شاعر العفاف والكتمان
تمهيد
رأينا ما صَنع جميل وكثيِّر في الحياة الغرامية، وكانا في العصر الأموي أظهر مَن أعلن «عقيدة التوحيد في الحب» بغَضِّ النظر عن مجنون ليلى قيس بن الملوَّح، فقد حدَّثنا صاحب الأغاني أن ناسا قالوا إنه شخصية خرافية، وبهذا القول تأثر الدكتور طه حسين، كما يشهد كتابه «حديث الأربعاء».
وماذا يقع إن صحَّ القول بأن شخصية «مجنون ليلى» شخصية خرافية؟
يقع ما هو أغرب، وهو أن العصر الأموي تعطَّش إلى الصدق في وَحدانية الحب، فاخترع أحدُ رجاله شخصية غرامية تحدِّث الناس بما يشتهون من أحاديث الوجدان.
وكان ذلك لأن العصر الأمويَّ في رأيي هو أقوى العصور العربية، بعد عصر النبوة، ففيه أقيمت دعائم الحضارة الإسلامية، بفضل الرجل الذي ظلمه المؤرخون المغرضون وهو معاوية بن أبي سفيان.
والعافية التي امتاز بها ذلك العصر هي السرُّ فيما ظهر فيه من تنوع المواهب الأدبية، فنبغ الشعراء السياسيون، والشعراء الوجدانيون، والشعراء الهجَّاءون، والخطباء الصوَّالون.
وفي ذلك العصر ظهرت بواكير التصوف الإسلامي، وبدرت بوادر الإلحاد في الدين.
ومن هذا النوازع يتأكَّد ما أشرنا إليه، وهو العافية التي تحوَّلت إلى شراسة تعصف العقول والقلوب، ويتفرَّق بها الناس إلى شِيَع وأحزاب.
ومن هذه النوازع نفسها جاز أن يخلوَ رجال إلى قلوبهم ليؤمنوا أو يكفروا، وليجدُّوا أو يلعبوا، فقد أغنتهم الدولة بجيوشها القوية عن حمل أعباء الحروب.
هذا هو السر في أنْ كان في العصر الأموي شاعرٌ لاعب مثل عمر بن أبي ربيعة، وشاعر يتصوَّفُ في الحب مثل جميل، وكانا من أكابر الفرسان، ولو احتاجت إليهما الدولة لكانا في طليعة رجال الجهاد.
ثم كانت القلقلة التي نقلت الخلافة من أيدي بني أمية إلى أيدي بني العباس، والتي قضت بأن ينتقل مَقَرُّ الدولة من الشام إلى العراق.
قَعْقَعَتْ هذه القلقلة عددًا من السنين، ثم عاد الناس إلى سيرتهم الهادئة بعض الهدوء، على نحو ما كانوا في العصر الأموي، فظهر شاعرٌ يتصوَّف في الحب كما كان يتصوف جميل وهو العباس بن الأحنف، إمامُ العشاق الشرفاء في العصر العباسي، ورافع راية الوجدان السليم في العصر الذي بَلْبَلَهُ إمام الشعراء الخلعاء، وهو أبو نواس.
لم يكن للحضارة الإسلامية في عهد الرشيد غِنًى عن شاعر عفيف يقاوم طغيان ذلك الشاعر الفتَّان، فما عرفت الحضارة الإسلامية أفتن من أبي نواس، ولعله أخطر شاعر في التاريخ الإسلامي.
وهنا تظهر قوة شاعرنا العباس، عليه سلام الحب، فالعفاف قوةٌ سلبية، والتغني به لا يوائم الطبيعة الحيوانية، إلا إن كان المغني في قوة روحية تقتلع جذور الشهوات، وترفع النفوس إلى الطهر الذي دعا إليه الأنبياء.
يجب أن نعترف بالحق، فنسجِّل أن عهد الرشيد كان فيه رجالٌ يؤذيهم أن يكون الحب لعب أطفال، وهؤلاء هم رواة شاعرنا العباس، وهم الذين ظاهروه على أبي نواس.
أقول هذا لأني أومن بأن هوى المغنِّي من هوى السامعين، والتجاوب شرط أساسيٌّ في الأعمال الأدبية والفنية، فما يظهر فنٌّ إلا وفقًا لهوًى ظاهر أو مكنون، ولا ينبغ داعٍ إلى هدًى أو ضلال بغير وحي يوحَى إليه من هذا الجمهور أو ذاك.
والذي جاز في العصر الأموي هو الذي جاز في العصر العباسي، فنحن هنا كما كنا هناك، نواجه شيعًا وأحزابًا تقتتل في ميادين الآراء والأهواء، والحقائق والأباطيل.
وشاعرنا العباس حارب وانتصر، وحارب خصومُه وانتصروا، لأن الميدان اتَّسع لطوائف من المحاربين، وهو الميدان الذي اشتجرت فيه بواعث الإثم ودواعي العفاف.
كان لأبي نواس ألف هوًى، وكان للعباس هوًى واحد، فما الذي وقع؟
تشاجنت أهواء أبي نواس، وتوحَّد هوى العباس، لحكمةٍ أرادها الله في تخليد مواهب شاعر العفاف والكتمان.
الهوى المعقَّد يوقظ القريحة، ويبعث غافيات الأماني، ولا كذلك الهوى الموحَّد، فقد ينتهي إلى الملال، إلا أن يكون الشاعر من دعاة التوحيد في عبادة الجمال.
قضى شاعرنا العباس عمره كله في التغنِّي بمعشوقة واحدة هي فَوْزُ، فهو بذلك من الموحِّدين في الحب، وسنرى ما أجدى عليه هذا التوحيد.
أجمع النقاد على أنه أعظم المتفوقين في الفن الواحد، وفاتهم أن يذكروا سبب هذا التفوق، وهو أنه من أعظم رجال القلوب، وأساس القوة الوجدانية أن يكون للرجل قلب.
أما بعد فمن هذا الشاعر؟ وما الذي عنده من البدائع؟
شاعر بغداد
الشاعر العفيف هو شاعر بغداد الأول، والشاعر الفاجر هو شاعر بغداد الأول، والشاعر الثائر هو شاعر بغداد الأول. ولكن كيف؟
توضيح ذلك أن جوَّ بغداد عنيفٌ إلى أبعد حدود العنف، وهو يسيِّر الطبائع كما يريد، بلا نظام ولا ميزان، بحيث يجوز القول بأنه يَخْبِطُ خَبْطَ عَشْواء!
يعفُّ الشاعر في بغداد عفافًا قليل المثال فتقول: هذا شاعر بغداد. ويفجر الشاعر في بغداد فجورًا يجاوز الحدود فتقول: هذا شاعر بغداد. ويثور الشاعر في بغداد ثورة عاتية فتقول: هذا شاعر بغداد.
الشاعر العفيف هو العباس بن الأحنف، والشاعر الفاجر هو أبو نواس، والشاعر الثائر هو الشريف الرضيُّ، فهؤلاء الشعراء الثلاثة يمثلون اختلاف الطبيعة البغدادية أصدق تمثيل، ولهم أندادٌ يضيق عنهم مَجال الحديث.
وأزيد في التوضيح فأقول: إذا قرأنا أخبار العباس ظننَّا أنه كان الشاعر الأوحد في بغداد، وإذا قرأنا أخبار أبي نواس ظننا أنه كان الشاعر الأوحد في بغداد، وإذا قرأنا أخبار الشريف ظننَّا أنه كان الشاعر الأوحد في بغداد.
ومَرجع هذا إلى العنف القاهر في الاتِّجَاهِ الذاتي، وهو عُنفٌ لا يخلو من الانحراف، ولكنه في أقبح صوره غاية في الجمال.
حلاوة الحديث
ومن مزايا بغداد أن لبعض أهلها عُذوبة في النطق، على نحو ما يتفق لبعض أهل القاهرة وأهل باريس، وعُذُوبة النطق في بغداد قد تصل إلى حد الفتون، وقد صوَّر العباس هذا المعنى حين قال:
ومعنى هذا أن حديثه كان يجمع بين مزيتين، مزية الرنين ومزية الخيال.
البلبل المغرد
أجمع من ترجموا للعباس على أن شعره كان أوفى الأشعار حظًّا من الغناء، وهذا هو المنتظر من حظ شاعر كانت أحاديثه المنثورة ألوانًا من الألحان، وله قصيدٌ محظوظ في الغناء، لكثرة ما فيه من الصنعة واشتراك المغنين في ألحانه، وهو قصيد:
وهذا من الشعر المُرقِص، وهو يشهد بأن العباس كان مفطورًا على الغناء.
الشاعر الأمير
الأمير في اللغة العربية هو الحاكم، فأمير المؤمنين هو حاكم المؤمنين، وقد بقي هذا اللفظ بمعناه إلى اليوم في بعض الأقطار العربية، فوزير الداخلية في تونس لقُبه أمير الأمراء؛ لأنه يُشرف على أمراء الأقاليم، وهم في مصر المديرون، وفي العراق المتصرفون، فكيف وُصف العباس بأنه أمير عند أهل خراسان، ولم يكن من الحاكمين؟
الجواب أن كلمة «أمير» قد يُراد بها الرجل الكامل، وأهل مصر لهذا العهد يقولون: «فلانٌ رجلٌ أمير» وهم يريدون أنه من أماثل الرجال.
وقد وُصف العباس بأنه «كان ظاهر النعمة، ملوكيَّ المذهب» وبأنه «كان حُلوًا مقبولًا» وبأنه «كان من الشرفاء» وبأنه «لم يكن من المدَّاحين ولا الهجَّائين».
حدثني الشاعر عبد المحسن الكاظمي قال: لم أَرَ في حياتي رجلًا يستحق أن يُوصَفَ بأنه أمير غير محمود سامي البارودي.
وهو يريد أن البارودي كان من أشراف الرجال.
وكذلك كان العباس بن الأحنف، بشهادة من عاصروه، طيَّب الله ثراه، وخلد بالحب ذكراه!
صاحب الفن الواحد
ونحن لا نقول بأن الوقوف عند الفن الواحد مَزِيَّةٌ أساسية في الحياة الشعرية، فما نستطيع أن ننكر التفوُّق على من راقهم أن يتصرَّفوا في كثير من الفنون، وإنما نسجل طبيعة العباس مع النص على زهده في المديح والهجاء، فقد كان مفهومًا أن للمديح غاية لا تليق بالأشراف؛ لأنه كان من الوسائل المعاشية، ونحن نعرف خطر هذه الناحية من الوجهة النفسية، إذا تذكرنا أن الجاحظ أشار إلى أن أول من تكسَّب بالشعر هو النابغة الذبياني، ومعنى هذا أن التكسُّب بالشعر بدعةٌ في الحياة العربية.
وقد اتَّصل العباس بالرشيد، فألِفه الرشيد، ودعاه إلى صحبته في خروجه إلى خراسان، ثم خرج إلى أرمينيَّة والعباس معه فأنشده الأبيات الآتية ليستهديه السماح بالرجوع إلى بغداد:
فقال له الرشيد: قد اشتقتَ يا عباس!
ثم أذِن له خاصة بالرجوع.
وهذه الحادثة تشهد بأن صاحب الفن الواحد، هو صاحب الهوى الواحد، فلم يكن العباس ممن يستهويهم التنقُّل من بلد إلى بلاد في صحبة الخلفاء، وكانت تلك الصحبة من أظهر التشاريف، وإنما كان يهمه أن يكون قريبًا من دار هواه، ليتغنَّى كما يشاء.
هل وصف خراسان وقد زارها مع الرشيد، وكان له فيها أجداد؟
هل مدح الرشيد وقد زار خراسان ليُخمد بعض الفتن هناك؟
لم يلتفت العباس إلى شيء من ذلك؛ لأنه لم يكن يلتفت إلى أمثال ذلك من الأشياء.
لا تمكن الموازنة بينه وبين الطائي والمتنبي في هذه النواحي، فأبو تمام أنس بالأسفار وعُنِيَ بوصف ما أثارت في صدره من المعاني، وأبو الطيب أنس بالأسفار وسجَّل في أشعاره ما رآه من مناظر الطبيعة وأخلاق الناس.
أما شاعرنا فكان يكره الأسفار، ولا يتحدث عنها إلا بالإيماء.
تلك طبيعتُه الفطرية، ونحن لا نكلفه فوق ما يطيق، وإنما المهم أن نعرف قيمة المحصول الأدبي لذلك الاعتكاف الروحي.
من المؤكد أن العباس في غزله وتشبيبه أقوى من الطائي والمتنبي، وهو أرقُّ حاشيةً من كثير وجميل، وهذا كافٍ في الشهادة له بالتفوُّق في ميدان الغزَل والتشبيب.
نحن لا نكلفه فوق ما يطيق، ولكننا لا نعطيه أكثر مما يستحق، فسيفوقه في الغزل شاعرٌ عفيف هو الشريف الرضيُّ أصدق من تغنَّى بالحب والجمال.
لم يكن العباس فارسًا على نحو ما كان جميل، ولم يكز سياسيًّا على نحو ما كان الشريف، ولكن طبيعته على سجاحتها ودماثتها كانت غاية في القوة والاكتمال؛ لأنه استطاع برقَّته وسهولته أن يكون من أكابر الشعراء، والضعفُ قوةٌ في بعض الأحايين.
رِقَّةُ العباس رِقَّةٌ عاتية، على نحو ما تكون رقة الخد الأسيل، فهي تَسحر وتَقهر، وهي تحفظ مكانها في جبين الخلود.
الفن الواحد جَنى على العباس، ولكن كيف؟
أنا أعتقد أن التصرف من فن إلى فن يزيد في المرونة الشعرية، ويروض الشاعر على مراودة عقائل المعاني.
والهوى الواحد جنى على العباس، فما يكون للشاعر هوًى واحد إلا إن كان من ضعفاء الفتيان.
وهو قد شرح أدب العاشق مع المعشوق فقال:
وهذه طريقة لا يرتضيها غير العاشق الضعيف، فالأصل في العشق أنه فضلٌ ورحمةٌ من العاشق على المعشوق، والجدير بالدلال هو العاشق لا المعشوق، فما يُدل غير الأقوياء.
تبديد شبهة
هي الشبهة التي أثارها قلمي بالأسطر الماضية، وهي قد تهدم شخصية العباس، إن مرَّت بدون تبديد.
قلت إن التصرف من فنٍّ إلى فنٍّ يزيد في المرونة الشعرية، وهذا حقٌّ، ولكن ما الذي يمنع من أن يكون الإكثار من الفن الواحد مِثل التصرف في الكثير من الفنون؟ تأديةُ الفكرة الواحدة يصور مختلفات مرانة تفوق الوصف، والصبر على تصوير الفكرة الواحدة صبرًا يستنفد العمر كله ينتهي بالمصور إلى البراعة في التلوين والتزيين.
والشاهد حاضر، وهو براعة العباس في الغزل براعة سارت مسير الأمثال، فقد أتى بالغرائب في العتاب والعفاف والكتمان.
وقلتُ إن الهوى الواحد جنى عليه، وإن الوقوف عند الهوى الواحد من علائم الضعف، ولعلَّني كنت أريد أن أقول: إن التنقل من هوًى إلى هوًى يزيد في إضرام العواطف وإلهاب الأحاسيس، فيزيد الشاعرَ قوة إلى قوة، ويرتفع به إلى أبعد قمم الخيال.
وهذا أيضًا حقٌّ، ولكن ما الذي يمنع من القول بأن الهوى الواحد قد يصير بطغيانه ألوفًا من الأهواء؟
معشوقة العباس واحدة وهي فوز، ولم يحدثنا الرواة عن هُوِيَّتِهَا كما حدَّثونا عن هُوِيَّةِ عزة معشوقة كثير، أو هوية بثينة معشوقة جميل.
فهل تكون «فوز» شخصية خيالية؟
هذا مستحيل، فما يقضي شاعرٌ عمره كله في التغزل بمحبوبة من صنع الخيال.
إذن يجب أن نؤمن بأنها كانت إنسانة قوية الروح، وقوية الإحساس، وقوية الوجدان، إلى أبعد ما نتصور من قوة الروح وقوة الإحساس وقوة الوجدان، على نحو ما تكون «ليلى المريضة في العراق».
التصوف في الحب
لقد تصوَّف ابن الأحنف في الحب، كما تصوَّف ابن الفارض في الحب، وابن الفارض قال في هواه:
فإن قيل إن هوى ابن الفارض هو الخالق، وإن هوى ابن الأحنف هو المخلوق، فنحن نجيب بأن جمال المخلوق شعاع من جمال الخالق، وأصغر مخلوق يستنفد منَّا العمر في التغنِّي بجماله، إن أردنا تصوير ما أسبغ الله عليه من نعم أيسرها نعمة الحياة.
ماذا أريد أن أقول؟
أنا أبدِّد ما اتهمتُ به العباس حين قلت إن الهوى الواحد جنى عليه، فأشعار العباس تشهد بأن تلك الوحدانية عادت عليه بأجزل النفع، وصيَّرته من أقطاب التشبيب.
شاعر العفاف
المعروف علميًّا أن الشهوة قوةٌ؛ لأنها اقتحامٌ وانتهاب، وأن العفاف ضعف؛ لأنه زهد وانسحاب، والعاشق المنتهب أقوى شعورًا من العاشق المنسحب، فهو بذلك أقدر على الغزل الساحر والتشبيب الفتَّان، فكيف نعدُّ العفاف من مزايا العباس الشاعر أو العاشق؟
أفترعُ الحقيقة فأقول: إن العفافَ لا يكون من علائم الضعف إلا إن كان عفاف العاجزين، وإنه يكون أعظم قوة حين يصدُر عن الرغبة في التصوُّن، ومن حق الرجل أن يجاهد هواه ليُضاف إلى الأشراف، وتلك غاية يتطلَّع إليها أكابر الفتيان.
ومن هنا تظهر قيمة الصدق العَذْب في هذين البيتين:
هذه عذوبة الصدق، وهي نهاية في السموِّ الخُلقي، فالفسق الذي يصدُر عن النظر غير دنس، وهو ليس بإثم عند ضمان عفة الضمير، وهل نهى الناهون عن النظر الجارح إلا خوفًا على الضمير من الافتتان؟
إن العباس فَصَلَ في قضية أخلاقية كانت في جميع العهود ممَّا يَشغل رجال الأخلاق.
والمهم هو النصُّ على أن عفاف هذا العاشق عفافٌ أوحت به نِيَّةٌ صحيحة، والنياتُ الصِّحاح هي الأصل في التماسك الأخلاقي، وبدونها لايقوم للأخلاق بنيان.
ويظهر ممَّا قرأناه في مختلف المصادر أن مؤرخي الأدب طربوا لعفاف العباس، وعَدُّوهُ ظاهرة أدبية تستحق التسجيل، وهذا يشهد بأن الأخلاق الشريفة كانت مما يستهوي أولئك الرجال.
أنا هنا في مَقام المؤرِّخ للأفكار الأدبية، والأخلاقية، ولا يهمني أن يكون ما أقضي به هو الحق فيما تأمر به الشريعة الحيوانية، وإنما يهمني أن أصدُق في رواية التاريخ.
وهل يكون العفاف فضيلةً اهتدى إليها الإنسان لأنه أشرف من الحيوان؟
هيهات ثم هيهات، فالعفاف فضيلة يؤمن بها الحيوان أصدق الإيمان، فهنالك فصائل راقية لا يعتدي فيها الذكر على الأنثى إذا كانت عُشَرَاء، وهنالك فصائل لا يتعرَّض فيها الذكر للأنثى إلا إن دعته بالإيماء اللطيف.
والواقع أن الإنسان هو أفجر السلالات الحيوانية، مع استثناء القِرد؛ لأنه إنسان انْحَطَّ، وليس حيوانًا ارتقى.
وتكون النتيجة أن عفاف العباس الصادر عن نيةٍ صحيحة رجعةٌ جميلة إلى أدب الإنسان النبيل.
شاعر العتاب
أكثر الشعراء من أحاديث العتاب، ولكن العباس تفرَّد في هذا الفن بأفانين، فهو تارةً يراه من النِّعم، كأن يقول:
وفي هذه الالتفاتة موجات وجدانية تؤكِّد ما قلناه من أن الهوى الواحد كان له في حياة هذا الشاعر ألوان.
وتارةً يوصي محبوبته بنبذِ ما تسمع من أخبار شِركه بهواها فيقول:
وفي هذه الأبيات تعريفٌ بمحبوبته الغالية، فهي ذاتية لها مكان، ولأهلها مكان، وهي تغار عليه فتهجره حين تسمع أنه أشرك بحبِّها بعض الإشراك.
ومن كلامه نعرف أن محبوبته كانت على جانب من التثقيف، فهي تقرأ رسائله وتجيب أو لا تجيب، ولم تكن القراءة في ذلك العصر تتيسر للمرأة إلا إن كان أهلها من المياسير، وقد أفصح عن لوعته من ضنِّها بالمراسلة حين قال:
والعباس الذي يفرح بالعتاب لأنه الوسيلة إلى تذوق حلاوات الكتب والرسائل، هو نفسه العباس الذي يخاف أن ينقلب العتاب إلى عَتْب وإيذاء فيقول:
وقد بلغ الغاية في التفريق بين صدِّ العتاب وصد الملال، حين قال:
وقد ييأس من نفع العتاب فيقول:
وقد يحاول تأريث نيران الغيرة في صدر محبوبته لتسمع صوت العتاب فيقول:
والجارية في لغة ذلك العصر هي الصبيَّة، ومن هذين البيتين نعرف من جديد أن التراسل كان في ذلك العصر من الرسائل إلى قلوب الأحباب.
وقد يصرخ العباس من تَجَنِّي محبوبته فيقول:
ومن هذه التموجات الوجدانية نرى كيف صحَّ لهذا الشاعر أن يحيا عمره كله في الهُيام بمعشوقة واحدة، وقد عرفنا نَسبها من الشاعر نفسه بعد أن بالغ في الكتمان: عرفنا أنها بنت حوَّاء!
شاعر الكتمان
أظهرُ خصيصة من خصائص هذا العاشق هي الكتمان، وقد طال طوافه حول هذا المعنى حتى صار عنوانًا عليه، ولا تعرف اللغة العربية شاعرًا أُولِعَ بهذا المعنى على نحو ما أولع به هذا العاشق، وقد افتنَّ فيه افتتانًا يشهد بأنه كان غاية في الذكاء، كالذي نراه في هذين البيتين:
والشاهد في الشطر الثاني من البيت الثاني، وهو عندي وثبةٌ من وثبات الخيال، ثم يحدثنا أنه كتَم حبه عن حبيبه حينًا من الزمان فيقول:
والظاهر أن «فوز» اسمٌ ابتدعه الشاعر، ليُخفي هُوِيَّةَ محبوبته، وقد تندَّرت إحدى جاراته فسمَّت خادمتها فوزًا لتبالغ في السخرية منه والإنحاء عليه؛ ولهذا قال:
وفي هذه الأبيات تصريح بأن أقارب محبوبته كانوا يحاولون فَضْح هواه، وهو هوًى لم تفضحه غير الدموع، فقد قال:
ثم قال:
ويعزِّي قلبه بأنه سيموت مكتوم السر إلا عمَّن يحب، فيقول:
وعذوبة هذه المعاني أوضح من أن تحتاج إلى إيضاح، وهي شعر يغنِّي به القلب فتَشْجى به الروح، ويطرَب له الوجدان.
ويطيب لهذا العاشق أن يذيع أنه سلا عن الحب، لينصرف الناس عن إيذاء محبوبته الغالية، وفي هذا المعنى يقول:
وقد يعتذر عن هجره فيقول:
وهو بهذا يجعلها من الحرائر المتجمِّلات، ويجعل بعض الهجر فنًّا من الوصل، ويدافع عن الحب بالصدود فيقول:
أو يدافع عنه بالبغض المفتعَل فيقول:
ويكذب ليدفع الأذى عن الهوى فيقول:
ويتمنى لو استطاع ستر حبه عن قلبه فيقول:
وييأس من الكتمان فيقول:
وشهرة العباس بالكتمان قد ملأتِ الأندية في زمانه، ودعت إلى الترحُّم عليه عند الموت، فقد حدَّثوا أنه مات هو وإبراهيم الموصلي والكسائي في يوم واحد، فرُفع ذلك إلى الرشيد فأمر المأمون أن يُصَلِّي عليهم، فصُفُّوا بين يديه، ثم سأل عنهم واحدًا واحدًا وأمر بتقديم العباس فصلى عليه، فلما فرغ وانصرف دنا منه هاشم بن عبد الله فقال: يا سيدي، كيف آثرت العباس بالتقدمة على من حضر؟ فأنشده المأمون هذين البيتين:
مكانة العباس
لصلاة المأمون على العباس معنًى من أكرم المعاني، فما يصلي المأمون على ميِّت بأمر الرشيد إلا إن كانت للميت مكانة في المجتمع، وما يُرفع أمر ثلاثة من الأموات إلى الرشيد إلَّا إن كانوا من مشاهير الرجال، كالذي نرى في المجتمع المصري لهذا العهد، فملك مصر لا يرسل مندوبًا للسير في جنازة ميت إلا إن كان الميت من ذوي المكانة في المجتمع.
فكيف كانت مكانة العباس؟
كان يجالس الرشيد في أوقات الْجِدِّ، وكان يصحبه في بعض الرحلات الجدية، وكان جميع أهل عصره يتغنَّون بشعره، وتلك مزايا تفرَّد بها بين شعراء ذلك الزمان.
وقد سَرَى هذا الاحترام إلى صدور الخلفاء بعد الرشيد، فقد كان الواثق من المفتونين بشعره إلى أبعد حدود الفتون.
يضاف إلى هذا تعفُّفه عن هدايا الأمراء، وترفُّعه عن النزعات السوقية، وحرصُه على كتمان الحب، ولا يكتم اسمَ محبوبه الجميل غيرُ المحب النبيل.
مكانة فوز
اسم «فوز» قليل الورود على ألسنة الشعراء، فهو غريب بين أسماء النساء، فمن هي فوز؟
أقول من جديد إنه اسم ابتدعه الشاعر لمعشوقة لا يستطيع الجهر باسمها الصحيح، فمن هي فوز التي جرى اسمها في مجلس الرشيد بهذه الأبيات:
هي عقيلة من العقائل النبيلات في بغداد، عرفها الشاعر وأحبها، ولم ير من العقل أن يؤذيها بالافتضاح:
وأعنف هوًى يعانيه عاشق هو الهوى المكتوم في بغداد، فما في الدنيا مدينة توحي الهوى كما توحيه «مدينة السلام»، وذلك اسمُ من أسماء الأضداد، فهي مدينة حرب في جميع العهود!
«فوز» هي «ليلَى» ذلك الزمان، فليس من العجب أن تقيم «ليلَى المريضة» في شارع العباس بن الأحنف، لِتَتَّسِقَ المعاني بين هذا الجيل وذلك الجيل.
البغدادية الأصيلة توحي المعاني أكثر مما توحي الأهواء، هي سيدة كاملة تأنس بالروح وتنفر من الإسفاف، وهي المثال الصادق لشرف العفاف.
هل عرفنا من هي فوز؟
هي ظلوم التي تَوَجَّعَ من ظلمها العباس فقال:
وهي التي أوحت إليه أن يقول:
وما فَتَنَتْهُ إلا لأنها كانت كما قال:
ومن هذا البيت عرفنا مَن هي فوز، عرفناها، عرفناها، فقد كانت بنت أحد المياسير، والأجسام لم تكن تخصب في غير بيوت المياسير.
ومن عظمتها في بيتها عَظُم معناه في بيته حين قال:
وهي خليقةٌ بأن يشقى بها هذا الشقاء، فلعلَّها كانت كما وصفها فقال:
نهاية العباس
أطال العاشق حديثه عن بلائه بالحب … وكيف لا يشقى بالهوى من جعله ديدنه في أعوام تزيد على الأربعين، وفي مدينة توحي الصبابة مثل بغداد؟
والشاعر يحدثنا أن معشوقته تفتح له أبوابًا من المَنون:
ويحدثنا أن أشعاره كانت تفتح مغاليق القلوب:
وهنا تظهر فيجعة الشاعر، فأشعاره يتوسل بها العاشقون فينالون، ويتوسل بها الشاعر فيُحْرَمُ، فحاله حال الشمعة تضيء للناس وهي تحترق، وهذا حظٌّ من أشأم الحظوظ.
وقد حذَّر محبوبته من عواقب التجني عليه فقال:
وعبارة «إن عشت» في البيت الثاني غاية في القوة البيانية ثم ردَّد هذا المعنى فقال:
ويصرخ من جور محبوبته فيقول:
ثم يَدفن هواه ويبكي عليه:
ويروض محبوبته على إدراك منزلته فيقول:
ويدعوها إلى تجديد العهد فيقول:
ولكنها تتبغدد — كما يعبِّر المصريون — وكيف لا تتبغدد وهي بنت بغداد؟
هذه المتاعب أمرضت العاشق، وأنذرته بالموت:
قتيل الحب لا قتيل الحرب
حاول العاشق أن يداوي مرضه برحلة إلى الحجاز في موسم الحج، وهو من مواسم العيون والقلوب، ولكن المرض عوَّقه في الطريق، فقال يخاطب الحُجَّاجَ:
خرجنا نريد الحج، فلما كنا ببعض الطريق إذا غلامٌ واقفٌ على المحجَّة وهو ينادي: أيها الناس، هل فيكم أحدٌ من أهل البصرة؟ فعَدلنا إليه وقلنا له: ما تريد؟ فقال: إن مولاي لما به يريد أن يوصيكم. فمِلْنَا معه فإذا شخصٌ مُلقًى على بُعد من الطريق تحت شجرة لا يحير جوابًا، فجلسنا حوله فأحسَّ بنا فرفع طرفه وهو لا يكاد يرفعه ضعفًا، وأنشأ يقول:
ثم أُغْمِيَ عليه طويلًا ونحن جلوسٌ حوله إذ أقبل طائرٌ فوقع على أعلى الشجرة وجعل يغرِّد، ففتح عينيه وجعل يسمع تغريد الطائر ثم أنشأ الفتى يقول:
ثم تنفَّس تنفُّسًا فاضت نفسه معه، فلم نبرح من عنده حتى غسَّلْنَاه وكفَّنَّاه وتولينا الصلاة عليه، فلما فرغنا من دفنه سألنا الغلام عنه فقال: هذا العباس بن الأحنف!
•••
إن هذه الأسطورة اللطيفة تبيِّن مكانة العباس عند رجال الوجدان.
وقد أكرم العراقيون ذكراه فسمَّوا باسمه شارعًا هو أجمل شوارع بغداد، وفيه تقيم «ليلى المريضة في العراق» رعايةً لمعنى الكتمان.