الفصل الأول

فضيلة الصدق

ابتدأ الغزالي الكلام على هذه الفضيلة بقوله تعالى: رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّـهَ عَلَيْهِ١ وبقوله عليه السلام: «إن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقًا. وإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا.» ثم قال: ويكفي في فضيلة الصدق أن الله تعالى وصف الأنبياء به في معرض المدح والثناء فقال: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا. وقال: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا. وقال: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا.

مراتب الصدق

للصدق فيما يرى الغزالي ستة معان: صدق في القول، وصدق في النية والإرادة، وصدق في العزم، وصدق في الوفاء بالعزم، وصدق في العمل، وصدق في تحقيق مقامات الدين. فمن اتصف بالصدق في جميع ذلك فهو صديق، ومن صدق في شيء فهو صادق بالإضافة إلى ما فيه صدقه.
  • الأول: صدق القول. وهو أشهر أنواع الصدق ولا يجوز العدول عنه إلا لمصلحة. كتأديب الصبيان والنساء ومن يجري مجراهم. وفي الحذر من الظلمة، وفي قتال الأعداء، والاحتراز من اطلاعهم على أسرار الملك. قال الغزالي: «فمن اضطر إلى شيء من ذلك فصدقه فيه أن يكون نطقه لله فيما يأمره الحق به، ويقتضيه الدين. فإذا نطق به فهو صادق، وإن كان كلامه مفهمًا غير ما هو عليه. لأن الصدق ما أريد لذاته، بل للدلالة على الحق والدعاء إليه. فلا ينظر إلى صورته، بل إلى معناه. نعم في مثل هذا الموضع ينبغي أن يعدل إلى المعاريض ما وجد إليها سبيلًا. فقد كان رسول الله إذا توجه إلى سفر وَرّى بغيره كيلا ينتهي الخبر إلى الأعداء فيقصد. وليس هذا من الكذب في شيء. قال رسول الله: «ليس بكذاب من أصلح بين اثنين فقال خيرًا ونمى خيرًا.» ورخص في النطق على وفق المصلحة في ثلاثة مواضع: «من أصلح بين اثنين. ومن كان له زوجتان. ومن كان في مصالح الحرب. والصدق ههنا يتحول إلى النية، فلا يراعى فيه إلا صدق النية وإرادة الخير».
  • الثاني: صدق النية والإرادة، ويرجع ذلك إلى الإخلاص وهو أن لا يكون له باعث في الحركات والسكنات إلا الله.
  • الثالث: صدق العزم. فإن الإنسان قد يقدم العزم على العمل، فيقول: إن رزقني الله مالًا تصدقت بجميعه، أو شطره، فهذه العزيمة قد يصادفها في نفسه وهي جازمة صادقة، وقد يكون في عزمه نوع ميل وتردد وضعف يضاد الصدق في العزيمة، فالصدق هنا عبارة عن التمام والقوة.
  • الرابع: صدق الوفاء بالعزم، فإن النفس قد تسخو بالعزم في الحال، إذ لا مشقة في الوعد والعزم، فإذا حقت الحقائق، وحصل التمكن، وهاجت الشهوات، انحلت العزيمة، ولم يحصل الوفاء بالعزم، وهذا يضاد الصدق فيه.
  • الخامس: صدق الأعمال، وهو أن تكون أعمال المرء الظاهرة صورة لحالته الباطنة. بخلاف أعمال الرياء.
  • السادس: الصدق في مقامات الدين، كالصدق في الخوف والرجاء والزهد والرضا والتوكل والحب، لأن أمثال هذه الأمور مبادئ يطلق بظهورها الاسم، ثم لها حقائق، والصادق من نال الحقائق … وفي هذا المعنى شيء من الغموض.
١  سورة الأحزاب: ٢٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤