تمهيد

أريد أن أذكر شيئًا عن العصر الذي عاش فيه الغزالي، وليس ذلك لأن الغزالي صورة لعصره، بل ليعرف القارئ إلى أي حد تأثر الغزالي بعصره وأثر فيه. فمن المجازفة أن ندرس عصرًا من العصور، لنعرف من نبغ فيه من الفلاسفة والكتاب والشعراء، وإنما ندرس شخصية الكاتب أو الشاعر أو الفيلسوف، ثم نبحث عن المؤثرات التي كونت تلك الشخصية، فقد تكون هذه المؤثرات قريبة، وقد تكون بعيدة، وفقًا لما أحاط بالشخص من الظروف.

ولتوضيح هذا أذكر أن الأستاذ الدكتور طه حسين درس العصر الذي عاش فيه أبو العلاء، ليعرف الأصول التي كونت وجهة نظره في الحياة، ثم فعل مثل هذا حين شرع في درس أبي نواس، ولكن الدكتور طه لا ينكر أن عصر أبي العلاء أنتج رجالًا يسيرون غير سيرته، ويرون ما لا يراه، وأن عصر أبي نواس أخرج رجالًا يسيغون العبث، ولا يجيزون المجون؛ فمن الواجب أن ندرس أولًا ما بين أيدينا من آثار الفلاسفة والكتاب والشعراء، ثم نتبين بعد ذلك ما تألفت منه هذه الآثار فقد تكون نتيجة لمطالعات لا صلة بينها وبين العصر الذي ظهرت فيه، كما يمكن أن تكون نتيجة له بالذات.

وإلا فحدثني كيف يكون الشيخ محمود خطاب السبكي صورة لهذا العصر، وهو يكون من تلامذته جمهرة لا يشعر بها الناس؟ وأمثال الشيخ السبكي عديدون، ولكني خصصته لكثرة مؤلفاته، وقد يعثر عليه باحث يومًا في زوايا التاريخ، أفتراه يدرس يومئذ هذا العصر، ليعرف المؤثرات التي كونت عقلية هذا الرجل الذي يدهش حين تحدثه عن أهل هذا الجيل؟!

إنه لا شك في تأثير البيئة والعصر، ولكن ينبغي أن نعرف أن من الناس من يعيش في قومه وعصره، بجسمه لا بروحه، فلا يحس بما يحس به معاصروه، وإنما يشعر بما كان يشعر به من سبقوه بأجيال؛ ففي مصر اليوم أناس من القرن الثالث، وآخرون من القرن السابع، كما في مصر اليوم من يمكن أن تكون آراؤه وأفكاره صورة صادقة لمكانه وزمانه، وأحب أن يعفيني القارئ من ضرب الأمثال.

من أجل هذا أجمل القول عن العصر الذي عاش فيه الغزالي وأكتفي بوضع صورة قريبة من الواقع للحالة العامة في عصره، ليتمثل القارئ زمان الغزالي ومكانه وليعرف ما تمس إليه الحاجة مما أثر بالفعل في حياته العقلية، فإن الغرض من هذا الكتاب إنما هو أن ندرس بالتفصيل آراء الغزالي في الأخلاق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤