الفصل الخامس

وفاته ورثاؤه

ترك الغزالي بغداد، وقصد البيت الحرام، وأدى فريضة الحج في سنة ٤٨٩هـ ومكث فيها أيامًا، ثم توجه إلى بيت المقدس فجاور به سنة ٤٨٨هـ بعد أن أناب أخاه عنه في المدرسة النظامية، ثم دخل دمشق مدة، ثم عاد إلى دمشق واعتكف في المنارة الغربية من الجامع، ثم ذهب إلى الإسكندرية وأقام بها مدة، ويقال إنه كان ينوي الرحلة إلى السلطان يوسف بن تاشفين، لما بلغه من عدله، ولكنه لما سمع بموته عاد إلى التجول في الآفاق لزيارة المشاهد والترب والمساجد، كما يقول مترجموه، ثم رجع إلى بغداد وعقد بها مجلس الوعظ، وتكلم بلسان أهل الحقيقة وحدث بكتاب الإحياء. ثم عاد إلى خراسان ودرس بالمدرسة النظامية في نيسابور، ثم رجع إلى طوس واتخذ إلى جانب داره مدرسة للفقهاء وخانقاه للصوفية، ووزع أوقاته على وظائف من ختم القرآن ومجالسة أرباب القلوب، والتدريس لطلبة العلم، وإدامة الصلاة والصيام، إلى أن توفي رحمه الله بطوس يوم الاثنين رابع عشر جمادى الآخرة سنة ٥٠٥هـ قال السبكي: ومشهده يزار بمقبرة الطابران.

قال الزبيدي: ووجدت في كتاب بهجة الناظرين وأنس العارفين للعارف بالله محمد بن عبد العظيم الزموري ما نصه: ومما حدثنا به من أدركنا من المشيخة أن الإمام أبو حامد الغزالي لما حضرته الوفاة أوصى رجلًا من أهل الفضل والدين — كان يخدمه — أن يحفر قبره في موضع بيته، ويستوصي أهل القرى التي كانت قريبة إلى موضعه ذلك بحضور جنازته، وأن لا يباشر أحد حتى يصلي ثلاثة نفر من الفلاة لا يعرفون ببلاد العراق، يغسله اثنان منهما ويتقدم الثالث للصلاة عليه بغير أمر ولا مشورة … فلما توفي فعل الخادم كل ما أمر به، وحضر الناس، فلما اجتمعوا لحضور جنازته رأوا ثلاثة رجال خرجوا من الفلاة، فعمد اثنان منهم إلى غسله، واختفى الثالث ولم يظهر، فلما غسل وأدرج في أكفانه، وحملت جنازته، ووضعت على شفير قبره، ظهر الثالث ملتفًّا في كسائه، وفي جانبه علم أسود، معممًا بعمامة صوف، وصلى عليه وصلى الناس بصلاته، ثم سلم وانصرف، وتوارى عن الناس، وكان بعض الفضلاء من أهل العراق ممن حضر الجنازة ميزه بصفاته ولم يعرفه، إلى أن سمع بعضهم بالليل هاتفًا يقول لهم: إن ذلك الرجل الذي صلى بالناس هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن إسحاق الشريف جاء من المغرب الأقصى من عين النظر، وإن اللذين غسلاه هما صاحباه … إلخ».

وهذه بالطبع خرافة لفقهاء المتصوفة بعد موت الغزالي، وهي في ذاتها على أن الغزالي لم يمت إلا بعد أن اتفق العامة على صلاحه، فقد رمي بالزندقة في جزء من حياته، ثم عاد في نظر العامة من المكاشفين، حتى ليذكرون أنه أنشأ عند موته هذه القصيدة:

قل لإخوان رأوني ميتًا
فبكوني ورثوني حزنًا
أعلى الغائب منا حزنكم
أم على الحاضر معكم ههنا
أتخالوني بأني ميتكم
ليس ذاك الميت والله أنا
أنا في الصدر وهذا بدني
كان جسمي وقميصي زمنًا

وهي طويلة تجدها ضمن مجموعة مخطوطة نمرة ١٢١ تصوف بدار الكتب المصرية. وهي كذلك مما لفقه أصحابه بعد موته، وما أكثر ما زور باسمه من الآثار!!

ونقل ابن الجوزي في «كتاب الثبات عند الممات» عن أحمد أخي الغزالي أنه قال: «ولما كان يوم الاثنين وقت الصبح توضأ أخي أبو حامد وصلى، وقال علي بالكفن، فأخذه وقبله ووضعه على عينيه، وقال: سمعًا وطاعة للدخول على الملك، ثم مد رجليه واستقبل القبلة، ومات قبل الإسفار.»

وسبحان من تفرد بالبقاء.

وقد رثاه الأبيوردي بقوله:

بكى على حجة الإسلام حين ثوى
من كل حي عظيم القدر أشرفه
فما لمن يمتري في الله عبرته
على أبي حامد لاح يعنفه
تلك الرذيلة تستوهي قوى جلدي
فالطرف تسهره والدمع تنزفه
فما له خلة في الزهد منكرة
وما له شبهة في العلم تعرفه
مضى، وأعظم مفقود فجعت به
من لا نظير له في الناس يخلفه

وقال في رثائه القاضي عبد الملك المعافى:

بكيت بعيني ثاكل القلب واله
فتى لم يوال الحق من لم يواله
وسيبت دمعًا طالما قد حبسته
وقلت لجفني واله ثم واله

ونحن — في جملة من انتفع بمؤلفات الغزالي — نسأل الله أن يرحمه رحمة واسعة، وأن يجزيه أحسن الجزاء على ما قدم في سبيل العلم والدين من صادق الجهود، وأن يتجاوز عن سيئاته بمنه وكرمه إنه نعم المولى ونعم النصير، وهو بالمؤمنين رءوف رحيم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤