الحجاز وبغداد

وغنمت ذات الهمة وجندها الكثير من الأموال والغنائم والسلاح والخيول والأشياء النفيسة، التي كانت مُكدَّسة في قلعة الأميرة الرومانية باغة، وبسقوط آخر القلاع سقطت تلك الكنوز والذخائر في أيدي ذات الهمة وكتيبتها.

وعلى الفور قرر عمها ظالم حمل غنائم الحرب والعودة بها إلى مقر الخلافة في بغداد، ورافقه أخوه مظلوم وأمير الحملة المُعيُّن من قبل الخليفة، الأمير عبد الله، الذي فوض ذات الهمة في أخذ مكانه، خالعًا عليها سلطانه كحاكم للجزيرة المفتوحة وما يتبعها من أقوام وجزر.

واتخذ الركب طريقه ذات يوم مقلعين إلى بغداد بالأسرى والغنائم والأموال والسفن الرومانية المكدسة، لكن ما إن وصلوها وحطوا رحالهم حتى أدهشهم ما آلت إليه عاصمة الخلافة نتيجة للموت المفاجئ الذي أنهى حياة أمير المؤمنين الخليفة المنصور، وتولى أمر الخلافة من بعده الخليفة الهادي، الذي استقبلهم بالترحاب رغم تراكم مهامه الجديدة، وسألهم عن أحوالهم في الجبهة، وكيفية سير المعارك والخطط الحربية، وما يعانونه من نقص، سواء في العتاد أو الرجال.

وأطلعهم الخليفة الجديد على ظروف مرض المنصور، وكيف أن أركان الدولة، وعلى رأسهم الخليفة ذاته، وجدوا أن من دواعي الحرص والأمن التستُّر على مرض الخليفة واعتزاله في الأشهر الأخيرة، حتى لا يتسرب الأمر إلى أسماع الأعداء وعيونهم، فتزداد مؤامراتهم وشكيمتهم وعدوانهم.

ووافقه الجميع، ومنهم: الأمير عبد الله، ووالد ذات الهمة، وأقاموا شهورًا بعاصمة الخلافة لبحث أمر التزود بالخطط والعتاد؛ تمهيدًا لمواصلة جند المسلمين الزحف والتقدم بثبات باتجاه حصار عاصمة الروم البيزنطيين القسطنطينية وفتحها، حتى يأمن الجميع عدوانها وشرورها التي لا تنتهي، كوريثة شرعية لعبودية الرومان القدماء الذين أنهى الإسلام دولتهم.

وهكذا تحدد موعد عقد اللقاءات بين الخليفة الهادي وبين قادة المعارك العرب، تمهيدًا لتدارس الوضع الجديد على جبهة القتال، مع مراعاة الاستفادة من الأخطاء السابقة التي باعثها الخلافات والانقسامات العصبية والقبائلية التي تفت من عضد ووحدة الجيش الواحد، في مواجهة عدو لا يرحم في تصيده لأي ثغرة يواصل منها النفاذ، أملًا في تعميق الجروح المفضية إلى إضعاف صفوف جيش المسلمين.

وكانت ذات الهمة قد زوَّدت أمير الحملة المعين من قبل الخليفة العباسي، ووالدها مظلومًا بالكثير من المعلومات الموثقة بالخرائط والخطط التي تمهد الطريق لفتح عاصمة الروم القسطنطينية، مع دراسات وافية لاحتياجات الجيش وإمداداته وأسلحته، وما يكفيه خلال أشهر الحصار الطويلة، وأنسب فصول السنة الملائمة للعبور.

بل إن ذات الهمة لم تنس حتى عادات وتقاليد الروم، سواء في الحرب والقتال، أو ما يتصل بأعيادهم الموسمية وكرنفالاتهم الشهيرة، وما يسيل فيها من أنهار الخمور التي يواكبها فقدان الوعي، والرقص الخليع أو التهتك عبر مدنهم ومضاربهم ومعسكراتهم.

وهكذا لم يفت ذات الهمة الكثير مما يُستَلْزَم المعرفة الوافية به لتحقيق النصر، والتي كانت تشمل عاداتهم المتوارثة في الحرب والسلم، وخاصة طبيعة الأسلحة التي يشهرونها في وجه العرب، والتي يبدع علماؤهم ومهندسوهم في تطوير أساليب فتكها بالأجساد العربية.

ومن كثرة المعلومات والوثائق التي زوَّدت ذات الهمة القادة العرب لعرضها على أمير المؤمنين لتدارس الوضع، أمر الخليفة من فوره بتشكيل أكثر من لجنة، واستقدام وفود خبراء الحرب والأسلحة من مختلف الأقطار، من دمشق والقاهرة والأندلس وبيروت وإيران والصين؛ لتدارس الأمر والاستفادة من فترة الهدنة الملفقة التي ألح ملك الروم في عقدها؛ لشحذ المزيد من العتاد والسلاح.

وكالعادة … فما إن هدأت الحرب لبرهة تمهيدًا لإعادة تجددها واشتعالها، حتى بدأت واندلعت على الفور حرب أخرى من المؤامرات والدسائس واستنفاذ الأحقاد الدفينة، كان أكثرها وأخبثها التهابًا تلك الحرب المندلعة داخل أغوار نفس الحارث، وما اعترى حبه السابق لابنة عمه ذات الهمة من كره يصل إلى حد المقت، والرغبة في تدميرها وتقويض هيبتها.

وسنحت بالفعل فرصته حين تقاعس عن مهامه في حراسة سفن ومراكب المؤن والذخيرة، فاتخذ له قصرًا مُسَورًا واتسعت سلطاته ونما أتباعه، وأصبح يجد أن مناسبات رحلات واحتفالات الصيد والقنص والتريض واللهو مُيَسَّرة له دون حسيب أو رقيب.

فمن جانب ذات الهمة … لا بأس، طالما أنه بعيد عنها لا يقلقها تواجده، وترصده لها باعتبارها زوجته كما هو المتبع.

إلا أن الحارث لم يكن لينشغل عنها، وعن تسمُّع أفعالها وسكناتها، بل وزفراتها اليومية التي يحملها إليه بصَّاصوه وعياروه وعيونه المنبثة داخل مضاربها دون هوادة، طالما أن الحارث يخلع عليهم فاخر الثياب والأموال والجواري الرومية والرُّتب.

وهكذا تسابق الجميع إلى خدمته، وهو المنوط به حراسة عتاد الحرب وخطوط تموين الحملات، وما يقع في أيدي المسلمين من سبي وغنائم وثروات.

ومن هنا اتسعت سلطات الحارث، وعمَّ ثراؤه إلى الحد الذي أصبح به مضرب الأمثال، فأصبح يقتني الخيول العربية الأصيلة، ويرتدي أفخر الثياب، ولا ينثني ليلة عن إقامة الموائد والاحتفالات، ورحلات التريض الخلوية من بحرية وبرية.

وضرب عُرْض الحائط بكل أقوال وتوجيهات ذات الهمة في التيقظ للأعداء، وعدم الاستسلام لحياة التهادن والمهادنة الرخوة، فما حدث من انتصار على الثغور ليس إلا حلقة بسيطة من سلسلة متصلة، مداها الوصول إلى أصل الداء ومنبعه؛ وهو العاصمة «القسطنطينية».

لم يلق الحارث بالًا ولا التفاتًا لكل هذا، مُدَّعيًا أن من حق المحاربين الخلود للراحة والترفيه المؤقت إلى أن يحين داعي الجهاد.

كل هذا وعينه لا تغفل عن ذات الهمة، وكيفية الوصول إلى منالها … حلمه الدفين، الذي ينام ويصحو على تحقيقه يومًا، ولو لمجرد استعادة ثقته في نفسه كرجل وابن عم وزوج، وهو ما أصبح يتوق إلى بلوغه وتحقيقه بسبب النظرات الساخرة الصادرة من عيون أقرب مقربيه، مما تقوض ضلوعه وجوانحه انكسارًا وتهافتًا.

لقد كان الحارث يحس في أعماق نفسه بمدى الهوة العميقة الفاصلة بينه وبين ابنة عمه، فهو أبدًا ليس ندًّا لها، لا من حيث السمعة وعلو المنزلة التي أحرزتها منذ أن كانا في موطن الأهل والصبا … وادي الحجاز، ولا من حيث القدرة على اتساع البصيرة وتوقع الأخطار المحيطة بالعرب، والعمل على مواجهتها قبل تضخمها واستفحالها، ولا من حيث القدرة على النزال والفروسية التي تفوقت فيها الدلهمة، حين نازلته مرارًا وتكرارًا، وفي كل مرة كانت تصرعه صرعًا تحت سنابك جوادها على مشهد من جميع الأهل والقبائل.

فكيف للحارث أن ينسى كل هذا لذات الهمة؟ كيف؟!

•••

وهكذا واصل إحكامه في السيطرة على دخائل قصر الأميرة ذات الهمة، إلى حد استقدام حارسها وخادمها الخاص الملاصق لها، الذي لا يبتعد عنها لحظة منذ أن تربَّت في براري الحجاز وفلسطين، وهو مرزوق، ابن مربيتها ومرضعتها أم مرزوق، التي لازمتها حتى في غياهب الأسر منذ الطفولة.

لذا فالوصيف مرزوق هو في موقع الأخ لذات الهمة، الذي شرب ونهل من ذات الصدر الذي أرضعها.

تمكن الحارث من الوصول إلى خادمها مرزوق ومصادقته والركون إليه، وكأنه يشتكي له ما به من حبٍّ جارف لابنة عمه وزوجته شرعًا بشهادة وتشريف أمير المؤمنين.

حتى إذا ما آنس إليه الحارس طيب القلب مرزوق، مشفقًا على ما به كزوج وحبيب مجروح لا ينام الليل مما يعانيه ويعتصره، بادره بمشروع غريب، بعدما أطلعه على سره ومكنونات نفسه، عاجله الحارث بزجاجة من الدواء المنوم الذي لو شرب منه جملٌ نقطةً لاستلقى نائمًا حولًا.

وأتبع الحارث هذه القارورة الصغيرة بألف درهم من الذهب الصحيح الأحمر، رفضها مرزوق من فوره، إلا أنه قبل الشروع في المهمة لاقتناعه وثقته في مشاعر الحارث ومعسول كلامه ونواياه، وانطلق من فوره مُخبِّئًا الزجاجة الصغيرة بين طيَّات ملابسه، مُتَحيِّنًا الفرصة التي تتيح له مجرد صبِّ قطرتين في كأس شرابها، وهي التي لا تشرب وتأكل إلا من يديه، وبحث عنها طويلًا فلم يجدها، تتحسس أطراف أصابعه «أمانة» ابن عمها الأمير الحارث، دون أن يثير ذلك لديه هواجس الشك والتخاذل عما اقتنع ووعد به عن طيب خاطر، إلى أن حانت لحظة عودة ذات الهمة من تريضها وقنصها ومتابعتها لأحوال الجند.

وما إن ترجلت نازلة عن حصانها مندفعة إليه وبيده كأس شرابها المفضل، وهو الليمون البنزهيري المثلج، حتى احتست كأسها كله قبل أن تخطو إلى داخل بوابة قصرها بزيها العسكري، خطت خطوتين قبل أن تترنح عند العتبات، فجرى إليها مرزوق مرتعدًا مُسْندًا حتى أوصلها بمساعدة جارياتها إلى فراشها.

حتى إذا ما احتواها الفراش تراخت ذراعاها، وعلا شخيرها، وهي التي كما يعلم مرزوق والجميع لا يعلو لها صوت، حتى أيام وليالي أعتى المعارك التي أصبحت على كل لسان.

تأملها مرزوق مكفهرًّا متخاذلًا وأصابعه تتحسس القارورة — الطلِّسم — في جيبه، وعاد فأغلق باب جناحها منسحبًا في توجس، مانعًا عنها بقية وصيفاتها، مغمغمًا: تعبانة.

أما مرزوق فلم يفق إلى فعلته وما اقترفت يداه بإيعاز من ابن عمها الحارث إلا بعد أن شاهد ذات الهمة وقد استبد بها الإعياء والضعف، إلى حد أنها لم تعد تدرك ليلها من نهارها.

تحسس القارورة المسمومة في جيب سرواله، واندفع خارجًا من فوره عبر بوابة قصر ذات الهمة، من دون أن ينتبه حتى لرد تحية الحراس من أعلى الأسوار.

واصل مرزوق سيره لا يعرف له مأوًى محدد يتجه إليه بعدما أطبق الليل البهيم على شوارع مالطة وأزقتها التي خلت من الحركة، سوى من مصابيح الشوارع والميادين وبعض الأسواق وأماكن تجمعات اللهو والأكل، وهو الذي لم يسبق له مرة التخلي عن أميرته ذات الهمة، التي هي في موقع أخته في الرضاعة.

كيف يتركها متخليًا هاربًا فارًّا على هذا النحو، تعاني سكرات المرض والهزال التي قد تنتهي بها إلى الموت.

تساءل وقد داخلته المخاوف، وحطت عليه الشكوك من كل جانب، عن هدف ابن عمها الصحصاح.

ولم يفق الخادم مرزوق من أفكاره وهواجسه إلا عندما انتهى به المسير ليلًا إلى مضارب الأمير الحارث؛ للوقوف على نواياه، وعندما سأل عنه ولم يجده عاد أدراجه مرتبكًا متعثرًا لا يعرف له مسلكًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤