الفصل الأول

طريقته في التأليف

وللغزالي في التأليف منهج جميل، فهو يشرح أولًا المذهب الذي يريد نقده، وقد بلغ من حرصه على هذا المنهج أن ألف كتابًا في مقاصد الفلاسفة، حين هم بتأليف كتاب في تهافتهم، ويقول في كتابه ذاك: «ولنفهم الآن ما نورده على سبيل الحكاية مهملًا مرسلًا، من غير بحث عن الصحيح والفاسد، حتى إذا فرغنا منه استأنفنا له جدًّا وتشميرًا في كتاب مفرد نسميه تهافت الفلاسفة».

وصنع مثل هذا الصنيع حين رد على الباطنية، وقد ذكر في «المنقذ من الضلال» ص٢٠، ٢١ أن بعض أهل الحق أنكر عليه مبالغته في تقرير حجتهم، وقالوا: هذا سعي لهم، فإنهم كانوا يعجزون عن نصرة مذهبهم بمثل هذه الشبهات، لولا تحقيقه لها، وترتيبه إياها، وأجاب بأنه استحسن أن يقرر شبهتهم إلى حد الإمكان ثم يظهر فسادها، وهذا منهج لا نسرف إن كررنا أنه جميل.

ومما تمتاز به خطة الغزالي في التأليف، الاعتماد على الخطابيات في إصلاح القلوب، فهو حين يتكلم عن فضيلة من الفضائل، يبدأ بذكر ما ورد في حمدها من الآيات، يعقب بسرد ما جاء عنها من الأحاديث، ثم الأخبار، ثم الآثار، وينطلق بعد ذلك في ذكر القصص والحكايات التي تستولي على قلب القارئ وترسم في نفسه أثر تلك الفضيلة، وما لها من مقام محمود، والأمر كذلك إذا تكلم عن رذيلة من الرذائل، وهو في هذا الباب لا يعتبر مبتكرًا، فقد سبقه القصاص، ولكنه آخر عفى على الآولين، وقد رأيت من الأدباء من يستنكر هذه الخطة، وهو استنكار على غير أساس. ويكفي أن نقرأ كتب سميلز الإنكليزي المتوفى في ١٦ أبريل سنة ١٩٠٤ تعرف حسن هذا المنهج في رأي المعاصرين، فإني لم أر أحدًا يستنكر منهج سميلز في الإكثار من الأقاصيص للترغيب في مكارم الأخلاق.

وتمتاز كتب الغزالي الأخلاقية بأنها صالحة لكل قارئ، فلم يقصد المؤلف وضعها لطائفة معينة، أو فريق خاص، وإنما وضعها لجمهور المسلمين.

وهناك ميزة خطيرة لمؤلفات الغزالي: وهي إقباله على الخيال فهو يحسن ويقبح بطريقة فنية بديعة، تخلب العقول، وتمتع القلوب. وانظر كيف يشبه من يحسب المحسن إنما يحسن باختياره أنه يشبهه بالنملة ترى سواد الخط على البياض يحصل من حركة القلم فتضيف ذلك إلى القلم: إذ حدقتها الصغيرة الضعيفة لا تمتد إلى الأصبع، ومنها إلى اليد، ومنها إلى القدرة المحركة لليد، ومنها إلى الإرادة التي القدرة مسخرة لها، ومنها إلى المعرفة التي يتوقف انبعاث الإرادة عليها، ومنها إلى صاحب القدرة والعلم والإرادة.١
ويشبه الضعيف القلب بالحمار في معلفه، والدجاج في قفصه يرمق ما تعود من صاحبه، لا يكاد ينفك عن ذلك، وتقاعدت نفسه عن معالي الأمور، وانقطعت همته، فلا يكاد يقصد أمرًا شريفًا.٢

والذي يعبر بنظره كتاب الإحياء وكتاب الأربعين وكتاب المنهاج، يرى البدائع الفنية، وألوان البيان، في طرق الترغيب والترهيب، وهو يجيد في التخييل حتى يغلب القارئ على أمره، ويشككه في نفسه، ويحمله قهرًا على أن يدرس نفسه من جديد، وهذا وجه الخطر في مؤلفات الغزالي، إذ كانت في الأغلب وساوس صوفية غشيت بألوان السحر والفتون، فلا يسلم منها إلا العالمون والأقوياء.

١  ٢٧٩ الأربعين.
٢  ٧٦ منهاج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤