الموازنة بين كثير وجميل
نزيد في تجسيم شخصية كثيِّر وذاتية جميل بالموازنة بينهما فنقول:
الصفات الجسمية
وفي مقابل ذلك اتفقوا على أن كثيرًا كان نحيفًا مفرط القصر وأن اسمه صُغِّر لهذا، وحدَّثونا أنه كان إذا دخل على عبد الملك ابن مروان تندَّر عليه فقال: طأطئ رأسك لا يصيبه السقف! وهي عبارة تصور قصر كثيِّر أبشع تصوير، وتمثل ما كان يلقى من الازدراء.
وشهرة جميل بالشجاعة تقابلها شهرة كثيرة بالجبن، وهل تنتظر الشجاعة من رجل ضعيف البنية قصير القامة في زمن لا يتقاتل الخصوم فيه بغير الرماح والسيوف، وتحتاج إلى السواعد الشداد؟
كان جميل يتعرض لقوم محبوبته بعد أن توعَّدوه بالقتل، يتعرض لهم عامدًا ليقاتلهم عليها ويقاتلوه، أما كثير المسكين فقد تعرَّض يومًا لعزة وزوجها حاضر، فأمرها الزوج بشتمه في وجهه، فقالت له وهي تبكي: يا ابن الفاعلة! وفي ذلك قال:
ومضى كثير مرة إلى الكوفة بإشارة من عبد الملك فغمزه أحد الناس بكلمة مؤذية فخاف من عاقبة الجواب واحتمى بدار الوالي، ثم هرب في غده من العراق!
وما نقول بأن كثيِّرًا كانت تعوزه شجاعة القلب، وإنما جاءه الجبن من خلقته، وهي خلقة لم تكن لها فيها يد، ولم يكن يملك في تبديلها أي حَول.
الصفات العقلية
واتفق الرواة على أن جميلًا كان غاية في العقل، كما اتفقوا على أن كثيِّرًا كان غاية في الحمق، فما تعليل ذلك؟
لا ينكر أحد أن القوة الجسمية هي النعمة الأولى، وعنها تتفرع سائر النعم، فجميع الأنبياء كانوا أقوياءَ، وفيهم أفراد امتازوا بالجمال، جمال الجسم أو جمال الصوت.
وطول القامة أمرٌ مطلوب، وهو دليل على العقل، ولهذا يُستغرب الحمق من الطوال ويُنَص عليه في الأنباز المصرية فيقال: «طويل وهايف» ويدَّعي ناسٌ أن في التوراة عبارة تقول: «طوال الناس ليس لهم عقول».
وتعليل ذلك هو ما قلت من أن الطول يجب أن يكون مبشرًا بالعقل؛ لأنه في ذاته من الاكتمال البدني، والاكتمال البدني يبشر بالاكتمال العقلي، فإذا ظهر الحمق في رجل طويل القامة كان شيئًا يلفت الأنظار ويوحي بالتندُّر والتنكيت.
ويظهر أن الطول المحمود ليس هو الطول المفرِط، ولهذا نجد في أوصاف الأنبياء والعظماء أنهم كانوا رَبْعةً بين الرجال، ومِن هنا صح لكعب بن زهير أن يصف محبوبته بتمام الخَلق، فيقول:
ومعنى هذا أن الطول يُشتكى حين يتجاوز الحد، كما يُشتكى القصر حين يتجاوز الحد، فعندئذٍ يوجد الحمق بين القصار والطوال على السواء.
وطول جميل لم يكن بالطول المفرط، ولهذا سلِم من الحمق وامتاز بالعقل.
أما قصر كثير فكان نهاية في السُّخف، قال أحد معاصريه: «رأيت كثيِّرًا يطوف بالبيت، فمن حدثك أنه يزيد على ثلاثة أشبار فلا تصدِّقْه»!
إذن كان كثير قزمًا، وعند الأقزام ذكاء، ولكنهم في الغالب ضعاف الأحلام صغار العقول.
للأقزام حي مهندَم في ملهى اللونابارك بمدينة باريس، وحياتهم فيه حياة تشهد بما عندهم من المهارة في بعض الشئون المعاشية، ولكني حين حاورتهم لم أطمئن إلى أنهم على جانب من رجاحة العقل؛ فأحلامهم تتسق مع أجسامهم، وإن كان شذوذهم الخِلقي هو في ذاته طريفةٌ من طرائف الوجود!
وكان كثيِّر لضعفه وقصره يُزْدَرَى لأول نظرة، ولا يُقام له وزن إلا بعد أن يدل على نفسه بأدبه، والأدب لا يجد من يقوِّمه في جميع الأحوال!
وشهرة كثيِّر بالحمق فتحت أبوابًا للتندُّر عليه، فقد حدثوا أنه كان يدخل على عمة له يزورها فتكرمه وتطرح له وسادة يجلس عليها، فقال لها يومًا: لا والله ما تعرفينني، ولا تكرمينني حق كرامتي! قالت: بلى، والله إني لأعرفك. قال: فمن أنا؟ قالت: فلان بن فلان وابن فلانة، وجعلت تمدح أباه وأمه. قال: قد علمت أنك لا تعرفينني. قالت: فمن أنت؟ قال: أنا يونس ابن مَتَّى!
وحدثوا أنه قال لعُوَّاده في مرض موته: إنه سيرجع إليهم بعد أربعين ليلة على فرس عَتِيق!
ونحن لا نصدق أن كل ما رُوِي عنه حق في حق، ولكننا لا نستبعد أن يكون شذوذه الجسماني أورَثه بعض الحمق، فالانهزام في ميدان المباراة الجسدية قد يؤرث الجنون، وشواذ الخلقة يمثلون جمهرة المجانين.
وإيمان كثيِّر بالرجعة من شواهد ذلك الضعف، وهو حُلمٌ كان يستريح إليه ويرجو أن يتحقق، ليعوض ما فاته من الخسارة في عيشه الأول.
وفي القرآن المجيد عبارات صريحة في أن انصراف الأغنياء عن متابعة الأنبياء يرجع إلى مزاحمة الفقراء، فالغني لا تهمه الآخرة لأنه فرحٌ بدنياه، أما الفقير فتهمه الآخرة ليعوض ما فاته من النعيم في دنياه.
ولم تكن العقول ارْتَقَتْ حتى يكون الغني أول راغب في النعيم السرمدي، وهو النعيم المقيم، ولهذا كان الفقراء في طلائع المناصرين للأنبياء.
هذا هو التفسير النفسي لإيمان كثير بالرجعة، وهو إيمان يتعزَّى به بعض الْمُضْطَهَدِينَ.
ونحن نعرف أن القول بتناسخ الأرواح بدعةٌ هندية، فقد كانت الهند أقدم الأمم التي عانت الاضطهاد، ومن هذه الناحية جاز لحكمائهم أن ينتظروا في الدنيا ألف مَعاد!
والظاهر أن هذه العقيدة منقولة عن الصين، فقدماء أهل الصين لم يكونوا يعرفون البعث الأخروي كما يعرفه الموحِّدون من أتباع الديانات السماوية، فاستجابوا لدعوة العدل وهي دعوة مركوزة في حنايا القلوب، وتصوروا أنهم سيعودون إلى الدنيا في حال ينتصف فيها المظلوم من الظالم، ولو بعد أزمان.
لا نريد أن يتشعب الحديث من شجن إلى شجون، فالمهمُّ هو أن نبين مصدر عقيدة كثيِّر بالرجعة والتناسخ، وهي عقيدة تليق بمن يكون في مثل حاله من القصر والدمامة والهزال، وسنرى في نهاية هذا البحث كيف عاد كثيِّر إلى الدنيا وعاد ثم عاد!
الغزل والنسيب
كانت الجماهير في العصر الأموي تختلف في الموازنة بين كثيِّر وجميل في الغزل والنسيب، وهذا الاختلاف يشهد بأن كثيِّرًا فاز في مباراة جميل، وكان كثيِّر نفسه يفصِل في القضية فيقول: وهل وطَّأ لنا النسيبَ إلا جميل؟
وسُئل نُصَيْبٌ عن جميل فقال: ذاك إمام المحبِّين، وهل هَدَى الله عز وجل لما نرى إلا بجميل؟ ومن عبارة نُصَيْب نعرف أنهم كانوا يَعَدُّون إجادة النسيب هداية ربانية.
وحجتي في الخروج على هذا الإجماع أن العواطف يورثها الحرمان، فمن الجائز أن يكون حرمان كثيِّر من الظفر بهواه زاده شوقًا إلى شوق، واهتياجا إلى اهتياج، فبلغ في النسيب ما لم يبلغه جميل.
أعذار النقاد
للنقاد القدماء أعذار في الافتتان بقصائد جميل في النسب، فقد أوفت على الغاية في براعة التعبير ورشاقة البيان، وكان الناس يروُونها وهم يتمثَّلون روح جميل، وكان روحه من ألطف الأرواح، وكيف لا يَفْتِنُ معاصريه مَن يقول:
أو يقول:
أو يقول:
أو يقول وقد جدَّت الحرب بينه وبين أهل محبوبته:
أو يقول:
والمهمُّ أن نقول بعبارة صريحة إن تقديم النقادِ جميلًا على كثيِّر لا يرجع إلى أن جميلًا أشعر من كثيِّر في النسيب، وإنما يرجع إلى أمور كثيرة تتكون منها ذاتية جميل، فقد كان يجمع بين الجمال والفتوَّة والشعر والعشق، وكان مكتملًا في كل هذه النواحي: فجماله رائع، وفتوته باهرة، وشعره رائق، وعشقه صادق، ومن كان كذلك فهو خليقٌ بأن يحتلَّ من نفوس معاصريه أشرف مكان.
وفي مقابل هذه الذاتية العظيمة تجيء تلك الشخصية الهزيلة، وهي شخصية كثيِّر القَزْم النحيف، كثير الْمُزْدَرَى لدمامته وقصره وحمقه وغُلوِّه في التشيع غلوًّا يقترب من السُّخف، ومن كان كذلك فكيف يجد من يحكم له بالتقدُّم على جميل؟
قالوا: إن كثيِّرًا كان يقدم جميلًا على نفسه ويتخذه إمامًا، فهل كان من الممكن أن يقول كثيِّر إنه أشعر من جميل في النسيب؟
لو نَبَس بحرف يؤكد به هذا القول لرَجَمه الناس بالحجارة أو حَثَوْا في وجهه التراب!
أدب جميل
ويظهر أن مجاملة الشعراء لجميل ترجع في بعض أسبابها إلى أدب جميل في مخاطبة الشعراء، فقد أثنى على عمر بن أبي ربيعة في وجهه حين أنشده عمر لاميته فقال: هيهات، يا أبا الخطاب، لا أقول والله مثل هذا سَجيسَ الليالي، وما خاطب النساء مخاطبتك أحد. وقام مشمِّرًا.
وعبارة «قام مشمِّرًا» عبارة أثبتها صاحب الأغاني، فهل كانت شارةَ الهرب من جميل؟
هيهات، ثم هيهات، فذلك أسلوبٌ في الثناء يجيده الكرماء.
والتقى يومًا جميل وكثيِّر فتذاكرَا النسيب، فقال كثيِّر:
فقال جميل: أترى عزة يا كثيِّر لم تسمع بقولك:
وهي مجاملةٌ طريفة من جميل، وإن كان لا يملك غير المجاملة في مخاطبة شاعر هو راويته الأمين.
أعجوبة الزمان
هو كثيِّر عزة، فما اتفق لمن يكون في مثل حاله من الهوان على الطبيعة والناس أن يصل إلى ما وصل إليه من قوة الأدب والبيان، ومن الشهرة الضافية التي تنقُل اسمه من جيل إلى جيل.
أيرجع هذا إلى نظرية «مركب النقص» وهي النظرية التي تقول بأن الرجل حين يشعر بضعفه في جانب يحاول تقوية باقي الجوانب ليصير من أعلام الرجال؟
هذه النظرية على شيء من الصواب، ولكنها لا تتحقق إلا بشروط جوهرية تتصل بذاتية من يريدون أن يرتفعوا من انخفاض.
وبيان ذلك أن الشعور بالضعف قد يُوْجَدُ عند كثير من الناس، ولكنه لا يوحِي إلى جميع الضعفاء فكرة التغلب، ففي كل عصر ألوف وألوف يشعرون بالضعف ثم يموتون ضعفاء، وفي كل عصر ألوف وألوف يشعرون بالحقارة ثم يموتون حقراء.
هذه النظرية لا تتحقق إلا بشروط تلخصها كلمة واحدة هي وفرة الزاد المكنون في قرارة النفس، والروح، والفؤاد.
ولتوضيح ذلك أسوق الأسئلة الآتية:
هل كان كثير أوَّل قزم في عصره؟ وهل كان أول أعور في عصره؟ وهل كان أول من ازدراه معاصروه؟
هذا غير معقول، وإنما كان كثيِّر أول من اجتمعت فيه تلك العيوب وبجانبها زادٌ مكنون ينهض به إن حاول النهوض، زادٌ مركوزٌ في فطرته الأصيلة، زادٌ لا يقلُّ قيمةً عمَّا يتزود به طوال الأجسام وصِحاح العيون، وكان هذا الزاد جناحه الذي أعانه على التحليق بعد الإسفاف.
كان كثيِّر شعلة من الذكاء.
لقيه الفرزدق فقال: يا أبا صخر، أنت أنسب العرب حين تقول:
يعرض له بسرقة هذا البيت من جميل، فقال له كثير: وأنت يا أبا فِراس أفخر الناس حين تقول:
يعرِّض له بسرقة هذا البيت من جميل.
وانزعج الفرزدق من ذكاء كثيِّر فقال له: هل كانت أمك مرَّت بالبصرة؟
فأجاب كثيِّر: لا، ولكن أبي!
والذكاء لا يخلقه الشعور بالنقص، وإنما هو زادٌ موهوب، وكان كثيِّر من أكابر الموهوبين.
وتسامى كثيِّر إلى صحبة الخلفاء، برغم تلك الحالات التي لا تؤهله إلى صحبة أصاغر الناس.
فكيف وصل إلى ما يريد؟
الزاد المكنون في نفسه وعقله وفؤاده هو الذي وصل به إلى ما يريد.
والله يؤتي الحكمة من يشاء.
وهي عبارةٌ نفيسة أُخِذَتْ منها عبارة نُصَيْب التي نقلناها قبل صفحات، فماذا يريد كثير أن يقول؟
إنه يجعل الحديث عن الجمال منحة ربانيَّة تُضَافُ إلى ما مَنَّ الله به على آدم حين علَّمه الأسماء، ولا يقول هذا القول غير من هداه الله إلى عبادة الجمال.
الزاد المكنون في ضمير كثيِّر هو سرُّ قوَّته، أما نظرية مركب النقص التي يعتمد عليها أكثر الباحثين فهي لا تخلق رجلًا خِلقة جديدة يفرض بها إرادته على الأدب والتاريخ.
نسيب كثير
أقول بدون تردُّد إن كثيِّرًا فاق أنداده في الغَزَلِ والنسيب، ولولا تلك الحالات التي غضَّت من مكانته في أعين الناس لاعترفَ له معاصروه بالإمامة في التشبيب، ويكفيه مجدًا أنه برغم تلك الحالات وجد من يوازن بينه وبين جميل، وهل يصل إلى هذه المنزلة من يكون في مثل حاله إلا بقوةٍ روحية تخلب الألباب والعقول؟
وانتصار كثيِّر يدل على سلامة الذوق في العصر الأموي، وأريد الذوق الأدبي الذي يَزِنُ الأقوال بِغَضِّ النظر عن القائلين، الذوق الذي يتسامى عن ظروف الحياة اليومية، وينظر إلى آفاق الخلود.
وقد أكرم الأدباء الأمويون أنفسَهم فشهدوا لكثيِّر بالتفوق وضمنوا رفع الملامة عنهم فيما يتعاقب من الأجيال.
إنهم قدَّموا جميلًا عليه، وليس في ذلك مَعاب، فقد كان جميل ريحانة ذلك الزمان.
فهل قدَّموا عليه عمر بن أبي ربيعة وكان فتنة الفتن في مغازلة النساء؟
هل قدَّموا عليه الأحوص؟ هل قدموا عليه العَرْجي؟ هل قدموا عليه الحارث المخزومي؟ هل فكروا في الموازنة بينه وبين جرير والفرزدق والأخطل في النسيب؟
ذلك شاعرٌ فاتته نضارة الجسم ولم تفته نضارة الروح.
ولنفتتح غزلَه بالأبيات الآتية وهي من طريف ما قيل في الكتمان:
وفي هذه القصيدة يصف شمائل محبوبته فيقول:
وتَعْصِرُ قلبه اللوعة فيقل في غير هذا القصيد:
وفي البيت الثاني والثالث صورة من أجمل صور الكتمان، فهو يذكر أن جسمه تغيَّر، وأن الخليقة تغيرت، ولم يبقَ على عهده غير ذلك القلب الكتوم.
ويقول من قصيدة:
والبيت الأول من صور التصوف في الحب، أما البيت الثاني فهو إيمان بقدرة الجمال على بعث الأموات، وبلغ كثيِّر ما لم يبلغه مؤرخ لهواه في صباه حين قال:
فما الذي نراه في هذه القصيدة؟
هذا نَفَسٌ لا نجده عند غير كثيِّر من شعراء العصر الأموي.
وكثيِّر في هذه القصيدة يشرح العواطف تشريحًا يذكِّر بأسلوب الشعراء الوجدانيين في الأدب الفرنسي.
وقلبُ كثير يتموَّج وهو يذكر هواه في صباه، فينتقل من حال إلى أحوال، ويراوح بين الرضا والغضب والوعد والوعيد.
ولقد برع في تقديس الجمال حين قال:
وشرح وثبة القلب إلى بلد المحبوب حين قال:
وبلغ الغاية في وصف حلاوة الحديث حين قال:
وعبَّر عن فجيعة من فجائع القلوب حين قال:
وهذا معنى يصور الإنسانية الصغيرة، الإنسانية التي لا تحفظ العهد، وصدَق العباس بن الأحنف حين قال:
ومرجع هذه الآفة إلى أن القلب الكبير قد يعطف على القلب الصغير، كما يعطف كبار الآباء على صغار الأبناء، وأين الابن الذي يعرف فضل أبيه، وهو كالئه وراعيه؟
إن المحب يخلق المحبوب، يخلقه خلقًا يحار فيه المحبوب، ويكاد يتوهَّم أنه خُدع في نفسه ففهم خطأً أنه خُلِقَ من طين!
نحن نخلع عواطفنا على بعض الخلائق، لنجرِّب حظَّنا في القدرة على الإبداع، ثم تكون النتيجة أن يتمرَّدُوا علينا تمرُّد المخلوق على الخلَّاق!
ومن هي عزَّةُ التي خُلِّد اسمها في التاريخ الأدبي؟
كان من حظها أن يعرفها كثيِّر فيجعل اسمها غُرَّةً في جبين الوجود.
ولو فاتها حظ التعرف إلى كثيِّر لطُوي اسمُها كما طُويت أسماء المئات من العزَّات.
ولقد لامت كثيِّرًا عاذلةٌ في أن يخص عزة بتشبيبه، وعدَّت ذلك تقصيرًا عن وصف من عداها من النساء، فقال: لقد سار بها شعري، وطار بها ذكري، وقَرُب بها من الخلفاء مجلسي، وإنها لكما قلت فيها:
وبهذا يرجع كثيِّر فيؤكد أن محبوبته من المنعَّمات، والمرأة المنعَّمة تدرك من معاني الحياة ما لا تدرك الفقيرات من النساء.
وقد صدق امرؤ القيس حين وصف المرأة المنعَّمة فقال:
وكان ذلك لأن النعيم هو في ذاته أجمل الطِّيب؛ لأنه لا يوجد إلا في بيوت المياسير، وهي في كل عصر مهبط الوحي لربَّات الجمال!
واختار له أبو تمام هذه الأبيات:
ولم يكن أبو تمام يختار غير المعاني الجياد، والشاعر في البيت الأول يحدِّثنا أن محبوبته حببتْ إليه بلدين في غير وطنه، وهو بهذا يجعل الوطن هو الجدير بالحب، فما يحب الرجل وطنًا غير وطنه إلا بعاطفة تقدر على إيجاد المستحيل، والبيت الثاني معناه مطروق، ولكنه أدَّاه أجمل أداء، والبيت الثالث رائعٌ جدًّا، ومعناه أن تلك المحبوبة تنشر الطِّيب في كل مكان تحلُّ فيه، كأنها نفحة من نفحات الفراديس، والبيت الرابع نفيس، ومعناه أن الشاعر لو ذرف تلك الدموع على ذاهب من المحسنين إليه لقام من مرقده ليجزيه على الوفاء.
وأبو تمام أورد هذه الأبيات في ديوان الحماسة بدون أن يراعي ترتيب المعاني، وعنه نقل المستشرق هنري پيرس، والصواب أن يكون البيت الثالث بعد البيت الأول، وأن يكون البيت الثاني بجوار البيت الرابع، وهذا لا يفوت أبا تمام، فلعله من سهو الناسخين!
واختار له أبو تمام أيضًا هذه الأبيات:
ولهذه الأبيات الجميلة أهمية تاريخية، وأريد التاريخ الأدبي، وبيان ذلك أن القصيدة الداليَّة التي تحدَّثنا عنها قبل صفحات — وهي القصيدة التي أرَّخ بها هواه في صباه — نسبها القالي في الأمالي إلى الحسين بن مطير الأسدي، وعلى رأي القالي عوَّلتُ في كتاب «مدامع العشاق»، ثم ظهر أن الأصبهاني في الأغاني ينسبها إلى كثيِّر، فأي النسبين أصحُّ وأصدق؟
البيت الثالث والرابع من هذه القطعة يكرر معنًى وَرَد في تلك القصيدة، فليوازن القارئ بين ما هنا وهناك، إن كان يهمه التحقيق!
ولوعةُ كثيِّر في العشق لوعة تثير الإشفاق، ولننظر كيف يقول:
ما هذا شعرًا، إنْ هذا إلا سِحرٌ مُبين.
في البيت الأول نظرةٌ حنَّانةٌ صوَّبها الشاعر إلى رَبَّة هواه، وهو يتحزَّن على أن ينقطع ما بينها وبينه بعد أن شاجرتْه فيها الشواجر، وعاداه فيها من عاداه.
والبيت الثاني أعجب من العجب، فما بُني فعلٌ للمجهول بألطف مما ورد في ذلك البيت، وإلا فهل كان كثير لا يعرف بيت عزة إلا بدليل؟!
والبيت الثالث صرخةٌ رُوحية، هي صرخة الحب الذي يصدُّ المحب عن حبيبته وربه مثل الجنون، وعبارة «مثل الجنون» هي في ذاتها من وثبات الخيال.
وفي البيت الرابع صورة من تَمَنِّي المستحيل، فما في الدنيا تاجر يبيع الصبر للعاشقين!
وكثير هو الذي يقول:
والبيت الأول من غرائب الحنان، فالعاشق لا يبكي على نفسه حين يموت، وإنما يبكي لغربة محبوبته في الحياة بعد أن يموت، والجمع بين الحب والرهبة في البيت الثاني من نفائس المعاني، والبيت الثالث توكيد لرأيه الجميل في الكتمان، والبيت الرابع تلطُّفٌ رفيق، فهو يود أن يمرض لترقَّ محبوبته عليه، أما البيت الخامس فيصور فضل الحب في بناء الأخلاق، فكل عاشق يجاهد في طلب المعالي لترتفع قيمته في قلب من يهواه.
والمرأة كالفَرَس مفطورةٌ على الخُيَلَاءِ، فهي تشتهي أن يكون عاشقها أعظم الرجال، وهذا خير ما في المرأة من الغرائز الحيوانية والشمائل الإنسانية.
المرأة تعبد القوة الروحية قبل القوة الجسدية، وهي تفضِّل أن تكون معشوقة لرجل عظيم، ولو كان من الفانين، على أن تكون معشوقةً لفتى من الأوشاب، ولو كان في فورة الشباب!
والمرأة هنا هي المرأة القوية الروح، وهي موجودة في عالم الواقع قبل أن توجد في عالم الخيال، والمرأة الأصيلة شهوتُها في روحها لا في جسمها، وهي تميل إلى التعالي في جميع الشئون وتود أن يكون لها سنادٌ يعترف به المجتمع قبل أن يعترف به البيت، بفضل ما فُطِرت عليه من الخُيلاء.
وتعليل ذلك من الوجهة النفسية سهل: فالمرأة لا يهمها الشِّعار الذي يلاصق الجسد بقدر ما يهمها الثوب الذي تُلاقي به الناس.
ومن أجل هذا لا نستغرب أن تكون عزة رحلت إلى مصر لترى وجه كثيِّر، فقد استطاع وهو قزمٌ هزيل أن يرفع اسمها رفعًا يعجز عنه زوجها الطويل الجسيم، وبفضل كثيِّر عاش اسم عزة بين أسماء الخوالد من المِلاح.
وقد طرب كثيِّر من خروج عزة إلى مصر لتلقاه فقال:
وأرجو القارئ أن يتأمل هذه القصيدة مع الشرح الموجز في الهامش ليدرك ما فيها من اللوعة الكاوية، وأرجوه أن يتأمل المعنى الخُلقي في هذين البيتين:
فالمحبوبة هنا تُدِلُّ على المحب وهي مرفوعة الرأس؛ لأن المودة كانت على غير فحش، والهوى العُذري هو الذي يبيح الافتضاح؛ لأنه في حصانة بتنزُّهه عن الآثام.
وما معنى هذا البيت:
إن معناه إحدى الغرائب، فهو يتذكر حين يرى من يعتلُّون عن دفع الديون، والمعتل هو الذي يملك أداء الدَّين ولكنه يماطل، وكذلك الغريم الشحيح، فهو لا يوصف بالشحّ إلا عند القدرة على الأداء، والمعنى هنا ألطف من قوله في قصيدة ثانية:
لأن في البيت السابق إشفاقًا هو الغاية في رقة الحنان، وإن كان مصحوبًا بالعتاب.
•••
وجملة القول أن كثيِّرًا متفوق في الغزل تفوق الأفذاذ من النوابغ، وأن غزله يمتاز بكثرة التموُّجات الروحية، فهو يرضى ويغضب، ويفرح ويحزن، ويرجو وييأس، في صور متلاحقة يجمع بينها قصيدٌ واحد في بعض الأحايين.
وأكاد أحكم بأنه استقصى النوازع التي تساور قلوب أهل العشق، وتحدث عنها بأساليبَ تتراوح بين الرقة والجزالة، والرفق والعنف، والقليل الباقي من شعره يؤيد ما نقول، فكيف نحكم لو وصل إلينا شعره كله، وهو الشِّعر الذي جعله بين معاصريه أهلًا لأن يوضع في الميزان بجانب جميل؟
كثير الوصاف
هنالك خصيصة يمتاز بها كثيِّر وهي إجادة الوصف، وهي خَصيصة سكت عنها من تحدَّثوا عن براعته الشعرية، ولم يُشِرْ إليها القدماء بغير الإيماء.
إنهم نصُّوا على أنه بَرَع في وصف الدِّمن، ولكن ما قيمة ذلك وكان وصفُ الدمن مما يتعرض له أكثر الشعراء؟
يجب أن نذكر أن وصف الدمن كان شريعة أدبية في العصر الجاهلي وصدر العصر الإسلامي، وكان كذلك لأنه يعبر تعبيرًا صادقًا عن الروحية البدوية، روحية الرجال الذين تقهرهم قلقلة الحياة على الارتحال من وطن إلى وطن برغم الشوق إلى القرار والاطمئنان.
والوطن في تلك العهود كان له مدلول ضيِّق فلم يكن يراد به القُطر الحجازي، كما نقول في هذه الأيام بأن الوطن هو القُطر المصري، وإنما كان الوطن هو الدار، وقد بقي كذلك إلى القرن الثالث، كما نرى في قول ابن الرومي:
والحنين إلى الوطن في لغة القدماء هو الحنين إلى الوطن الأول وهو الدار، وليس حنينًا إلى الوطن الذي يُحَدُّ بحدود المعاهدات الدولية، كما نتصور في هذا الزمان.
والتاريخ الأدبي يحدِّثنا أن أبا نواس ثار على وصف الدمن وعدَّه لونًا من سخف الأعراب، ومع هذا نراه تأنق في وصف الدمن حين قال:
وفي ذلك رجعة إلى تلك الشريعة البدوية، وهي شريعة تأخذ زادها من الواقع لا من الخيال.
وإذن تكون إجادة كثيِّر لوصف الدمن شاهدًا جديدًا على أصالة روحيته العربية، وهي أصالة مؤيَّدة بشواهد أوضح من أن تحتاج إلى بيان.
وغرامه بوصف الدمن فرعٌ من غرامه بوصف أيام هواه في صباه، فما كانت الدمن تراد لذاتها، وإنما تراد لما يتصل بها من ذكريات مقبوسة من نيران القلب والروح.
ونحن اليوم لا نعرف من الأشعار التي وصف بها الدمن غير مقطوعات، بسبب ضياع الديوان، وكان يشتمل على مئات القصائد، ولكن تلك المقطوعات الباقية تكفي لأن نعرف كيف فتن معاصريه بأوصاف الديار الدارسات.
ولن أتعرض لما بقي من أشعار كثيِّر في وصف الدمن، فهي بالنسبة إلينا أشعارٌ ميتة؛ لأننا حضريون، والحضري لا يتمثل عواطف البدوي إلا بمعونة الذكاء، والذكاء لا يصل بنا دائمًا إلى قرارة الوجدان.
نترك وصف الدمن؛ لأننا لا نحسُّها إلا بعد إجهاد، ونسوق شواهد نحسها بدون إجهاد.
وصف كثيِّر وجده بعزة فقال:
وفي هذا البيت لوحة فنية قليلة الأمثال، ولكن كيف؟
تصوَّر أنك أمضيت سهرة صاخبة في سفح الأهرام، سهرة من السهرات العنيفة التي تحترب فيها قلوب الأسود والظباء، وتصور أن السهرة انتهت في الساعة الثالثة بعد نصف الليل، وأنك خرجت للبحث عن سيارتك فعرفت أنها سُرِقَتْ، ثم رأيت من حواليك سيارات تملأ الجوَّ بالضجيج، وتمضي بأصحابها ذات اليمين وذات الشمال، وأنت وحدك حيران!
تصور هذا لتدرك حيرة الرجل الذي تضيع ناقته في ازدحام الحجيج، فلا يدري ما يصنع، ولا يعرف أين يتوجه، ولا يستطيع السير على قدميه إلا إن رضي بأن يقال إنه من المتسوِّلين!
ذلك وجدُ كثير بعزَّة، وهو بلبلة وقلقلة وزلزال!
وهذا البيت من قصيدة يقول فيه كثيِّر:
وهذه الأبيات شغلت علماء البلاغة حينًا من الزمان، وجَرَوْا فيها على طريقتهم في شرح الاستعارة، وانتهى بعضهم إلى أنها كلامٌ بدون محصول!
والواقع أنها أبيات محيِّرة، فهي تافهة إن شرحناها حرفًا إلى حرف، ولكنها غاية في الجمال، إن تمثَّلنا الصورة التي قدمتها بوحي الشعر والخيال.
هل تذكرون ما قال عبد القاهر الجرجاني في هذه الأبيات؟
ارجعوا إلى كتاب «دلائل الإعجاز» وانظروا ما قال، فأنا أتذكر أنه أثنى عليها أجمل الثناء.
ولهذه القصيدة بقايا تجدونها في الجزء الأول من شرح ديوان كثيِّر الذي جمعه المستشرق هنري پيرس، وهي أبيات غير مرتَّبة؛ لأنها منقولة عن مختارات لم تراعِ الترتيب، وهي مع ذلك تُظهر حرص كثير على إجادة الوصف.
وهل خلا كتابٌ بياني من هذا البيت:
إن براعة كثيِّر في الوصف لا تظهر إلا لمن يقرأ ما بقي من أشعاره، وهو يتمثل الحياة البدوية تمثلًا يقدم إليه دقائقها بوضوح وجلاء، كأن يكون ممن عاشوا في البادية، أو من الذين أكثروا مراجعة أشعار البدويين.
وخلاصة القول أن كثيرًا يفوق جميلًا في هذه الناحية، ويشهد شعره بأنه أبرع من أستاذه في الوصف، وهو من أعظم الفنون الشعرية.
مدائح كثير
القدماء مُجْمِعُونَ على أن كثيرًا أجاد المديح إجادة قرنت اسمه بأسماء زهير والأعشى وجرير والفرزدق … فما هي القيمة الصحيحة للمديح، وهو في ظاهر فنٌّ يراد به استجداء الخلفاء والملوك والأمراء؟
إن المديح من الوجهة النفسية يشهد بتبعية المادح للممدوح، فهو بذلك مقتل من مقاتل الشعراء، ولهذا يتحاماه شعراؤنا في هذه الأيام، ليقولوا إنهم تحرروا من عطايا الملوك والأمراء.
فهل كان المديح كذلك في الأيام الخوالي؟
يظهر أنه كان يغض من أقدار الشعراء، فقد حدَّثنا الجاحظ أن النابغة الذبياني عِيبَ عليه أن كان أول من تكسَّب بالمديح.
ولكن للأمر وجهًا غير هذا الوجه، فالمديح في الشعر العربي كانت له غاية من أشرف الغايات، وهي تفصيل الأخلاق العربية والإسلامية، فالشاعر المادح كان يصوِّر آمال المجتمع العربي والإسلامي في الفضائل الذاتية، فهو بهذا أستاذ من أساتذة الأخلاق.
كان كثيِّر يستقصي المديح — فيما قالوا — فما ذلك الاستقصاء؟
هو الغوص على الشمائل التي يرتفع بها الرجال، ولو سمح الدهر يومًا بأن نرى ديوان كثيِّر لعرفنا منه أشياء كثيرة تصور المطاح الأخلاقية للعرب والمسلمين في تلك العهود.
يضاف إلى هذا أن الشاعر المادح كان موقفه موقف المؤرخ، المؤرخ الصادق؛ لأنه لم يكن يملك التنويه بأمجاد يغلب عليها التزييف، فقد كان خصوم ممدوحيه بالمرصاد، وكان من العسير أن يتحدَّث عن قوم بما ليسوا له بأهل، لأنه يعرِّضهم بكذبه إلى عدوان خصومهم وخصومه من شياطين الشعراء.
في هذه الناحية أيضًا تفوَّق كثيِّرٌ على جميل.
والشاعر يتخيل أن مصر تتلقى سحابًا يرد إليها من الشرق، وهي التفاتة شعرية، والسحابة المنتظرة هي عزة، وقُدومها عليه قدوم الغيث.