الفصل السادس

البلدان التي عرفها الغزالي

نريد أن نذكر في هذا الفصل بعض البلدان التي عرفها الغزالي، لصلة ذلك بحياته، ونستثني بغداد، لأنها أشهر من أن تحتاج إلى تعريف، وقد خصها الأستاذ الكبير الدكتور طه حسين بكلمة ممتعة في كتابه ذكرى أبي العلاء، فليرجع إليه من أراد.

ونعتمد في وصف تلك البلدان على معجم ياقوت١ لقرب مؤلفه من ذلك العصر، ولأنه يتصور تلك المواطن على نحو ما كان يعرفها الناس إذ ذاك.

طوس

مدينة بخراسان، تشتمل على بلدتين يقال لإحداهما الطابران (وهي التي دفن بها الغزالي) وللأخرى توفان، ولهما أكثر من ألف قرية، فتحت في أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه، وبها قبر علي بن موسى الرضا وبها أيضًا قبر هارون الرشيد. وقال مسعر بن المهلهل: وطوس أربع مدن، منها اثنتان كبيرتان واثنتنان صغيرتان، وبها آثار أبنية إسلامية جليلة، وبها دار حميد بن قحطبة، ومساحتها ميل في مثله، وفي بعض بساتينها قبر علي بن موسى الرضا وقبر الرشيد، وبينهما وبين نيسابور قصر هائل محكم البنيان، لم أر مثله علو جدران، وإحكام بنيان، وفي داخله مقاصير تحار في حسنها الأوهام، وأزجاج٢ وأروقة، وخزائن وحجر للخلوة، وسألت عن أمره فوجدت أهل البلد مجمعين على أنه من بناء بعض التابعة، وأنه كان قصد بلاد الصين من اليمن، فلما صار إلى هذا المكان رأى أن يخلف حرمه وكنوزه وذخائره في مكان يسكن إليه، ويسير متخففًا، فبنى هذا القصر وأجرى له نهرًا عظيمًا آثاره بينة، وأودعه كنوزه وذخائره وحرمه، ومضى إلى الصين فبلغ ما أراد، وانصرف فحمل بعض ما كان جعله في القصر، وبقيت له فيه بعض أموال وذخائر تخفى أمكنتها. وصفات مواضعها مكتوبة معه. فلم يزل على هذه الحال تجتاز به القوافل، وتنزل السابلة، ولا يعلمون منه شيئًا، حتى استبان ذلك واستخرجه أسعد بن أبي يعفر صاحب كحلان٣ لأن الصفة وقعت له.

وقد خرج من طوس عدد كبير من أئمة العلم أشهرهم أبو حامد الغزالي، وخرج منها الوزير «نظام الملك». قال ياقوت: وأهل خراسان يسمون أهل طوس البقر، ولا أدري لم ذلك؟

وقال رجل يهجو نظام الملك:

لقد خرب الطوسي بلدة غزنة
فصب عليه الله مقلوب بلدته
هو الثور قرن الثور في حر أمه
ومقلوب اسم الثور في جوف لحيته٤

وقال دعبل الخزاعي من قصيدة يمدح بها علي بن أبي طالب رضي الله عنه ويذكر قبري علي بن موسى والرشيد بطوس:

أربع بطوس على قبر الزكي به
إن كنت تربع من دين على وطر
قبران في طوس: خير الناس كلهم
وقبر شرهم: هذا من العبر
ما ينفع الرجس من قرب الزكي ولا
على الزكي بقرب الرجس من ضرر
هيهات كل امرئ رهن بما كسبت
يداه حقًّا. فخذ ما شئت أو فذر

وطوس هذه هي موطن الغزالي ومولده، وبها قبره، إلا إن صح ما رواه بعضهم من أنه ولد بقرية تسمى غزالة بالقرب من طوس. وأنا لا أستبعد ذلك، ما دام ياقوت يحدثنا أنه كان لطوس أكثر من ألف قرية. وإذن يكون الغزالي بفتح الزاي لا بتشديدها، على أن في طبقات السبكي ص٩ ج٤ رجلًا آخر يلقب بالغزالي، ولا ضرورة لأن يكون هذا اسمًا لعائلة قديمة كما ظن الدكتور زويمر، بل يمكن أن يكون كلاهما نسب لتلك القرية الصغيرة: غزالة.

نيسابور

قال ياقوت: هي مدينة عظيمة. ذات فضائل جسيمة. معدن الفضلاء ومنبع العلاء. لم أر فيما طوفت من البلاد مدينة كانت مثلها. ثم قال: ومن الري إلى نيسابور مئة وستون فرسخًا. ومنها إلى سرخس أربعون فرسخًا، ومن سرخس إلى مرو الشاهجان٥ ثلاثون فرسخًا. ثم قال: وأكثر شرب أهل نيسابور من قنى تجري تحت الأرض، ينزل إليها في سراديب مهيأة لذلك، فيوجد الماء تحت الأرض، وليس بصادق الحلاوة، ثم قال: وعهدي بها كثيرة الفواكه والخيرات وبها ريباس ليس في الدنيا مثله، تكون الواحدة منه مئًا وأكثر، وقد وزنوا واحدة فكانت خمسة أرطال بالعراق، وهي بيضاء صادقة البياض كأنها الطلع، ثم قال: وكان المسلمون فتحوها في أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه والأمير عبد الله بن كريز في سنة ٣١ صلحًا. وبنى بها جامعًا، وقيل إنها فتحت في أيام عمر رضي الله عنه على يد الأحنف بن قيس، وإنما انتقضت في أيام عثمان فأرسل إليها عبد الله بن عامر ففتحها ثانية.

وقد خرج من نيسابور عدد كبير من أئمة العلم أشهرهم الحافظ الإمام أبو علي الحسين علي النيسابوري، الذي رحل في طلب العلم والحديث. وعقد له مجلس الإملاء بنيسابور سنة ٣٣٧ وهو ابن ستين سنة وقد توفي سنة ٣٤٩.

وقد أكثر الشعراء من ذم نيسابور. فمن ذلك قول أبي الحسن الإستراباذي:

لا قدس الله نيسابور من بلد
سوق النفاق بمغناها على ساق
يموت فيها الفتى جوعًا وبرهم
والفضل ما شئت من خير وأرزاق
والخبر في معدن الغرثي وإن برقت
أنواره في المعاني غير براق

وقال المرادي يذم أهلها:

لا تنزلن بنيسابور مغتربًا
إلا وحبلك موصول بسلطان
أولًا فلا أدب يجدي، ولا حسب
يغني، ولا حرمة ترعى لإنسان

وقال معن بن زائدة الشيباني يشكو ليله بنيسابور:

تمطى بنيسابور ليلي وربما
يرى بجنوب الري وهو قصير
ليالي إذ كل الأحبة حاضر
وما كحضور من تحب سرور
فاصبحت أما من أحب فنازح
وأما الألى أقليهم فحضور
أراعي نجوم الليل حتى كأنني
بأيدي عداة سائرين أسير
لعل الذي لا يجمع الشمل غيره
يدير رحى جمع الهوى فتدور
فتسكن أشجان ونلقى أحبة
ويورق غصن للشباب نضير

وفي نيسابور تلقى الغزالي عن إمام الحرمين الفقه والمنطق والأصول حتى برع أنداده، وزملاءه. وتولى في أخريات أيامه التدريس بالمدرسة النظامية في نيسابور مدة يسيرة، رجع بعدها إلى طوس، حيث اتخذ إلى جانب داره مدرسة للفقهاء وخانقاه للصوفية.

جرجان

مدينة مشهورة بين طبرستان وخراسان، فبعض يعدها من هذه وبعض يعدها من تلك، قيل إن أول من أحدث بناءها يزيد بن المهلب بن أبي صفرة. وقد خرج منها عدد من الأدباء والعلماء والمحدثين. ولها تاريخ ألفه حمزة بن يزيد السهمي. قال الأصطخري: أما جرجان فإنها أكبر مدينة بنواحيها، وهي أقل ندى ومطرًا من طبرستان، وأهلها أحسن وقارًا وأكثر مروءة ويسارًا من كبرائهم، وهي قطعتان إحداهما المدينة والأخرى بكراباذ. وبينهما نهر كبير. ولجرجان مياه كثيرة، وضياع عريضة، وليس بالمشرق بعد أن تجاوز العراق مدينة أجمع ولا أظهر حسنًا من جرجان. قال ياقوت: وبها الزيتون والنخيل والجوز والرمان وقصب السكر والأترج وبها إبريسم جيد لا يستحيل صبغه، وبها أحجار كبيرة لها خواص عجيبة، وبها ثعابين تهول الناظر، ولكن لا ضرر لها.

وقد فتحت في سنة ١٨هـ على يد سويد بن مقر، وخرج منها عدد عظيم من العلماء، كانت تشد إليهم الرحال.

وكان بها صنف جيد من الخمر، وفيها يقول ابن خريم:

وصهباء جرجانية لم يطف بها
حنيف ولم يلمم بها ساعة غر
ولم يشهد القس المهيمن نارها
طروقًا ولم يحضر على طبخها حبر
أتاني بها يحيى وقد نمت نومة
وقد لاحت الشعرى وقد طلع النسر
فقلت اصطبحها أو لغيري فاهدها
فما أنا بعد الشيب ويحك والخمر
تعففت عنها في العصور التي مضت
فكيف التصابي بعد ما كمل العمر
إذا المرء وفى الأربعين ولم يكن
له دون ما يأتي حياء ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الذي أتى
وإن جر أسباب الحياة له الدهر

ويذكر ياقوت أن أهل الكوفة كانوا يقولون: من لم يرو هذه الأبيات فهو ناقص المروءة … وذكر أن مسلم بن الوليد صريع الغواني مرض مرض الموت بجرجان، وأنه رأى نخلة لم يكن في جرجان غيرها فقال:

ألا يا نخلة بالسفـ
ـح من أكناف جرجان
ألا إني وإياك
بجرجان غريبان

وإلى جرجان رحل الغزالي ليتلقى العلم عن أبي نصر الإسماعيلي وعلق عنه التعليقة التي حدثتك عما فعل بها العيارون وهو راجع إلى طوس.

دمشق

لو أنك رجعت إلى ياقوت، وقرأت في معجمه أخبار هذه المدينة لرأيت كيف يضل العرب في بيداء الخيال، ولعرفت أن لهم حظًّا من أساطير الأولين. وهذا الضلال في ذكر من بنى مدينة دمشق يصور لنا منزلتها المقدسة، التي احتلت قبلًا رءوس المسلمين: فهم تارة يذكرون أن بانيها هو دماشق بن فاني بن مالك بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام، وتارة أخرى يقولون إنها بنيت على رأس ثلاثة آلاف ومئة وخمس وأربعين سنة من جملة الدهر الذي يقولون إنه سبعة آلاف سنة، وحينًا يزعمون أن إبراهيم عليه السلام ولد بعد بنائها بخمس سنين وحينًا آخر يتوهمون أن العازر غلام إبراهيم عليه السلام هو الذي بنى دمشق.

وأغرب من ذلك كله قول ياقوت: وقال أهل الثقة من أهل السير أن آدم عليه السلام كان ينزل في موضع يعرف الآن ببيت أنات، وحواء في بيت لهيا، وهابيل في مقري وكان صاحب غنم، وقابيل في قنينة وكان صاحب زرع، وهذه المواضع حول دمشق.

ووجه الغرابة فيه إخلاده إلى من يسميهم «أهل الثقة» وأين وصل أهل الثقة إلى أخبار آدم ونوح، يا أيها المؤرخ الخطير؟!

وأحب أن أنبه القارئ إلى قيمة الإغراق والغلو في وصف البلاد فإنه نعم الباعث على الرحلة والسياحة، وإن دل على سذاجة الواصفين، وأربعة أخماس الناس يشتاقون إلى رؤية دمشق حين يقرءون أنها كانت مأوى الأنبياء ومصلاهم، وإنه كان بها مسجد إبراهيم وقبر موسى عليهما السلام، وإنه لم توصف الجنة بشيء إلا وفيها مثله!

وكانوا يقولون: «عجائب الدنيا أربع: قنطرة سنجة، ومنارة الإسكندرية، وكنيسة الرها، ومسجد دمشق.» ولهذا المسجد حديث عجيب، فقد ذكروا أن الوليد بن عبد الملك بن مروان لما أراد بناءه جمع نصارى دمشق وقال لهم: إنا نريد أن نزيد في مسجدنا كنيستكم يعني كنيسة يوحنا، ونعطيكم كنيسة حيث شئتم، وإن شئتم ضاعفنا لكم الثمن. فأبوا، وجاءوا بكتاب خالد بن الوليد والعهد، وقالوا: إنا نجد في كتبنا أنه لا يهدمها أحد إلا خنق. فقال لهم الوليد: فأنا أول من يهدمها. فقام وعليه قباء أصفر، فهدم وهدم الناس ثم زاد في المسجد ما أراد. قالوا: ومكث في بنائه تسع سنين يعمل فيها عشرة آلاف رجل! وقال موسى بن حماد البربري: رأيت في مسجد دمشق كتابة بالذهب في الزجاج محفورًا فيها سورة أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ٦ إلى آخرها، ورأيت جوهرة حمراء ملصقة في القاف، التي في قوله تعالى: حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ فسألت عن ذلك فقيل لي: إنه كانت للوليد بنت وكانت هذه الجوهرة لها، فماتت فأمرت أمها أن تدفن هذه الجوهرة معها في قبرها، فأمر الوليد بها فصيرت في قاف المقابر من أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ. ثم حلف لأمها أنه قد أودعها المقابر فسكتت. ونقل الجاحظ في كتاب البلدان عن بعض السلف أنه قال: ما يجوز أن يكون أحد أشد شوقًا إلى الجنة من أهل دمشق لما يرونه من حسن مسجدهم. ويقول ياقوت: ومن عجائبه أنه لو عاش الإنسان مائة سنة وكان يتأمله كل يوم لرأى فيه كل يوم ما لم يره في سائر الأيام من حسن صناعاته واختلافها، ثم قال بعد كلام طويل: ولم يزل جامع دمشق على تلك الصورة يبهر بالحسن والتنميق إلى أن وقع فيه حريق في سنة ١٦١ فأذهب بعض حسنه.

وقد أكثر الشعراء من وصف دمشق، فمن ذلك قول أبي المطاع بن حمدان:

سقى الله أرض الغوطتين وأهلها
فلي بجنوب الغوطتين شجون
وما ذقت طعم الماء إلا استخفني
إلى بردى والنيريين حنين
وقد كان شكي في الفراق يروعني
فكيف أكون اليوم وهو يقين
فوالله ما فارقتكم قاليًا لكم
ولكن ما يقضى فسوف يكون

وقال الصنوبري:

صفت دنيا دمشق لقاطنيها
فلست ترى بغير دمشق دنيا
تفيض جداول البلور فيها
خلال حدائق ينبتن وشيا
مكللة فواكههن أبهى الـ
ـمناظر في مناظرنا وأهيا
فمن تفاحة لم تعد خدّا
ومن أترجة لم تعد ثديا

وقال البحتري:

أما دمشق فقد أبدت محاسنها
وقد وفى لك مطريها بما وعدا
إذا أردت ملأت العين من بلد
مستحسن وزمان يشبه البلدا
يمسي السحاب على أجبالها فرقًا
ويصبح النبت في صحرائها بددًا
فلست تبصر إلا واكفًا خضلًا
أو يانعًا خضرًا أو طائرًا مغردًا
كأنما القيظ ولى بعد جيئته
أو الربيع دنا من بعد ما بعدا

وقد أغرب الأقدمون في وصف دمشق، ومسجد دمشق، والذي ذكرته في ذلك كاف لما أنا بصدده من صلة الغزالي بهذه المدينة، فقد دخلها في سنة ٤٨٩ وأقام بها أيامًا قليلة، ثم عاد إليها بعد ذلك. واعتكف بالمنارة الغربية من الجامع، قال السبكي: واتفق أن جلس يومًا في صحن الجامع الأموي وجماعة من المفتين يتمشون في الصحن وإذا بقروي أتاهم مستفتيًا، ولم يردوا عليه جوابًا. والغزالي يتأمل. فلما رأى الغزالي أنه ليس عند أحد جوابه، ويعز عليه عدم إرشاده. دعاه وأجابه. فأخذ القروي يهزأ به ويقول: المفتون ما أجابوني. وهذا فقير عامي كيف يجيبني؟ والمفتون ينظرونه فلما فرغ من كلامه معه، دعوا القروي وسألوه: ما الذي حدثك به هذا العامي؟ وكان الغزالي إذ ذاك في زي فقير مجهول، فشرح لهم الحال فجاءوا إليه وتعرفوا به، وسألوه أن يعقد لهم مجلسًا، فوعدهم، ثم سافر من ليلته.

وهناك أحاديث كثيرة عن صلته بدمشق يضيق عن ذكرها المقام. وحسب القارئ هذا المقدار.

بيت المقدس

من المواطن التي قدسها العرب والمسلمون، وتركوا أمرها للخيال يصورها كيف شاء، فهم يزعمون أن الله تعالى قال لسليمان بن داود عليهما السلام حين فرغ من بناء بيت المقدس: سلني أعطك، قال يا رب: أسألك أن تغفر لي ذنبي. قال: لك ذلك. قال: يا رب، وأسألك أن تغفر لمن جاء هذا البيت يريد الصلاة فيه، وأن تخرجه من ذنوبه كيوم ولد. قال: لك ذلك. قال: وأسألك من جاء فقيرًا أن تغنيه. قال: لك ذلك. قال: وأسألك من جاء سقيمًا أن تشفيه. قال: ولك ذلك! ويروون عن أبي ذر أنه قال: قلت لرسول الله : أي مسجد وضع على وجه الأرض أولًا؟ قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: البيت المقدس، وبينهما أربعون سنة. وينقلون عن كعب أنه قال: معقل المؤمنين أيام الدجال البيت المقدس يحاصرهم فيه حتى يأكلوا أوتار قسيهم من الجوع، فبينما هم كذلك إذ يسمعون صوتًا من الصخرة، فيقولون: هذا صوت رجل شبعان، فينظرون، فإذا عيسى بن مريم عليه السلام. فإذا رآه الدجال هرب منه، فيتلقاه بباب لد فيقتله، ويكاد الرواة يتفقون على أنها «عرصة القيامة» ومنها النشر، وإليها الحشر. ويزعمون أن سليمان كان اتخذ في بيت المقدس أشياء عجيبة: منها القبة التي فيها السلسلة المعلقة ينالها صاحب الحق، ولا ينالها المبطل، حتى اضمحلت بحيلة غير معروفة! وكان من عجائب بنائه أنه بنى بيتًا وأحكمه وصقله، فإذا دخله الفاجر والورع تبين الفاجر من الورع، لأن الورع كان يظهر خياله في الحائط أبيض، والفاجر يظهر خياله أسود! وكان أيضًا مما اتخذ من الأعاجيب أن ينصب في زاوية من زواياه عصا أبنوس فكان من مسها من أولاد الأنبياء لم تضره، ومن مسها من غيرهم أحرقت يده! قال ياقوت: «وقد وصفها القدماء بصفات إن استقصيتها أمللت القارئ.» فيا ليت شعري ماذا عسى أن تكون تلك الصفات؟

إنه لا شك في أن كل ما وصف به بيت المقدس ليس إلا صورة لمبلغ المتقدمين من فهم حقائق الأشياء، فليست زيارته بمخرجة أحدًا من ذنوبه، ولا براحمة فقيرًا من فقره، ولا بمنقذة سقيمًا من سقمه، كما يزعمون أن الله قال في ذلك، وليس هناك سند يثق به التاريخ عن بناء المسجد الحرام وبناء بيت المقدس بعده بأربعين سنة، كما يتوهمون أن النبي قال ذلك! ولن يأكل المؤمنون أوتار قسيهم من الجوع حين يحاصرهم الدجال في بيت المقدس، ولن يعود عيسى إلى هذا العالم كما يتوهم كثير من الناس، وهب ذلك، فمن يدرينا أن المؤمنين لن يملكوا يومئذ غير القسي والنبال؟ ولا تنس السلسلة التي علقها في القبة سيدنا سليمان، والتي كان ينالها صاحب الحق، ولا ينالها المبطل، فتلك بلا ريب وليدة الخيال! وما عسى أن يكون ذلك البيت الذي كان إذا دخله فاجر ظهر خياله أسود، وإذا دخله الورع ظهر خياله أبيض؟

اذكر هذه الصورة العجيبة لبيت المقدس، ثم اذكر قول ابن عباس: البيت المقدس بنته الأنبياء وسكنته الأنبياء، ما فيه موضع شبر إلا وقد صلى فيه نبي، أو قام فيه ملك. ثم اذكر ما يزعمون من أن أول شيء حسر عنه الطوفان بيت المقدس، وإن فيه ينفخ في الصور يوم القيامة، وعلى صخرته ينادي المنادي يوم القيامة!

اذكر هذا كله، ثم دعنا نخبرك بأن الغزالي يتمدح في كتابه «المنقذ من الضلال» بأنه كان يرحل إلى بيت المقدس فيدخل الصخرة كل يوم ويغلق بابها على نفسه ويتعبد فيها طول النهار! وإنه انكشف في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها كما قال.

هذه المواطن التي قدسها الخيال، ووضعت في فضلها الأحاديث، أثرت تأثيرًا بينًا في حياة الغزالي العقلية، وطبعت نظره إلى العالم بطابع خاص. ولولا خوف الإطالة لوصفنا ما رآه في سياحاته من المشاهد والبقاع، ولكن الرغبة في الإيجاز أرضتنا عن الاكتفاء بأشهر ما عرف من البلاد.

١  توفي ياقوت الحموي صاحب معجم البلدان في سنة ٦٢٦هـ. وكتابه من أجود ما عرف العرب في القواميس الجغرافية.
٢  مفردها أزج بفتحتين ضرب من الأبنية.
٣  من مخاليف اليمن.
٤  مقلوب طوس. سوط، ومقلوب ثور: روث.
٥  مرو الشاهجان، هي قصبة خراسان وكان بها لعهد ياقوت عشر خزائن موقوفة تحوي نفائس الكتب منها خزانتان في الجامع إحداهما يقال لها العزيزية، وقفها رجل يقال له عزيز الدين أبو بكر عتيق الزنجباني، وكان فيها ١٢٠٠٠ مجلد، وأخرى يقال لها الكمالية، لا أدري إلى من تنسب، وبها خزانة شرف الملك المستوفي أبي محمد بن منصور في مدرسته ومات المستوفي هذا في سنة ٤٤٩هـ وكان حنفي المذهب، وخزانة نظام الملك في مدرسته، وخزانتان للسمعانيين وخزانة أخرى في المدرسة العميدية، وخزانة لمجد الملك أحد الوزراء المتأخرين بها والخزائن الخاتونية في مدرستها. والضميرية في خانقاه هناك يقول ياقوت: «وكانت سهلة التناول لا يفارق منزلي منها مئتا مجلد، أكثرها بغير رهن.» ويذكر أن عوائد معجمه من تلك الخزائن وفي مرو الشاهجان يقول بعض الأعراب:
أقربة الوادي التي خان ألفها
من الدهر أحداث أتت وخطوب
تعالي أطارحك البكاء فإنما
كلانا بمرو الشاهجان عريب
ويقول أبو الحسين مسعود بن الحسن الدمشقي:
أخلاي إن أصبحتم في دياركم
فإنني بمرو الشاهجان غريب
أموت اشتياقًا ثم أحيا تذكرًا
وبين التراقي والضلوع لهيب
فما عجب موت الغريب صبابة
ولكن بقاء في الحياة عجيب
٦  سورة التكاثر: ١–٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤