الفصل الرابع

الأغراض والنتائج

هل يكون العمل خيرًا باعتبار نتيجته، أو باعتبار المقصود منه؟ وبعبارة أوضح: هل يكون خيرًا لأني أردت به الخير، أو لأنه أنتج الخير، وإن لم أرد ذلك؟

ويظهر أنه لاستخلاص رأي الغزالي في الجواب على هذا السؤال، ينبغي أن نسايره في الأعمال المختلفة، لنعرف رأيه في كل نوع منها على انفراد.

وقد رأيناه يقسم أعمال الإنسان إلى طاعات ومعاص ومباحات. أما الطاعات فلا تكون خيرًا إلا بالنية، وهي الغرض في التعبير الحديث. ويقول في ذلك: «إن العمل تابع للباعث عليه فيكتسب الحكم منه. ولذلك قيل: «إنما الأعمال بالنيات» لأنها تابعة لا حكم لها في نفسها وإنما الحكم للمتبوع.» وهو يستنتج بناء على هذا الأساس أنه لا قيمة للصوم إذا أراد الصائم الانتفاع بالحمية، ولا للعتق إذا أراد السيد أن يتخلص من مؤونة عبده، ولا للحج إذا أراد المرء أن يصح مزاجه بالحركة والانتقال، ولا للغزو إذا أحب الشخص أن يتعلم أسباب الحروب؛ لأن النية لا تصح عند الغزالي إلا إذا خلصت من الشوائب، وتقرب العبد بها إلى الله. ولا مانع عنده من وجود باعث آخر، ويسميه الباعث النفسي، على شرط أن يكون أضعف من الباعث الأصلي، فإن كان مساويًا له صار العمل لا له ولا عليه كما يقول. وإن كان أقوى منه فهو مضر ومفض للعقاب.

والغزالي ينصح بالتدبير قبل الشروع في الطاعة ليعرف المرء أي الباعثين أقوى: باعث النفس أو باعث القربة، وأي النصيبين أوفى: نصيب الله أم نصيب الشيطان. ولكنه يقول: «ومع هذا فلا ينبغي أن يترك العمل عن خوف الآفة والرياء فإن ذلك منتهى بغية الشيطان منه، إذ المقصود أن لا يفوت الإخلاص. ومهما ترك العمل فقد ضيع العمل والإخلاص جميعًا».

ويلاحظ أن في هذا تناقضًا مع حكمه على العمل الذي غلب فيه الباعث النفسي بأنه مضر ومفض للعقاب، والعمل الذي يضر ويفضي للعقاب، لا يكون تركه منتهى بغية الشيطان، فكان على الغزالي أن يفرق بين العمل في ذاته وبين غرض العامل منه، لأن العمل الطيب غير ضار في ذاته، وإن ساء الغرض منه، والمفروض أننا نتكلم عن أعمال هي في نظر الشرع طاعات، وهي في ذاتها خير ونافعة، فكيف تنقلب بسبب النية ضارة؟

ولم يفرق الغزالي بين الأعمال الاجتماعية والأعمال الفردية، فمن الواضح أن بعض الأعمال يرجع إلى فائدة المرء وحده كالعبادات وبعضها يرجع نفعه إلى جمهور الناس. وما أحسب الغزالي ينهي عن الأعمال الاجتماعية، مهما ساء القصد، إذ لا أقل من أن تكون تمرينًا للنفس على عمل الخير. وقد صرح في غير موطن بأن التخلق مفض إلى الخلق، ومتى كان العمل نافعًا للناس فالدعوة إليه واجبة، والعامل حر في الاستفادة من حسن نيته إن شاء.

وأما المعاصي فهي شر على كل حال. والغزالي هنا يقدر النتائج، فمن عمل شرًّا عن جهل فهو آثم، ولا عذر له من جهله لأن الجاهل غير معذور إلا إذا كان قريب عهد بالإسلام، وهذا عدو محدود. وقد علمت أنه يرى أن المعصية شر لأنها ضارة ورأيت كذلك أن فاعل المعصية آثم وإن لم يعلم وجه إثمه، فتحتم أن تكون العبرة هنا بالنتائج لا الأغراض بخلاف الطاعات فقد تنقلب معاصي صرفة إذا خبثت النية، كمن يتعلم العلم ليستميل الناس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤