مقدمة

بقلم  زكي مبارك
 مصر الجديدة في اليوم الحادي عشر من حزيران سنة ١٩٤٤

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا الكتابٌ فُصِّلَتْ فيه الخصائص الأصيلة لثلاثة من الشعراء جَمع بينهم التوحيد في الحب، وهم: جَميل بن مَعْمَر، وكُثَيِّر بن عبد الرحمن، والعباس بن الأحنف، وكانوا من أقطاب الغَزَل في شباب العصر الإسلامي.

ويمتاز هؤلاء العشاق الثلاثة بالجِدِّ في العشق، وبالحرص على كرامة الحب، وبالإشادة بالعفاف؛ فالهوى عندهم شريعة وجدانية، وليس لهو أطفال، ولا عَبَث شُبَّان.

أولئك رجال آمنوا بالحب، فعظَّموه ومجَّدوه، واستهانوا من أجله بما يقاسي عُبَّاد الجمال من مصاعب وأهوال.

لقد طاب لهم أن يفتضحوا بالحب، وأن يجعلوه نصيبهم من المجد، وكان ذلك لأنهم نشأوا في أيام كان أهلها أصحَّاء العقول والقلوب، فأفصحوا عن سرائرهم بتصريح الواثق الآمن، لا بتلميح المُريب الهيُوب.

والحق أن العرب في شباب زمانهم كانوا يرون للحب قدسية، وهذا هو السر في التقليد الذي كان يوجب بَدْء القصائد بالنسيب، وما كان ذلك التقليد إلا استجابة لدعوة روحية لا توجَّه إلا إلى أهل الصدق، وهي الدعوة إلى الشعور بما في الوجود من أطايب الجمال.

وفي الأيام الأولى من العصر الإسلامي وُجد من ينكر الغَزل، ولكن أهل الرأي من أتقياء المسلمين عدُّوا ذلك الإنكار تنسُّكًا أعجميًّا، وأخذوا يُنشدون الغَزَل في المساجد بلا تحرُّج ولا تهيب، علمًا بأن أحلام القلوب فنٌّ من أوطار العقول، وما كان الإسلام بالدين المترهِّب، وإنما هو دينٌ يَسُنُّ أدب الحياة، ويوصي بالتطلع إلى جمال الوجود.

وهنالك ظاهرة أدبية لم تأخذ حظَّها من التفات التاريخ الأدبي، وهي اهتمام جماعة من رجال الفقه الإسلامي بالحديث المفصَّل عن عاطفة الحب، وهم رجال المذهب الظاهري، أتباع الرجل الصالح والعاشق الصادق محمد بن داود، وهو فيما نعرف أقدم باحث أطال القول في تفصيل أحوال العاشقين.

وعن ابن داود أخذ أبو محمد بن حزم الأندلسي هذه النزعة الوجدانية فألف كتاب «طوق الحمامة» وهو كتاب تحدَّث عن «فن الحب» قبل أن يلتفت إليه الأوروبيون، كما أخبرنا المسيو ماسينيون.

ولم يتفرد رجال المذهب الظاهري بين رجال الدين بالحديث عن الحب، فقد اهتم به الصوفية اهتمامًا عظيمًا، وكانت غايتهم أن يبينوا ما يجب على المريد حين يستهويه الجمال. واهتمام الصوفية بالحديث عن الحب فرع من اهتمامهم بدقائق علم النفس، وكان الصوفية أسبق المسلمين إلى تشريح العواطف والأهواء.

والصوفية هم في الأصل عُشَّاقٌ تحوَّلوا من الحب الوجداني إلى الحب الروحاني، والله في لغتهم اسمه المحبوب، وهذا الاسم هو عندهم أشرف الأسماء.

وكان ابن الفارض يرى الحب طريقًا إلى تهذيب الروح، وهو الذي قال:
«ومن لم يفقهه الهوى فهو في جهلِ»
فالشعراء العشاق سبقوا إلى تربية العواطف، وذلك فنٌّ يفوتنا الالتفات إليه، مع أنه أعظم حافز لعزائم الرجال.

وقد أدَّى الشعراء العشاق إلى اللغة العربية جميلًا يفوق كل جميل، فهي مدينةٌ بوجودها الأدبي إلى أقباس أرواحهم، وهم الذين رفعوا رايتها في المشرق والمغرب، فما تسمو لغة على لغة إلا بقوة الإفصاح عن السرائر الوجدانية، ولا هتف أول شادٍ في أي لغة بغير الصوت الأول وهو صوت القلب، ومن هنا كان الغزل أول شعر أجاده الناس في فجر الزمان.

وطغيان العقل في عصور المدنية لم يَقْوَ على صدِّ طغيان القلب، لأنَّ القلب هو الجارحة الباقية، ولأنه من أقوى الشواهد على صحة العقل، ولهذا امتازت الأمم القوية بإجادة التعبير عن أسرار القلوب.

وهل ننسى أن الآداب الأجنبية لم تصل إلينا إلا بجاذبية الأدب الوجداني؟

هل عرفنا الأدب الفرنسي أولَ ما عرفناه إلا عن وجدانيات هوجو وميسيه ولامرتين؟

أما بعد فما الذي سنراه في الصحائف المقبلات؟ وما هو التقدير الذي بُني عليه هذا الكتاب؟

الغاية الأساسية هي تصوير طوائف من المعاني كان لها تأثير شديد في الحياة الإسلامية، تأثير وصل بها إلى الآفاق الصوفية، وجعلها من الأناشيد التي يطرب لها سمع السماء.

وهذه الصحائف ليست محصول أيام أو أسابيع، وإنما هي محصول أعوام طوال، فقد كنت أحفظ جميع ما بقي من آثار هؤلاء الشعراء، وكان لي معهم عهد يسبق العهد الذي ألفت فيه كتاب «مدامع العشاق» عليه السلام!

ولكن النية لم تتجه إلى الحديث عنهم بالتفصيل إلا في سنة ١٩٤٠ حين دعاني الأستاذ الجليل الدكتور طه حسين إلى إنشاء بحثين عن كثيِّر وجميل، فصادفتْ تلك الدعوة هوًى من قلبي، ثم بدا لي أن أتحدث عن شاعر يشترك مع هذين الشاعرين في الوحدانية، الوحدانية في الحب، والحب كالإيمان فيه شِرْكٌ وتوحيد.

شغلتني هذه الصحائف أربع سنين، أعني أنها شغلت أوقات الصفاء من تلك السنين، فما كتبت حرفًا من حروفها إلا في لحظات بينها وبين أرواح أولئك الشعراء صلات.

وكان ذلك لأني أرى أن الأدب لا يُفهم فهمًا صحيحًا إلا إن واجهناه بقلوب سليمة من جميع الشوائب، فقد يكون الفساد من تعسُّف الناقد لا خطأ المنقود، وأرجو أن أكون وُفِّقت لتصوير ما رمى إليه هؤلاء الشعراء من كرائم الأغراض.

وأنا مع هذا لم أغفُل حقوق التاريخ الأدبي، ففي هذا الكتاب لمحات تُلقي أضواءً على جوانب من ذلك التاريخ.

سيرى القارئ موازنات بين هؤلاء الشعراء، وسيرى من تلك الموازنات كيف كانوا أصحاب مذاهب في التعبير والأداء.

إن الحب هو الباعث الأول لهذه الثروة الشعرية، ومع ذلك فسنرى أن الفن الشعري كان يسوقهم إلى غايات لها في حياة الأدب مكان، فقد كانوا يريدون أن يكونوا من أقطاب الشعر في تلك الأزمان.

وأنا أوصي القارئ بالوقوف عند تلك الموازنات، ليشهد صدق الفطرة عند «جميل»، وليرى الإغراب اللغوي عند «كثير» وعذوبة الرقة عند «العباس».

ثم أوصيه بأن ينظر كيف جاز أن نقضي بأن لكثيِّر أستإذن هو لَبيد، وكيف أمكن القول بأن غرام كثيِّر بالغريب قد يكون مما تأثر به كاتب مثل الحريري أو شاعرٌ مثل أبي العلاء، ولهذا تفصيل سنراه في مكانه من هذا الكتاب.

وسيرى القارئ روحًا يجتاز الأجيال والبلاد، فيرمي سهمه من بغداد في القرن الثاني ليصيب به روحًا بالقاهرة في القرن السابع، فالبهاء زهير المصري هو تلميذٌ بالروح للعباس بن الأحنف البغدادي، ولو أضيفت أشعار هذين الشاعرين بعضُها إلى بعض لتوهَّم متوهمٌ أنها نُظِمت على ضفاف النيل في عصر البهاء.

وهنا أوصي القارئ بأن يتذكر ما قضينا به في أحد مؤلفاتنا، فقد قررنا أن الرقة مذهبٌ من مذاهب التعبير لا يمتاز به جيلٌ عن جيل، وأنها توجد في البوادي كما توجد في الحواضر، وأن من الخطأ البيِّن أن تكون بابًا للطعن في صحة ما أُثِرَ عن بعض الجاهليين من الشعر الرقيق.

وفي القرآن شواهد تؤيد ما نقول، شواهد على جمع القرآن بين الرقة والجزالة، تبعًا لاختلاف المعاني والأغراض.

ثم ماذا؟

ثم تبقى الإشارة إلى الجانب الروحاني من حيوات هؤلاء الشعراء، وهو الجانب الخالص بالوفاء، فما قيمة هذا الجانب؟

الوفاء في نظري هو اللون الثابت من ألوان التماسك الروحي، وذلك هو السبب في عدَّه من مكارم الأخلاق.

لم يكن جميل يرى غير بثينة، ولم يكن كثيِّر يرى غير عزة، ولم يكن العباس يرى غير فوز، وهذه الوحدانية تماسكٌ روحي وثيق، وهو لا يتيسر لغير كبار القلوب.

وللتوحيد في الحب نظائر في أكثر الآداب، ولكنه في الأدب العربي أظهر وأوضح، لأنه نشأ في بيئة مفطورة على إيثار التوحيد.

إن الشِّرك في الحب قد يعين على فهم الألوان المختلفة من طبائع المِلاح، وهذا ما قصد إليه فريق من شعراء الفرنسيس والألمان.

أما التوحيد في الحب فيوجِّه العاشق إلى درس نفسه بقوَّة وعمق، ليرى مبلغ قدرته على إدراك ما في الروح من سجاحة الهدى وشراسة الضلال.

المشركون بالحب درسوا طبائعَ متعددة سمح الشرك بدرس تقلُّبها دراسة وافية، ولا كذلك الموحَّدون في الحب، فقد درسوا نفوسهم في صحبة أحبابهم دراسة بلغت الغاية في محاولة التعرف إلى سرائر الأرواح.

مَثَلُ هؤلاء مَثَل الرجل المتزوج، فهو يفهم سر المرأة بأعمق مما يفهمه الرجل الفاجر؛ لأن المتزوِّج يرى المرأة في جميع أحوالها، أما الفاجر فلا يرى من المرأة غير تلافيف من البهرج المبطَّن بالخداع.

أتذكرون أن نبي الإسلام كان له تسع نساء؟ كان ذلك لأن الله أراد أن يتيح له أعظم فرصة لدرس الطبيعة الإنسانية، ولهذا كانت آراؤه في تحديد الصلات بين الرجال والنساء أصدق الآراء.

أما بعد فهل بقي ما أنص عليه في هذا التمهيد؟

آمنت بالله، وكفرت بالحب!

لقد كتبت هذا التمهيد عشرين مرة، ثم مزَّقت ما كتبت؛ لأني تحدثت فيه عن شجون تنكرها الحكمة التي تقول بأن الرياء سيد الأخلاق!

هل كان ذلك التهيب لأني تخوَّفت من إيذاء الروح التي انتظرتْ أن أعلن اسمها في كتابي ليزداد جمالًا إلى جمال؟!

لن أسميها أبدًا، ولن أولع بها الرقباء، فلتغضب كيف شاءت، ولتبدل حياة الحب من حال إلى أحوال، إن كانت تستطيع، ولن تستطيع، فهي ملك يميني إلى آخر الزمان.

تلك الصورة الأولى بعد العشرين من هذا التمهيد، وهي الصورة النهائية، فقد تعبتُ من مقاتلة الألفاظ والمعاني، ولم يبقَ إلا أن أعتصم بالرموز والتلاميح.

هوَى جميل عند بثينة، وهوى كثير عند عزة، وهو العباس عند فوز، فأين هواي؟ وما هو اسم الجميل الذي أحجبه بحجاب هذا الكتمان؟

هؤلاء الموحدون في الحب لن يكونوا أصدق مني، ولن ترى الدنيا — ولو تحوَّلت إلى فردوس — عاشقًا أصدق مني، ولن أرى أكرم منك يا تلك الروح الغالية، ولا أعذب ولا ألطف، وإن توهمتِ أن الصدود من جنود «الجمال»!

هؤلاء الموحدون في الحب يتكلمون باسمي، على بُعد الزمان والمكان، فأنا وأنت أول صوت يناغي ضمير الوجود.

اقرئي هذا الكتاب، يا تلك الروح، وتناسَي أننا تلاقينا لحظة من زمان، لتذوقي طعم النوم لحظة من زمان!

هذا الكتاب آخر العهد بالعتاب، وآهٍ ثم آه من توديع العتاب!

سبحان من لو شاء سوَّى بيننا
وأدال منك فقد أطلت عذابي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤