الفصل الثالث

الطريق إلى تهذيب الأخلاق

يتخذ الغزالي البدن مثالًا للنفس: فكما أن البدن إن كان صحيحًا فشأن الطبيب تمهيد القانون لحفظ الصحة، وإن كان مريضًا فشأنه جلب الصحة إليه، فكذلك النفس: إن كانت زكية طاهرة مهذبة فينبغي أن تسعى لحفظها. واكتساب زيادة صفائها. وإن كانت عديمة الكمال والصفاء فينبغي أن تسعى لجلب ذلك إليها. وكما أن العلة المغيرة لاعتدال البدن، الموجبة للمرض لا تعالج إلا بضدها؛ فإن كانت من حرارة فبالبرودة، وإن كانت من برودة فبالحرارة، فكذلك الرذيلة التي هي مرض القلب، علاجها بضدها؛ فيعالج مرض الجهل بالتعلم، ومرض البخل بالتسخي، ومرض الكبر بالتواضع، ومرض الشره بالكف عن المشتهى تكلفًا. وكما أنه لا بد من احتمال مرارة الدواء وشدة الصبر عن المشتهيات لعلاج الأبدان المريضة، فكذلك لا بد من احتمال مرارة المجاهدة والصبر لمداواة مرض القلب، بل أولى، لأن مرض البدن يخلص المرء منه بالموت بخلاف مرض القلب فإنه يدوم بعد الموت أبد الآباد (؟) وكما أن كل مبرد لا يصلح لعلة سببها الحرارة إلا إذا كان على حد مخصوص، ويختلف ذلك بالشدة والغضب، والدوام وعدمه، وبالكثرة وبالقلة، ولا بد من معيار يعرف به مقدار النافع منه، فإنه إن لم يحفظ معياره زاد الفساد، فكذلك النقائض التي تعالج بها الأخلاق لا بد لها من معيار. وكما أن معيار الدواء مأخوذ من معيار العلة حتى إن الطبيب لا يعالج ما لم يعرف أن العلة من حرارة أو برودة، فإن كانت من حرارة فيعرف درجتها، أهي ضعيفة أم قوية، فإذا عرف ذلك التفت إلى أحوال البدن، وأحوال الزمان، وصناعة المريض، وسنه، وسائر أحواله ثم يعالج بحسبها، فكذلك الذي يطيب نفوس المريدين ينبغي أن لا يهجم عليه بالرياضة والتكاليف في فن مخصوص وطريق مخصوص ما لم يعرف أخلاقهم وأمراضهم. وكما أن الطبيب لو عالج جميع المرضى بعلاج واحد قتل أكثرهم، فكذلك المرشد لو أشار على المريدين بنمط واحد من الرياضة أهلكهم وأمات قلوبهم. بل ينبغي أن ينظر في مرض المريد، وفي حاله، وسنه، ومزاجه، وما تحتمله نفسه من الرياضة، ويبني على ذلك رياضته.

وهذه الطريقة تدل على بصر الغزالي بعلاج الأخلاق، وتدل من جانب آخر على تقدم الطب في ذاك الزمان.١

وقد فصل طرائق التهذيب باختلاف الطباع، ووضع بجانب كل رذيلة علاجها الخاص. وقد علمنا من ذلك أنهم كانوا يعالجون الكبر إذ ذاك بالسؤال. وهذا فيما أرى استشفاء من داء بداء، فقد يولد السؤال أمراضًا في النفس تحتاج في اقتلاعها إلى مجاهدة وعناء، ولكن الصوفية يبيحون ما لا يباح!

١  انظر ص ٦٤، ٦٥ ج ٣ إحياء. وص ٧٧، ٧٨، ٧٩ من الميزان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤