المدارس النظامية
نسبة إلى «نظام الملك»: وزير السلطان ألب أرسلان، وابنه ملكشاه. مكث في الوزارة ثلاثين سنة: عشر منها في سلطنة ألب أرسلان، وعشرون في سلطنة ملكشاه. وقد مات «نظام الملك» قتيلًا، ولكن اختلف المؤرخون في سبب قتله: فمنهم من يروي أنه لما أسرف في النفقة على المدارس النظامية، حتى بلغ ما ينفقه على طلبة العلم ٦٠٠٠٠٠ دينار في السنة، وشى به بعضهم إلى السلطان ملكشاه، وقالوا: «إن الأموال التي ينفقها نظام الملك في ذلك تقيم جيشًا يركز رايته في سور القسطنطينية.» فعاتبه ملك شاه في ذلك فأجابه: «يا بني، أنا شيخ أعجمي، لو نودي علي في من يزيد لم أحفظ خمسة دنانير، وأنت غلام تركي، لو نودي عليك عساك تحفظ ثلاثين دينارًا! وأنت مشتغل بلذاتك منهمك في شهواتك، وأكثر ما يصعد إلى الله تعالى معاصيك دون طاعاتك، وجيوشك الذين تعدهم للنوائب، إذا احتشدوا كافحوا عنك بسيف طوله ذراعان، وقوس لا ينتهي مدى مرماها إلى ثلاث مئة ذراع، وهم مع ذلك مستغرقون في المعاصي والخمور والملاهي والمزمار والطنبور، وأنا أقمت لك جيشًا يسمى جيش الليل، إذا نامت جيوشك ليلًا قامت جيوش الليل على أقدامهم، صفوفًا بين يدي ربهم، فأرسلوا دموعهم، وأطلقوا ألسنتهم، ومدوا إلى الله أكفهم بالدعاء لك ولجيوشك، فأنت وجيوشك في خفارتهم تعيشون، وبدعائهم تبيتون، وببركاتهم تمطرون وترزقون.» فقبل ملكشاه وسكت!
نقل هذا جورجي زيدان في كتاب «التمدن الإسلامي» عن كتاب سراج الملوك، ولم يعقب عليه، بل اكتفى بأن ذكر أن «نظام الملك» توفي مقتولًا سنة ٤٨٥هـ.
قولوا للسلطان: إذا كنت لم تعلم بعد أني شريكك في الملك، فاعلم! فإنك ما نلت هذا الأمر إلا بتدبيري ورأيي، أما تذكر حين قُتل أبوك، فقمت بتدبير أمرك، وقمعت الخوارج عليك؛ من أهلك وغير أهلك، وأنت في ذلك الوقت تتمسك بي؟ فلما قدمت الأمور إليك، وأطاعك القاصي والداني أقبلت تنتحل لي الذنوب، وتسمع في الوشايات. قولوا للسلطان: إن دواتي مقترنة بتاجك، فمتى رفعتها رفع، ومتى سلبتها سلب!
ويذكرون أن الرسل اتفقوا على كتمان هذه الرسالة، ولكن كان للسلطان عين من بين أولئك، بلغه ما قال نظام الملك بالحرف الوحد، فغضب السلطان ودس لنظام الملك من قتله بعد ذلك.
والأقرب إلى الصواب ما ذكره الأستاذ محمد (بك) الخضري في محاضراته بالجامعة المصرية من أن نظام الملك قتل بيد أحد الباطنية حين بعث عسكره إلى قلعة الموت، وحصر فيها الحسن بن الصباح، وأخذ عليه الطرق.
وهذا لا ينافي ما نقل من النفرة التي وقعت بين نظام الملك وبين ملكشاه، فإن حسد الخلفاء والسلاطين لوزرائهم معروف، وعلى الأخص في تلك الأيام المظلمة، التي طبعت بطابع الاستبداد وكان الأمر فيها للهوى، والحكم للجبروت!
وقد أكثر الشعراء من رثاء نظام الملك، فمن ذلك قول مقاتل بن عطية البكري:
•••
وكما بنى الفاطميون الجامع الأزهر في أواسط القرن الرابع لتأييد مذهب الشيعة، بنى نظام الملك مدارسه في أواسط القرن الخامس لتأييد مذهب أهل السنة. وهكذا كان المسلمون ينشئون المدارس لتثبيت الملك، كما يفعل الأوروبيون والأمريكيون في هذا الجيل، ولا عيب في ذلك: فالعلم من أمضى الأسلحة في استلال السخائم من الصدور، والسياسة أدهى وأمكر من أن تغفل مثل هذا السلاح!
وكذلك عني نظام الملك بإنشاء المدارس والرباطات، ليغمر العلماء والزهاد بفضله، فيكون له منهم جرائد شفوية تنشر دعوته في الشام والعراق وخراسان، وهكذا فهم روح العصر فاستغل أهله، حتى ليذكرون أنه كان إذا دخل عليه الأئمة الأكابر لا يقوم لهم، ويجلس في مسنده، وكان له شيخ فقير، إذا دخل إليه يقوم له، ويجلسه في مكانه ويجلس بين يديه، وإنه سئل عن ذلك فقال: إن أولئك إذا دخلوا يثنون علي بما ليس في، فيزيدني كلامهم عجبًا وتيهًا، وهذا يذكرني بعيوب نفسي فأرجع عن كثير مما أنا فيه!
وإذا صحت هذه الرواية فإنها تدل على أن علماء ذلك العصر كانوا أضعف من أن يجهروا بالنهي عن المنكر، وإن الخاصة كانوا لا يأبون سماع النصح من الفقراء والمجاذيب، لأن السياسة كانت تقضي إذ ذاك بمجاملة هذا الصنف من الناس.
ومهما تكن نيات نظام الملك — والله عليم بذات الصدور — فإنه مشكور الصنيع، فقد أكثر من المدارس، ووقف عليها الأوقاف، ورتب للطلبة الجرايات، وبنى لهم الأسواق والمساكن والحمامات، وظلت مدارسه بأوقافها زمنًا ليس بالقليل، وتخرج منها كثير من العلماء والأدباء.
•••
ولهذه المدارس النظامية فضل على الغزالي، فقد تلقى العلم في مدرسة نيسابور. وتولى التدريس في مدرسة بغداد، وسنعود إلى تفصيل ذلك في غير هذا الباب.