الفصل الأول

أسرته

ولد الغزالي من أسرة فارسية، لم يهتم بها التاريخ. وإنه ليكفي أن نعرف شيئًا عن أبيه وأخيه، لنعرف الروح السائد في أسرته.

أما أبوه فقد نقل السبكي في طبقات الشافعية: «إنه كان فقيرًا صالحًا لا يأكل إلا من كسب يده في عمل غزل الصوف ويطوف على المتفقهة ويجالسهم، ويتوفر على خدمتهم، ويجد في الإحسان اليهم، والنفقة بما يمنكه عليهم، وإنه كان إذا سمع كلامهم بكى وتضرع، وسأل الله أن يرزقه ابنًا ويجعله فقيهًا، وإنه كان يحضر مجالس الوعظ، فإذا طاب وقته بكى. وسأل الله أن يرزقه ابنًا واعظًا.» ص١٠٢ ج٤.

وقد صار ابنا هذا الفقير فقيهين واعظين، فإن شئت قلت إنها دعوة أجيبت، وإن شئت قلت إن حب هذا الرجل للفقه والوعظ نقل إلى ولديه بطريق الوراثة.

وأما أخوه فقد ذكر غير واحد أنه طاف البلاد وخدم الصوفية في عنفوان شبابه، وصحب المشايخ، واختار الخلوة والعزلة، حتى انفتح له الكلام على طريقة القوم، وإنه خرج إلى العراق، ومالت إليه القلوب، ودخل بغداد وعقد مجلس الوعظ، فظهر له القبول، وازدحم الناس على حضور مجلسه، وأن صاعد بن فارس دون مجالسه ببغداد فبلغت ثلاثًا وثمانين. وذكر ابن خلكان أنه كان صاحب كرامات وإشارات، وإنه كان من الفقهاء غير أنه مال إلى الوعظ فغلب عليه. وينقلون أن قارئًا قرأ يومًا بين يديه يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ١ فقال شرفهم بياء الإضافة إلى نفسه بقوله يا عبادي ثم أنشد:
وهان عليّ اللوم في جنب حبها
وقول الأعادي إنه لخليع
أصم إذا نوديت باسمي وإنني
إذا قيل لي يا عبدها لسميع

ويرون أنه حكى يومًا في مجلس وعظه أن بعض العشاق كان مشغولًا بحسن صورة معشوقه، وكان هذا موافقًا له، فجاءه يومًا بكرة وقال له: انظر إلى وجهي فأنا اليوم أحسن من كل يوم. فقال: وكيف ذلك؟ قال: نظرت إلى المرآة فاستحسنت وجهي، فأردت أن تنظر إلي، فقال: بعد أن نظرت إلى وجهك قبلي لا تصلح لي. وهذه الحكاية تمثل اتجاه خاطره نحو الفناء.

ومن كلامه: «من كان في الله تلفه، كان على الله خلفه.» وكان ينصح أخاه أبا حامد الغزالي بقوله:

إذا صحبت الملوك فالبس
من التوقي أعز ملبس
وادخل إذا ما دخلت أعمى
واخرج إذا ما خرجت أخرس

وكان أساتذتنا في الأزهر يقصون علينا أحسن القصص في تأثير هذا الرجل على أخيه، ويضربون لنا بورعه الأمثال، وقد حاولت أن أجد سندًا لما يتحدثون به فلم أجد، فعرفت أن أكثر ما عرف عنه إنما هو من صنع الخيال.

ولو أننا أضفنا إلى ما سلف أن الغزالي كان صغيرًا حين مات أبوه، وأن الذي كفله مع أخيه هو رجل متصوف من أهل الخير بوصية والده، لعرفنا كيف تعاونت الظروف على أن تصبغ روحه بصبغة صوفية، وكيف أثرت هذه الصبغة على آرائه في الأخلاق.

١  سورة الزمر: ٥٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤