلة أحد سيوف البطال، الذي مضى من فوره معالجًا فك قيود الأمير عبد الوهاب وهو يضحك هذه المرة من أعماقه عاليًا، حتى إن الأمير عبد الوهاب عاجله حانقًا: يا أخي … هل هذا وقت ضحك ومسخرة.

فأجابه البطال أكثر ضحكًا وتهكمًا: ومتى يكون وقت الضحك والمسخرة إذن إن لم يكن الآن؟

ومن جديد دوت ضحكاته مجلجلة هذه المرة، حتى إن ذات الهمة كتمت فمه بكف يدها: هس … اخرس يا بطال.

– هس! كله نايم هنا لتاني يوم … في سجن قصر الخليفة لا أحد يقظ هذه الليلة الليلاء سوانا!

تسللا خلف البطال الذي كان يشير بشمعته المشعلة إلى أكوام الحراس المكومين النائمين في استرخاء، في أقصى غطيطهم وأحلامهم الكابوسية، منهم من يضحك ويهرش ويصرخ فزعًا بينما البطال يطوف بهم مداعبًا وهو يتحسس أقفيتهم: يصحون — بإذن الله — على خير … بعد بكرة العشاء. وهذا على أحسن تقدير.

ولم تتمالك ذات الهمة نفسها من الضحك وهما يدوران حول البطال من سلم حجري حلزوني دائري لآخر، والبطال يعلق: في سابع أرض … ولسه بعد.

وغلب ذات الهمة التفكير حقًّا في البطال وأفعاله؛ كيف جدَّ السير في أعقابهما إلى بغداد دون أن يعرفا، وعلم بما حدث ومكانهما، فنزل إليهما إلى مطمورتهما سرًّا على هذا النحو: عجائب!

وأخبرهما البطال بخطته لتهريبهما والعودة إلى بلاد الأعداء مُعلقًا: أرحم من سابع أرض!

وكيف أنه قبل أن يَحضُرَ إليهما زار صديقهم وحليفهم الوزير الأول جعفر بن يحيى البرمكي، الذي تركه آسفًا لأداء مهمته لإنقاذهما، متخذًا طريقه من فوره إلى مقابلة الرشيد، برغم تعاظم الجفوة بينهما في الأيام الأخيرة إلى حد محاولة جعفر والبرامكة الرحيل هروبًا عن بغداد وغضبة الرشيد، خاصة بعد أن لفق له الوزير القاضي عقبة والفضل بن الربيع تهمة التآمر على هارون الرشيد ذاته: اعلم يا مولاي أن رجلًا من أولاد الحسين يقال له الحسن، بايعه جعفر بالخلافة … احذر البرامكة.

حتى إذا ما حلَّ جعفر بن يحيى البرمكي، مخاطرًا بحياته من أجل الأمير عبد الوهاب وأمه للإفراج الفوري عنهما، واستقبله الرشيد، اندفع من فوره يطالب بالإفراج العاجل عنهما، معليًا من شأن عبد الوهاب وبطولاته وخوارقه إلى حد دفع بالرشيد إلى الغضب والهياج، فقال له: اعلم يا مولاي أن جيشك ألف وثمانمائة ألف، لكن ليس فيه مَن يطاول عبد الوهاب.

فأمر الخليفة بالقبض عليه وتعذيبه مهددًا: لا بد من صلبك يومًا وصلب البرامكة.

وهو ما تحقق، خاصة حين علم الرشيد بحدث تهريب عبد الوهاب وذات الهمة من سجنهما بمساعدة أبي محمد البطال، الذي قدم إلى عاصمة الخلافة بسطوته وعيونه وعياريه دون علم منه، وهو الذي رفض المثول بين يديه في السابق ثلاث مرات والرشيد بنفسه يطالبه فيها بالقدوم إلى العراق، فركب رأسه رفضًا لمطلب الخليفة.

بل وتصل به الجرأة والتحدي إلى حد المجيء إلى عاصمة الخلافة، ودخولها بحيله وألاعيبه، والوصول إلى مطمور السجن الملحق بقصره الحاكم؛ حيث حُبست ذات الهمة وابنها، وإخراجهما جهرًا، وتهريبهما والإبحار بهما إلى القسطنطينية، على هذا النحو البعيد عن كل حياء أصبح يتصرف أبو محمد البطال، على هذا النحو الذي لا يقيم له اعتبارًا.

بل وصل الحنق بالرشيد مداه، حتى أسر «الفضل بن الربيع» في أذنه اليسرى، وفي غفلة عن الوزير الأول — عدوه اللدود — جعفر بن يحيى البرمكي؛ ليزيد النار اشتعالًا ضده، دافعًا إليه بتقرير مفصل يتضمن زيارة البطال لجعفر بن يحيى البرمكي، واجتماعه به ليلة بكاملها قبل نفاذه إلى سجن ذات الهمة والأمير عبد الوهاب وتهريبهما.

هنا ربط الرشيد من فوره بين نجاح خطة تهريب سجينيه، التي اضطلع بها البطال، وبين اجتماعه بأبي محمد البطال سرًّا في قصره المنيف المطل على نهر دجلة.

– ومَن يدري؟ تساءل الرشيد إلى أن واجه جعفر منفعلًا وهو يتفرسه طويلًا: يبدو أنني أصبحت آخر من يدري يا جعفر!

– كيف يا مولاي؟

– أنت أعلم … والبطال.

هنا تفهم جعفر من فوره هدف الرشيد، وما أسرَّ به إليه للتوِّ الفضل بن الربيع.

وكان الفضل بن الربيع ساعتها واقفًا خلف الرشيد مطرقًا يلف أصابعه العشرة حول بعضها في خشوعه المتصنع.

•••

وهكذا اتهم الرشيد جعفر بن يحيى البرمكي بالاشتراك في حادث التهريب، والضرب بعرض الحائط بأوامره وغضبه ورغباته.

حتى إذا ما وصل إلى أسماع الرشيد عن طريق عيونه المشرعة على جعفر بن يحيى البرمكي، وعلم أنه بدوره يعد في الخفاء خطة محكمة للهرب والرحيل، هو وأتباعه وبيته، بحجة خروجه للصيد والقنص، بعث في طلبه وقرَّبه إليه وهو يضمه إلى صدره، إلى أن أجلسه معه على كرسي الخلافة وهو يقبله في وجهه وما بين حاجبيه، محاولًا أن يثنيه عن السفر غداة اليوم التالي بمختلف الحجج والمغريات.

وكان يوم جمعة حين أرسل الرشيد في طلبه مرتديًا بذلة من الحرير «زرد»، وعلى رأسه خوذة فولاذية، وعن يمينه وشماله نحو مائة مملوك من الخواص، ومائة من الأتراك، كلهم بصدور الزرد، وبأيديهم السيوف والعمد، والرشيد جالس على ركبتيه آمرًا سيافه مسرور بفرش «قبة الأديم» بالرماد، وحراستها بثلاثمائة غلام من النوبيين والسودانيين بسلاحهم المشهر.

ثم بعث الرشيد بمسرور لإحضار جعفر البرمكي مقسمًا: «وحق اتصالي بحمزة وعقيل، لئن لم تفعل ما أمرتك به لآخذن روحك من بين جنبيك.»

ولعلها كانت أقسى وأشق مهمة اضطلع بها سياف هارون الرشيد «مسرور»، وهو يتراجع عن الرشيد الغاضب لا يعرف له مهربًا من مأزقه وهو يعتلي متن مهرته السوداء ليلًا إلى حيث ضِيَاع الوزير جعفر، داقًّا بواباتها الواحدة تلو الأخرى إلى أن وصل إليه لاهثًا في مضجعه؛ لينهي إليه أمر الرشيد بالحضور.

هنا تعرفه جعفر البرمكي وقرأ ما يعتمل داخله محاولًا تأجيل الزيارة لمطلع النهار دون خلجة واحدة من عيني مسرور، الذي تهاوى بكامل جثته لا يقوى على مجرد الإجابة بالقبول أو الرفض، حتى إن جعفر بن يحيى البرمكي أكمل ارتداء ملابسه واصطحب مسرورًا المكفهر الوجه إلى حيث «دست» الخلافة.

وكان الرشيد قد أمر سيافه مسرور باستدراجه لجعفر إلى «قبة الأديم» وضرب عنقه، وأن يأتيه برأسه.

وهكذا قاد السياف صديقه إلى القبة المشعلة بآلاف الشموع الموقدة، كما لو كانت شموع العرس الدامي للبرمكي الذي قرأ الشهادة، وطلب من السياف السماح له بصلاة الوداع داخل القبة المزدانة بالشموع الموقدة التي تحيل ليل ساحة القصر إلى نهار جلي.

وحين انخرط جعفر في صلاته وسجد متضرعًا ضربه مسرور فنزع رأسه عن جسده، وحملها إلى الرشيد؛ «فلما رآها صرخ صرخة عظيمة وسقط عليها مغشيًّا عليه.»

إلى أن علق الرشيد جثته في حراسة أربعة وعشرين عريفًا، وأمرهم بقتل كل من بكاه أو رثاه، ونادى المنادي في شوارع بغداد وساحاتها: «كلُّ مَن رثى جعفر البرمكي بنصف بيت شعر أو بكى عليه لا يشاور عليه ولو كان مهما كان.»

ثم قبض على والده الشيخ يحيى وولده الفضل فحبسهما في أعماق المطمور وقيود الحديد.

فحاول يحيى إرسال التماس — أغضب الرشيد — يقول فيه:

ألا وأبيك إن الظلم لؤم
وما زال المسيء هو الظلوم
ألا يا بائعًا دنيا بدين
بظلم لا يدوم له نعيم
تروم الخلق في دار بدين
وغيرك رام مثلك ما تروم

ثم مات يحيى وابنه الفضل بعده بثلاثة أيام داخل المطمور المظلم.

وظلت جثة جعفر معلقة على طريق الجسر على دجلة تحت الحراسة المشددة ليل نهار، إلى أن هربت جثته، وتبارى الشعراء في رثاء ذلك البيت البرمكي الشهيد ومآثره مدى الدهر.

•••

أما ذات الهمة والأمير عبد الوهاب وأبو محمد البطال فكانوا قد عادوا إلى الجبهة قبل حلول تلك النكبة، التي أحزنتهم أبلغ الحزن وهم يستعدون لغزو بلاد اليونان وثغورها، بعد أن تجرأ ملكها على إعلان العصيان، والهجوم على الفيالق العربية في غيبة قادتهم، وصراعاتهم السياسية الداخلية في عاصمة الخلافة بغداد … ثم بقية العواصم والكيانات الإسلامية.

خاصة وأن ملك اليونان أسر وسبا الآلاف المؤلفة من العرب العزل، ما بين نساء وأطفال، ومنهم الأميرة «علوى» زوجة عبد الوهاب، وابنه الذي خلفه منها: إبراهيم.

لكنهم لم يجدوا بدًّا من مكاتبة الخليفة وإبلاغه بما حدث في غيبتهم، وتأهبهم لقتال اليونانيين وتحرير أسراهم، على أن تصلهم الإمدادات من بغداد الغارقة في أحزانها عقب النكبة البرمكية الدامية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤