الفصل الخامس

الوسائل والغايات

إذا كانت الغاية شريفة، فلا يجب فيما يرى الغزالي أن تكون الوسيلة دائمًا شريفة، فالغاية عنده تبرر الوسيلة. وقد أوضح هذا حين تكلم عن المواطن التي يجوز فيها الكذب فقال: «الكلام وسيلة إلى المقصود، فكل مقصود محمود يمكن الوصول إليه بالصدق والكذب جميعًا، فالكذب فيه حرام إن أمكن التوصل إليه بالصدق، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح، إن كان تحصيل ذلك القصد مباحًا، وواجب إن كان المقصود واجبًا. وكما أن عصمة دم المسلم واجبة، فمهما كان في الصدق سفك دم امرئ مسلم قد اختفى من ظالم، فالكذب فيه واجب. ومهما كان لا يتم مقصود الحرب، أو صلاح ذات البين، أو استمالة قلب المجني عليه، إلا بالكذب فالكذب مباح.»١ وبعد أن بين الحالات الثلاث التي يجوز فيها الكذب كما نص الحديث، وهي الصلح والحرب ومحادثة المرأة، قال: «فهذه الثلاث ورد فيها صريح الاستثناء، وفي معناها ما عداها إذا ارتبط به غرض مقصود صحيح له أو لغيره.»٢ ثم ضرب لذلك الأمثال الآتية:
  • (١)

    أن يأخذه ظالم ويسأله عن ماله فله أن ينكره.

  • (٢)

    أن يأخذه سلطان فيسأله عن فاحشة ارتكبها بينه وبين الله فله أن ينكر ذلك، إذ للرجل أن يحفظ دمه وماله وعرضه بلسانه، وإن كان كاذبًا.

  • (٣)

    أن يُسأل عن سر أخيه فله أن ينكره.

  • (٤)

    أن يصلح بين الضرائر من نسائه، بأن يظهر لكل واحدة أنها أحب إليه.

وقد تنبه الغزالي إلى خطر هذا الباب، فبين أن الكذب لا ينبغي أن يقترف كلما كانت له فائدة، بل يجب أن تكون فائدته أقوى وأظهر من فائدة الصدق، وإلا وجب أن يكون الرجل من الصادقين. وانظر قوله: «ولكن الحد فيه أن الكذب محظور، ولو صدق في هذه المواضع تولد منه محظور، فينبغي أن يقابل أحدهما بالآخر ويزن بالميزان القسط، فإذا علم أن المحظور الذي يحصل بالصدق أشد وقفًا في الشرع من الكذب فله الكذب. وإن كان ذلك المقصود أهون من مقصود الشرع فيجب الصدق. وقد يتقابل الأمران بحيث يتردد فيهما، وعند ذلك الميل إلى الصدق أولى. لأن الكذب يباح بالضرورة، ولحاجة مهمة. فإن شك في كون الحاجة مهمة فالأصل التحريم.» ص١٤١ ج٣.

غير أن هذه الحيطة لا تلزم الرجل فيما يرى الغزالي إلا إذا كان يترك الكذب لغرض من أغراضه. أما إذا تعلق بغرض غيره فلا تجوز المسامحة بحق الغير، والإضرار به. وهذا من الغزالي نظر بعيد.

وقد استثنى من الكذب للمصلحة، الكذب على رسول الله بوضع الأحاديث في فضائل الأعمال، وفي التشديد في المعاصي، فليس هذا من الأغراض التي تقاوم محظور الكذب على رسول الله، فإن الكذب عليه من الكبائر التي لا يقاومها شيء.

وضع القصص

وبهذه المناسبة، نذكر أن الغزالي صرح في الجزء الأول من الإحياء ص٣٧ «من الناس من يستجيز وضع الحكايات المرغبة في الطاعات، ويزعم أن قصده فيها دعوة الخلق إلى الحق» وهو يرى أن «هذه نزعات الشيطان، فإن في الصدق مندوحة عن الكذب» وهذا منه إسراف. بل هو نفسه أول من يؤاخذ على وضع القصص إن كان في وضعها مؤاخذة. ويكفي أن نعرف أنه يذكر في كتبه من قصص الأنبياء والصالحين، ما لم يقم على صحته أي دليل. والرواية الكاذبة ليست أقل خطرًا من التأليف!

وكما جاز الكذب في سبيل الغاية، كذلك تجوز في سبيلها الغيبة. وقد صرح الغزالي بجواز الغيبة في المواطن الآتية:
  • (١)

    التظلم، فإن من ذكر قاضيًا بالظلم والخيانة وأخذ الرشوة، كان مغتابًا عاصيًا. أما المظلوم من جهة القاضي فله أن يتظلم إلى السلطان وينسبه إلى الظلم، إذ لا يمكنه استيفاء حقه إلا به. ولا أدري لم لا تستباح أعراض الظالمين؟

  • (٢)

    الاستعانة على تغيير المكروه، ورد المعاصي إلى منهج الطاعة.

  • (٣)

    الاستفتاء، كما يقول للمفتي: ظلمني أبي أو زوجي أو أخي، وكيف طريقي إلى الخلاص. والأسلم التعريض، ولكن التعيين مباح بهذا العذر.

  • (٤)

    تحذير المسلم من الشر، فإذا رأيت فقيهًا يتردد إلى مبتدع أو فاسق، وخفت أن تتعدى إليه بدعته وفسقه. فلك أن تكشف له بدعته وفسقه. متى كان الباعث لك الخوف عليه من سراية البدعة لا غير. واحذر أن يكون الحسد هو الباعث!

  • (٥)

    أن يكون المغتاب مجاهرًا بالفسق، بحيث لا يستنكف من أن يذكر له، ولا يكره أن يذكر به.

وهنا يحتاط الغزالي: فيبين أنه ليس لك أن تغتاب المجاهر بفسقه إلا بما يتجاهر به. فمن كان يشرب الخمر فليس لك أن تذكر زناه، إذا كان يستره، وهذا منه نظر دقيق. والغاية الشريفة تبيح النميمة، كما أباحت الكذب والغيبة. فللإنسان أن ينم، إذا كان في النميمة فائدة لمسلم، أو دفع لمعصية. كما إذا رأى من يتناول مال غيره فعليه أن يشهد به، دفعًا للجاني عن المعصية، وردًّا لحق المأخوذ ماله. والنميمة في هذا المثال إذا كانت ضرًّا في جانب الظالم، فهي نفع في جانب المظلوم، وهو أولى بالإسعاف. بل دفع الظالم عن الظلم خير له في حاضره، وإبعاد له عن الضر في مستقبله، إذا كان مستعدًّا للإقلاع عن الفساد.

١  ص ١٣٩ ج ٣ إحياء.
٢  ١٤١ ج ٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤