الفصل الأول

الحُبُّ العُذري

١

قبل الشروع في الكلام عن جميل وكثيِّر والعباس نرى من الواجب أن نكتب صفحات عن الحب العذري عند العرب.

فما هو ذلك الحب؟

هو حبٌّ خالصٌ من شوائب الدَّنس والرِّجس، هو حبٌّ طاهر شريف، لا يعرف مُخزِيات المآثم، ولا مُندِيات الأهواء.

وفي هذا الحب يمتري كثيرٌ من الناس؛ لأن ظواهر الأحوال تشهد بأنه عاطفة غير طبيعية، ومن هنا جاز لبعض الباحثين أن يقول: إن هذا الحب لا يصدر إلا عمَّن حُرِمُوا قوَّة الحياة.

٢

والحقُّ أن الحب في جوهره هو اقتحامٌ واستئثارٌ وامتلاك، هو عدوانُ أرواح على أرواح، واستبداد قلوبٍ بقلوب، وما نراه من توجع العشاق وتفجعهم وتحزُّنهم، وإعلان استعدادهم للفناء فيمن يحبون، ليس إلا وسيلة للظفر بما يشتهون، فليس من المبالغة أن نقول إن الدمع في عين العاشق كالسمِّ في ناب الثعبان، فالعاشق يخدِّر فريسته بالدمع، كما يخدر الثعبان فريسته بالسم، والإنسان حيوانٌ محتال!

ونحن مع ذلك أمامَ ظاهرة وقعت بالفعل، هي وجود عشاق وصل بهم العشق إلى حد التصوف، فلم تكن لهم في ظواهر الأمر مآرب حسية يطفئون بها ظمأهم إلى الاستئثار والامتلاك.

٣

عندنا عشاقٌ عُذريُّون، وعند سوانا عشاق أفلاطونيون، وذلك جِدٌّ من الجِدِّ لم يتناوله عشاق العرب وغير العرب لاهين أو مازحين، وإنما تناولوه بنفوس صافية، وقلوب صحاح.

فما تعليل هذه الظاهرة الوجدانية؟ وما الرأي في هذا الحب الغريب الذي يفرض التضحَية بمآرب الشهوات والأهواء؟

الرأي واضحٌ لمن يعرف، وهو أن شهوة الحس مطلبٌ صغير بجانب شهوة الروح.

وهل كانت شهوات الشعراء الأكابر شهوات حسية بالمعني المعروف؟

إن الشاعر لا يسمو ولا يرتفع ولا يُحلِّق في الجِواء العالية إلا إن خلصت روحه من الأوضار الأرضية، ونظر إلى الوجود نظرة أعلى من نظرات المجذوبين إلى الأرض بجواذب المنافع والأغراض.

الشاعر ليس بحيوان، وإنما هو مَلَك، فإن لم يكن ملَكًا فهو إنسانٌ من طراز غير طراز هذا الخَلق الذي يسدُّ جوعه بالطعام والشراب، كما يصنع سائر الحيوان.

الشعراء يؤذيهم جوع الأرواح لا جوع البطون.

الشعراء لا ينظرون إلى النجوم نظرة اهتداء كما يصنع السارون في ضمائر الصحراء، وإنما ينظرون إلى النجوم نظرات ذوقية وروحية يفرضها عليهم الهُيام بتذوق جمال الملكوت.

والشعراء هم الذين علَّموا الناس أن للجمال غاية غير ما ألِفوا من الغايات.

الشعراء هم الذين فطنوا إلى أن للوجود محاسن تُشتهَى بجوارح غير الحواسِّ.

الشعراء هم الذين زينوا للناس أن يتأملوا جمال الشروق والغروب، وأن يبحثوا عن غذاء أرواحهم وأذواقهم بالطواف حول أحواض الأزهار والرياحين.

الشعراء هم الذين راضُوا «بني آدم» على الاحتفاظ بما ترك الأولون من آثار، لأنهم توهَّموا أن لتلك الآثار الهوامد ألسنةً تُفصِح وتُبِين.

فهل يكون من العَجب أن يخلقُ الشاعر من معشوقته دُميةً روحية يجاذبها أطراف الحديث حول أسرار الوجود؟

٤

يستطيع أي مخلوق أن يتفلسف فيقول إن الشعراء العذريين لم يتغنوا بطهارة الحب إلا بسبب الضعف، وأن يزعم أن عفافهم لم يصدر عن تحليق وإنما صدر عن إسفاف، ولو فكر أولئك المتفلسفون لعرفوا أن الشاعر يتأذَّى من الغايات الوضعية، ولا يرضى عن المرأة إلا إن شاركته في السموِّ إلى الآفاق الروحية، وحمَّلته من مكاره الحب ما يملك به القدرة على النُّواح والأنين.

الشاعر يطلب غايةً مجهولة في العالم المجهول، وهو يكره أن تكون معشوقته إنسانة هيِّنة لينة يملك من سرائر جمالها ما يشاء حين يشاء، ومن هنا صح ما قيل إن المجنون تناومَ في حضرة ليلاه ليراها في تهاويل الطيف، وإنما كان ذلك لأن الصورة النموذجية للمرأة الجميلة لا يمثلها الواقع كما يمثلها الخيال.

وليس من الحتم أن تكون الأحزان هي غاية ما يطلب الشعراء، فللشعراء أفراح، ولكنها غير أفراح الناس، هي أفراح سماوية يرون بها الفردوس قبل عهد الفردوس.

والشاعر لا يرى المرأة مخلوقة من لحم ودم وأعصاب، وإنما يراها سبيكة نورانية صاغتها المقادير وفقًا للجوامح من أهوائه الساميات.

الشاعر روح مقتحم لا تطيب له الغزوات إلا في الآفاق الروحانية، وهو يشعر بالذلة حين ينحط إلى المدارج الأرضية.

الشاعر — وعند الله جزاء الشاعر — هو مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بنقل الناس من ضلال إلى هدًى أو من هدًى إلى ضلال، ولن يكون كذلك إلا حين يحدثهم عمَّا لم يكونوا يعرفون، ويصل بهم إلى آفاق كانت عندهم من المجاهيل، هو قوةٌ عُلوية تصوِّر المستحيل فتجعل الباطل حقًّا في أحيان، وتجعل الحق باطلًا في أحايين.

الشاعر هو الروح الوحيد الذي يستصبح بظلمات الليل، والذي يتَّخِذُ من خياله سُلمًا يرقى به إلى معارج السماوات الروحانية.

الشاعر كالمجنون في لغة القرآن الشريف، وإنما كان كذلك لأنه رفع نفسه عن آفاق الناس فلم يعرف ما يعرفون ولم ينُكر ما ينكرون.

الشاعر روحٌ ثائر لا يعرف القرار والهدوء والاطمئنان.

هو جذوة من اللهب المقدَّس الذي يضطرم به الوجود.

هو طائرٌ يرى الخوف في آفاق السماء أفضل من الأمان فوق وهاد الأرض.

٥

الشاعر العذري يخلق للمرأة شمائل تميِّزها عن سائر بنات حواء، فهو يخلق منها قوة روحية تسيطر على مسالك ضلاله ومذاهب هداه، وهو يراها أمنع من الظبية العصماء، وقد يراها أبعد من نجم السماء.

المرأة عند الشاعر العذري مِثالٌ رائع لا تحدُّه الأوهام ولا الظنون، هي جِنِّيَّةٌ لبست ثياب المرأة لتخبله وتستبيه بلا ترفق ولا استبقاء.

ومن المؤكد أن الناس يعجبون من الخبال الذي يتمتع به الشعراء العذريون، وهو في الواقع خَبالٌ سخيف لا يرضى عنه إنسان وفي رأسه عقل!

ولكن يظهر أن القلوب لها أحوال غير أحوال العقول، وإلا فكيف جاز أن يكون العذريون المخابيل قوَّة أدبية وروحيةُ يُشغَل بها الناس من جيل إلى جيل، وكيف جاز أن تُنصَب الموازين لخبالهم السخيف في بيئات تنكر اللهو والمزاح؟

تلك عُقدة نفسية تنتظر الحل، وتوجب على أهل الرأي أن يختصوها بجانب ملحوظ من العناية والاهتمام.

٦

وأهم ما يجب تقييده هو النص على مذاهب أولئك العذريين في الحياة، وهم في أغلب أحوالهم لم يكونوا رجال أفعال Hommes d’action.

فليس في التاريخ شواهد تدل على أن حَيَواتهم كانت فيها شواغل جِدية تصرفهم عن التغني بالصبابة والوجد، وتجنِّبهم عواقب ذلك الخبال السخيف.

هم قوم شغلوا أخيلتهم وأوهامهم وأحلامهم بتعقب الصورة الجميلة التي راضتهم على النوح والبكاء، وما زالوا يطوِّفون حول هواهم حتى توهموه بابًا من أبواب الجهاد، وحتى رأوه فرصة من فرص الاستشهاد:

يقولون جاهدْ يا جميل بغزوة
وأي جهاد غيرهن أريدُ
لكلِّ حديث عندهن بشاشة
وكل قتيل بينهن شهيدُ

وأولئك الفارغون يستحقون العطف، وقد يستأهلون الإعجاب؛ لأن الدنيا كانت تمسي مسارب صِلال، ومدارج ذئاب، لو خلت من تلك القوة الروحية، التي تجعل الحب شريعة من الشرائع، والتي تجعل من الوجد بالملامح مُرُوجًا نتفيَّأ ظلالها حين يلفحنا الهجير في صحراء الوجود.

وما الموجب للرياء؟

هل في الدنيا رجل عظيم لا يشكو قسوة الظمأ إلى الشعر والموسيقا من حين إلى حين؟

وأين الرجل الذي قُدَّ فؤادُه من الجلاميد فلا يحسُّ أغاريد الحب ولا أهازيج الغناء؟

أين الرجل الذي لا يروعه دخول أرْمان في قبر مرجريت؟

أين الرجل الذي لا يهوله ما حدَّث ابن حزم عن العقيلة التي قضت الليل في حضن زوجها الميت لتذوق مرارة الألم لآخر العهد بالوصال!

ليست الدنيا في جميع أحوالها مُضاربات أسواق، وميادين حروب، والأمم الشقية هي التي لا ترى الدنيا إلا مضاربات أسواق وميادين حروب.

الحب العذري حقيقة من الحقائق، وليس فرضًا من الفروض، ولا يرتاب في الحب العذري إلا الذين ضاقت منادح أهوائهم فلم يَجْروا إلا في ميدان الحسن المبذول، وأولئك قومٌ يمشون في دنيا الحب مشي المقيد في الوحل، فلا يتعالَوْن إلى فكرة سامية ولا يتسامون إلى مقصد رفيع.

٧

ولو فرضنا أن الطبيعة الإنسانية تحمل من عناصر الحيوانية ما يجعل هذا الحب وهمًا من الأوهام لكان واجب الشاعر أن يجاهد ليجعل لهذا الحب حظًّا من الوجود الوهَّاج.

فالحب العذري لا يقوم على الزهد المطلق في المتُعة الحِسِّيَّة وإنما يقوم على أساس الصِّراع بين رُوحين يغالبان مطامع الأفئدة ومَطالب الحواسِّ.

الحب العذري هو معركة عنيفة تقع في ميدانين: الأول ميدان الصراع بين الشاعر وهواه، والميدان الثاني ميدان القتال بين الشاعر ومن يهواه، وهو في الميدان الثاني لا يطارد فريسة تُنال بأيسر الجهد، وإنما يطارد ظبية عصماء لا تُنال إلا باقتحام الأهوال فوق قمم الجبال.

والحب العذري حين نتصوره هذا التصور لا يكون إلا رياضة أخلاقية، وقد كان كذلك بالفعل في أنفُس من أقبلوا عليه من أعاظم الشعراء، وذلك سرُّ القوة في النسيب الذي صدر عن أولئك الرجال، القوة التي قضت بأن يتنقل من أرض إلى أرض ومن جيل إلى جيل وهو في روعته الباقية وجلاله المرموق.

وهل كان يمكن أن يفتخر العذريون بالعفاف — وهو في شِرعة الفحول من الخيبة — لو لم يكن ذلك العفاف علامة قوة عارمة تمثل السيطرة على أهواء النفس؟

٨

إن أشعار المُجُون لم تُقابَل في أي أرض ولا في أي جيل بغير الاستخفاف، فما سبب ذلك؟

السببُ هو أن أشعار المجون شهادةٌ على أصحابها بالضعف والانحلال، فسيطرةٌ الرجل على المرأة سيطرةً حسيَّةً ليست من المطالب العالية؛ لأنها مبذولة بأرخص الأثمان في عالم الحيوان، وإنما يَشرُف الرجل حين يجعل من هواه ميدانًا للصراع بين الرُّشد والغي، والهدى والضلال.

٩

ذلك هو الحب العذري، وأولئك هم المحبون العذريُّون، وما أقول بأن أصحاب تلك العواطف كانوا في درجة واحدة من الطُّهر والسُّموِّ والروحانية، ولكن من المؤكد أنهم عاونوا على إمداد الإنسانية بشمائل رفيعة جعلت من الواجب أن تكون أشعارهم أغاريد يترنم بها الصادقون من الصوفية في أوقات الصفاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤