في أنصار الغزالي وخصومه

(١) ابن رشد

ولد في قرطبة سنة ٥٢٠هـ ١١٢٦م. ودرس في صغره الفقه والتوحيد والأصول. ثم أقبل على دراسة الطب والفلسفة. وكان له بسبب علمه وفضله عدد من الحساد يتقولون عليه الأقاويل. توفي رحمه الله بمراكش في أوائل سنة ٥٩٥هـ بعد أن ذاق الأمرين من نفي واضطهاد، جزاء ما قدمت يداه من شرح فلسفة القدماء!

والذي يقرأ حياة ابن رشد، ويرى ما لقيه في زمانه، يعلم أن العرب كانوا يحتضرون، وأن دولتهم كانت تمشي إلى الفناء، لأن الذين يحاربون الفكر الحر، ويضطهدون المفكرين الأحرار، لا يصلحون مطلقًا للحياة. وكذلك دالت دولة العرب بعد ذلك.

وخصومة ابن رشد للغزالي تكاد تكون فلسفية، فقد وضع الغزالي كتابًا سماه «تهافت الفلاسفة»، والغرض من الكتاب ظاهر من عنوانه، فعارضه ابن رشد بكتاب سماه «تهافت التهافت»، والذي يهمني من معارضة ابن رشد للغزالي إنما هو دفاعه عن ابن سينا والفارابي، فقد كان الغزالي يراهما من الكفار.

ويتلخص دفاع ابن رشد في أن مسألة قدم العالم وحدوثه التي كانت مثار الخلاف، إنما كان الاختلاف فيما بين المتكلمين من الأشعرية وبين الحكماء المتقدمين يكاد يكون راجعًا للاختلاف في التسمية وبخاصة عند بعض القدماء. فإن هناك ثلاثة أصناف من الموجودات طرفان وواسطة بين الطرفين. وقد اتفقوا في الطرفين واختلفوا في الواسطة. أما الطرف الأول فهو موجود وجد عن شيء ومن شيء، أي عن سبب فاعل ومن مادة، والزمان متقدم على وجوده، وهذه هي حال الأجسام التي يدرك تكونها بالحس مثل الماء والهواء والأرض والحيوان والنبات. وهذا الصنف اتفق الجميع على أنه محدث. وأما الطرف المقابل لهذا فهو موجود لم يكن من شيء ولا عن شيء ولا تقدمه زمان. وهذا الصنف اتفق الجميع على أنه قديم وهو الله. وأما الصنف الثالث فهو موجود لم يكن من شيء ولا تقدمه زمان، ولكنه موجود عن شيء أي فاعل، وهذا هو العالم بأسره. والكل متفق على وجود هذه الصفات الثلاث للعالم، فإن المتكلمين يسلمون بأن الزمان غير متقدم عليه لأن الزمان عندهم شيء مقارن للحركات والأجسام، وهم أيضًا متفقون مع القدماء على أن الزمان المستقبل غير متناه وكذلك الوجود المستقبل، وإنما يختلفون في الزمان الماضي والوجود الماضي؛ فالمتكلمون يرون أنه متناه، وهذا هو مذهب أفلاطون وشيعته وأرسطو وفرقته يرون أنه غير متناه كالحال في المستقبل. يقول ابن رشد: «فهذا الموجود الأخير، الأمر فيه بين أنه قد أخذ شبهًا من الوجود الكائن الحقيقي ومن الوجود القديم، فمن غلب عليه ما فيه من شبه القديم على ما فيه من شبه المحدث سماه قديمًا. ومن غلب عليه ما فيه من شبه المحدث سماه محدثًا. وهو في الحقيقة ليس محدثًا حقيقيًّا ولا قديمًا حقيقيًّا، فالمذاهب في العالم ليست تتباعد كل التباعد حتى يكفر بعضها ولا يكفر، فإن الآراء التي شأنها هذا يجب أن تكون في الغاية من التباعد، أعني أن تكون متقابلة كما ظن المتكلمون في هذه المسألة».

ولم يقف ابن رشد عند هذا الحد، بل انتقل إلى كلام هو في الواقع صفع لأدعياء العلم الذين يحسبون قدم العالم وحدوثه من الأمور الهينة التي يصدرون عنها الفتوى كأنها مسألة طلاق!! وإليك ما يقول في ذلك:
مع أن هذه الآراء في العالم ليست على ظاهر الشرع، فإن ظاهر الشرع إذا تصفح ظهر في الآيات الواردة في الأنباء عن إيجاد العالم أن صورته محدثة بالحقيقة. وأن نفس الوجود والزمان مستمر من الطرفين أعني غير منقطع. وذلك أن قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ.١ يقتضي بظاهره وجودًا قبل هذا الوجود، وهو العرش والماء، وزمانًا قبل هذا الزمان، أعني المقترن بصورة هذا الوجود، الذي هو عدد حركة الفلك. وقوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ.٢ يقتضي بظاهره وجودًا ثانيًا بعد هذا الوجود. وقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ.٣ يقتضي بظاهره أن السموات خلقت من شيء.
وهناك صفعة ثانية تفضل بها ابن رشد على علماء التوحيد. ذلك بأن هؤلاء القوم يختلقون من الأساليب والاصطلاحات ما لا يعرفه الدين، ثم يقولون: من تعدى هذه الحدود فهو كافر. فَمَالِ هَـٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا؟!٤
وإليك ما يقول ابن رشد في ذلك:

والمتكلمون ليسوا في قولهم أيضًا في العالم على ظاهر الشرع، بل متأولون، فإنه ليس في الشرع أن الله كان موجودًا مع العدم المحض، ولا يوجد هذا فيه أيضًا أبدًا، فكيف يتصور في تأويل المتكلمين في هذه الآيات أن الإجماع انعقد عليه؟ ثم قال: والظاهر الذي قلناه من الشرع في وجود العالم قد قال به فرقة من الحكماء. ويشبه أن يكون المختلفون في هذه المسائل العويصة إما مصيبين مأجورين، وإما مخطيئن معذورين، فإن التصديق بالشيء من قبل الدليل القائم في النفس هو شيء اضطراري لا اختياري، أعني أنه ليس لنا أن نصدق أو لا نصدق، كما لنا أن نقوم أو لا نقوم، وإذا كان من شرط التكليف الاختيار، فالمصدق بالخطأ من قبل شبهة عرضت له إذا كان من أهل العلم معذور، ولذلك قال عليه السلام: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر».

وبمناسبة كلام ابن رشد نقرر أن علماء التوحيد أسرفوا في تكفير الفلاسفة بل أسرفوا في تكفير بعضهم البعض، بأسباب ضعيفة لا يعرفها الإسلام، ومازالوا يسرفون حتى حفظ عنهم الرأي العام جملة تعابير هي مناط الكفر والإيمان. وفي كتاب «فيصل التفرقة» للغزالي مظهر لهذه الآراء الفلسفية التي ظنها الأولون حقائق، وهي في الواقع أباطيل.

والذي أراه أن مجازفة علماء التوحيد في الحكم بحدوث العالم، وفي وصف الله بصفات معينة محدودة، وفي تعيين مصير العالم بشكل خاص، كل أولئك يدل على أن هؤلاء الناس كانوا في غاية السذاجة، وأن نظرهم كان غير بعيد. وستسخر المقادير منهم يوم تطوى كتبهم وآراؤهم، ويدخلون فيما يسمى قبل التاريخ، كما دخل من قبلهم ألوف الألوف من أصحاب الشرائع والقوانين.

(٢) ابن تيمية

ولد بحران يوم الاثنين عاشر ربيع الأول سنة ٦٦١هـ. وقدم به والده إلى دمشق في سنة ٦٦٧هـ حين استولى التتار على حران. وقد تلقى عن والده الفقه والأصول، ثم عني بالنظر في الحساب والجبر والفلسفة، وتقدم للتدريس وسنه دون العشرين. وقد بلغت مصنفاته ثلاثمائة مصنف. منها تعارض العقل والنقل والجواب الصحيح في الرد على النصارى وإثبات المعاد والرد على ابن سينا وإثبات الصفات والرد على الإمامية … إلخ.

قال الحافظ ابن كثير: وفي رجب سنة ٧٠٤هـ راح الشيخ تقي الدين بن تيمية إلى مسجد الفارنج وأمر أصحابه وتلامذته بقطع صخرة كانت تزار وينذر لها هناك. فقطعها وأراح المسلمين منها ومن الشرك بها، فأزال عن المسلمين شبهة كان شرها عظيمًا. وبهذا وأمثاله أبرزوا له العداوة. وكذلك بكلامه في ابن عربي وأتباعه، فحسد وعودي، ومع هذا لا تأخذه في الله لومة لائم، ولم يبال بمن عاداه. ولم يصلوا إليه بمكروه. وأكثر ما نالوا منه الحبس، مع أنه لم ينقطع عن البحث لا بمصر ولا بالشام.

وكان ابن تيمية كثيرًا ما ينشد هذه الأبيات:

لو لم تكن في القلوب مهابة
لم يطعن الأعداء في ويقدحوا
كالليث لما هيب خط له الزبى٥
وعوت لهيبته الكلاب النبح
يرمونني شزر العيون لأنني
غلست في طلب العلاء وصبحوا

وقد توفي رحمه الله في صباح يوم الاثنين عاشر ذي القعدة سنة ٧٢٨هـ وهو في السجن. فأخرج إلى الجامع في يوم مشهود لم يعهد في دمشق مثله، وقد تبرك الناس بماء غسله، واشتد الزحام على نعشه، ودفن بمقابر الصوفية بعد أن صلوا عليه مرارًا، وقدر من حضر جنازته من الرجال بمائتي ألف ومن النساء بخمسة عشر ألفًا. ورثاه كثير من العلماء منهم ابن الوردي.

والذي يعود إلى ترجمة ابن تيمية في الكتب التي عني مؤلفوها بترجمته يعرف كثيرًا عن العقلية الإسلامية في القرن الثامن، ويكفي أن نلفت القارئ إلى قولهم «ودفن بمقابر الصوفية» فإن لذلك معاني لا تغرب عن ذهن اللبيب، وما أريد أن أزيد.

وابن تيمية من كبار المفكرين في الإسلام، ولكنه لا يخلو من سذاجة. فإنك بينما تراه يتوغل في المدركات المعقولة، تراه ينحدر فجأة في هاوية الأوهام. من ذلك قوله «العلماء هم ورثة الأنبياء الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدى بهم في ظلمات البر والبحر. وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، إذ كل أمة قبل مبعث محمد فعلماؤها شرارها إلا المسلمين فإن علماءهم خيارهم.»٦ وهذا بالطبع حكم لا سند له من معقول، أو منقول.

ويعد ابن تيمية من خصوم الغزالي لأنه كتب فصولًا كثيرة في تناقضه، وتسفيه بعض آرائه. ومن أعجب ما رأيت له حكمه بأن الغزالي هجر طريق الصوفية في أخريات أيامه، وفي ذلك يقول: «ولهذا تبين له في آخر عمره أن طريق الصوفية لا تحصل مقصوده فطلب الهدى من طريق الآثار النبوية، وأخذ يشتغل بالبخاري ومسلم ومات في أثناء ذلك على أحسن أحواله، وكان كارهًا ما وقع في كتبه من نحو هذه الأمور مما أنكره الناس عليه».

وأنا لا أستعبد كلام ابن تيمية، فإن الغزالي كان متقلبًا في آرائه لا يستقر على حال، فهو تارة فقيه، وتارة صوفي، وتارة فيلسوف.

وسبب هجوم ابن تيمية على الصوفية أنه رأى منهم من يفضل الولي على النبي، كما رأى من الفلاسفة من يفضل الفيلسوف على النبي. فإنا نراه يمدح ابن سينا لأنه يفضل النبي على الفيلسوف، ويسمي طريقه طريق العقلاء، ويذم الفارابي لأنه يفضل الفيلسوف على النبي، ويسمي طريقه طريق الغلاة. ويذم محيي الدين بن عربي لأنه كان يدعي أنه كان يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى النبي، لأن الملك على أصلهم هو الحال الذي في نفس النبي، والنبي في زعمهم يأخذ عن ذلك الحال، والحال يأخذ عن العقل، فهو على ذلك أفضل من النبي لأنه لا يحتاج إلى وسيط.

وأحب أن أنبه القارئ إلى أني إنما أذكر تاريخ فكرة من الأفكار الإسلامية، لا أكثر ولا أقل، والمؤرخ غير مسؤول.

(٣) ابن القيم

هو من تلامذة ابن تيمية. ولد في سنة ٥٧١هـ. وتوفي سنة ٦٩١هـ لقي في حياته ضروبًا من الشدة بسبب آرائه الحرة. فقد حبس مدة لإنكاره أن تشد الرحال إلى قبر الخليل. وقد حبس مع ابن تيمية في المدة الأخيرة، ولم يفرج عنه إلا بعد موت أستاذه. وله عدة تصانيف. منها «مدارج السالكين»، و«شرح الكتاب العزيز»، و«نقد المنقول»، و«المحك المميز بين المردود والمقبول»، و«أعلام الموقعين» … الخ.

وابن القيم هذا من ألد خصوم الغزالي، وقد نقلنا جملة من آرائه حين تكلمنا عن أغلاط الإحياء، فلا نعود إليها أبدًا.

وأكرر ما قلته من أنني أوجز كل الإيجاز في هذا الباب، فلهؤلاء الذين أترجمهم آراء هي غاية في الخطورة، من حيث ما فيها من الدقة، ومن الجرأة، مع أنهم فيما أرى كانوا يبالغون في الاحتياط، لأن العالم الإسلامي كان يضطهد الفلاسفة إذ ذاك. ولو سمح لنا الدهر بوضع كتاب في الفلسفة الإسلامية لاستطعنا أن نرفع عن هؤلاء الأفذاذ آصار الخمول.

(٤) السبكي

هو تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي المتوفى سنة ٧٧١هـ. والسبكي هذا من كبار المؤلفين. وكتابه «جمع الجوامع» في الأصول يدل على كده وكدحه في سبيل العلم، وإن كان غاية في اللبس والغموض. وكتابه «طبقات الشافعية الكبرى» كتاب جيد، من حيث ما فيه من عيون المسائل الفقهية، ومن حيث الترتيب. وعيب السبكي يرجع إلى ضعفه في النقد والتمييز، ولو خلت كتبه من الآراء التي اعتمد فيها على ذاكرته فقط، لكان لها شأن كبير.

ويعتبر السبكي من أنصار الغزالي، وقد كتب عنه في الطبقات أكثر من ثمانين صفحة، «ودافع عنه دفاع الأبطال» حين عرض لخصومه. وهو يعتقد بكل سذاجة أنه لو لم يكن لدى المسلمين غير كتاب الإحياء لكفى!! وما أريد أن أطيل في الكلام عن السبكي، فقد عرضنا له عدة مرات.

(٥) الزبيدي

هو محمد بن محمد الحسيني الزبيدي. وهو من علماء القرن الثاني عشر، وقد وضع شرحًا مطولًا للإحياء في عشر مجلدات، انتهى من تأليف الجزء الأول منه في يوم الجمعة ٢٥ محرم سنة ١١٩٣هـ. وفي هذا الجزء كتب دفاعه عن الغزالي.

وهو من أشد أنصار الغزالي، ولكن دفاعه عنه دفاع سخيف، لا قيمة له، لا في نظر الشرع ولا في نظر العقل. من ذلك قوله في تأييد ما يراه الغزالي من أن الزواج ميل إلى الدنيا:

وأما كون التزويج من جملة الميل إلى الدنيا فهو ظاهر، لأنه في الغالب يطلب للاستمتاع، وذلك لا يحصل إلا بالوقوع في الآفات التي كان عنها بمعزلٍ أيام عزوبته، لا سيما إن كان متجردًا عن القيام بالأسباب التي تجلب له أمر معاشه فإنه يتلف بالكلية، ويلزمه الرياء لكل من أحسن إليه بلقمة أو خرقة أو غيرهما فأبغض الخلق إليه من يذمه عنده خوفًا من أن يتغير اعتقاده فيه فيقطع عنه بره فكأن عبادة هذا كلها لأجل الذي أحسن إليه.

وهذا كلام غير مفهوم في الواقع، فضلًا عن أن يكون دفاعًا عن رأي يرى الناس أنه غير صواب.

١  سورة هود: ٧.
٢  سورة إبراهيم: ٤٨.
٣  سورة فصلت: ١١.
٤  سورة النساء: ٧٨.
٥  الزبى: جمع زبية وهي الحفرة.
٦  انظر مقدمة رفع الملام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤