الفصل الثالث

من عرف الغزالي من الصوفية

ويجمل بنا أن نذكر طائفة من الصوفية الذين عرفهم الغزالي ونريد بذلك من قرأ لهم، واستشهد بكلامهم في مؤلفاته، لأن تأثيرهم غير قليل في تكييف أحكامه الأخلاقية، وطبعها بذلك الطابع الصوفي المعروف.

الإمام الشافعي

ولد رضي الله عنه بغزة، ومات بمصر سنة ٢٠٤هـ بعد أن أقام بها أربع سنينن. وكان سنه حين مات ٥٤ سنة. وليس غرضنا أن نتكلم عنه من الوجهة التشريعية، فإن لذلك مجالًا غير هذا المجال، غير أنه لا يفوتنا بهذه المناسبة أن نقرر أن كتاب «الأم» الذي ينسب إليه ليس له، وإنما هو من تأليف البويطي كما نص الغزالي في الإحياء.

والذي يهمنا الآن: هو أن نصور الشافعي كما تصوره الغزالي، أي من الوجهة الصوفية، فقد كان رضي الله عنه معروفًا بالتقوى، ونسيان الذات، حتى ليقول: «وددت لو أن الخلق تعلموا هذا العلم على أن لا ينسب إلي منه حرف».

نماذج من كلامه

وإلى القارئ نماذج من كلماته التي جرت مجرى الأمثال. قال رضي الله عنه: «أظلم الظالمين لنفسه من تواضع لمن لا يكرمه ورغب في مودة من لا ينفعه، وقبل مدح من لا يعرفه. المراء في العلم يقسي القلب، ويورث الضغائن، من لم تعزه التقوى فلا عز له. سياسة الناس أشد من سياسة الدواب. لو علمت أن الماء البارد ينقص مروءتي ما شربته. ليس بأخيك من احتجت إلى مداراته. من علامة الصادق في أخوة أخيه أن يقبل علله، ويسد خلله، ويغفر زللـهِ. لا تشاور من ليس في بيته دقيق. لا تقصر في حق أخيك اعتمادًا على مروءته، ولا تبذل وجهك إلى من يهون عليه ودك. من نم لك نم عليك. من نظف ثوبه قل همه، ومن طاب ريحه زاد عقله».

المزني

هو الإمام أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني. ولد سنة ١٧٥هـ وتوفي سنة ٢٦٤هـ تلقى العلم عن الشافعي وصار من ناشري مذهبه. وكان الشافعي يقول فيه: «لو ناظر الشيطان لغلبه!» ونقل السبكي عن عمرو بن عثمان المكي: «ما رأيت أحدًا من المتعبدين في كثرة من لقيت منهم أشد اجتهادًا من المزني، ولا أدوم على العبادة منه، وما رأيت أحدًا أشد تعظيمًا للعلم وأهله منه، وكان من أشد الناس تضييقًا على نفسه في الورع، وأوسعهم في ذلك على الناس».

حرملة

هو حرملة بن يحيى بن عبد الله بن حرملة ولد سنة ١٦٦هـ، وتوفي سنة ٢٤٣هـ، وهو من تلامذة الشافعي ورواة حكمه. قال السبكي: «وقد ينفرد حرملة في بعض المسائل ويخرج عن المذهب تأصيلًا وتفريعًا، كما قد يفعل ذلك المزني وغيره في بعض الأحايين».

المحاسبي

هو أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي المتوفى ببغداد سنة ٢٤٣هـ، وهو شيخ الجنيد، ويقول إنه سُمي المحاسبي لكثرة محاسبته لنفسه، وقد ألف في الفقه والتصوف والحديث والكلام نحو مائتي كتاب. وكان الجنيد يقول: «كنت كثيرًا ما أقول للحارث: «عزلتي أنسي» فيقول: كما تقول أنسي وعزلتي؟ لو أن نصف الخلق تقربوا مني ما وجدت بهم أنسًا، ولو أن نصف الخلق الآخر نأوا عني ما استوحشت لبعدهم. وأنشد منشد بين يدي الحارث هذه الأبيات:

أنا في الغرب أبكي
ما بكت عين غريب
لم أكن يوم خروجي
من بلادي بمصيب
عجبًا لي ولتركي
وطنًا فيه حبيبي

فقام وتواجد وبكى حتى رحمه كل من حضره.

ومن كلامه: «خيار هذه الأمة هم الذين لا تشغلهم آخرتهم عن دنياهم، ولا دنياهم عن آخرتهم. حسن الخلق احتمال الأذى وقلة الغضب، وبسط الرحمة، وطيب الكلام. الظالم نادم وإن مدحه الناس والمظلوم سالم وإن دفعه الناس. القانع غني وإن جاع، والحريص فقير وإن ملك».

الجنيد

هو في نظر الصوفية سيد علماء الآخرة على الإطلاق، توفي سنة ٢٩٨هـ، وكانت له أحوال لا يقرها شرع ولا عقل.

ومن كلامه: «إن الله يخلص إلى القلوب من بره، على حسب ما تخلص إليه القلوب من ذكره. فانظر ماذا خالط قلبك. الغفلة عن الله تعالى أشد من دخول النار. إذا رأيت الفقير فلا تبدأه بالعلم، وابدأه بالرفق، فإن العلم يوحشه، والرفق يؤنسه».

•••

وفي كتب الغزالي عدد عظيم من الصوفية، يؤكد بكلامهم رأيه، وكان لأولئك الصوفية مصنفات معروفة، وكلمات مأثورة يتداولها الناس لعهده، وإنه لا شك في انتفاعه بتلك الآثار. والرغبة في الإيجاز هي التي أرضتنا عن الاكتفاء بترجمة هذا العدد القليل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤